عرض مشاركة واحدة
قديم 23/05/2009   #4
شب و شيخ الشباب yassenz
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ yassenz
yassenz is offline
 
نورنا ب:
Dec 2008
مشاركات:
11

افتراضي


الخرطوم خريف 1988
الخرطوم مدينة حالمة ترقد بين أحضان النيلين الأزرق والأبيض، وتتلاقي حلقاتها الثلاث عند الملتقي بكل رونقه وتناقضاته وعذوبة نسائمه عند الأمسيات. يشكل نسيجها (الديموغرافي) مزيج من قبائل السودان الكثيرة والمثيرة. بيد أن لي ومعها ذكريات مع العام 88م. كلما ذكر هذا العام تقافزت إلي الأذهان صورة عاصمتنا الحضارية غارقة في الفيضانات حتى أطرافها التي لم تسلم منازلها من التهدم. فغرقت أسواقها، و تهدمت أسوارها، وشرددت الآلف الأسر وأغلقت دور العلم. وكذلك عجز حكومة الصادق المهدي عن مد يد العون للعاصمة في مصيبتها، إذ هي الأخرى تبحث عن جبل تأوي إلية. هي حال عاصمة دولتنا وقبلة أنظارنا ومحط ترحالنا، تغمرها مياه الأمطار كل عام حتى صارت مجاريها ومصارفها ملاذ لكل من لا مأوي له من بشر وحيوانات، بينما مركز الحاكمين بأمرهم تتفتح الأزهار فيها كل خريف وتشذب أشجارها كل أسبوع. في هذا العام حملت دفاتري وأقلامي واتجهت للدراسة في أحدي مدارس عاصمتنا المنيرة. حينها كنت أستعد للجلوس لامتحانات الشهادة المتوسطة . تأقلمت سريعا مع مدرستي الجديدة، إذ لم أعاني مشاكسات الطلاب لي لأن سوادهم الأعظم جوارنا في الحي لذا لم أعد غريبا عليهم. ولكن ثمة أشياء لم آلفها في مدارس الأقاليم، وهي تهكم الطلاب علي أساتذتهم ومناداتهم بأسمائهم مجردة ، بينما كنا نوقرهم في كل زمان ومكان ونفسح لهم في المجالس إلي يومي هذا. بل رأيت الطلاب يقفزون جدار المدرسة الخلفي أثناء ساعات الدراسة ويتسللون لواذا إلي مدرسة البنات المجاورة فيجالسون البنات فرادي وجماعات، ومنهم من يذهب إلي السوق والبعض إلي مركز الشرطة لمشاهدة رجال الشرطة يعاقبون اللصوص وبائعات الشاي، بينما كبار اللصوص دوما فوق القانون في بلادي وعاصمتها المتسامحة علي الحق. في ذلك العام وكل عام الشوارع عبارة عن برك ومستنفعات راكدة أحتلها البعوض، ليتكاثر فيها وينتج أجيالا محصنة ضد (الكلوركين) و(الكينيين) ولا يرحم صغير ولا يوقر شيخا كبير. هذا ما أدي إلي تفشي حمي الملاريا فحصدت ما شاء الله لها أن تحصد من أرواح بشرية. أصحاب السيارات يلعنون كلما مروا أو تذكروا الشوارع وحفرها الحكومة الديمقراطية علنا ولا يكتمون تمجيد حكومة المشير (النميري) ذات الست عشر خريفا بكل قسوتها وقباحة وجهها ، تلك الحكومة التي ذهبت عندما خرج الآلاف إلي الشوارع يحملون أفرع الأشجار(النيم) سلاحا ورمزا في رجب أبريل 84 . التجار يتمنون النيل أن يفيض كل تسعة أشهر حتى تتضاعف ثرواتهم وتجارتهم، فيبيعون ما ادخروا من بضائع مزجاة، ويفتخرون أنهم أفرغوا مخازنهم من أجل عيون المواطن السعيد. الطلاب يدعون الله أن ينزل السماء كل ستة أشهر، لكي يستريحوا من وعثاء التنقل إلي المدارس وكآبة التزاحم في مركبات النقل، والتخفي من عيون وألسنة محصلي أجرة البصات الذين يلعنون الطلاب في سرهم ويجاهروهم العداوة والبغضاء. ولكن لي دعاء أخر أن نجحني بالله في الامتحانات فكانت دعوتي مجابة، ودخلت المرحلة الثانوية من أوسع أبوابها. فبدأت أحلم بالهجرة إلي ما وراء البحار حيث حقوق الإنسان والحيوان. فتراني أتشوق لسماع (راديو لندن) وصوت المرحوم ماجد سرحان يكسر صمت الليل البهيم يعلن بدء أخبار السادسة مساءا بتوقيت (غرينتش) ودقات (بق بن) تحفّز فيّ كل طموح وأحلام، ساعتها بدأت العد التنازلي نحو الهجرة. حكومة الصادق المهدي تترنح بين مذكرات الضباط ومظاهرات الطلاب. محطات الوقود تحترق، المباني الحكومية تُرجم بالحجارة والمحلات تغلق أبوابها قبل المساء. في هذا الخضم المضطرب حملت حقيبتي ورحلت إلي الجزيرة(المناقل) حيث الهدوء والأمن. ولكن كان لي موعد أخر لم يكن في الحسبان. في أحدي الأمسيات وأنا أُجالس (زنوبة) ذات اللون القمري والمحّيا الخجل، تأتيني دعوة رقيقه من أحد أساتذتي القدامى بأن أتي إلي دارهم في القرية المجاورة مساء الغد. وصلتها وصلاة المغرب. هذه الدار التي كنا نقيم فيها ليالي القرآن والذكر. بعد الصلاة جلسنا نحنا بضعة زملاء وأستاذنا، كالشمس وسط المجرات، أحكي لهم عن فوضي الأيام في عاصمة نهضتنا. لم أكمل حديثي و أذا بثلاث سيارات حديثة تقف بكل هدوء وثبات أمام الدار. فترجل منها أشخاص يرتدون ملابس بيض وطيبهم يُسكر المساء. لم أعر المشهد اهتماما إلا عندما لكزني أحدهم بأن أقف لأحي النفر الكريم. كانت دهشتي تعانق اللاوعي ، أذا الضيوف هم الدكتور( حسن الترابي) برفقته الشيخ (عبد الجليل النذير الكاروري) وأربعة آخرون عرفتهم بعد مضي من الزمان عمرا. لم يكن ضيوفنا المشايخ مندهشون لنا، كأنهم يعرفوننا منذ أمد ، لذا جالسونا الأرض بكل تواضع ورفضوا الجلوس علي الكراسي التي سارعنا في أخراجها من الصالون. تجمع الأهالي من كل حدب لرؤية الشيخ وصحبه وأقيمت ندوة سياسة كبري في العراء وبعدها عانقني الشيخ ورفقائه وأعطانا كتبا ووعدا بأن الثورة قادمة

والبقية تأتي
يس
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.02315 seconds with 10 queries