يحاولون عن عمد دمج مفهوم الحقوق الفكرية مع الحقوق المادية .. ولكن هناك فارق بينهما
لا أحد ينكر أهمية الحقوق الفكرية للمؤلف والتي تتيح له حق الاحتفاظ بالقيمة الفكرية وارتباط الفكرة التي أبدعها باسمه .. ولكن أن يفرضوا على الناس الحقوق المادية الأبدية ويجعلوها مترافقة جدليا مع الحقوق الفكرية فهذا ظلم بحق المعرفة والباحثين عنها.
إنّ أدب كل كاتب عربي هو ملك مادي للأمة العربية كلها وليس حكراً على الأديب وأهل بيته فقط إلى الأبد. لماذا؟ لأنه كان يعيش بين الناس حين كتب كتابه واستفاد من تجارب غيره وإبداعات مجتمعه كلها.
من يجرؤ من المؤلفين على الإدعاء أنه لم يستفد من آثار غيره من الأدباء أثناء تأليفه كتابه ( سواء الآثار التراثية السابقة أم المعاصرة)؟! أو يجرؤ على الإدعاء أنها نتاج فكري شخصي خالص قام به لوحده وكان يعيش طيلة حياته على قمة جبل منعزل فهبطت الأفكار وحياً على رأسه؟!
من يجرؤ على القول أن نشر المعرفة لكل الناس هو أمر غير قانوني؟!
الأمر الغير قانوني هو أن يحتكروا الطفيليون كتب المعرفة إلى الأبد لأنفسهم، ويستنزفوا أموال الناس بواسطتها، ويرفعوا أسعار الكتب لتصبح فوق قدرات معظم الناس على امتلاكها.. إنّ الإحتكار هو الممنوع في عرف كل القوانين السماوية والوضعية البشرية.. لأن كل ملكية فكرية لها مدة محدودة فقط لكي تستغل ماديا ولها شروط يجب مراعاتها لتطبيقها.. وهي ليست ملكية مادية أبدية. ولكن لا يزال البعض يتمسك بحقوق الملكية المادية الأبدية للفكر! متناسين أن مبتدعي فكرة الملكية الفكرية يمنعون احتكارها ماديا جزافاً..( فكل حقوق ملكية لها مدة قانونية وليست مطلقة الزمن).
هل يهتم أحد اليوم بدفع تعويضات مادية لورثة الفارابي مثلاً أو ابن رشد أو ابن الهيثم؟!
تصوروا لو أن أهالي الأدباء الغابرين احتكروا مؤلفات أولئك الأدباء ومنعوا انتشارها إلا بالقطارة! ما كان وصلنا شيء من التراث العربي أو الإنساني كله على الأرجح.
إنّ بعض الإنتهازيين في كل مكان يقومون بمحاولة إيهام الناس بأن الملكية الفكرية لأي كتاب مهما كان لها ملكية مادية أبدية مطلقة منحصرة ومقتصرة على دور النشر ( هيك!!) حتى يستغلوا الناس بدون مراعاة لظروف الأغلبية من الغلابة!
الحمد لله أن الأنبياء والرسل وخلفاءهم وأتباعهم لم يفكروا بنفس طريقة أصحاب الحقوق المادية الأبدية للفكر وإلا لكان الدين ( وهو من الأفكار الراقية المؤثرة في تاريخ البشرية) قد غدا حكراً على فئة من الناس: الفئة التي تستطيع أن تدفع لتشتري المعرفة والعلم فقط.. أو تستطيع أن تشتري معرفة الدين!
ولو أجرينا إحصاء لكمية الكتب التي تخوض في أمور الدين لذهلنا حقا..فبحسب إحصاءات المعارض ودور النشر تشكل الكتب الدينية أكثر من نصف المطبوعات في تاريخ البشرية. فهل ينبغي أن يطالب كل صاحب فكرة دينية (أي كتاب ديني ) بحقوق مادية أبدية ثمنا لفكرة لم يبتدعها هو بنفسه وإنما تشكلت في وعيه نتيجة التراكم المعرفي الكمي حينما عاش في مجتمع إنساني وليس في غابة لوحده.
المحزن أن أغلب المتعاملين مع الأدباء وأدبهم يتعاملون مع كتب الأدب كما يتعاملون مع أي تجارة! ولا يفكرون سوى "بالمقابل المادي"! فالجميع لا يهمهم تقديم الفائدة للناس ورسالة الأدب العظيمة بقدر اهتمامهم بالمال الذي سيحصلون عليه أولاً من " تجارتهم الأدبية".
ما يؤلم النفس حقاً أن أهل الغرب الذين تعشش الأفكار المادية في صميم حياتهم؛ ينشرون اليوم مجاناً كتباً هائلة على مواقع كثيرة بالإنترنيت في حين نحن -بني يعرب- الذين يفتخر الأدعياء فينا أننا أصحاب رسالات روحية سامية؛ والروحانية أهم اهتماماتنا، إلا أن معظم المعنيين بالأمر حتى الآن يتعاملون مع كتب المعرفة كما يتعامل تجار الخضار والفواكه والمواد الاستهلاكية في أسواقها!
ومن المحزن أن نرى من يدافع بشراسة عن حقوق نشر مؤلفات الأدباء العرب على الإنترنيت (وأغلب مؤلفيها صاروا في ذمة الله)؛ في حين أن مؤلفات كبار الأدباء الغربيين منتشرة في كل مكان وبأسعار زهيدة جداً إن كانت على الورق ( وغالباً مجاناً على الإنترنيت) وبموافقة الأحياء منهم أو ورثة المتوفين..
هناك مثلاً مواقع ضخمة تضم آلاف الكتب الأدبية الغربية، وتتيحها أمام كافة الناس مجاناً، وهي تتمتع بالشرعية القانونية تماماً!
http://www.gutenberg.org
http://arthursclassicnovels.com
http://www.free-online-novels.com
http://www.allshakespeare.com
http://www.archive.org/
كذلك يوجد عشرات المواقع مثلها.
والأنكى من ذلك أن هناك بعض الكتب عمرها عشرات السنين توقفت دور النشر العربية عن نشرها منذ زمن طويل ولكن هناك حاجة ماسة إليها..مثال ذلك كتب الشطرنج باللغة العربية، يتحرق اللاعبون للحصول على واحد منها في حين أن أحداً لا ينشرها على الورق.. وقد سحبت أحد هذه الكتب الشطرنجية الهامة قبل أسبوع وهو ( الخطة والتكتيك في الشطرنج) ووضعته هنا في مكتبة المنتدى (وفي غيره) وهو كتاب مضى على تاريخ نشره بالورق أربعون عاما..
http://www.akhawia.net/showthread.php?p=1112670#post1112670
ولكن تخيلوا حجم الطلب عليه.. في بضعة أيام فقط تجاوزت النسخ المحملة منه عدد النسخ المحملة من كتب أخرى صار لها شهور وسنين موجودة على الإنترنيت، وهذا الكتاب هو الكتاب الكامل الثاني فقط باللغة العربية المنشور على الإنترنيت منذ تأسيسها وحتى الآن.. في حين أن مئات من كتب الشطرنج الإنكليزية صار لها سنين منشورة على الإنترنيت.
فهل أستحق التوبيخ على ذلك أم الشكر ؟
ويبقى لنا وآخذ دائم مستمر على الذين يحاولون تحويل الأدب إلى تجارة تبيض ذهباً ضاربين رسالة الأدب عرض الحائط، بينما غاية الأدب الأساسية هي التأثير في وجدان المجتمع كله.
وفي حين يصرف أصحاب الأموال خمسين ألف ليرة وأكثر ثمن دقيقة للدعاية في التلفزيون يستخسر الإنتهازيون نشر بضع نسخ من الكتب على الإنترنيت وزلا يعتبروها دعاية مجانية لكتبهم. انظروا كم هو عدد النسخ المحملة من أي كتاب عربي تجدونه على الأغلب عدة مئات فقط بعد سنين من نشره.. فما هو إذن حجم الخسارة المادية التي تلحق بصاحب الكتاب أو ناشره؟ أم أن الدعاية على الإنترنيت للكتاب ليس لها أيضا قيمة مادية؟؟
.
تبادل الآراء والأفكار ليس معركة
فالحقيقة عندما تظهر تصير انتصارا للجميع
ما عدا الذين لا يهمهم سوى خلق النزاعات
آخر تعديل passerby_intime يوم 25/09/2008 في 19:54.
|