تكملة
لم يعبر فؤاد سراج الدين عما كان يجيش فى صدرى، رفعت يدى وطلبت الكلمة بعد أن انتهى من كلمته، رمقتنى بعض العيون بشىء من الضيق، ثلاثة أو أربعة من كبار الأسماء الذين كانوا داخل السجن بالأمس ثم أصبحوا اليوم شيئا آخر، يتطلعون إلى رئيس الدولة ورئيس الوزراء ويرمقون المساجين الآخرين شذرا.
أعطانى رئيس الدولة حق الكلام، تكلمت، قلت كل ما عندى فى أقل من خمس دقائق، تشجع بعض المسجونين الآخرين وطلبوا الكلمة، ربما تلعثم أحدهم خوفا أو رهبة، إلا أنه فتح فمه وعبر عن رأيه، زميلتى المسجونة تكلمت وطلبت حماية النساء الحوامل فى السجن، وتكلم شاب عن رعاية صغار السن وعدم تعريضهم للضرب أو التعذيب، وفجأة رأيت محمد حسنين هيكل ينظر فى ساعته فوق معصمه وقال هذه العبارة: أظن أن وقت السيد الرئيس ثمين ولا يسمح بمزيد من الكلمات واقترح قفل باب الحديث.
فى لقاء لى مع محمد حسنين هيكل بعد بضعة شهور سألته: لماذا قلت هذا الكلام، وهل وقت الرئيس أثمن من وقت ثلاثة وعشرين شخصا دخلوا السجون دون جريمة؟ وإذا كان هو لم يقفل باب الحديث لماذا تقفله أنت وكنت مسجونا معنا؟ ثم لماذا لم تأخذوا رأينا فى موضوع إنابة فؤاد سراج الدين ليتكلم عنا؟ ألم تفعلوا بنا ما يفعله أى حاكم دكتاتور رغم أنكم تكتبون عن الديموقراطية؟!
كان شريف معى فى هذا اللقاء وسمعنى أقول هذا الكلام، نظر إليه محمد حسنين هيكل وقال: الدكتورة نوال صعبة أوى مش كده والا إيه يا دكتور شريف؟ ابتسم شريف بهدوء وقال: نوال تعبر عن رأيها وهذا حقها.
بعد اللقاء مع رئيس الدولة يوم 25 نوفمبر 1981 خرجت من قصر العروبة، قالوا لنا داخل القصر أن قرار الإفراج صدر ويمكننا العودة إلى بيوتنا، اجتزت حديقة القصر الكبيرة أشم رائحة الزهور، رمقنى أحد الصحفيين فأقبل نحوى، نظر إلى حذائى الكاوتش مندهشا، وقال أتقابلين رئيس الدولة بهذا الحذاء الكاوتش؟! قلت، ولماذا تنظر إلى حذائى يا أستاذ؟
وقفت عند محطة الأتوبيس أنتظر سيارة أجرة تحملنى إلى بيتى فى الجيزة. فوق الأرض وضعت حقيبتى بها ملابس السجن. أرمق الناس وهى تمشى فى الشارع. كيف يمشون هكذا دون أن تقبض عليهم الشرطة؟ كأنما لم أمشى فى الشارع أبدا بهذه الحرية؟ كأنما رجال البوليس سوف يأتون بعد لحظة لإعادتى إلى السجن. لم تكن كلمتى أمام رئيس الدولة هى الكلمة المطلوبة. انتزعتها من بين براثن السلطة وزملاء السجن. لم يطلبها أحد، لم يرغب فى سماعها أحد تقلصت وجوه الرجال حين تكلمت، بما فيها وجه رئيس الدولة، كيف تتكلم امرأة بهذا الشكل فى أمور لا يتكلم فيها أحد، كلمة فؤاد سراج الدين لم تخرج عن تقديم الشكر والامتنان لرئيس الدولة لأنه أطلق سراحنا. كلمة زميلتى لم تخرج عن طلب حماية المرأة الحامل فى السجن باسم الشفقة، كلمة الشفقة تطرب لها أذن الرجال، الشفقة بالمرأة الحامل الضعيفة، ضعف النساء يؤكد قوة الرجل، الرجولة هى القوة والقوامة، الرجال قوامون على النساء، زميلة السجن كانت ترتدى الحجاب، تؤكد به هوية الأنثى التى يطلبها الرجال. لم تتقلص الوجوه حين تكلمت الزميلة المحجبة، خرجت من السجن وأصبحت صورتها فى كل مكان، تكتب فى صحف الحكومة والمعارضة، تتحدث باسم الإسلام والتراث والحجاب، أصبح لها مقال أسبوعى فى إحدى الصحف الحكومية الكبرى، صورتها بالحجاب على رأس المقال، على وجهها ابتسامة أنثوية ناعمة، شفتاها متوردتان.
أمام باب الشقة فى الجيزة وضعت حقيبتى على الأرض. رأيت اسمى فوق رقعة نحاسية صغيرة. ضغطت على الجرس. فتح شريف الباب. مش معقول! أى مفاجأة! كان يظن أننى فى السجن. لم ينشر الخبر بعد فى الصحف. ألقيت ملابس السجن فى صفيحة القمامة. وأخذت حماما ساخنا. تمددت فوق السرير النظيف الدافىء. الملاءة بيضاء ناعمة تفوح برائحة صابون معطر. أدفن رأسى فى الوسادة الناعمة. أغمض عينى كأنى فى حلم سأصحو منه بعد لحظة وأجد نفسى فى زنزانة السجن.
جاءت ابنتى منى وابنى عاطف من المدرسة آخر النهار. أخفانى شريف فى الغرفة ليصنع لهما المفاجأة. أراهما من ثقب الباب جالسين فى الصالة. سحابة من الحزن تطفو فوق الوجهين الحميمين، عيون أطفال خطف بريقها غياب الأم، خيالهما قادر على اختراق جدران السجن، يكسر القضبان الحديد، يرى الأم جالسة فوق الأرض، تكتب بأصابعها فوق التراب رسالة إلى أطفالها.
فى صباح اليوم التالى قرأ شريف الصحف. خبر الإفراج عن المسجونين فى الصفحة الأولى. برقيات التهنئة إلى السيد رئيس الدولة يتبارى على نشرها الكتاب المعروفون، ذوى الأعمدة اليومية الثابتة أو المقالات الأسبوعية الطويلة، لم يفتح أحدهم فمه حين صدر قرار الاعتقال وتم حبس أكثر من ألف شخص دون تحقيق ودون جريمة. كتب أغلبهم يؤيدون قرار الحبس، وصمت الباقون، قلت لشريف، الصمت فى مثل هذا الوقت جريمة أو على الأقل مشاركة فى الجريمة.
فى جريدة الأهرام ظهرت برقية التهنئة لرئيس الدولة بقلم يوسف إدريس الكاتب الكبير. ظهر إسمه بالبنط العريض. كأنما هو بطل الإفراج عن السجناء، لا يفوقه بطولة إلا رئيس الدولة، أصبح البطلان محط الانظار واختفى المسجونون داخل البيوت أو بين السطور، لا تنشر أسماؤهم إلا بالبنط الصغير جدا لا يكاد يرى بالعين المجردة.
حين كنت فى السجن كتبت رسالة إلى توفيق الحكيم ويوسف إدريس. قلت لتوفيق الحكيم أنت رئيس اتحاد الكتاب ورئيس لجنة القصة بالمجلس الاعلى للفنون والآداب، وأنا عضوة باتحاد الكتاب، وعضوة بلجنة القصة، وقد دخلت السجن دون تحقيق ودون جريمة، أرجو أن ترفع صوتك ضد هذا الحبس غير القانونى، وأن ترسل مندوبا من اتحاد الكتاب ليكتب تقريرا عن حالة الزنزانة التى أعيش داخلها.
وفى الرسالة نفسها إلى يوسف إدريس قلت له أنت زميل لى فى اتحاد الكتاب ولجنة القصة ولك مقال أسبوعى بجريدة الأهرام، أرجو أن تكتب شيئا ضد قرار الحبس دون تحقيق ودون جريمة.
لم ينطق توفيق الحكيم أو يوسف إدريس بكلمة واحدة. لم يجتمع اتحاد الكتاب ليقرر إرسال مندوب ليرى حال الزنزانة. وفجأة بعد قرار الإفراج يخرج يوسف إدريس عن صمته ويرسل إلى رئيس الدولة يهنئه بعبارات التمجيد والولاء.
بعد أيام جاء يوسف إدريس إلى بيتنا فى زيارة، قال إنه جاء للتهنئة، وكان يريد أن يشترى لى باقة ورد لكن جميع مجلات الورد كانت مغلقة، وضحك شريف، يا يوسف بلاش مبالغة، معقول كل محلات الورد قفلت ؟! سهر معنا يوسف إدريس تلك الليلة، ربما كان تحت تأثير مادة الماكستون أدمن عليها مثل أحمد حلمى، يصبح لسانه ثقيلا فى الكلام، يحتقن وجهه ويتورم قليلا، يداه أيضا تتورمان، يميل إلى السهر والكلام دون انقطاع، يصور له الوهم أنه بطلا.
-عارف يا شريف مين السبب وراء صدور قرار الإفراج عن المساجين؟
-مين يا يوسف؟
-أنا يا شريف، أنا اللى …
شريف يستمع إليه، يبتسم بهدوء ونوع من السخرية الخفيفة، يعرف أن يوسف إدريس لم يرد على رسالتى ولم يكتب كلمة واحدة ضد قرار الحبس، وأنه يعيش وهم البطولة منذ كان طالبا فى كلية الطب، وأن مادة الماكسيتون المنبهة تسرى فى دمه، تصور له الوهم كأنما هو الحقيقة.
كان يوسف إدريس يجلس أمامى منفوخا بالماكسيتون وغرور العظمة، أصبح يحمل لقب الكاتب الكبير، وأصبحت أنا السجينة رقم 1536، الألم فى عمودى الفقرى والنوم فوق أرض الزنزانة، صمت الزملاء والزميلات من الكتاب والادباء، وصمت نقابة الأطباء، أرسلت رسالة إلى نقيب الأطباء فلم يرد.
تلك الليلة لم يكف يوسف عن الكلام، يقول أنه السبب وراء خروجنا من السجن، وكان شريف يتثاءب ويريد أن ينام، وأنا أيضا مللت كلامه عن بطولته الوهمية، وقلت وأنا أتثاءب، أعتقد يا يوسف أنك فى حاجة إلى الذهاب إلى بيتك لتنام. قال، ولكنى لا أريد أن أنام، قلت ولكننا نريد أنا وشريف أن ننام، نهض متثاقلا واقفا فوق قدميه وقال، عرفت يا نوال أننى كنت السبب وراء قرار الإفراج عنكم؟ قلت، وكيف أعرف وأنت لم تنطق بكلمة واحدة حين كنا فى السجن؟!
مثل البالونة المنفوخة بالهواء تثقبها إبرة رفيعة. انكمشت البالونة وجلس يوسف إدريس بعد أن كان واقفا. رمقنى بشىء من الغضب. لم أنس أنه صمت حين كان الكلام واجبا. أكثر ما كان يغضبه أنه لم ينس هو ايضا. أكان ضميره يؤرقه؟! أكان يحقن نفسه بالماكسيتون لينسى دون أن ينسى؟! كان أحمد حلمى يقول، الماكسيتون ليس مثل المخدرات يضعف الذاكرة، إنه أخطر المنبهات جميعا، يشعل الاحاسيس، تلتهب خلايا العقل إلى حد نسيان كل شىء، مع ذلك تظل الذاكرة مشتعلة لم تنس شيئا.
أول مرة أسمع عن قائمة الموت أو إهدار الدم كان عام 1988. أرسلت الحكومة حراسة أمام بيتى فى الجيزة، وبودى جارد لحماية حياتى. لم أكن أدرك فكرة إهدار الدم. لم أسمع إسمى يرن فى الليل من فوق الجوامع. وقال شريف ما رأيك أطلب لطيفة الزيات فى التليفون، لابد أن لديها بعض معلومات.
لم تشأ لطيفة الزيات أن تتكلم عبر الأسلاك، أنت عارف يا شريف، التليفونات عليها رقابة، أنا جاية الجيزة ويمكن أمر عليكم بالبيت، بوسلى نوال يا شريف.
كانت لطيفة الزيات صديقتى منذ نهاية الستينات نلتقى بصفة منتظمة فى اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وكان لها أخ يحتل منصبا كبيرا فى الدولة، يلتقى بالسادات أحيانا، يهمس لأخته لطيفة أحيانا بمعلومات لا يعرفها أحد. حين فقدت منصبى فى وزارة الصحة فى أغسطس عام 1972 همست لطيفة فى أذنى: السادات بيقول لسانك طويل. وأطلقت ضحكتها العالية على شكل قهقهات متقطعة، ومدت يدها البضة الناعمة وأمسكت يدى، وراحت تضحك دون انقطاع، يتورد وجهها الممتلئ، يقفز الخدان المكتنزان إلى أعلى، يضغطان على العينين الصغيرتين، تنغلق الجفون إلا من شق ضيق يطل منه جزء من الننى على شكل خط أسود. يصبح وجهها مستديرا كوجوه الاطفال، يهتز جسمها المربع الممتلىء، أسمع ضحكتها فى الشارع قبل أن أدخل بيتها. تذكرنى بضحكة أمى، لكن جسد أمى لم يكن يهتز، وكان لضحكتها رنين فى الجو يشبه رنين الفضة المجلوة، لم تكن أمى تدخن ولم يكن صوتها مبحوحا أو مشروخا بالدخان. كنت أضحك مع لطيفة وأقول لها أنت مدخنة يا لطيفة، تموت على نفسها من الضحك، ثم تصمت فجأة، تكسو وجهها سحابة حزن وتقول، أعمل إيه يا نوال، خلاص ما فيش لذة فى حياتى إلا دى. وتشير إلى السيجارة بين شفتيها.
كانت تجلس إلى جوارى فى لجنة القصة، يجلس توفيق الحكيم عند رأس المائدة، فهو رئيس اللجنة، يجلس نجيب محفوظ وثروت أباظة عن يمينه، ويجلس يوسف إدريس ويوسف الشارونى عن يساره. يفتح توفيق الحكيم الحديث عن الاشتراكية والرأسمالية، ثم يطرح السؤال: هل الله إشتراكى أم رأسمالى؟ يقهقه يوسف إدريس ويقول: أعتقد أنه من أهل الوسط يا أستاذ توفيق. تقهقه لطيفة الزيات وتقول: يعنى قصدك من الحكومة؟
لم يكن مثل هذا الحديث يعجب بقية الأعضاء، لكن أحدا لم يكن يعترض على الرئيس، منذ الإله إخناتون ورمسيس الأول يحترم المصريون الملوك والرؤساء، يدرك توفيق الحكيم هذه الحقيقة ويسترسل فى حديثه متجاوزا الخطوط الحمراء، يحكى بعض الفكاهات عن الملك فاروق، يضحك يوسف إدريس ويقول: النكتة دى فيها إسقاط يا أستاذ توفيق؟، إسقاط على مين يا يوسف؟! وينفجر أعضاء اللجنة بالضحك، تتصاعد القهقهات مع دخان السجائر حتى السقف.
ثم ينتقل توفيق الحكيم من السياسة إلى المرأة لا يمل الحديث عن المرأة رغم أنه كان يحمل لقب عدو المرأة. تلمع عيناه وهو يتحدث، تدوران على وجوه الرجال أعضاء لجنة القصة، ثم تثبتان على وجه واحدة من الأديبات.
"وأغرب ما لقيت من أنواع العبوديات وأشكالها ، العبودية العمياء ، وهي التي توثق حاضر الناس بماضي آبائهم ، وتنيخ نفوسهم أمام تقاليد جدودهم ، وتجعلهم أجساداً جديدة لأرواح عتيقة ، وقبوراً مكلسة لعظام بالية "
جبران خليل جبران
|