ترى ما الذي يدفع شخصا ما لأن يشتري لوحة يدفع مقابل اقتنائها أكثر من مائة مليون دولار؟
ألأن ذلك الشخص يملك من المال ما يكفي لشراء لوحة؟
و يرى أنها ذات قيمة شخصية أو تاريخية أو معنوية.
او احتمال أن المشتري يقدّر الفن ويريد أن يحافظ على الأثر الفني ويستمتع بمشاهدته بعد أن يصبح في عهدته.
اوالمباهاة ومنافسة نظرائهم من الأثرياء الآخرين؟
وهناك فريق آخر يقول إن هؤلاء الأغنياء مرضى
بحبّ الوجاهة والظهور الإعلامي،
وإلا فإن مليون دولار قد يكون مبلغا كافيا جدا لاقتناء مئات اللوحات المستنسخة وذات الجودة العالية جدا.
وهناك في أوساط المنتقدين
من يتحدّث عن العنصر الأخلاقي في الموضوع،
إذا جاز التعبير.
إذ أن العالم مليء بملايين الفقراء والمحتاجين،
ومن الأولى كما يقولون توفير هذه المبالغ الباهظة،
أو إنفاق جزء منها على الأقل،
في إنشاء مدارس ومستشفيات وطرق ومرافق توفّر للفقراء التعليم والصحّة وكلّ ما من شأنه تحسين ظروف حياتهم ونوعية معيشتهم.
على الانترنت، هناك العديد من القوائم التي تتحدّث عن أغلى اللوحات في العالم.
وبينها لوحات لفان غوخ وبيكاسو وبولوك ودي كوننغ وآخرين ممّن بيعت لوحاتهم بعشرات الملايين.
واللوحات المباعة كثيرا ما أثارت علامات استفهام تتعلق بمضامينها ومدى استحقاقها لتلك المبالغ الطائلة التي دفعت لاقتنائها.
هناك مثلا تساؤل عن المنطق الذي يضع رسّاما مثل بولوك جنبا إلى جنب مع فان غوخ أو حتى بيكاسو.
وأصحاب هذا الرأي يجادلون بأن بولوك وبيكاسو لا يتمتّعان بأية موهبة حقيقية
وان شعبيّتهما نابعة في الأساس من حقيقة كونهما شخصين مثيرين للجدل،
وإلا فإن لوحاتهما لا تعدو كونها خربشات أطفال وطلاسم وأحاجي تستعصي على الفهم.
فلماذا والحالة هذه - يضيف هؤلاء - يهدر أولئك الأثرياء الحمقى هذه الملايين الكثيرة على شراء لوحات مشوّهة لا يفهمها غالبية الناس؟!
وقد قرأت مؤخّرا رأيا طريفا لأحد النقّاد يسخر فيه من بيكاسو "الذي خلط الحابل بالنابل وأثار الفوضى وكسر كل القواعد وتلاعب في النسب والبنى وضرب عرض الحائط بكل الموروث الكلاسيكي ليخرج لنا هذه اللوحات الطفولية والنزقة.
لقد كان بيكاسو يرسم بسرعة،ولا غرابة انه لم يكن يملك الكافي لينتج لنا أعمالا إبداعية مع وجود كل هذا العدد الكبير من العشيقات حوله".
طبعا هذا رأي متطرّف ومن يتبنّاه ربّما يغيب عن باله أن أهمية بيكاسو وبولوك وآخرين غيرهما تكمن في أنهم استطاعوا أن يفتحوا الباب واسعا أمام غيرهم من الرسّامين ليلجوا إلى عالم الأساليب التعبيرية والتجريبية والرمزية وهو أمر لم يفعله غيرهم من قبل.
أي أنهم ارتادوا أرضا جديدة وابتدعوا وسائل وأساليب فنية لم يسبقهم إليها احد.
ولهذا السبب فإن لوحاتهم تصدم كل من يراها لأول مرّة وتثير في نفسه الدهشة وتدفعه للتفكير وطرح الأسئلة. وهذا شيء جيّد في حدّ ذاته.
والملاحظ أيضا أن اغلب الأعمال الفنية التي تصدّرت قوائم أغلى اللوحات في العالم تنتمي إلى المدارس الفنية الحديثة كالتجريدية والتعبيرية والانطباعية والتكعيبية.. إلى آخره.
إن من الواضح أن الفنّ المعاصر أو الحديث هو الذي يكسب اليوم في سوق الفنّ وصالات المزاد على حساب الأعمال الرومانسية والكلاسيكية.
وهذا مؤشّر على أن الفنّ الحقيقي ليس بالضرورة صورة جميلة
ولا هو محاولة لمضاهاة وتقليد الواقع بتفاصيله.
فالتصوير الضوئي أصبح يقوم بهذا الدور على أفضل وجه، ومن المهم أن نرى معنى وطبيعة الحياة من خلال عين وإحساس شخص آخر قد يرى العالم بشكل مختلف عما نراه نحن.
إن احد الأمور المحزنة في قصّة المزادات العلنية هو أن المالك وحده هو الذي يستمتع باللوحة التي اشتراها بينما ُيحرم الجمهور من رؤيتها وتأمّلها وتقدير جمالها.
أي أن المال قادر على أن يحوّل حتى الأشياء ذات الطبيعة الروحية والمتسامية والجميلة إلى سلع تباع وتشترى وتخضع لمنطق وقوى السوق.
قائمة أغلى عشرين لوحة لا تتضمّن تلك اللوحات الموجودة في متاحف العالم الكبيرة. وهذا يطرح سؤالا مهمّا:
ترى لو عرضت الموناليزا للبيع اليوم،
فكم مليونا ستحققه؟
ونفس الشيء ينطبق على "مدرسة أثينا"
و "ليلة مرصّعة بالنجوم"
و "الحرس الليلي"
و "وصيفات الشرف"
وغيرها من الأعمال الايقونية الضخمة.
في هذه القائمة، لم أتوقّف كثيرا عند لوحة دي كوننغ،ولم تثر فيّ لوحة وارهول أيّ شعور، ونفس الكلام يمكن أن يقال عن لوحة فرانسيس بيكون.
ما استرعى انتباهي حقيقة هو رسومات بولوك وجاسبر جون ومارك روثكو.وهنا لا ازعم أنني فهمت ما يرمي إليه هؤلاء،فلوحاتهم غامضة بألوانها المتداعية وأشكالها الالتوائية وأجزائها المتشظية. لكن من الواضح أن أعمالهم تتضمّن حوارات داخلية ومساحات تصّوف ولحظات صمت.
إنهم يبدون كما لو أنهم يحاولون البحث عن ذواتهم وعن إجابات لأسئلة وجودية تحيّرهم وتستفزّ عقولهم، وذلك من خلال التعبير عن رؤاهم الباطنية الخاصّة وغير الواعية.
لستُ بجسدٍ تسكنه روح.
بل
ثلاثة أرواحٍ
و عقولٍ
و قلوب
جزئها المرئيُّ الصغيرُ
جسدْ.
http://evandarraji.blogspot.com/