وللتنسيق على الأقل جانب أفقي، وهو الذي « يتركب من قطعتين خطيتين، الأولى متعلقة بالمحتوى، والثانية متعلقة بالتعبير »40. ما من تنسيق إلا وله محتوى ومضمون يملأه ويشغله. ويسمَّى هذا الجانب في فلسفة دولوز وغاتاري، أي جانب المحتوى الذي للتنسيق، بـ« التنسيق الآلي للأجسام، للأفعال وللاِنفعالات »41. وهذا الجانب من التنسيق هو الذي ينجز التحقق الفعلي والآلي للرغبة، لأي رغبة، حتى الرغبة في الحقد والحسد، بل حتى الرغبة في ممارسة الجنس مع الأم، حتى الرغبة في تحقيق علاقة أوديبية، أو عمومًا ما يسمَّى بالرغبة في زِنَى المحارم. إننا لا نرغب إلا فوق تنسيق آلي، إلا بفضل تنسيق آلي. لا شيء يتم خارج هذا التنسيق الآلي، بل هو المجال الذي تتحقق فيه كل الرغبات، كل الأفعال والانفعالات التي تتم في مجتمع ما أو في مجال أو حقل ما. فالرغبات التي تخترقنا والتي نسعى إليها والتي نعتقد أننا نختارها ونريدها، لا يمكنها أن تتحقق إلا لأن تنسيقًا يحددها ويكون شرطًا لها. فالتنسيق هو اللاوعي السياسي الذي يجعلنا نرغب في هذا الشيء أو ذاك. وهو الذي يحددنا لهذا الفعل أو ذاك. والتنسيق هو لا وعي سياسي وتاريخي، لأنه مجال مفتوح على الخارج وعلى العالم. في حين أن التحليل النفسي يعتقد أن ما نقوم به من فعل أو من أفعال، يترتب على لا وعي يتأسس بمحبطات الطفولة وبعقدها ورغباتها المكبوتة وإسقاطاتها وغرائزها المسكوت عنها. التنسيق هو اللاشعور الفعلي لكل رغبة، مادام أنه هو المجال المليء بالتكثيفات والتعدديات. فالموضوع الوحيد للرغبة هو الرغبة ذاتها. لذلك فالرغبة لا تحيل على الأسرة، ولا على الأم ولا على أوديب، ولا على لاشعور طفولي مليء بالمحبطات والإسقاطات، وإنما هي رغبة مقترنة مع الخارج، مع المستقبل. إنها مقترنة مع القوة السوسيولوجية والتاريخية، لا مع العائلة والأنا. فالرغبة إنتاج مستمر، وهي سيولة وسط سيولات أخرى، كما أشار إلى ذلك نص هنري ميلر، ومحرك محايث للواقع يرسم خطاطة عوالم ممكنة. لذلك فالنسيقات التي تحقق الرغبة لا تحيل على أنا معين، ولا على ذات متكلمة، وإنما تحيل على تكثيفات وتعدديات.
هذا عن جانب المحتوى والمضمون الذي للتنسيق. أما من جهة التعبير، فإن كل تنسيق هو عبارة عن « تنسيق جمعي للتلفظ، للأفعال وللتلفظات، تحولات غير جسمانية تُحمَلُ على الأجسام »42. لكن ما الملفوظ ؟ وما طبيعته ؟ لعل مفهوم الملفوظ هو المفهوم الذي من خلاله عمل كل من دولوز وغاتاري على نقد التوجه اللساني السائد سواء في شكله البنيوي أو شكله الديكارتي الجديد الذي بلوره تشومسكي. فالملفوظات لا تحيل على ذات متلفظة، ولا على أنا متكلمة، وإنما تحيل على تنسيق جمعي للتلفظ. ويرى دولوز وغاتاري أن اللسانيين ظلوا رهيني التصور اللساني ولم يستطيعوا ربط الملفوظات بالمجال الذي يكون هو أصلها، وإنما اقتصروا على ربط الملفوظ بالدلالة وبالدال، أي بمعطيات لسانية محضة، أي معزولة عن واقعها السوسيولوجي والسياسي. حقيقة إن بعض اللسانيين أوْلوْا أهمية للطابع الاجتماعي للتلفظ، مؤسسين بذلك ما يعرف بالسوسيو- لسانيات، ونذكر على رأسهم ويليام لابوف، وبالخصوص في كتاب السوسيو- لسانيات، إلا أن هذا التوجه لا يمكنه أن يفيَ بمتطلبات فلسفة الاختلاف والتعدد إلا إذا اعتبر هذا الجانب السوسيولوجي جانبًا محايثًا للغة والتلفظ، وليس جانبًا خارجيًا وبرَّانيًا. « إن الخاصية السوسيولوجية للتلفظ لا تكون مؤَسَّسَةً تأسيسًا باطنيًا إلا إذا استطعنا تبيان كيف أن الملفوظ يحيل بذاته على تنسيقات جمعية. وبذلك نرى أنه لا وجود لفردانية الملفوظ، ولا لتَذَيُّت43 لتلفظ، إلا في حدود كون التنسيق اللاشخصي يتطلب ذلك ويحدده »44. فالتنسيقات الجمعية سابقة على كل تلفظ، ولكل رغبة، وهي التي تحدد كل تلفظ وكل رغبة. فالملفوظ لا يأتي إلا من تنسيق جمعي يحدده ويضع إطاره. وهذا هو السبب الذي يجعل التنسيقات تستعمل « في تعبيرها حروفًا وضمائر غير مُعرَّفة ليست بتاتًا غير محددة (بطن "ما" أناس "معينون" "يتم" ضرب طفل "ما") – أفعال في صيغة مصدرية ليست لا متميزة، ولكنها تُعلّم مجاري معينة (مثل مشي، قتل، حُب...) – وأسماء أعلام ليست أشخاصًا وإنما هي أحداث (قد يكون ذلك مجموعات أو حيوانات أو كيانات أو انفرادات أو جموعات، أي كل ما نكتبه بحرف كبير Un Hans - Devenir - Cheval - هانس - صيرورة - حصان) »45. هكذا نرى أن التنسيق الآلي الجمعي لا يحيل على ذات متكلمة، حتى وإن كانت الأم أو الأب، مثلما أنه لا يحيل على بنية فوقية أو تحتية، مادام التنسيق محايثة تقصي كل تراتب. إن التنسيقات تعددية من حيث مضمونها، وهي التي تسمح لكل تشكل أن يبرز على الحقل الاجتماعي والسياسي. فالتصور السياسي لمجتمع ما لا يكون ممكنًا إلا بفضل التنسيق الآلي والجمعي. إنه سابق لكل تشكل سياسي واجتماعي. إنه لا يكون معطى، وإنما هو أصل كل معطى. لذلك فعندما يتحدث الشخص الذي يعرض نفسه على التحليل النفسي، فمن الواجب أن نقرن ما يتلفظ به لا بالوسط الأوديبي كما يفعل التحليل النفسي، ولا بالأنا، ولا ببنية دلالية أو رمزية، وإنما علينا أن نقرنه بالتنسيق الذي أمكنه أن يتحقق، أي بالتعدديات التي يحققها وينجزها. من هذا المنظور يكون التحليل النفسي مكسرًا للتلفظ، مادام يجهل كل شيء عن التنسيق بشقيه : التنسيق الآلي الجمعي الذي « ينجز إنتاجًا ماديًا للرغبة »46، والتنسيق الجمعي للتلفظ الذي يكون « علة تعبيرية للتلفظ »47. فالطفل هانس الذي يريد الخروج من المنـزل لممارسة الجنس مع صديقته ينطق بتلفظ لا يعود إلى الأسرة وإلى الأم، وإنما يقترن بمجال تنسيقي مفتوح على العالم وعلى التكثيفات والتعدديات التي يندرج فيها. فالملفوظ الذي ينطق به « لا يتعلق بتمثيل ذات، إذ لا وجود لذات التلفظ، وإنما ببرمجة تنسيق »48.
كل هذه الانتقادات التي وجهها كل من دولوز وغاتاري إلى التحليل النفسي دعتهما إلى تأسيس مجال جديد وبديل للتحليل النفسي وهو مجال التحليل الفصامي49. فإذا كان التحليل النفسي يربط الرغبة بالنقص والذنب، فإن التحليل الفصامي يحررها من كل ذلك ويربطها بقوة ديونيسوس النيتشوية. وإذا كان التحليل النفسي لا ينفصل عن أسطورة الإحالة، فإن التحليل الفصامي يدرس الرغبة من حيث هي رغبة مقترنة بالخارج، بالمجال السوسيولوجي والتاريخي والسياسي. وإذا كان التحليل النفسي يكسر كل إنتاجات الملفوظ بجعلها تحيل على أنا وعلى ذات متكلمة، فإن التحليل الفصامي يربط الملفوظ بالتنسيق الجمعي للتلفظ الذي هو عبارة عن تكثيفات جمعية متعددة وسيولة مستمرة إلى جانب سيولات أخرى متعددة. ذلك هو المجال الجديد والحي الذي أسسه كل من دولوز وغاتاري، وهو مجال يعيد للرغبة قوتها، وللملفوظ بُعدَه الأساسي.
إن هدفنا من هذه الورقة التي توخينا منها تقديم أحد التصورات النقدية الجارحة لمسار التحليل النفسي، لا يكمن في تقديم موقف تميز بالقوة والتجديد فحسب، وإنما بإثارة الاِنتباه إلى أن ممارسة التحليل النفسي في بلد كالمغرب أو في بلدان مثل البلدان المغاربية ذات الثقافة المختلفة كليًا عن الثقافة الغربية لا يمكنه أن يتهافت بإيمان أعمى وبخطوات مُتسرعة على مجال التحليل النفسي بغية تطبيقه على حالات محلية، بل عليه أن يعلم أن التحليل النفسي لم يسلم من النقد في عقر داره، أي في الغرب الأوروبي ذاته، وأن الطريقة الأسلم في اعتقادنا هي الاستفادة من هذه الانتقادات وأخذها بعين الاعتبار حتى لا نسقط في ما سقط فيه التحليل النفسي ذاته وعلى يد أكبر مكتشفيه وأكبر رواده. فإذا أصبح التحليل النفسي محط انتقادات عدة داخل الثقافة الأوروبية فذلك مدعاة لنا لأخذ الحذر من نظرة اختزالية للرغبة. ومهما كان العلاج النفسي الذي علينا استعماله أو إحداثه أو اقتباسه، ومهما كانت التسميات التي سنطلقها عليه، فمن الواجب أن لا يسقط في رؤى اختزالية كتلك التي سقط فيها التحليل النفسي. وعليه أن يتعامل مع الرغبة بعيدًا عن كل نقص وسلب، وأن يأخذها في اقتراناتها وبنائياتها الهادفة إلى تأسيس مستويات الفرح والإبداع. ولعل الدرس الذي نجنيه من عرض هذا النقد هو الابتعاد عن وهم « أسطورة الإحالة » القاتلة لكل إبداع ولكل انفتاح على العالم والحياة
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|