مفهوم بشارة متى
يصور متى المسيح بموسى الجديد ، وصورة ابن الانسان . هذه الصورة تشبه الى حد بعيد الصورة التي قدمها اشعيا النبي (( انه اتى لياخذ اوجاعنا ويحمل عاهاتنا ... )) ، فان متى يعطي هذه الصورة ليسوع بانه ياخذ الامنا من خلال موته على الصليب .
متى يبين نسب يسوع الانساني بذلك يعطي له سلالة ملكية انسانية من دون ان ينكر الصفة الالهية التي له . وهدف متى من كتابة بشارته هو انه يسجل خطا مترابطا بين ميلاد المسيح ورسالته وموته وقيامته . فقط عند متى نقراء نسب يسوع بذلك يريد من ان المسيح هو من سلالة ملكية وان يظهر المواعيد التي اعطيت لداوود ، وهذه المواعيد تحققت بالمسيح .
كتب متى بشارته هذه لفائدة اليهود الذين في ارض فلسطين ، لذلك كتبه باللغة السريانية وهي كانت لغتهم يومذاك . وغرضه هو ان يثبت ان يسوع الناصري هو المسيح .
يدعى اسمه عمانؤيل اي الله معنا ، هذا اللقب هو ليسوع ، وهذا له معان اثنين : الاول اي اتخذ الطبيعة الالهية كما يقول يوحنا (( والكلمة صارت جسدا )) . والثاني هو انه ظهر بيننا بالجسد بحسب النبؤة (( بعد هذا تراءى في الارض وعاشر الناس )) . ها ان العذراء تلد ويدعى اسمه عمانؤيل ( اشعيا 7 ) .
كما ذكرت ان متى يعطي صورة موسى الجديد ليسوع وهذه الصورة نراها عند الهروب الى مصر ، فهذه الصورة هي ليبين كيفية الخروج شعب اليهودي من مصر قد نجح في شخص المسيح .
متى عندما يعلن حياة يسوع العلنية ، نرى يسوع يصطدم بطائفتين من اليهود ( الفريسين و الصدوقين ) . الفريسيين كانوا يقولون ان الدين والعبادة في الامور الظاهرة لا غير ، وكانوا يفسرون شريعة الله بتفاسيرهم الباطلة كما هو حالنا اليوم ، فكم من شيع تخرج علينا وتفسر كلام الله على حسب اهوائهم التي لهم غايات ويطغون الايمان المسيحي على اهدافهم الخبيثة . اما الصدوقين فهؤلاء لا يؤمنون بوجود الملائكة وينكرون خلود النفس وقيامة الموتى . كانوا هؤلاء ياءتون الى يوحنا يساءلوه ان هو المسيا ، فكان يقول لهم (( انا اعمدكم بالماء ، اما الذي ياءتي من بعدي فهو سيعمذكم بالروح القدس )) ، فهذه المعموذية هي اذن استعداد للمغفرة وليس لها القدرة على محو الخطيئة . اما معموذية الروح الذي اتى بها يسوع فهي التي بها الخلاص ، ويدخل الانسان فيها بروحية وولادة ثانية ونلبس مع المسيح الثوب الروحي .
ينقلنا متى من هذه الاجواء الى البرية لكي يجرب (( حينئذ اخرج يسوع الى البرية من الروح ليجرب من ابليس فصام اربعين يوما واربعين ليلة واخيرا جاع )) . هنا يجب ان نفهم هذه التجربة . وان نفهم ان الله لا يجرب احدا ، لكن الانسان محتاج دوما الى التجديد . وممكن القول ان نسمي هذه التجربة بالامتحان للايمان لنا . لان كل انسان محتاج لهذا الامتحان لكي يمكنه من التجديد الروحي مع المسيح . لكن هذه التجارب ليست تجربة خبز بقدر ماهي كيفية الوصول الى الخبز . فعند قول متى من ان يسوع هو ابن الله ، هنا يسوع لا يستعمل بنوته لمصلحته الشخصية . نعم نحن نجرب من قبل انفسنا او من قبل الاخرين ، لكن يسوع يقول لنا (( ليس بالخبز يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله )) . وتعلمنا هذه التجارب ايضا عندما نريد شيئا ما لا يمكن الحصول عليه بالطرق الملتوية . فهذه التجارب اذن تعلمنا كيف علينا ان ندخل الى ذواتنا ونرى نقاط ضعفنا التي فينا ونجعل كلمته مقياسا لنا .
بعدها ينقلنا متى الى حياة يسوع الخدمية اي التبشير بملكوت الله . هنا اثناء موعظة يسوع على الجبل يخاطب الجموع بكلمة طوبى ، هنا متى يريد ان يعلمنا ان يسوع اتى الى الارض لخلاص الانسان ، لان متى يعطي تعليم جديد على فم المسيح غير التعليم الذي اعتاد اليهود عليه للسماع من معلمينهم ، هذا التعليم مختلف كليا انه يبدء بكلمة طوبى . يجب علينا قراءة هذه التطويبات على ضوء نور المسيح . نحن اذن امام وصية جديدة ، انه اتى ليكمل لا لينقض ، لانه خاضع للناموس . فهنا يسوع يريد من الجموع ومنا ان يصحح المفهوم للشريعة ، قد قيل لكم ، وانا اقول لكم .
(( اذا صليتم فلا تكثرون الكلام ... )) فهنا يسوع يريد القول : ان استجابة الصلاة ليست متوقفة على كثرة الكلام الفارغ الصادر عن هذيان اللسان ، ولكن قليل الصلاة وبالايمان اكثر استجابة من كثرتها بغير الايمان .
حادثة شفاء المجنونين في متى نراها عند مرقس ولوقا مجنون واحد ، هنا لا يجب ان نفهم انه تناقض ، كلا ، فالعبرة بحقيقة العجوبة لا بالعدد من وقعت العجوبة معه . متى بذكر امثال وعجائب يسوع يريد قوله لنا انه ابن الله . وتعاليمه هذه لها طعم خاص مليء بالرحمة والحب . فيريد يسوع منا ان نعمل مشيئة ابيه لكي نكون بالحق ابناءه ليس فقط بالاسم وانما بفعل ايماننا ، لانه كما يقول (( كل من يعمل هذا هو اخي واختي وامي )) فاذن هي النعمة التي تحل علينا اذا قمنا بعمل مشيئة الاب .
متى يكشف المسيح على لسان بطرس ، وهنا متى يريد قوله ان بطرس عرف انه ابن الله بإلهام من الروح القدس (( انت المسيح ابن الله الحي )) . هنا يريد متى ان يقول ان بطرس عندما اعلن انه ابن الله يريد بذلك ان يصطفي بطرس لخدمة الكنيسة (( انت الصخرة وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي )) ، وساعطيك مفاتيح الملكوت . هنا يجب ان نفهم ان المسيح عندما يصرح لبطرس بانه لكنيسته بمنزلة الاساس من البيت . وتسليم المفاتيح الملكوت له نفهم من ذلك ان تسليم مفاتيح المدينة لشخص ما يتضمن تسليم المدينة كاملة له ويجعلها تحت سلطانه . لكن بعد هذه الحادثة ينقلنا متى الى نقيضها اذا نترجمها حرفيا بقوله لبطرس (( اذهب عني يا شيطان )) ، هنا لا ينقض يسوع كلامه لبطرس ، معنى الشيطان هنا هو المقاومة ، اي ان بطرس قاوم كلام يسوع كيف انه سيموت ، لان غيرته اي بطرس لا تقبل هذا .
بعد كل هذه الخدمة والامثال ينقلنا متى الى نهاية الازمنة . لانه يقول كل شيء قد تم فيه وحان الوقت ، ولم يبقى له الا ان يحتل المكان السماوي والارضي . اي ما معناه بموته وقيامته تتم الازمنة . فنهاية الازمنة عند متى هي بداية للازمنة الجديدة ، فهذه البداية هي انتصار المسيح على الموت ، وهذه النهاية نفهمها في الموعظة على الجبل وهي التبشير بالسعادة ( ما اسعدكم ايها الفقراء ، لانكم لن تبقوا فقراء بعد اليوم بما ان ملكوت الله قد اتت ) ، وهذا ما معناه اننا لن نبقى فقراء اذا امنا بالمسيح و بالملكوت . لان الملكوت هي وجود المسيح فيما بيننا ، وهذا الملكوت يتطلب ان نعيش بالحق .
يجب علينا ان نحقق هذا الملكوت ونجهد لبناءه على ضوء التطويبات ، وجب علينا العيش منذ الان هذا الملكوت ونعطيها بعدا روحيا كاملا لكي نعبر من خلاله هذا الفردوس الارضي الى الفردوس الالهي الذي لا نهاية له ، هذا ما يجب ان نؤمن به وهذا ما يريده متى لنا .
وها انا معكم كل الايام الى منتهى الدهر . انه لايزال مع كنيسته ويثبتها ، انه معنا . لنبشر باسمه كل واحد منا بمحيطه من خلال اعمال المحبة التي نقوم بها . لانه مطلوب منا ان نحب بعضنا البعض ونصلي من اجل الاعداء ، لكي نكون بذلك ابناء الاب السماوي . وجب علينا ان نكون مسلحين بكلمته لانها نور وطماءنينة وسلام ومحبة لنا ...
من منكم بلا خطيئة فليرميها بأول حجر
|