22/12/2008
|
#2
|
مشرف
نورنا ب: |
Oct 2006 |
المطرح: |
الغدّ |
مشاركات: |
2,008 |
|
3
لقد قلتُ إنني نمتُ وما أحسستُ كيف حدث ذلك، لكأنني كنت لا أزال أقلّبُ تلك الأمور.
ورأيتُ نفسي أمسك المسدّس وأنا في وضعيتي نفسها وأسددُهُ إلى قلبي مُباشرةً ـ إلى قلبي وليسَ إلى رأسي، وكنتُ من قبل قد خططتُ أن أسدِدَ إلى صدغي الأيسر، وضعتُ المسدسَ إذاً في صدري وانتظرتُ ثانية أو اثنتين، فإذا بالشمعة والطاولة والجدار أمامي تهتزُ وتترنّح، فأسرعتُ أطلقُ النار.
في الحُلمِ تسقطُ أحياناً من مكانٍ شاهقٍ، أو تُطعن أو تُضرب، لكنك لا تحسُّ على الأغلب بالألم، إلا أن تكون قد آذيتَ نفسكَ بالسرير، وتستيقظُ تحت الشعور بالألم، وهذا ما حَدَثَ في حُلمي: فأنا لم أشعر بالألم جَرّاء إطلاق النار ولكن خُيّل لي أنني تلقيتُ صدمة هَزّتني كُلّي ثم شعرتُ بالسكينة، وأحاطتني ظلمةٌ شديدة، لكأنني أصبحتُ أعمى وأخرس، ثُمَّ ها آنذا أضطجِعُ فوق شيء ما صلب ممّدداً ومقلوباً، لا أرى شيئاً ولا أستطيع أن أتحرّك، البشر من حولي يصرخون ويعبرون، والكابتن يزمجر، وصاحبة البيت تعول ـ ثُمَّ يَعمّ الهدوءُ من جديد، وها هم يحملونني في تابوتٍ مُغلق، وأحسُّ التابوت يتأرجح، فأفكر في الأمر، وتصعقُني لأوّل مرّةٍ فكرة مفادها أنني ميّت ميت تماماً، أعلمُ ذلك ولا أشكُ فيه، لا أتحرّك، لا أرى شيئاً، لكنني أحسُّ وأفكّر. وسرعان ما ألفتُ هذا الوضعَ وفقاً لمنطق الحلم نفسه، وقبلتُ الأمر دون اعتراض.
وها هم يدفنونني في الأرض، ثُمَ يغادرون، أظّلُ وحيداً، وحيداً تماماً، لا أستطيع الحركة.
كنتُ فيما مضى حين أتخيّلُ كيف سأُدفَن في القبر، أجدُني دائماً أربطُ بين القبر ومشاعر الوحدةِ والإحساس بالبرد، ولهذا فأنا أشعرُ الآن بالبرد الشديد، ولا سيّما في نهاياتِ أصابعِ قدميَّ، وسوى ذلك لا أشعرُ بشيء.
كنتُ ممدّداً ومن الغريب أنني لم أكن أنتظرُ شيئاً، وكنتُ على يقين لا اعتراضَ فيه أن على الميّت ألا ينتظر شيئاً. لا أعلم كم مَرّ من الوقت ـ ساعة أم عدّة أيام، أم أيام كثيرة.
ثُمّ إذا بقطرةٍ ماءٍ كبيرة تسقطُ فجأةً من غطاء التابوت في عيني اليُسرى المغمضة، وتتلوها بعد دقيقة قطرة أخرى، وهكذا يستمرُ تساقط القطرات كل دقيقة، فأشعرُ بغيظ شديدٍ في قلبي، ثُمّ أحسُّ بألمٍ فيزيائيٍ فيه: "إنّه جُرحي ـ فكرتُ ـ هذا موضِعُ الرصاصة" ويستمرُ تساقطُ القطرات كل دقيقة واحدة ومباشرةً على عيني المغلقة.
وفجأةً وجدتُني أصرُخُ بكل ما فيّ من مشاعر ـ ولكن دون صوت فقد كنت جامداً لا حراكَ فيّ ـ وجدتُني أصرخُ منادياً ذاك الذي يتحكّم بي.
ـ أياً كنتَ؛ إن كنتَ موجوداً، وإن كان من الممكن وجود ما يحدث الآن، ولو على سبيل الانتقام مني بسبب انتحاري الغبي فلا تسمح بحدوث ذلك لأنكَ لن تلقى مني إلا السخرية، فالتعذيب الذي يقعُ عليّ الآن، مهما كان لا يَعْدِلُ شعوري بالاحتقار الذي سأحسّهُ صامتاً ولو لملايين السنين القادمة!
ناديتُ بكلامي ذاك ثُمّ سكتُ، مَرّت دقيقةٌ من صمتٍ عميق، وسقطت قطرةُ ماءٍ واحدة لكنني كنت أعلم علمَ اليقين أن كل هذا الأمر سيتغيّر فجأةً، وها هو ذا القبرُ ينفتحُ فجأةً، أو لنقل أنني لم أكن أعرف هل انفتَحَ القبرُ أو كان كذلك أو ذابَ الغطاء، لكنني أحسستُ أن كائناً غامضاً ومجهولاً أمسكني وطار بي في الفضاء، ثُمَ أعادَ لي بصري بغتةً، لكن الظلام كان حالكاً كما لم أرهُ من قبل، لم أسأل الكائن الذي حملني وبقيت صامتاً محتفظاً بكبريائي، لا أشعر بالخوف؛ وسعيداً بذلك، لا أستطيع أن أتذكر كم طرنا، وليس بإمكاني تصوّر ذلك: فقد حدث ما حدث كما هو الأمرُ في الأحلام تجتازُ الأماكن والأزمنة، وتخترقُ كُلّ قوانين العقل والدنيا ولا تلتقطُ شيئاً محَدّداً.
أذكُرُ أنني لمحتُ في ذلك الظلام الشديد نجماً، فسألتُ رغماً عني: "أهذا نجم سيروس؟" ذلك أنني ما أحببتُ أن أتوجَهَ إلى من يحملني بأي سؤال، فأجابني قائلاً:
"لا، إنهُ النجمُ نفسه الذي رأيتَهُ بين السحاب حين كنتَ عائداً إلى منزلك، كنتُ أعلم أن لهذا الكائن هيئة إنسان، ومن غريب الأمر أنني ما أحببتُ هذا الكائن، بل شعرتُ تجاهَهُ بكرهٍ شديد. لقد انتظرتُ العدمَ المطلق ولأجل ذلك أطلقتُ رصاصةً في قلبي، فإذا بي بين يدي كائنٍ؛ هو بالتأكيد لا إنساني ولكنهُ "موجود".
فكّرتُ بخفّة الحلمِ العجيبة: "إذاً هناكَ وراء القبر حياةٌ أخرى!"، لكنَ ميزتي الأساسيّة ظَلّت في أعماقي: "إذا كان لا بُدَّ أن (أوجدَ) ثانيةً ـ فكّرتُ ـ بإرادةِ أحدٍ ما فإنني لن أكونَ مَغلوباً ومُذلاًّ".
"أنتَ تعلم أنني أخافك، ولهذا أنتَ تحتقرُني"، قلتُ لرفيقي، دون أن أستطيع كبح هذا السؤال المُذل، الذي ينطوي على اعتراف وينغرس في قلبي كإبرةٍ سببها الجبن.
لم يجبني عن سؤالي، ولكنني شعرتُ فجأةً أنه لا يحتقرني، ولا يضحَكُ من فعلي، ولا يرثي لي في الوقت نفسه، وأن لدربنا هذا غاية ينتهي إليها، سريّة غير معروفة ولا تعني أحداً سواي، ازدادَ الرعبُ في قلبي، ونفذَ صمتُ صاحبي إلي عميقاً ومؤلماً.
واجتزنا فضاءاتٍ مظلمةٍ ما رأتها عين، وما عدتُ أرى نجوماً مألوفة من قبل.
وكنتُ من قبلُ أعلم أن في أعماق الفضاء توجدُ نجومٌ لا تصلُ إلينا أنوارها إلا بعدَ آلافِ وملايين السنين، لعلّنا قد قطعنا تلك الفضاءات، كنتُ أنتظرُ شيئاً ما في وحدة قلبي العميقةِ والمخيفة، وفجأةً وبينما أنا كذلك إذا بعاطفةٍ معروفةٍ تهزّ كياني وتوقظ ماضيّ بقوةٍ: لقد رأيتُ فجأةً شمسنا! كنت أعلمُ أنها لا يمكن أن تكون (شمسنا)، شمسنا التي ولدت أرضنا، وأعلم أننا نبعدُ عن شمسنا مسافاتٍ لا نهائية، لكنني كنت أحسُّ بكل جوارحي أنها تشبُهُ شمسنا تمام الشبه، وهي نسخة عنها، ونظير لها. إحساسٌ لذيذٌ حلوٌ غَمَر روحي: وقوّة الضياء الخلاقة التي ولدتني، ترجّعت في قلبي وبعثتهُ من جديد، فأحسستُ بالحياة تعودُ إلى عروقي، لأوّل مَرّةٍ بعدَ أن قُبِرت.
ـ ولكن إذا كانت هذهِ هي الشمس، إذا كانت شمساً كشمسِنا تماماً ـ هتفتُ به، فأين هي الأرض إذاً؟
فأشار مُرافقي إلى نجمةٍ تُشّعُ في الظلمةِ بضياءٍ زُمردّي اللون، وكنا في الآن نفسه نتجهُ نحوها.
ـ هل من الممكن أن يحدثَ مثلُ هذا التكرارِ في الكون؟ وهل هو قانون الطبيعة؟ وإن كانت تلك هي الأرضُ، فهل هي أرضٌ كأرضنا تماماً، مثلها تعيسة، وفقيرة، ومثلها غالية ومحبوبة أبد الدهر، وقادرة على استدرار حُبِ أبنائها وحتى أكثرهم جحوداً؟ ـ قلت ذلك هاتفاً وأنا أرتعشُ جراءَ حُبٍ طاغٍ وشديد تجاه تلك الأرض التي ولدتُ عليها وهجرتُها، وكانت طيف تلك الطفلة البائسة التي أهنتُها يخفقُ أمام عيني.
ـ سترى كل شيء ـ أجابَ مُرافقي وكانت كلماتُهُ تشي بحزنٍ ما.
ولكننا كنا نقتربُ بسرعةٍ من الكوكب، فيكبُرُ حجمُهُ في عينيّ، ثمّ مَيّزتُ المحيط وحدود أوروّبا، فاشتعلت غيرةٌ غريبةٌ ومقدّسةٌ في قلبي: "كيف يمكن أن يحدث مثل هذا التكرار؟ ولأية غاية؟ أنا أحبُ... أنا أستطيع أن أحب تلك الأرض التي تركتُها ورائي، تلك الأرض التي تناثَرَ دَمي فوقها، عندما أطلقتُ الرصاص في قلبي جاحِداً كل شيء، ومنهياً حياتي، ولكنني لمْ أتوقّفْ عن حبّها أبداً، وحتى في تلك الليلة التي فارقتها فيها فقد شعرتُ بحبّها أشدُ تعذيباً لي من أي وقتٍ مضى، هل ثمّة عذاب على هذه الأرض الجديدة؟ على أرضنا لا نستطيع أن نحب إلا مع الألم والعذاب، وفقط من خلالهما، وإلا فإننا لا نستطيع أن نحب، بل لا نعرفُ حُبّاً آخر، لهذا أنا أطلبُ العذابَ كي أتمكّن أن أحب، كم أتعطّشُ في هذهِ اللحظة أن أقبلَ الأرضَ وأغسلها بدموعي، تلكَ الأرض التي هجرتها والتي لا أريدُ، بل لا أستطيع العيش إلاَّ عليها فقط!".
لكن مُرافقي كان قد تركني وحيداً. وأصبحت فجأةً ـ وكما لو أنني لم أنتبه لذلك ـ أقفُ على تلك الأرض الأخرى غارقاً في نور شمسٍ ساطع، في يومٍ نعيميٍ رائع. لقد وقفت على ما أظنُ على أرضِ جزيرةٍ من تلكَ الجزر التي تشكّل أرخبيل(2) اليونان، أو على شاطئ أرضٍ تشرِفُ على ذاك الأرخبيل. كل شيء كان يشبُهُ ما ألفناهُ على أرضنا تماماً.
وتراءى لي أن حبوراً وعيداً يشعُّ في كل مكان حتى يبلغُ الأمرُ مرحلةَ النشوة والروعة.
والبحرُ الزمرديُ اللطيف يُداعبُ الشاطئ بحبٍ واضحٍ عن وعيٍ تقريباً.
وأشجارٌ باسقةٌ عاليةٌ رائعة انتصبت في المكان غزيرة الأوراق وكثيفتها وبَدَتْ لي وكأنها تحييني بمودّة بحفيفها الصامت الرقيق، وتخاطبني بكلمات الحب. واشتعَلَ المرجُ أزهاراً عَطِرةً مضيئة، أما العصافيرُ فكانت تطيرُ نحوي أسراباً مطمئنةً آمنة وتحطُ على كتفيَّ ويديَ مصفّقةً بأجنحتها الصغيرة مغنيةً لي. وأخيراً رأيتُ وعَرَفت بشَرَ تلك الأرض. لقد جاءوا إلي بأنفسهم، أحاطوا بي، وقبّلوني.
أبناءُ الشمس، أبناءُ شمسهم ـ كم كانوا رائعين! ما رأيتُ في حياتي جمالاً كجمالهم على أرضنا، وهل بالإمكانِ أن تجدَ صورةً ولو باهتةً من جمال هؤلاء الأطفال في أطفالِنا حديثي الولادة! عيون هؤلاء البشر السعداء كانت تشعُّ ضياءً ونوراً.
ووجوههم تشرقُ حكمةً ووعيّاً، يبلغُ أقصى حدود الهدوء والرزانة، في أصواتهم وكلماتهم كانت ترنُّ نغمةُ سعادةٍ طِفْليّة. وقد فهمتُ كل شيءٍ من النظرة الأولى إلى وجوههِم. إنّها الأرضُ؛ قبل أن تلطّخها الخطيئة، وعليها يعيشُ البشرُ دون خطيئةٍ، يعيشونَ في هذهِ الجنّة؛ التي تناقَلَ البَشَر أن أجدادنا عاشوا فيها قبل أن يرتكبوا آثامَهم، مع فرقٍ واحدٍ، هو أن هذهِ الأرض هُنا، إنّما هي جنّة في كل جنباتِها وجهاتِها. كان هؤلاء الناس يضحكونَ من حولي بجذلٍ ومَرَحٍ، يقتربونَ مني ويمازحونني، ثُمَّ مضوا بي إلى منازلهم وكُلّ منهم يحاولُ أن يرفّه عني ويسلّيني، وما سألوني عن أي شيء، وكأنهم كانوا يعرفونَ الأشياء جميعها؛ هذا ما بدا لي. لقد كان همّهم أن يطردوا تعابير العذاب عن ملامح وجهي.
4
إنكم ترونَ مَرّة أخرى: وليكن أن ما شاهدتُهُ كان مُجرّد حُلم! لكن إحساسي بمحبّة أولئكَ الناس الأبرياء الرائعين انغرسَ في قلبي إلى الأبد، وما زلتُ أحسُ أن حبّهم يتدفّق نحوي من هناك حيث هم موجودون، لقد رأيتهم بنفسي وعرفتهم وتألمتُ لأجلهم بعد ذلك، آه لقد أدركتُ لحظتَها أنني لا أفهمهم حق الفهم، لقد بدا لي ـ أنا التقدمي الروسي الحديث، والبطرسبورغي العفن ـ بدا لي وبشكلٍ معقّد أنهم ورغم معرفتهم الكبيرة يجهلونَ علومَنا. ثُمّ ما لبثتُ أن أدركت أن معارفهم هم اكتملت وتشبّعت بمدركاتٍ واختراقاتٍ مختلفةٍ تماماً عَمّا لدينا على الأرض، وتطلعاتهم أيضاً مختلفة عن تطلّعاتنا لقد كانوا هادئين بلا رغبات، ولم تكن لديهم تلك المحاولاتُ لمعرفة ِالحياة، كما هو الحالُ عندنا، لأن حياتهم كانت كاملة، ومعرفتهم أكثر عُمقاً وسُمّواً من عِلمنا، لأن علمنا إنما يسعى لمعرفةِ الحياة وشرحها، لتعليم الآخرين، أما هم فقد عرفوا كيف يعيشونَ ودون علم، وهذا ما عاينتُهُ بنفسي، لكنني لم أستطع أن أفهَمَ معارِفَهم.
لقد أروني أشجارَهم، لكنني لم أستطع أن أفهم درجةَ الحب السامية التي كانوا ينظرونَ من خلالها إلى تلك الأشجار: وقد تحدّثوا إليها كما يتحدّثونَ إلى أشباههم من البشر.
ولا أخطئُ لو قلت إنهم وجدوا لغةَ الأشجار وتكلّموها. نعم اكتشفوا لغة الأشجار وقد فهمتِ الأشجارُ بدورها كلامهم. لقد نظروا إلى الطبيعةِ بهذهِ الصورة ـ إلى الحيوانات التي عاشت معهم بسلام؛ ما هاجموها ولا هاجمتهم، بل أحبوها وبالحبِ، روّضوها. لقد أروني النجوم وحَدّثوني عنها حديثاً لم أفهمهُ، لكنني واثِقٌ من أنهم على تماسٍ حي مع نجوم السماء تلك وليس الأمرُ مجردُ تماسٍ أو رباطٍ فكري. أوه لم يسعَ أولئكَ الناس لجعلي أفهمهم، بل أحبّوني دون ذلك، وقد فهمتُ بالمقابل أنهم أحياناً ما استطاعوا استيعابي، رُبّما لأنني تقريباً لم أحدثهم عن أرضنا، لكنني قبّلتُ تلك الأرض التي يقفونَ عليها، ودونَ كلماتٍ شعرتُ باحترامٍ ومودّة تجاههم، وقد شعروا بذلك فتركوا لي أن أحبّهم وأودّهم دون شعورٍ بالحرجِ من قَبلهم، لأنهم هم أنفسهم كانوا ممتلئينَ بالحب.
لم يتعذّبوا لأجلي حين قبّلتُ أقدامهم أحياناً ودموعي تغطيّ وجهي، لكنني كنت أشعر بسعادة مَبْعَثُها إحساسي بمقدار قوّة الحب التي سيعوّضونني بها عن كل ذلك. كنت أتساءل أحياناً بشيءٍ من الدهشة: كيف استطاعوا طوال الوقت ألا يسيئوا إلى واحدٍ مثلي، وألا يبعثوا فيَّ شعوراً بالغيرةِ أو الحسد ولو لمرّة واحدة؟ وقد سألتُ نفسي مراراً، كيف استطعتُ أنا المتباهي الكذّاب ألا أحدّثهم عن مداركي ومعارفي التي بطبيعة الحال لا يعرفونَ عنها أيّ شيء؟ كيفَ لم أشعر برغبة في إدهاشهم حتى ولو من قبيل الحب نحوهم؟ لقد كانوا فرحين مرحين كالأطفال، يطوّفونَ في أرجاءِ أحراجهم وغاباتهم، ويغنونَ أغنياتهم الرائعة، ويكتفونَ بثمار أشجارهم وعَسلِ غاباتهم وحليب حيواناتهم المحبوبة؛ مما هو خفيفُ المأكل لأجلِ طعامِهم وكسائِهم ما كانوا يعملونَ إلا قليلاً، كانوا يعيشونَ الحب وينجبونَ الأطفال ولكنني لم ألاحظ لديهم في يومٍ من الأيام اندفاعات تلك اللذة "القاسية"، التي يبلغها تقريباً كل شخصٍ على أرضنا، وتعتبَرُ مصدر كل آثامِ وأخطاء الإنسانيّة.
كانوا يفرحونَ بولادةِ أطفالهم كمشاركين جدد في أعياد مسراتِهم، وما رأيتُ بينَهم حسداً أو خصومات، بل ما كانوا يعرفونَ معنى هاتين الكلمتين، وكان طفلُ أحدهم طفل الجميع، صانعين بذلك أسرةً واحدةً، المرضُ تقريباً لم يكن لَهُ وجود عندهم، مع أن الموتَ موجود طبعاً، كان الشيوخ منهم يموتونَ بهدوء وكأنهم ينامون محاطين بذويهم الباسمين المباركين، وعلى شفاههم أنفسهم علائم البسمة. لم أرَ حداداً أو دموعاً خلال ذلك، بل حُبّاً يزدادُ حتى يصل مرحلة الهيام والوجد الهادئ الرصين والكامل؛ حتى يدفعك كل هذا إلى التفكير بأنهم يظّلونَ على صلة مباشرة مع موتاهم بعد أن فارقوا الحياة، وأن الموتَ لا يستطيعُ أن يقطعَ أو يُبترَ الوحدةَ الأرضيّة التي تربط بينهم، لم يفهموني تقريباً حين كنت أسالهُمُ عن الحياة الأبديّة، ولكنهم على ما يبدو كانوا مقتنعين بها عن غير وعيٍ بطريقةٍ كفتهم ضرورة طرح السؤال.
لم تكن لديهم معابد، لكنهم كانوا يعيشونَ في اتحادٍ كامل متواصلٍ مع "الكون الكلّي"، لم يكن لهم دينٌ محدد، بل ثقةٌ راسخة، بأنهم حين يبلغونَ أو يحققون فرحتهم الأرضيّة حتى أقصى حُدودِ الطبيعةِ الأرضيّة، فسيحققون جميعاً ـ الأحياء منهم والأموات ـ أقصى درجاتِ التواصِلِ والاتحادِ مع "الكون الكلّي". كانوا ينتظرونَ تلكَ اللحظة بفرحة ودونِ تعجّل، ودون عذابِ الانتظار، كما لو أنهم قد قبضوا على تلك اللحظة بنبوءاتِ قلوبهم، وتناقلوها فيما بينَهم.
كانوا قبل أن يذهبوا إلى النوم يحبونَ تشكيل جوقاتٍ جماعيّة منظّمة، تُردِدُ أُغنيات تبثُّ إحساساتهم التي تراكمت خلال النهار في نفوسهم، وبذلكَ يباركونَهُ ويودّعونَه. يباركونَ الطبيعةَ والأرضَ والبحر والغابات. كانوا يحبّونَ تأليفَ الأغنيات أحدهُم عن الآخر، فيُثني واحدهم على زميلِهِ ويمتدحُهُ كالأطفال فيما بينَهم، كانت تلك أغنيات بسيطة، ولكنّها مؤثرة لأنها نابعة من القلوب، وما كانوا يلاطفونَ بعضهم بالأُغنيات فحسب، بل في كافةِ وجوهِ الحياة، فهم ينفقونَ الحياة في حبِ بعضهم بعضاً.
غير أني لم أفهم تقريباً أغنياتِ النشوة والانتصار التي كانوا يؤدّونَها، ورغم معرفتي بمعاني كلمات تلك الأغنيات غير أني لم أستطع أن أنفذَ إلى عمق دلالاتِها ومعانيها الكليّة، لقد بقيتْ قصيّةً عما يستطيعُ عقلي أن يبلُغَه، لكنَ قلبي بالمقابل استطاعَ أن ينفذَ إلى تلك المعاني ويتشبّع بها أكثر فأكثر، قلتُ لهَمُ مراراً أنني ومنذ زمن بعيد قد تنبأتُ بكل ذلك، وأن ذلكَ الحبور وتلك السعادة قد تكشفا لي على أرضنا بصورة حنينٍ جارف، يبلُغُ أحياناً درجةَ الألم الذي لا يُحْتَمَل، وأنني تصوّرتهم وتصوّرتُ مجدَهم مُسْبقاً في أحلام طفولتي، وأمنياتِ عقلي، وأنني ما كنتُ أستطيع النظر وأنا على الأرض إلى الشمس الغاربة إلا وتمتلئ عيوني بالدموع... وأن بغضي لأهل الأرض كان دائماً ممتزجاً بالألم: لماذا لم أستطع أن أكرههم، أو أحبّهم؟، لماذا لم أستطع أن أسامحهم؟ ولماذا يمتزجُ ودّي لهم بالألم؟ لماذا لا أستطيع أن أحبّهم أو أكرههم؟.
كانوا يستمعونَ إلي وكنتُ أرى أنهم لا يستطيعونَ تصوّر ما أقوله، ولكنني لم أندم على ما قلتُهُ لهم. وعلمتُ أنهم يفهمونَ قوّة حنيني إلى أولئكَ الذين فارقتهم.
بلى؛ عندما كانوا ينظرونَ إليّ بنظراتِ محبّتهم النفّاذةِ العذبة، فأحسُ أن قلبي في حضرتهم يصبُحُ بريئاً وصادقاً كقلوبهم كنتُ حينها لا أشعُرُ بالندم أنني لا أفهمُهم. وتحت تأثير الإحساسِ بامتلاء الحياة بينهم كانت تتقطّعُ أنفاسي وأبدأُ بالصلاةِ لأجلِهم صامتاً.
[...] أتعلمونَ؛ سأبوحُ لكم بسر: رُبّما كل ما سبق لم يكن حُلماً! لأن ما حَدَثَ كانَ مهولاً وفظيعاً في حقيقتِهِ، بحيث لا يمكن أن يتراءى في حُلم.
ولنفترض أن حُلمي هذا كان وليدَ قلبي، فهل باستطاعة قلبي منفرداً أن يلدَ تلك الحقيقة الهائلة، التي تحققت بعد ذلك؟ كيفَ كانَ بإمكاني أنا وحدي أن أتخيّل كل ذلك، أو أن أَحْلُمَ بهِ في فؤادي؟ وهل باستطاعةِ قلبي الصغير، وَعَقْلي الضحل المُتَقلّب أن يتساميا إلى تلك السويّةِ من معرفةِ الحقيقة؟ احكموا على ذلك بأنفسكم: أنا حتى هذهِ اللحظة كتمتُ الكثير عنكم، لكنني الآن سأقول كل الحقيقة.
الأمرُ وما فيه أنني... قد أفسدتُ الجميع!
|
|
|