فلسطين وشعره:
أما فلسطين التي لا يمكن أن تغيب عن روح جبرا، فإنها تطل من خلال قصيدة "مارجيروم في بيت لحم" وكذلك في "ما بعد الجلجلة" وفي مجمل الإحالات والرموز المسيحية التموزية. وهذا ما ينسحب على مجموعة لوعة الشمس الذي جعل جبرا قصيدتها الأولى تحية إلى القدس "مدينة المعراج والجلجلة". أما قصائده بعد ذلك فهي في معظمها قصائد حب. ولكننا ندرك أن الشعر الحضاري يفيض عن موضوعه المحدد ليمسّ الهموم الإنسانية على مختلف المستويات
أول ما يلفت النظرفي شعرجبرا أنه وهويكتب قصيدةالنثريتناول هموم القضية الفلسطينية ومعاناتها.
وكان ديوانه "تموز في المدينة" هو أكبر معبر عن شعوره أتجاه فلسطين:
زماننا والمدينة:
جيل المأساة نحن ، وعن وعي نقبلها:
جيل عاصرت أرضه كلّ دورات الزمن
فوعى العصور كلها ،
عرف الزمان مضاعَفًا
ضاربًا عمقًا وعلوًا ،
عاشه عاشقًا متمردا
ويعيشه كل يوم صارخًا متحديا.
....
ولكن لن نعيش إلا زمانها
زمان مدينة الطور والزيتون
مدينة المعراج والجلجلة:
هي وحدها في الأرض لنا أرض
وهي وحدها في السماء لنا سماء.
واقرأ قصيدته ألعينيك أغني (تموز... ص9)، لتجد هذا التلاحم مع وطنه، وينهي ذلك بقوله:
أجل، لعينيك يا وجه بلادي
لعينيك أبكي وأغني
وفي قصيدته في أرضي التياقتطع تها – ( تموز... ص11 ) نجده يحافظ برموش عينيه على هذه الأرض التي عانى حتى خلصها من الشر ، وهو سيواصل مقاومته بإصرار :
غير أني بيدي ، بذراعي
أصد زواحف الجدب حولي ،
أقي القلب في الإنسان من الضياع.
وقصيدة لوعة الشمس – مملكةالحب(لوعة ... ص 29) يبدو لنا وكأنها موجهة للقدس، وذلك إذ يقول :
هناك أراهم على الأرصفة الحجر
يتناقشون يتصايحون،
تحت أقواس البيوت القديمة،
بين باعة الخضار والجلود،
...
من صبح لصبح ، حبيبتي
تقطر الساعات أصواتًا
سوداء كلها،
والشمس تأتي بظلمة،
مالحة ، جارحة.
ويستخدم الشاعر هذه الإشارات والرموزوالأساطيروهذا التصادي المكثف،وذلك غالب في قصائده عامة،فالعنوان تموز في المدينة مثلا- فيه إشارة إلى تموز وعشتار- والخصب، وقصيدة لعنة بروميثيوس (المدار المغلق، ص63)، حاشدة بهذه الإشارات، وكذلك ياقوت وحجر (تموز، ص33)، فلنقرأ مثلا من قصيدة خرزة البئر (تموز، ص59):
احترق القمح واندلعت
قراب الزيت على بديد الحجارة
وعليها صلب عيسى من جديد
خرزة البئر لنا جلجلة ثانية
ومن ثغرها الخصيب ستنطلق
الحمم السوداء لاهبة لاظية
بلحم الصبايا والحبالى
لتبيد
زارعي الموت
مطعمي العقبان في أرضنا
وعندها من فيضها القدسي الخصيب
ستحيي ستحيي
كل قرانا من جديد
فخرزةالبئروعيسىوالجلجلة([3]) نماذج من هذه الإشارات التي تصل الماضي الحاضر، فتتواشج الصورة وتتركب من أبعاد عميقة تكتسب الأسطورية.
في يومي ذاك الأخضر
إذ كنت كالعود الطري
أخضر يومي وليلي
بين فروع التينة
أكل التين الندي
مع رفقتي الحفاة
(أقدامنا صخر مرمي)
وأبو خليل يصيح
راكضًا في قمبازه
في إثرنا
وسوطه في يده
والله لأذبحكم
أكلتم التوت والتين…
أتريد أن تقبلني؟
وتهدر الأنغام في رأسي.
وهل فقط أقبلك؟
أريد احتواءك كما
تحتوي الزوابع الأمواج الهائجة –
…
أوحشيّ حبي هكذا
ولكنه عذب
كحلاوة نهدك المكوّر في يدي
أو حلاوة شفتيك
كلما التهمتهما
خشيت الفراق والظمأ…
أو القصيدة الحادية عشرة :
وهل ألذ من عطرك
محتوى لرسالة؟
يمتعني ، يغيظني ،
يذكرني ، يثيرني ،
أشم فيه خديك ، شفتيك
أشم فيه بلوزك
وما وراء بلوزك
يجسّد لي وهمك
…لا أذكر إلا المبهمات
طيَّ نازعٍ يتحفّز
فالوضوح للمنطق الزائل مع اللحظة الزائلة
وتبقى المبهمات شواردَ تتردد
كألحانٍ نصفِ هناك مع شوق كالظمأ
في أيام الشمس المشرقة
وهكذا أكون قد ختمت حديثي عن الشاعر والكاتب والرسام جبرا إبراهيم جبرا
وأرجو أن أكون قد وفيته حقه في العرض