عرض مشاركة واحدة
قديم 30/04/2009   #13
شب و شيخ الشباب مـــــداد
شبه عضو
-- اخ حرٍك --
 
الصورة الرمزية لـ مـــــداد
مـــــداد is offline
 
نورنا ب:
Sep 2007
المطرح:
القاووش التحتاني..
مشاركات:
59

إرسال خطاب MSN إلى مـــــداد
افتراضي


اليوم الرابع
(1)
كان يوم خميس، وكانَ يفترَض أن يتم أخذي (موجوداً) إلى الشرطة العسكرية هناك ليتم أخذي بعدها إلى شعبة التجنيد ثمَّ إلى مفرزة النبك لألتحق بالخدمة، هذه الإجراءات والتي من الممكن إنهاءها في غضون ساعة من الزمن، أخذت معي ثلاثة أيام بلياليها، وكثير من القهر والجوع والمرَض والاختناق والذل و و..الخ..
أخرجوني من الزنزانة، وقاموا بتسليمي أماناتي، خرجتُ إلى ممر ضيق تجمّع فيه ما يزيد على عشرين شخصاً، معظمهم مجرمين، ومنهم كنا حوالي السبعة متهمين بالتخلف عن الخدمة، وموقوفين دون تحقيق ودونَ أدنى حق بالدفاع أو الكلام، حتى حق الزيارة.. سُلِبناهُ لاحقاً.
تمَّ ربطنا جميعاً في سلسلة واحدة، كان المنظرُ أقوى وأشدّ من سابقيه، رجوتُ أيّ تصرفٍ واعٍ من الموجودين بالقرب بأن يرحمني ولا يوثقني بهذه الطريقة البهائمية.. (في سلسلة طويلة كالأغنام؟؟؟) تباً..

هنا.. أشياء أخرى بدأت تنهار داخلي، وحجم الصبر الهائل الذي حملتهُ بدأ ينفد، وبدوْتُ متعباً بدرجات.. وبدأت ملامحي بالتقلُّص. وضعُوني مع الآخرين وربطوني في السلسلة، وكالخراف ضمن قطيع.. تمَّ اقتيادنا خارجاً.

(2)
ثمّة سيارة أخرى كانت تنتظرنا لتقلّنا إلى دمشق.. ودمشق هذه المرّة ليست مدينة اللهِ الخالدة، بل مدينة القاذوراتِ والأوساخ وروائح المهاجع والمجرمين والكلاب، مدينة الأوباش قتيمي الهيئة، مدينة القلق والكبتِ والهوَس، مدينةُ الخوفِ والصَّمت.
دِمشق مدينةُ الأسر، لا شيءَ فيها إلاّ ذلِك المكان المقرف (القابون) حيث السجن العسكريّ، حيثُ نهاياتِ الضمير البشري، حيثُ لا أمن لأحدٍ مِن أحَد، وحيْثُ لا يأمَنُ مواطِنٌ آمِنٌ خطأَ موظفٍ حكوميّ.. أو مزاجَ ضابطٍ عسكريّ.. بدَت ليَ الأشياء بشعةً وكريهة، وبدا ليَ اللهُ (عفوه) بعيداً وساخطاً.. وظهَرَت ليَ السَّماءُ نافرةً وسوداء، ولَم أكُن قادراً إلا على الموتِ..
بهدوء، نزلتُ معَ رفاقي في السلسلة من مجرمين ومخالفين للقانون وعتاة وقتلة، ودخلنا ذلِكَ المكان، سلَّمنا أماناتِنا، وطلبوا منا أن نديرَ وجوهنا إلى الحائط، كنتُ مضطراً إلى رفع رأسي عندَ كل موقف إذلال وخنوع، لَم يكُن باستطاعتي أن أتحمَّل فِكرةَ أن أطأطئ رأسي في مثل هكذا موقف بالذات، وإن كانَ من يذلني هوَ ابن بلدي بالذات!!
تجردنا من ملابسنا مرة أخرى، وتمَّ تفتيشي معَ الآخرين بدقةٍ مُدهِشة، وساقونا إلى غرفة قالوا عنها (موجوداً).. حُشِرتُ هناكَ معَ ما يزيد على الأربعينَ شخصاً، وسط روائحِ القاذورات والأوساخ والفضلات، في مكانٍ تعرّشت الرطوبة فيه ونمت فيه العفونة بشكل مضطرد، مليء بالمجرمين، قتلة، لصوص، مهربين، مغتصبين، و فارّين من الخدمة.. رغمَ أن المكان أكثر قتامة ووحشة من سابقيه، ورغمَ أن حجم القذارة هنا مضاعف ومخيف، ويصعبُ عليَّ تصوّر قدرتي على النوم هنا (وهذا ما حصل لاحقاً)..، إلاّ أنني أنستُ للمرة الأولى بوجود مهندس آخر تم سَوقهُ إلى المكان يكبرني بحوالي 4 سنوات، ثم انضمَّ إلينا لاحقاً طبيب، وكانَ ثمةُ مَن يحملون شهادة معهد، وآخرون يحملون البكالوريا، حتى بلغَ عدد المتخلفين في هذه الحجرة حوالي العشرون.

وعندما جاءَ الليل، كانَ كل شيء قاتما بدأ الصوتُ يهدأ وبدأ الجميع ينامون تدريجيا، قمتُ بالتخلي عن مكان نومي احتراماً للطبيب الذي يكبرني بحوالي 7 سنوات، ولَم أجد لي مكاناً في المنتصف، وسط الأقدام، ومرّة أخرى، فشلت في النوم.


(3)
بدأ صداعٌ مزعجٌ في رأسي، قمتُ وسلّيت نفسي بالدندنة قليلاً (يما مويل الهوا يما مويليا.. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا)…، (ياظلام السجن خيم، نحن لا نخشى الظلاما، ليسَ بعدَ الليلِ إلا فجر مجدٍ يتسامى)..، ثم عدتُ إلى الأولى.. ( يما مويل الهوا.. يما مويليا، ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا)…، ( يا رنين القيدِ زدني… نغمةً تُشجي فؤادي..، إنَّ في صوتَكَ معنى للأسى والاضطهاد)… ومرة أخرى عدتُ إلى الأولى ( يما مويل الهوا..، يما مويليا، ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا)… إلى أن تشنج جسدي كله وبدأت أضطرب، ارتفعَ صوتي قليلاً، خشيتُ مِن البكاء فصمتُ.
لوحدي، وأوجاعُ رأسي القاتِمة، تمددتُ على الأرض، ممسكاً بأيِّ شيءٍ يساعدني على تجاوزِ آلامِ الرأس.. فُتحَ باب السجن، خشيتُ أن يكون ثمة عسكري سمعني وأتى ليعاقبني، لكن هذا لَم يحدث، تم إدخَالَ شابين إلى المكان، توقفا قليلاً وأمعنا النظرَ بدهشة إلى هذه الأكوام المتراكمة فوق بعضِها، ثم حشر كل منهما نفسهُ في أي شيءٍ،.. أحدهما غطّ من فوره في سباتٍ عميق، والآخر أخذ يبكي بحرقةٍ جعَلَتني أرثي لحالي قبلَ حالِه، قمتُ مِن مكاني واقتربتُ مِنه، حاولتُ أن أواسيه، فشكا لي من رائحةِ المكان القذرة، قلت له لا بأس ستعتادها عمَّا قليل، حاول أن تنم الآن، سألني عَن عملي، أخبرتهُ أنني مهندس، قالَ لي كيف تواسي نفسك، صمتُّ قليلاً..، وقلتُ له أن كل ما علينا فعلهُ الآن أن ننتظرَ الأفضل، نم الآن ونتحدث غداً.
تركتهُ بسلام، حاولتُ النوم مجدداً إلاّ أن آلام الرأس كانت أقوى من كل شيء، بقيتُ على حالي حتى الفجر تقريباً.. حوالي الرابعة فجراً فتحوا الباب وأدخلوا الفطور، القليل منه للكثير من الأفواه الجائعة، كنتُ مرهقاً بشدّة اقتربتُ من الطبيب وشكيتُ لهُ حالي وسألته إن كان يستطيع إيجادَ أي حلٍّ لي، طلَبَ مني أن أستدير ثمَّ قامَ بعمل (مساج لرأسي) ارتحتُ كثيراً.. ونمتُ للمرة الأولى منذ وصولي إلى هذه المزبلة.. ساعاتان تقريباً قبل طلوعِ صباحٍ لا يُعرف له شكل في مكانٍ مغلقٍ عن كل شيء إلا عن روائح القاذوراتِ والفضلات.
* * *

زُرني هــنــــــــــــا
http://NJ180degree.com
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03260 seconds with 10 queries