هذا التعدد والتنوع في الإدراك العربي لإيران الذي يمتد بين أقصى عداوة وأقصى صداقة يفرض نفسه في الوقت الراهن كواقع، أو كأمر واقع لأسباب أخرى كثيرة منها: 1- أن واقع التقسيم والتجزئة للوطن العربي الذي فرض وجود 22 دولة عربية تحظى بعضوية النظام العربي ومنظمته الإقليمية (جامعة الدول العربية) حال دون وجود إدراك عربي واحد لإيران في ظل تنوع المصالح بين الدول العربية إلى درجة التباين وأحياناً التناقض، وتعدد وتباين التحالفات والعلاقات بين هذه الدول وإيران، وبين هذه الدول والقوى الدولية والإقليمية التي تتشابك في صراعات مع إيران.
2- هذا الانقسام الذي حال دون وجود إدراك عربي واحد للأمن القومي العربي ومصادر تهديد هذا الأمن قام بدور مهم في تباين إدراك الدول العربية لإيران، فقد كشفت دراسة حديثة بعنوان "تهديدات الأمن القومي العربي" أن الوطن العربي ينقسم إلى خمسة أقاليم فرعية لكل منها بيئتها الجيوستراتيجية الخاصة التي تؤثر بقوة على رؤيتها الأمنية وإدراكاتها لمصادر التهديد هي: إقليم المشرق العربي، وإقليم الخليج، وإقليم البحر الأحمر ووادي النيل، وإقليم القرن الأفريقي، وإقليم شمال أفريقيا. كما كشفت هذه الدراسة أن تنوع وتباين البيئة الجيوستراتيجية لكل نظام أمني فرعى عربي أفرز تنوعاً وتبايناً في إدراك مصادر التهديد لكل نظام فرعي من هذه الأنظمة الخمسة. ومن بين هذه الإدراكات المتنوعة لمصادر التهديد، تباين إدراكات كل نظام أمنى فرعى عربي لإيران كمصدر للتهديد. فإيران تحتل المرتبة الثالثة كمصدر للتهديد في إقليم المشرق العربي بعد الإرهاب وأدواته، وتهديد الاختراق الإمبريالي المتمثل بالوجود الأمريكي الاحتلالي في العراق، والحضور الأمني في الخليج، وبعد إيران تأتى إسرائيل، ثم التهديد البيئي وأخيراً التهديدات الداخلية. وفى إقليم الخليج جاءت إيران في المرتبة الأولى وخاصة برنامجها النووي، وبعدها التهديد الناجم عن تفاقم الوضع في العراق، ثم الإرهاب في المرتبة الثالثة، وبعده، التهديد الناجم عن الوجود العسكري الأمريكي وعن الصراع الأمريكي – الإيرانى على النفوذ في الخليج، وأخيراً التهديد الناجم عن الهجرة الأجنبية في الخليج. وهنا نلحظ، حسب الدراسة، غياب إسرائيل كمصدر للتهديد بالنسبة لإقليم الخليج. أما إقليم وادي النيل والبحر الأحمر فإن إيران لم ترد كمصدر للتهديد حيث ضمت مصادر التهديد لهذا الإقليم أربعة مصادر هي على الترتيب: التهديد الذي يعانى منه السلم الأهلي والوحدة الوطنية (السودان والصومال نموذجان)، ثم التهديد الناجم عن التدخل الخارجي في الخيارات الوطنية (الأمريكي على وجه التحديد)، ثم التهديد الإسرائيلي، وأخيراً طموحات أثيوبيا المثيرة للقلق. أما مصادر التهديد لإقليم شمال أفريقيا فتتركز في التهديد الإرهابي والتهديد الموجه للسلم الأهلي. وهنا نلاحظ غياب إدراك إيران كمصدر للتهديد، كما غابت إسرائيل هي الأخرى كمصدر للتهديد.
3- اشتباك إيران مع العرب بحزمة متنوعة من القضايا الخلافية التي تحول دون وجود إدراك محدد بعينه لإيران وتفرض الالتباس في الإمساك بمثل هذا الإدراك حيث تفرض إيران نفسها أحياناً كمصدر للتهديد (في العراق والخليج) وحيث تفرض نفسها أحياناً كدولة صديقة بل وحليفة (العلاقة الإيرانية مع حزب الله والعداء الإيراني لإسرائيل).
4- تفاقم حالة الاستقطاب العربي بسبب حالة التبعية العربية غير المسبوقة للولايات المتحدة في وقت تخوض فيه الولايات المتحدة صراعاً مريراً ضد إيران وتدفع الدول العربية للدخول كطرف أساسي فيه. فالمشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد الذي كشفت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، ثم لقائها في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، كان بداية لفرض استقطاب إقليمي جديد بين محور للاعتدال يضم الدول العربية الست الصديقة للولايات المتحدة وبالتحديد (دول مجموعة 6+2)، ومحور آخر للشر يضم إيران وسوريا وحزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.
هذا الاستقطاب الذي أرادته واشنطن كشف الرئيس الأمريكي جورج بوش عن قاعدة الفرز الأساسية فيه وهى: التحالف أو الشراكة مع إسرائيل والعداء لإيران. بوش طالب الدول العربية الالتزام بهذا التوجه أثناء زيارته للمنطقة في يناير 2008 وجدد هذا الطلب في زيارته لها مرة أخرى في مايو 2008 على هامش مشاركته في ما سمى بـ "العيد الستيني لتأسيس دولة إسرائيل"، حيث ركز على وصف إيران بأنها المصدر الأساسي للإرهاب ولدعم الإرهاب في العالم. فقد وصف بوش إيران بأنها "أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم" وقال أن "السماح لها باكتساب أكثر أسلحة العالم فتكاً سيكون خيانة للأجيال في المستقبل لا يمكن غفرانها".
الدور الأمريكي
ذكرت مصادر في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، حسب إذاعة الجيش الإسرائيلي، أن زيارة بوش لإسرائيل (مايو 200
أفضت إلى "نتيجة محورية" تتمثل في "التوافق على ضرورة القيام بعمل ملموس" ضد إيران، وفي هذا السياق ذكر بوش أنه "يتوجب معالجة جذرية لمشكلة إيران وأن يكون لهذه المعالجة انعكاسات إيجابية على المنطقة برمتها وتؤدى إلى تغير في نمط أداء حزب الله وحماس".
خلفيات هذا التوجه الأمريكي كشف عنها سيمور هيرش الصحفي الأمريكي المرموق الذي سبق أن كشف حقيقة التورط الأمريكي في الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في صيف 2006. هيرش كشف هذه الخلفيات في محاضرة مهمة له في القاهرة بدعوة من مؤسسة محمد حسنين هيكل، ثم عاد ونشر ما قاله في دراسة مهمة بمجلة نيويوركر، أعادت صحيفة السفير اليبروتية نشرها كاملة في 26 فبراير 2008.
جوهر هذا التوجه أن الولايات المتحدة وضعت إستراتيجية جديدة للمنطقة انطلقت من إعادة تقييمها لما شهدته من تطورات ، واستخلص منها المحللون الأمريكيون أنهم يواجهون خطرين أحدهما يهدد استمرار الهيمنة الأمريكية على النفط العراقي، كما يؤثر على نفوذها في العالم العربي، والثاني يهدد الحسابات الإسرائيلية ويخل بتوازن القوى في المنطقة.
واعتبر أولئك المحللون أن إيران هي المصدر الأساسي للخطرين، وبالتالي فإن هدف السياسة الجديدة هو توجيه ضربة لها تستهدف إضعافها وتركيعها من خلال الإستراتيجية التي أطلق عليها اسم "إعادة التوجه"، أو "إعادة النظر في الأهداف"، وتم الانتهاء منها في أواخر عام 2006، ووصفها مستشار حكومي أمريكي له علاقات وثيقة مع إسرائيل بأنها، أي هذه الإستراتيجية الأمريكية الجديدة "تعتبر تحولاً رئيسياً في السياسة الأمريكية.. إنها بحر من التغييرات"، لكن أهم ما في هذه الإستراتيجية هو تلك الإدراكات الأمريكية الجديدة لإيران كمصدر للتهديد كما نقلها هيرش وما قاله بأن دولاً عربية ليست فقط على اتفاق كامل مع الأمريكيين في هذا الإدراك بل إنها تدفع به وتغذيه.
هذا الإدراك يقول أولاً أن إيران أصبحت أشد خطراً على المنطقة من إسرائيل وأن التهديد الإيراني، بما قد يصحبه من انبعاث شيعي، يفوق ما يمثله المتطرفون من أهل السنة الذين هم الأعداء الأقل شأناً (تنظيم القاعدة). هذا يعنى أن الإرهاب والحرب الدائرة ضده لم تعد بالأساس ضد تنظيم القاعدة وحلفائه بل ضد إيران والانبعاث الشيعي.
ويقول ثانياً إن مواجهة هذا الانبعاث أو "الخطر الشيعي" وما أخذ يعرف بـ "الهلال الشيعي" يجب أن يواجه بتأسيس "هلال سني" يتسع لضم دولاً عربية إقليمية سنية مثل تركيا وباكستان إلى جانب دول "مجموعة 6+2" العربية أي دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والأردن.
الملفت للانتباه هنا، أن إسرائيل دخلت على الخط وأعلنت على لسان وزيرة خارجيتها تسيبي ليفنى أنها تسعى للتحالف مع الدول السنية في المنطقة لمواجهة الخطر الإيراني.
مجمل هذه التوجهات الأمريكية – الإسرائيلية بمشاركة أطراف عربية أخذت تدفع بفرض حالة جديدة من الاستقطاب الإقليمي بين محوري ما يسمى بمحوريالاعتدال والشر، حيث أضحت إيران هي المعنية بالشر بصفة أساسية وهى المقصودة بالعداء.
لقد انخرطت دول عربية في هذه التوجهات التي أخذت تتحول إلى سياسات ولكن بدرجات مختلفة في حين حرصت دول أخرى على أن تبقى متوازنة في علاقاتها مع إيران، بينما أكدت أطراف ثالثة تحالفها مع إيران، وهى الأطراف المتهمة بعضوية محور الشر مع إيران خاصة سوريا وحزب الله وحركة حماس.
هذه المواقف الثلاث من تلك التوجهات الأمريكية الجديدة هي أولاً تعبير عن درجة انخراط دول عربية في المشروع الأمريكي الجديد في الوطن العربي، وهى ثانياً تقدم تصنيفاً دقيقاً لإدراكات الدول العربية لإيران بين موقف يرى إيران مصدراً للتهديد وموقف آخر يراها حليفاً استراتيجياً، أو على الأقل صديق يعتمد عليه، وموقف ثالث متوازن بين إدراك إيران كعدو أو كمصدر للتهديد، وإدراكها كحليف أو صديق. ونستطيع أن نقول أن هذا الموقف الثالث يكاد يكون الموقف الأصدق في إدراكه لإيران، فهو يمثل القطاع الشعبي العريض أولاً، ويمثل مواقف دول عربية ومؤسسات، لكنه، وهذا هو الأهم القاسم المشترك لكل المواقف العربية، بمعنى أن الدول العربية التي تدرك أن إيران مصدر للتهديد لا تلجأ في العادة إلى تعميم هذا الإدراك لكنها ترى أن إيران مصدر للتهديد في قضايا معينة، وأنها طرف صديق أو محايد على الأقل في قضايا أخرى.
بمعنى أن الإدراكات غير ثابتة، فهي متحركة بين محوري "العداوة – الصداقة"، وأن القضايا الخلافية والمتنازع عليها هي العامل الحاسم، أي أن الإدراك يتعلق بسياسات إيران إزاء قضايا معينة أكثر من كونه إدراكاً لإيران نفسها التي تحظى بمكانة مهمة في الإدراك العربي ممتدة في أعماق التاريخ العربي الإسلامي.
الثوابت الحضارية
وهكذا نستطيع أن نقول أن إيران ستظل تمثل إشكالية في الوعي السياسي العربي وفى الإدراك السياسي العربي إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، أي إذا ما ظل الموقف العربي منقسماً داخلياً وخاضعاً لضغوط فرض الاستقطاب التي تقوم بها الولايات المتحدة، وإذا استمر الصدام الإيراني – الأمريكي، وإذا بقيت إيران مترددة في توظيف تفوقها في القوة بشكل تكافلي في إدارة علاقاتها الإقليمية وخاصة مع الدول العربية الخليجية، وإذا ما استمرت في حرصها على فرض نفوذها داخل العراق والانحياز لطرف عراقي دون الآخر. ولكن بشكل عام فإن المسؤولية تفرض الالتزام بثوابت حضارية وإستراتيجية في التعامل العربي مع إيران.
فإيران تبقى مع تركيا أهم ركائز نهضة الحضارة العربية الإسلامية، لقد قامت هذه الحضارة على تلك الركائز الثلاث: العرب والفرس والأتراك، ويبقى التطلع إلى مستقبل حضاري واعد مرهوناً بتحقيق ذلك التعاون بين هذه الدوائر الثلاث. ولن يتحقق ذلك في ظل الغياب العربي عن إدارة موازين القوى الإقليمية، فالنظام الإقليمي للشرق الأوسط يضم الآن ثلاثة قوى إقليمية أساسية هي: إسرائيل وتركيا وإيران، في ظل غيبة عربية مفزعة. ويمكن النظر إلى هيكلية النظام الشرق الأوسطي الآن على النحو التالي: 1- إسرائيل هي القوة الإقليمية الساعية للهيمنة.
2- إيران هي القوة المناوئة التي تتولى الصدام مع تلك القوة الساعية للهيمنة.
3- تركيا هي القوة التي تلعب دور الموازن.
وفى غياب القوة العربية التي تعبر عن مشروع نهضوي عربي، سيبقى الأمر على ما هو عليه وسيبقى الإدراك العربي لإيران ملتبساً في ظل توجه عربي مفرط نحو الغرب وحرص على العلاقات مع الدولة الصهيونية.
إن عودة العرب مجدداً إلى موازين القوى الإقليمية هو الشرط الموضوعي لعودة التوازن إلى الإدراك العربي في علاقته مع إيران، وعندها ستكون إيران حليفاً أو على الأقل ستكون منافساً، لكنها لن تكون ويجب ألا تكون أبداً عدواً