للحروف البيضاءعلى اللوح الأسود مهابة فجر ريفي . و كما يصبون الماء ، على مهل ، في جرة لا تمتلئ ، تَشَرّبتَ الشكل الناقص وصوته معا ، بتعذيب الحنجرة و تطويعها للإشارة ، و بإخضاع الحلق لما تراه العينان .
حين يُجمَعُ حرفٌ الى حرفٍ ، أيْ عَبَثٍ الى عَبَث ، يُسْفِرُ غامض الشكل عن وضوح صوتٍ ما ، ويفتح هذا الوضوح البطيء مجرى لمعنى له صورة ، فتصير ثلاثة أحرف باباً أو داراً . وهكذا تبني حروفٌ خاملة ، لاقيمة لها اذا افترقت ، بيتا اذا اجتمعت .
يا لها من لعبة ! يا له من سحر . يولد العالم تدريجياً من كلمات . هكذا تصير المدرسة ملعبا للخيال ... فتركض إليها بفرح الموعود بهدية اكتشاف ، لا لتحفظ الدرس فحسب ، بل لتعتمد على المهارة في تسمية الأشياء . كل بعيد يقترب . و كل مغلق ينفتح . اذا لم تخطئ في كتابة كلمة نهر . فسيجري النهر في دفترك . السماء أيضا تصبح جزءاً من مقتنياتك الشخصية إذا لم تخطئ في الإملاء .
كل ما لا تبلغه يداك الصغيرتان ملكُ يديك الصغيرتين إذا أتقنت التدوين بلا أخطاء . من يكتب شيئاً يملكه . ستشم رائحة الوردة من حرف التاء المربوطة كبرعم يتفتح . و ستتذوق طعم التوت من جهتين : من التاء المتصلة ومن التاء المفتوحة كراحة اليد /
الحروف أمامك ، فخذها من حيادها والعب بها كالفاتح في هذيان الكون . الحروف قلقة ، جائعة الى صورة ، والصورة عطشى الى معنى . الحروف أواني فخار فارغة فاملأها بسهر الغزو الأول . و الحروف نداء أخرس في حصى متناثر على قارعة المعنى . حكَّ حرفاً بحرفٍ تولد نجمة ، قرِّب حرفا من حرفٍ تسمع صوت المطر ، ضع حرفا على حرفٍ تجد اسمك مرسوما كسُلّمٍ قليل الدَرَج /
كل الحروف جاهزة لاستقبال الشكل / الكائن ، الباحث عن يد ماهرة تخلق الحاجة الى الانسجام . ما عليك الا أن تسمي بيدك كائنات تعرفها من قبل ، و كائنات تعرِّفك على نفسها فيما بعد . /
و يستهويك حرف النون المستقل كصحن من نحاس يتسع لاستضافة قمر كامل التكوين . يرنّ و يحن الى أي امتلاء لا يمتلئ ، و لايكف عن الرنين مهما ابتعد و مهما ابتعدت . سيكبر فيك و تكبر فيه ، ويحييك ، و يُقصيك عن نفسك كحُب ملحاح ، ويُدنيك من الآخرين ... نون النسوة و الجماعة و المثنى و قلب " الأنا" و جناحا "نحن" الطليقان . ستأخذك سورة الرحمن الى الإيمان المصحوب بالطرب ، فتحبُّ الله و تشفى من قلق السؤال : (( من خلق الله )) ؟ /
و تحبُّ الشعر و يأخذك الإيقاع المهموز بحرف النون الى ليل أبيض . كلمات تنقل فرسانا من حب الحرب دفاعا عن بئر الماء ، الى حرب الحب دفاعا عن اميرة مخطوفة في بلاد الجن . لا تستقيم الحكاية إلا بثلاثية الفروسية و الشعر و الحب . مقادير يصارعها السيف والقصيدة معا ، فلا تكون غلبة الا بهما مجتمعين . لم تنتصر قبيلة بلا شاعر ، ولم ينتصر شاعر إلا مهزوما في الحب .
حين ينفَضُّ الساهرون من ديوان جدك و يحملك جدك إلى النوم ، تكون الحكاية قد هيأتك لتحلم وفق خيالها المفتوح : ستتابع حروب عنترة تارة ، و المهلهل تارة. و ستدخل غرفاً لا تعرفها في تناسل الحكاية من الحكاية في ليالي شهرزاد التي لا تبلغ النهاية ، فتصير جزءا من حكاية في عالم سحري التكوين لا يشبه شيئا مما حولك .
هكذا سكنتك فتنة الإيقاع و الحكاية .
فابتعدت ، و حيّرك الخيط المقطوع بينن الواقع و الخيال ، بين حرب تُروى و حرب تُرى .
في مساء ما ، رأيت نساء الحي ذاهبات آيبات بحماسة ، يحملن على رؤوسهن أكياسا ملأى بحجارة يكدّسنها على سطوح المنازل كالذخيرة ، و الرجال منهمكون بتدبيب رؤوس العصي بالمسامير . ما هذا ؟ سألت ، فقيل لك غدا صباحا تندلع الحرب بين الحمولتين الكبيرتين في القرية . لنا حلفاء من الأنسباء و لهم حلفاء...لكننا سننتصر . لم تسأل عن سبب الحرب ، فلعله الضجر أو خلاف على ظلّ شجرة ، ولعله اختراع حكاية . لكن المعركة التي امتدت من الصباح الى المساء لم تسفر عن قتلى أو نصر ، بل فتحت أبواب السجون للمحاربين ، و أغلقت باب الحكايات في دار جدك ، و كان عليك أن تبكي من فقر الليل . و كان عليك أن تكمل الحكايات وحدك و على قدر حلمك بلا رُوراة و معاونين !
أما الحروف البيضاء عللى اللوح الأسود ، فقد تشققت ككلس صدئ، لأن كابوسا ما رافقك الى المدرسة : هل مات أبي ؟ و حين يسألك المعلم : ما معنى هذه الجملة : ( انتظر السيارة حتى تعبر )
تجيبه و أنت شارد الذهن : يعني إذا رأيت سيارة على الشارع ، فلا تمش حتى تزمّر السيارة . يضحك المعلم : ما علاقة تعبر ب تزمّر ؟ فتقول : أليست كلمة (تعبر) هي (تزمّر) لأن للسيارة زمارة . فيقول موبخا : تعبر معناها تمر . حتى الآن ، و بعد ستين عاما من هذه الوعكة اللغوية ، ما زلت تسمع صوت الزمّور كلما قرات أو سمعت كلمة تعبر . و تضحك في سرك من قدرة الأخطاء الأولى على الحفر في الصخر . و تسأل: متى أشفى من تعريف الكلي بالجزئي ؟ فالريشة ليست هي الطائر ، و الشجرة ليست هي الغابة ، و العتبة ليست هي البيت
لكن الكلمات هي الكائنات . ستسحرك اللعبة حتى تصبح جزءا منها . و ستقضي العمر في الدفاع عن حق اللعبة في استدراجك إلى المتاهة ، و في استدراجها الى الفكاهة . تقرأ ولا تفهم ما تقرأ ، فتقرأ أكثر مستمتعا بقدرة الكلمات على الاختلاف عن العادي . الكلمات هي الأمواج . تتعلم السباحة من اغواء موجة تلفك بالزبد . و للكلمات ايقاع البحر و نداء الغامض : فلتأتين إليّ إليّ بحثا عم لا تعرف _ ناداك الأزرق. و أنقذك الحظ و حرس الشاطئ من انقطاع أكيد مع صوت الكلمات . لكن قنديل البحر ما زال يحكك دون أن تتوب عن حب البحر ، و دون أن تعلم أن البحر هو مصدر الإيقاع الأول . فكيف يسجن البحر في أحرف ثلاثة ، ثانيها طافح بالملح ؟كيف تتسع الحروف لكل هذه الكلمات ؟ و كيف تتسع الكلمات لاحتضان العالم ؟
تكبر على مهل و ببطء. وتودُّ لو تقفز أسرع أسرع في السباق إلى غد تروّض فيه الكلمات ، و تقول شعرا حماسيا مدفوعا بقوة الحب و بواجب الدفاع عن القبيلة ، فينفتح لك السريّ الخفي بانفتاح الكلمات على الوعي ، فلا تكون لعبة كما ظننت ، بل تحديق الظاهر الى الباطن و تجلي الباطن في الظاهر ، فتكونها و تكونك ، فلا تعرف التمييز بين القائل و القول . ستسمي البحر سماء مقلوبة ، و تسمي البئر جرّة لحفظ الصوت من عبث الريح ، و تسمي السماء بحرا معلقا على الغيوم .
ثمة شيء يتزيّا بالغامض ، لا يشم و لا يلمس و لا يتذوق و لايبصر ، هو ما يجعل الطفولة حاسّة سادسة ، فسمّوك الحالم من فرط ما ركَّبت للكلمات من أجنحة لا يراها الكبار ، و تحرّشت بالغامض ، و اغتربت /
فانهض من هذا الأبيض
عد طفلا ثانية/علمني الشعر/و علمني إيقاع البحر/وأرجع للكلمات براءتها الأولى /لِدني من حبة قمح ، لا من جرح لدني / و أعدني، لأضمك فوق العشب ، إلى ما قبل المعنى / هل تسمعني : قبل المعنى / كان الشجر العالي يمشي معنا شجرا لامعنى/ و القمر العاري يحبو معنا/قمرا/لا طبقا فضيا للمعنى/عد طفلا ثانية/علمني الشعر/و علمني ايقاع البحر/وخذ بيدي/كي نعبر هذا البرزخ ما بين الليل و بين الفجر معا/و معا نتعلم أولى الكلمات/و نبني عشا سريا للدوري: / أخينا الثالث/ عد طفلا طفلا لأرى وجهي في مرآتك / هل أنت أنا/ و أنا أنت ؟/فعلمني الشعر لكي أرثيك الآن الآن الآن / كما ترثيني!
وجعي تراث الناي يشرب من دمي بوْح الغروب و صُفرة الأهدابِ
أمرُّ باسمكِ إذ أخلو الى نفسي