عن كتاب "مريم العذراء" للمطران كيرلس سليم بسترس رئيس أساقفة نيوتن والولايات المتحدة الأمريكيَة.للروم الملكيين الكاثوليك
الفَصل الثَالِث
مَريَم العَذرَاء في سِرّ الكنيسَة وَصَلاتها
الصلاة هي قبل أيّ أمر آخر اتّصال بالله لذكر أعماله وتسبيح عظائمه، ليصير الإنسان بهذا الاتّصال أقرب الى الله ويحقّق على أكمل وجه في ذاته وفي العالم صورة الله الذي يتقرّب اليه: "أذكر أعمال الربّ، أذكر عجائبك القديمة، وأهذّ بجميع أفعالك، وأتأمّل في أعمالك" (مز 77: 12- 13). وذكر مريم العذراء في صلاة الكنيسة يندرج في ذكر أعمال الله الخلاصيّة فعلى غرار الكتاب المقدّس، تذكر الكنيسة مريم في إطار الخلاص الذي جاءنا به ابنها الإلهي، وفي إطار الجماعة المسيحيّة المدعوّة الى تبنّي هذا الخلاص ونشره. لذلك مريم هي أوّلاً رمز الكنيسة التي تسهم في الخلاص بتقبّله والاضطلاع بتطلّباته. وهي أيضًا في الكنيسة أمّ وشفيعة وفي أعيادها تحتفل الكنيسة بالخلاص الذي حصلنا علمه كان فيه لمريم دور وشأن. وكل ذلك ليس لمجرّد العيش بضع لحظات في تذكارات الماضي، بل لتجسيد الإيمان الذي هو تقبّل لعمل الله وإسهام في بناء كنيسة اليوم.
1- مريم العذراء رمز الكنيسة
في المجمع الفاتيكاني الثاني، لم يشأ الآباء تكريس وثيقة خاصّة بمريم العذراء، فأوردوا ذكرها في الفصل الثامن والأخير من الدستور العقائدي في الكنيسة، بعنوان: "في الطوباوية مريم والدة الإله في سرّ المسيح والكنيسة" (رقم 52- 69). وبذلك يظهر بجلاءٍ أكثرَ دورُ مريم ضمن تاريخ الشعب المؤمن وتنوّع وظائفه. فالكنيسة في مجملها جسد المسيح، والمؤمنون متّحدون كلّهم معًا في عمل الروح القدس فيهم، إذ لا أحد يمكنه أن يصير عضواً في الكنيسة ما لم تنسكب عليه قدرة الروح القدس. على هذا الصعيد مريم العذراء هي عضو في الكنيسة ملأها الروح القدس وتجاوبت مع عمله، فكانت لجميع المسيحيين قدوة ومثالاً في الإيمان والمحبّة، كما يوضح المجمع في مختلف النقاط التي يتوسّع فيها عن دور مريم العذراء في تدبير الخلاص وفي علاقتها بالكنيسة.
أ) مريم العذراء في تدبير الخلاص
لقد وعد الله أبوينا الأوّلين بالنصر على الشيطان. وقد تحقّق هذا الوعد في مريم العذراء التي حبلت وولدت ابنًا اسمه عمّانوئيل. الخلاص هو عمل الله الذي أرسل ابنه الى العالم. ولكنّ لمريم دورًا هامًّا في التجاوب مع عمل الله. يقول المجمع: "فهي التي تحتلّ المحلّ الأوّل بين أولئك الوضعاء وفقراء الربّ الذين يرتجون منه الخلاص بثقة وينالونه... ويبدأ التدبير الجديد عندما اتّخذ ابن الله منها الطبيعة البشريّة ليحرّر الإنسان من الخطيئة بسرّ جسده" (رقم 55). ثمّ يوضح المجمع دور مريم العذراء في البشارة (رقم 56)، وفي طفولة يسوع (رقم 57)، وفي حياته العلنية وموته على الصليب (رقم 58)، ومن ثمّ بعد صعوده الى السماء (رقم 59).
ب) مريم العذراء قدوة الكنيسة
في هذه الأحداث كلّها تبدو مريم العذراء قدوة الكنيسة. يقول المجمع:
"والعذراء الطوباوية، بحكم موهبة الأمومة ومهمّتها اللتين تربطانها بابنها الفادي، وبحكم النعم والمهامّ الفريدة التي لها، تتّحد أيضًا بالكنيسة اتّحادًا وثيقًا: فأمّ الله، بحسب تعليم القدّيس أمبروسيوس، هي للكنيسة قدوة في الإيمان والمحبّة والاتّحاد الكامل بالمسيح. ففي سرّ الكنيسة، التي تُنعَت بحقّ هيّ أيضًا بالأمّ والعذراء، تحتلّ العذراء الطوباويّة مريم المحلّ الأوّل، قدوةً مُثلى وفريدة للعذراء وللأمّ: بإيمانها وطاعتها ولدت على الأرض ابن الآب ولم تفقد بتوليّتها، وغمرها الروح القدس بظلّه، فكانت حوّاء جديدة تولي، لا الحيّة القديمة بل مرسل الله، ثقة لا يشوبها أيّ شكّ: لقد ولدت ابنها الذي جعله الله بكرًا بين الإخوة الكثيرين (رو 8: 29)، أي بين المؤمنين الذين تسهم بحبّها الأمومي في مولدهم وتربيتهم" (رقم 63).
"والكنيسة بتأمّلها في قداسة العذراء العجيبة، واقتدائها بمحبّتها، متمّمة بأمانة مشيئة الآب، تصير هي أيضًا أمًّا بقبولها بالإيمان كلمة الله: فبالكرازة والمعمودية تلد، لحياة جديدة خالدة، أولادًا يُحبَل بهم من الروح القدس، ويولدون من الله. وهي أيضًا عذراء إذ قطعت لعريسها عهدًا تحفظه كاملاً غير مشوب بشائبة. واقتداءً بأمّ ربّها، تحفظ بقوّة الروح القدس، في نقاوة عذريّة، الإيمان كاملاً، والرجاء راسخًا، والمحبّة خالصة" (رقم 64).
"وإذا كانت الكنيسة قد بلغت، في شخص العذراء الطوباويّة، الكمال في غير كَلَف ولا غضْن (أف 5: 27)، فإنّ مؤمني المسيح أيضًا يجدّون بنشاط في طريق النموّ في القداسة بالتغلّب على الخطيئة. لذلك يشخصون بأبصارهم الى مريم مثالاً للفضيلة يشعّ نوره على أسرة المختارين جميعًا. والكنيسة إذ تختلي بتقوى في التأمّل في مريم، على ضوء الكلمة الذي صار إنسانًا، تلج باحترام وإمعان في أغوار سرّ التجسّد العظيم، وتتمثّل أكثر فأكثر بعريسها. فمريم، بدخولها تاريخ الخلاص دخولاً صميمًا، تجمع وتعكس في ذاتها، من بعض الوجوه، ملتمسات الإيمان العظمى، وتُرجِع المؤمنين الى ابنها وذبيحته، والى حبّ الآب، عندما تكون موضوع الوعظ والتكريم. والكنيسة في مسعاها الى تمجيد المسيح، تتشبّه أكثر فأكثر بمثالها العظيم بنمائها بلا انقطاع في الإيمان والرجاء والمحبّة، وابتغائها في كلّ شيء إرادة الله والعمل بها. لذلك تنظر الكنيسة، في ممارسة عملها الرسولي، الى التي ولدت المسيح، الذي حُبل به من الروح القدس وولد من العذراء، لكي يولد ويكبر أيضًا، بواسطة الكنيسة، في قلوب المؤمنين. ولقد كانت العذراء بحياتها مثالاً لهذا الحبّ الأمومي الذي يجب أن يحيا به جميع الذين باشتراكهم في رسالة الكنيسة الرسوليّة، يعملون في سبيل ميلاد الناس ثانية" (رقم 65).
2- مريم العذراء أمّ وشفيعة في الكنيسة
أ) شفاعة مريم العذراء
إنّ ذكر مريم في صلاة الكنيسة يهدف إذن الى التأمّل في ما صنعه الله تجاهها وفي تجاوبها مع عمل الله، للاقتداء بها والاشتراك معها في قصد الله الخلاصي. وفي هذا الإطار أيضًا يجب فهم دورها كأمّ لنا وشفيعة. ويؤكّد المجمع أنّ شفاعتها لا تُنقص شيئًا من وساطة المسيح. يقول:
إنّه واحد وسيطنا، كما يقول الرسول: "إذ ليس سوى إله واحد، وليس أيضًا إلاّ وسيط واحد بين الله والناس، المسيح يسوع، الإنسان هو أيضًا، الذي بذل نفسه فدية عن الجميع" (1 تي 2: 5- 6). وأمّا الدور الوالدي الذي تقوم به مريم تجاه الناس فلا يُضير شيئًا ولا يُنقص البتة من وساطة المسيح الواحدة هذه، بل يظهر، على خلاف ذلك، فعاليّتها.
"فإنّ كلّ تأثير خلاصي من العذراء الطوباوية في الناس يصدر عن تدبير مجّاني محضٍ من الله: إنّه لا يصدر عن ضرورة موضوعّية، بل ينبع من فيض استحقاقات المسيح، ويستند الى وساطته التي بها يتعلّق في كل شيء، ومنها يستمدّ كل فعاليّته. ومن ثمّ فاتّحاد المؤمنين رأسًا بالمسيح لا يجد منه أيّ حائل، بل يجد منه، على خلاف ذلك، عونًا وسندًا" (رقم 60).
ثمّ يضيف المجمع:
"ومنذ الرضى الذي أظهرته بإيمانها في يوم البشارة، والذي احتفظت به على ثباته بحذاء الصليب، تستمرّ أمومتها هذه، بلا انقطاع، في تدبير الخلاص، الى أن يكتمل نهائيًّا جميع المختارين. فإنّها بعد انتقالها الى السماء لم تنقطع مهمّتها في عمل الخلاص: إنّها بشفاعتها المتّصلة لا تني تستمدّ لنا النّعم التي تضمن خلاصنا الأبدي، وحبّها الأمومي يجعلها عينًا ساهرة على إخوة ابنها الذين لم ينته شوطهم بعده، أو تساورهم الأخطار والمحن الى أن يبلغوا الوطن السعيد. من أجل ذلك تدعى العذراء الطوباويّة في الكنيسة بألقاب مختلفة. فهي: المحامية والنصيرة والظهيرة والوسيطة، على أنّ هذا كلّه يُفهَم بوجه لا ينجم عنه أيّ انحراف أو زيادة بالنسبة الى كرامة الوسيط الواحد وفعاليّته، يسوع المسيح.
"فإنه ما من خليقة البتة يمكن جعلها على مستوى الكلمة المتجسّد والفادي. ولكن، كما أنّ كهنوت المسيح يشترك فيه، على وجوه مختلفة، الخدّام المكرّسون والشعب المؤمن، وكما أنّ جودة الله الواحدة تفيض بوجوه مختلفة على المخلوقات، كذلك وساطة الفادي الواحدة لا تنفي، بل تبعث في المخلوقات، على خلاف ذلك، تعاونًا مختلفًا مرتبطًا بالمصدر الواحد. وهذا الدور النسبي الذي تقوم به مريم تعترف بها الكنيسة بدود ما تردّد، ولا تني تَخْبُره وتوصي به قلب المؤمنين لكي يساعدهم هذا السند والعون الأمومي على التمسّك بالوسيط والمخلّص تمسّكًا أوثق" (رقم 62).
ترتكز إذن شفاعة مريم العذراء على كونها أمّ المسيح الفادي، وعلى كونها اشتركت مع ابنها في عمله الخلاصي، وبذلك صارت أمًّا للمؤمنين الذين هم أعضاء جسد المسيح. ويشير المجمع إلى قول القدّيس أوغوسطينوس: مريم هي "أمّ أعضاء المسيح... لاشتراكها بمحبّتها في ميلاد المؤمنين في الكنيسة الذين هم أعضاء هذا الرأس" (رقم 53). جوابًا على الذين يتردّدون في الاعتراف باشتراك مريم العذراء في الفداء، يجدر التنبّه الى التعبير الذي يستخدمه القدّيس أوغسطينوس والذي يورده المجمع: إنّ مريم "اشتركت بمحبّتها في ميلاد المؤمنين في الكنيسة". وهذا يعني أنّ اشتراكها ليس على مستوى العمل الخلاصي الذي قام به المسيح بموته وقيامته. فالمسيح هو إله وإنسان، ولذلك هو مخلّصنا الأوحد. والعذراء لا يمكن أن تدعى "شريكة ابنها الإلهي في الفداء" بالمعنى الكامل، بل يمكن القول فقط إنّها أسهمت مع ابنها بمحبّتها وطاعة إيمانها، كما يقول بولس الرسول عن الرسل: "فإنّنا، نحن، عاملون مع الله" (1 كو 3: 9)، و"معاونو الله" (2 كو 6: 1).
وترتكز أيضًا شفاعة مريم علي كونها اشتركت مع ابنها في المجد السماوي، بانتقالها بالجسد والنفس الى السماء. إنّ شفاعة القدّيسين يذكرها الكتاب المقدّس. في العهد القديم في سفر المكّابيين الثاني، إذ قصّ يهوذا المكّابي على رفاقه "نوعًا من رؤيا تجلّت له في حلم جدير بأن يصدّق، فشرح لهم صدورهم أجمعين. وهذه هي الرؤيا. قال: رأيت أونيّا، عظيم الكهنة السابق، رجل الخير والصلاح، المتواضع المنظر الحليم الأخلاق، صاحب الأقوال الطريفة، المواظب منذ صباه على جميع أعمال الفضيلة، باسطًا يديه يصلّي من أجل جماعة اليهود بأسرها. ثمّ تراءى كذلك رجل كريم المشيب، أغرّ البهاء، عليه جلال عجيب سام. فتكلّم أونيّا وقال: هذا محبّ الإخوة، المكثر من الصلوات لأجل الشعب والمدينة المقدّسة، إرميا نبيّ الله" (2 مك 15: 12- 14). أونيّا الكاهن يواصل بعد موته دور الشفيع الذي أدّاه مدّة حياته، وكذلك إرميا الذي تألّم كثيرًا في سبيل شعبه هو أيضًا شفيع له في السماء. هذا الدور المنسوب الى أونيّا وإرميا هو الشهادة الأولى لصلاة الأبرار الأموات لأجل الأحياء. والسفر عينه يذكر أيضًا صلاة الأحياء لأجل الأموات (2 مك 12: 39- 46).
وتتّخذ شفاعة القدّيسين في العهد الجديد بعدًا جديدًا بقيامة السيّد المسيح التي بها انتصر على الموت. فالذين يقدّمون حياتهم شهادة للمسيح، إمّا بالاستشهاد وإمّا بحياة البرّ والقداسة، "يحيون ويملكون مع المسيح... ويكونون كهنة لله وللمسيح ويملكون معه"، كما جاء في سفر الرؤيا (20: 4- 6)، ومعه يتشفّعون لأجل الأحياء. فإذا كان القدّيسون في السماء يتشّفعون مع المسيح لأجل الأحياء، فكم بالحريّ مريم العذراء، التي انتقلت الى السماء بجسدها ونفسها، تتشفّع أيضًا مع ابنها لأجل خلاص العالم. فبمَا أنّها حيّة في المجد السماوي، لم تترك العالم كما ترتّل لها الكنيسة البيزنطيّة في طروباريّة عيد رقادها وقنداقه:
"في ولادتك حفظت البتولية، وفي رقادك ما تركت العالم، يا والدة الإله. فإنّك انتقلت الى الحياة بما أنّك أمّ الحياة، وبشفاعتك تنقذين من الموت نفوسنا".
"إنّ والدة الإله التي لا تكفّ عن الشفاعة، والرجاء الوطيد في النجدات، لم يضبطها قبر ولا موت، بل بما أنّها أمّ الحياة، نقلها الى الحياة من سكن في حشاها الدائم البتولية"
ويقول القديس تيودورس الأستوذي:
"إنّ والدة الإله قد أغمضت جفني جسدها، ولكنّها ترفع الآن ألحاظ نفسها كنيّرين مشعّين عظيمين لا يستطيعان أن ينطفئا. لأنّها تسهر علينا وتتشفّع لدى الله في حماية العالم".
والكنيسة البيزنطيّة، مع إيمانها بأنّ المسيح هو المخلّص الأوحد، توجّه الى العذراء الدعاء التالي: "يا والدة الإله الفائقة القداسة خلصينا". فمريم تخلّص بشفاعتها وصلواتها لأنّها والدة الإله الفائقة القداسة، ولأنّها أمّنا جميعًا، ولأنّها انتقلت الى الحياة حيث تقف كملكة الى يمين ابنها، حسب ما جاء في المزمور 44 الذي ترى فيه الليترجيّا وصفًا لمريم العذراء: "قامت الملكة عن يمينك". فشفاعتها تستمدّها من وجودها الى جانب ابنها الإلهي لذلك يتمسّك التقليد في الأيقونة أن لا تُرسم العذراء وحدها، بل دومًا حاملة ابنها الذي هو المخلّص والفادي الأوحد، ولا شفاعة لأيّ من الناس بمعزل عنه.
ب) تكريم مريم العذراء في الكنيسة
إنّ المجمع الفاتيكاني الثاني، في الوثيقة عينها، يحثّ المؤمنين على تكريم مريم العذراء تكريمًا خاصًّا، موضحًا طبيعة هذا التكريم وأساسه، والاختلاف الجوهري أن هذا التكريم وعبادة الله، فيقول:
"إنّ مريم قد رُفعت بنعمة الله، وإنّما دون ابنها، فوق جميع الملائكة وجميع البشر بكونها والدة الإله الكلّية القداسة الحاضرة في أسرار المسيح. لذلك تكرّمها الكنيسة بحقّ بشعائر خاصّة. والواقع أنّ العذراء الطوباويّة، منذ أبعد الأزمنة، قد أكرمت بلقب "والدة الإله". والمؤمنون يلجأون الى حمايتها مبتهلين إليها في كلّ مخاطرهم وحاجاتهم. وقد ازداد تكريم شعب الله لمريم ازديادًا عجيبًا، خصوصًا منذ مجمع أفسس، بأنواع الإجلال والمحبّة والتوسّل اليها والاقتداء بها، محقّقًا بذلك كلماتها النبويّة: "جميع الأجيال تطوّبني، لأنّ القدير صنع فيّ عظائم" (لو 1: 48). وهذا الإكرام، على النحو الذي وُجد عليه دائمًا في الكنيسة، يتّصف بطابع فريد على الإطلاق. غير أنّه يختلف اختلافًا جوهريًّا عن العبادة التي يُعبَد بها الكلمة المتجسّد مع الآب والروح القدس، وهو خليق جدًّا بأن يُعزَّز: إذ إنّ مختلف صيغ التقوى نحو والدة الإله التي تظلّ في حدود التعليم الأرثوذكسي السليم، وتوافق عليها الكنيسة مراعية ظروف الزمان والمكان وأمزجة الشعوب المؤمنة وعبقريّاتهم، تجعل أنّ الابن الذي لأجله وُجد كلّ شيء (كو 1: 15- 16)، والذي ارتضى الآب الأزلي أن يحلّ فيه الملء كلّه (كو 1: 19) يُعرَف ويُحَبّ ويُمجَّد ويطاع في وصاياه من خلال الإكرام لأمّه (رقم 66).
"فهذا المعتقد الكاثوليكي يعلّمه المجمع المقدّس بوجه صريح، ويُهيب، في الوقت نفسه، بأبناء الكنيسة لأن يسهموا بسخاء في الإكرام، ولا سيّمَا الليترجي، للعذراء الطوباويّة، وأن يبالوا مبالاة بالغة بالممارسات والشعائر التقويّة المتعلّقة بها والتي أوصت بها السلطة المعلّمة في غضون الزمن، ويوصي بالحفاظ بتديّن على جميع ما أُقِرَّ، في ما سلف من الزمن، بشأن تكريم صور المسيح، والعذراء الطوباويّة، والقدّيسين، ويحرّض بإلحاح علماء اللاهوت والمبشرّين بكلمة الله أن يمتنعوا بحرص، إذا ما تكلّموا على كرامة أمّ الله الفريدة، من كل غلوّ يخالف الحقيقة، وكل تزمّت لا مبرّر له. وإنّ لهم، من إكبابهم على الكتاب المقدّس ومؤلفّات الآباء والمعلّمين، ودراسة الليترجيّات بقيادة السلطة الكنسية المعلّمة، ما يجعلهم يستجلون، بوجه سويّ، مهمّة العذراء الطوباويّة وامتيازاتها الموجّهة على الدوام شطر المسيح معين الحقيقة الكاملة والقداسة والتقوى. وليحترسوا بحرص شديد من كلّ كلمة وكلّ فعل من شأنهما تضليل إخوتنا المنفصلين أو أيّ شخص آخر، بالنسبة الى تعليم الكنيسة الصحيح. وليذكر المؤمنون أنّ الورع الحقيقي لا يقوم البتّة على حركة من العاطفة عقيمة عابرة، ولا على السذاجة الباطلة، بل ينبثق من الإيمان الحقّ الذي يحملنا على الاعتراف بكرامة أمّ الله السامية، ويحفزُنا الى محبّة هذه الأمّ محبّة بنويّة والاقتدار بفضائلها" (رقم 67).
3- أعياد مريم العذراء
تكرّم الكنيسة مريم العذراء بنوع خاصّ في الاحتفال بأعيادها. وما تلك الأعياد إلاّ مناسبات تتّخذها الكنيسة للتعبير عن فرحها بالخلاص الذي حصلت عليه بتجسّد ابن الله في أحشاء مريم العذراء. وتتنوّع الأعياد المريميّة: فمنها تذكارات لأحداث تاريخيّة ورد ذكرها في الإنجيل المقدّس، ومنها تأمّلات حول أحداث مستقاة من التقليد الشفويّ أو من الأناجيل المنحولة. ومعظم هذه الأعياد يرافق مراحل حياة العذراء: في الحبل بها (9 كانون الأوّل)، ومولدها (8 أيلول)، ودخولها الى الهيكل (21 تشرين الثاني)، وبشارة الملاك جبرائيل لها (25 آذار)، وزيارتها لأليصابات (يوم الجمعة من أسبوع الفصح في الكنيسة الملكيّة الكاثوليكيّة)، وميلادها المسيح (25 كانون الأوّل)، وتهنئتها بهذا الميلاد والاحتفال بأمومتها الإلهيّة (26 كانون الأول)، وتقدمتها ابنها الى الهيكل (2 شباط)، ورقادها (15 آب). وتضيف الكنيسة الى هذه الأعياد المرتبطة بمراحل حياتها أعيادًا أخرى أُدخلت بمناسبة تدشين كنيسة أو تكريس إيقونة للعذراء أو وجود ذخيرة من ثيابهما، وفيها تطلب شفاعتها وحمايتها. من هذه الأعياد: عيد وضع ثوبها (2 تمّوز)، وعيد وضع زنّارها (31 آب)، وعيد الأكاثستون أو المدايح (في السبت الخامس من الصوم)، وعيد سيّدة الينبوع الحامل الحياة (يوم الجمعة من أسبوع الفصح في الكنيسة الأرثوذكسيّة)، وعيد سيّدة الحماية (1 تشرين الأوّل في الكنيسة الملكيّة الكاثوليكيّة)، وعيد إكرام إيقونتها في مياسينا (1 أيلول).
في صلوات هذه الأعياد، تحرص الكنيسة على أن تقرن دومًا ذكر مريم العذراء بذكر ابنها الإلهي. ولذا نرى تقليد الكنيسة الشرقي لا يعتبر العذراء مريم أبدًا موضوعًا مستقلاً وقائمًا بحدّ ذاته أو موضوعًا. مدًا، بل يراها دائمًا من خلال دورها في التاريخ وفي تدبير الله العامّ للخلاص. ومن زاوية ديناميّة هذا الدور، ينظر الى الله من خلالها أو ينظر اليها كشفّافة لله، مع كل ما يحتويه الشفوف والصفاء من عمل حيّ وحركة: قبول كامل من جهة وعطاء مطلق من جهة أخرى. صحيح أنّ تقليد آباء الكنيسة هو برمّته مدائح للعذراء، ولكنّه، في الوقت نفسه، لم يحسبها في يوم من الأيّام موضوع بحث نظري خاصّ يُدرَس في ذاته، أو مسألة عقائديّة مستقلّة. فالآباء تكلّموا عن مريم في سياق "المناسبات"، فقط إذا جاز القول، وليست امتيازات والدة الإله في نظرهم منّات ممنوحة لها على وجه التخصيص الشخصيّ أو بصورة كيفيّة، ولكنّها ترتبط جميعًا برسالتها داخل المخطّط الإلهي العامّ. وقد قال القدّيس يوحنّا الدمشقي مخاطبًا العذراء: "ستخدمين خلاص كلّ الناس لكي يتمّ بواسطتك قصد الله القديم".
لذلك تتّسم معظم صلوات أعياد مريم العذراء بأنّها لا تتوجّه مباشرة الى العذراء بقدر ما تدعو الى الفرح والى تسبيح الله للعمل الذي حقّقه الله فيها، هذا العمل الذي يقودنا دومًا الى ابنها المسيح مخلّص العالم. وتتّسم أيضًا هذه الصلوات بأنّ موضوعها ومضمونها الأساسي هما الإشادة بالعظائم الثلاثة التي صنعها الله في مريم العذراء، والتي توسّعنا فيها في الفصل الثاني: مريم هي "والدة الإله" لأنّها ولدت المسيح ابن الله، مريم هي دائمة البتوليّة، مريم هي كلّية القداسة. سنعطي بعض الأمثلة عن صلوات مستقاة من خدمة الأعياد المريميّة في الطقس البيزنطي، وفيها تظهر بوضوح هاتان السمتان.
أ) عيد حبل القدّيسة حنّة بمريم العذراء (9 كانون الأوّل)
"اليوم قيود العقم تنحلّ، لأنّ الله يستجيب يواكيم وحنّة، فيعدهما وعدًا جليًّا أن يلدا على غير أمل فتاة الله، التي ولد منها غير المحدود نفسه لمّا صار إنسانًا، آمرًا الملاك أن يهتف اليها: السلام عليك يا ممتلئة نعمة. الربّ معك" (الطروبارية).
"اليوم تعيّد المسكونة لحبل حنّة الذي تمّ بقدرة الله، فإنّها ولدت التي ولدت الكلمة ولادة تفوق الوصف" (القنداق).
نلاحظ أنّ الكنيسة، من خلال الاحتفال بالحبل بمريم العذراء، تدعونا الى النظر الى "غير المحدود" الذي سيولد منها، هي "الممتلئة نعمة"، الى "الكلمة" الذي ستلده بشكل بتولي "ولادة تفوق الوصف".
ب) عيد ميلاد مريم العذراء (8 أيلول)
"ميلادك يا والدة الإله بشّر بالفرح المسكونة كلّها، لأنّه منك أشرق شمس العدل المسيح إلهنا. فحلّ اللعنة، ووهب البركة، وأبطل الموت، ومنحنا الحياة الأبديّة" (الطروبارية).
"اليوم حنّة العاقر تلد فتاة الله، التي سبق انتخابها من بين جميع الأجيال مسكنًا للخالق المسيح الإله ملك الكلّ، إتمامًا لتدبيره الإلهي الذي به أُعيدت جبلتنا نحن الأرضيّين وانتقلنا من الفساد الى الحياة الأبديّة" (صلاة المساء).
من ميلاد العذراء تنقلنا الكنيسة بشكل طبيعي للتأمّل في عمل المسيح الخلاصي: فقد حلّ اللعنة وأبطل فساد الموت ومنحنا الحياة الأبدية.
ج) عيد البشارة (25 آذار)
"اليوم بدء خلاصنا، وظهور السرّ الذي منذ الأزل. فإنّ ابن الله يصير ابن البتول، وجبرائيل بالنعمة يبشّر. فلنهتف معه نحو والدة الإله: السلام عليك يا ممتلئة نعمة، الرب معك" (الطروبارية).
ابن الله يصير ابن البتول الممتلئة نعمة. هذا هو بدء خلاص البشريّة كلّها. وفي قطع مزامير الغروب، نستمع الى حوار بين جبرائيل والعذراء، يتضح فيه دور العذراء في القصد الإلهي الذي منذ الأزل:
"إنّ جبرائيل قد وافى اليك أيّتها الفتاة، فكشف لك القصد الذي قبل الدهور، وسلّم عليك بلهجة مطربة قائلة: افرحي يا أرضًا غير مزروعة، افرحي يا علّيقى غير محترقة، افرحي يا عمقًا لا تدركه الأبصار، افرحي يا جسرًا ناقلاً الى السماوات، افرحي يا جرّة المنّ الإلهيّة، افرحي يا ناقضة العنة، افرحي يا معيدة دعوة آدم، الرب معك".
"إنّ الفتاة العذراء كلّمت زعيم الأجناد قائلة: إنّك قد استعلنت لي كإنسان. فما بالك إذن تنطق بكلمات تفوق الإنسان قائلاً لي إنّ الربّ يكون معي ويسكن في مستودعي؟ فأبِنْ لي كيف أصير محلاً رهيبًا ومقام تقديس للراكب على الشيروبيم، ولا تخدعني بالباطل، لأنّي لا أعرف لذّة ولا زواجًا. فكيف إذن أَلد ابنًا؟"
"أجابها الذي لا جسد له قائلاً: حيثما يشاء الإله يغلب نظام الطبيعة، ويجري ما يفوق الإنسان. فكوني على يقين من صدق مقالتي، يا فائقة القداسة والنزاهة. فأردفت قائلة: ليكن لي بحسب قولك أن ألد الذي لا جسد له، آخذًا منّي جسدًا، لكي يرفع باتّحاده الإنسان الى الرتبة الأولى، بما أنّه العزيز وحده" (صلاة المساء).
د- عيد ميلاد السيّد المسيح (25 كانون الأوّل)
"الآب قد ارتضى والابن صار جسدًا، والبتول ولدت إلهًا متأنّسًا، والكوكب يبشّر، والمجوس يسجدون، والرعاة يسهرون، والخليقة تبتهج".
"يا والدة الإله العذراء، لقد ولدت المخلّص، ونقضت لعنة حوّاء القديمة، لأنّك قد صرت أمًّا بمسرّة الآب، حاملة في أحضانك كلمة الله المتجسّد. فالسرّ لا يحتمل فحصاً، بل جميعنا نمجّده بالإيمان فقط، صارخين معك وقائلين: أيّها الربّ الذي لا يدرك المجد لك".
"هلمّوا أيّها الشعوب لنمدح والدة المخلّص، الّتي لبثت عذراء بعد الولادة: افرحي أيّتها المدينة الناطقة للإله الملك، التي لمّا سكن فيها المخلّص صنع لنا خلاصاً. فمع جبرائيل نمدحك، ومع الرعاة نمجّدك هاتفين: يا والدة الإله تضرّعي إلى المتجسّد منك لكي يخلّصنا" (قطع الباكرية في سحر العيد).
تنطوي هذه الصلوات على تعليم لاهوتي بشأن مريم التي ولدت إلهًا متأنّسًا وبقيت بتولاً، وترنّم لها لأنّها ولدت المخلّص، وتطلب منها أن تتضرّع إليه لكي يخلّصنا. فدور مريم في القصد الإلهي هو أن تعطينا ابن الله المخلّص.
4- مريم العذراء في صلوات الفرض الكندي والأناشيد الطقسيّة
هذه العلاقة بين مريم العذراء وابنها التي تبرز دور مريم في تاريخ الخلاص نجدها أيضاً في سائر صلوات الفرض الكنسي وفي الأناشيد التي تترنّم بها الكنيسة في مختلف المناسبات. سنعطي مثالاً على ذلك القطع التالية المأخوذة من كتاب الأوكتوئيخوس (أي كتاب الألحان الثمانية) وهو مِن وضع القدّيس يوحنّا الدمشقي. وهذا الكتاب مليء بالصلوات الموجّهة إلى مريم العذراء والتي يظهر فيها السيّد المسيح حاضرًا على الدوام وهو الذي يعطيها معناها وبعدها الأخير:
"بقدرة الروح الإلهي، وبمشيئة الآب، صرتِ أمًّا بتولاً لابن الله الذي وُلد قبل الدهور من الآب بغير أمّ، ولأجلنا وُلد منك بالجسد بغير أب، وقد أرضعته طفلاً. فلا تبرحي متشفّعة إليه في خلاص نفوسنا" (غروب الأحد، اللحن الثالث، الأبوستيخن).
"يا والدة الإله، إنّ داود النبّي... قد تنبّأ عنك منشدًا للصانع بك العظائم: قامت الملكة عن يمينك. فإنّ الإله قد أظهركِ أمًّا تعطي الحياة، إذ ارتضى أن يتأنّس منك، من غير أب، ليجدّد إبداع صورته التي أفسدتها الأهواء، ويجد الخروف الذي ضلّ في الجبال، ويحمله على منكبيه، ويقدّمه للآب، ويضمّه بمشيئته الى القوّات السماويّة، ويخلّص العالم. وهو المسيح المالك الرحمة العظيمة الوافرة" (مزامير غروب الأحد، اللحن الرابع).
"من لا يغبّطك أيّتها العذراء الكاملة القداسة؟ من لا يشيد بولادتك البتوليّة؟ فإنّ الابن الوحيد الذي أشرق من الآب بلا زمن، هو نفسه أرى منك، يا نقيّة، متجسّدًا بحال تعجز البيان. والإله بالطبيعة قد صار لأجلنا إنسانًا بالطبيعة غير منقسم إلى أقنومين، بل معروفًا بطبيعتين لا امتزاج بينهما. فإليه ابتهلي أيّتها الكاملة الغبطة والوقار أن تُرحَم نفوسُنا" (مزامير غروب الاحد، اللحن السادس).
"إنّ السرّ الخفيّ منذ الأزل، والذي لا تدركه الملائكة، قد ظهر للذين على الأرض بك يا والدة الإله، لمّا تجسّد الإله باتّحاد لا اختلاط فيه، وتقبّل الصليب طوعًا من أجلنا، وبه أقام أوّل من جبل، وخلّص من الموت نفوسنا" (ثيوطوكيون القيامة، اللحن الرابع).
في هذه الصلوات موجز لاهوتي لإيمان الكنيسة بشخص يسوع المسيح ابن الله المتجسّد وإشادة بدور مريم العذراء في هذا التجسّد، ودخول في حياة الله النبي أتتنا بواسطة مريم العذراء.
والطريقة عينها في التعبير عن دور مريم العذراء نجدها في سائر الصلوات والأناشيد، ولا سيّما في نشيد الأكاثِسْتوس (أو مدائح العذراء)، ونشيد الباراكليسي. ففي هذين النشيدين، نتوجّه إلى مريم العذراء بمدائح وابتهالات تبرز من خلالها علاقاتها بابنها الإلهي مخلّص العالم. فنحيّيها قائليين:
"السلام عليك يا من بها يشرق الفرح. السلام عليك يا من بها تضمحلّ اللعنة.
السلام عليك يا منهضة آدم الساقط. السلام عليك يا منقذة حوّاء من الدموع.
السلام عليك لأنّك عرش الملك. السلام عليك لأنّك تحملين حامل الكائنات.
السلام عليك يا كوكبًا مظهرًا الشمس. السلام عليك يا بطن التجسّد الإلهي.
السلام عليك يا من بها تتجدّد الخليقة. السلام عليك يا من بها يصير الخالق طفلاً.
(نشيد الأكاثستوس، البيت الأوّل)
السلام عليك يا سلّمًا سماويّة بها انحدر الإله. السلام عليك يا جسرًا ناقلاً الأرضيين إلى السماء" (البيت الثالث).
السلام عليك يا أرض الميعاد. السلام عليك يا من تدرّ اللبن والعسل" (البيت الحادي عشر).
السلام عليك يا من بها زالت المعصية. السلام عليك يا من بها فتح الفردوس.
السلام عليك يا مفتاح ملكوت المسيح. السلام عليك يا رجاء الخيرات الأبديّة (البيت الخامس عشر).
لا بدّ من قراءة هذا النشيد بكامله والتأمّل في كل ما يحويه من صور كتابية ومعان لاهوتية. فكل ما ورد في العهد القديم عن علاقة الله بالإنسان تؤمن الكنيسة أنّه قد تحقّق على أكمل وجه في تجسّد ابن الله في أحشاء مريم العذراء، لذلك تدعو مريم بالألقاب التالية:
* سلّم يعقوب (تك 28: 12- 13)، لأنّها وصلت السماء بالأرض بولادتها يسوع مخلّص العالم، الذي هو إله وإنسان. وبالمعنى عينه تدعوها "جسرًا ناقلاً بالحقيقة من الموت إلى الحياة" (الأكاثستوس، الأوذية الرابعة، 2).
* العلّيقى الملتهبة (خر 3: 1- 16)، والأتّون المتّقد (د 31: 26- 90) لأنّ الألوهة سكنت فيها ولم تحرقها، والملقط الذي حمل الجمرة الإلهيّة المطهّرة من الخطايا (أش 6: 1- 7).
* تدعوها أيضاً الصلوات الليترجيّة بألقاب متنوّعة تظهر علاقتها بابنها الإلهي: فهي الفردوس الذي يحوي في وسطه الربّ عود الحياة (تك 2: 9)، وهي المسكن المقدّس (خر 25: 8)، وتابوت العهد الذي كان يحوي وصايا الله لأنّها هوت كلمة الله (خر 26)، وهي المائدة (خر 25: 28- 30)، ومائدة الحكمة (أم 9: 1- 11)، والجرّة الذهبيّة الحاوية المنّ، الغذاء النازل من السماء (خر 16: 32- 34)، وهي المنارة (خر 25: 31)، وعمود النار الذي يهدي السائرين نحو أرض الميعاد (خر 13: 21) لأنّها ولدت المسيح نور العالم، وهي جزّة جدعون المندّاة (قض 3: 36- 40) لأنّ كلمة الله نزل عليها كالندى وحلّ فيها، وهي جبل الله المقدّس (أش 2: 2؛ 30: 9؛ مي 4: 8؛ حب 3: 1- 4)، وأورشليم الجديدة. ففي العهد القديم، كان الناس يصعدون إلى جبل أورشليم للاستماع إلى شريعة الله، أمّا في العهد الجديد فمريم هي الجبل المقدّس الذي يحوي كلمة الله.
* وهي أيضاً الجبل الذي، حسب نبوءة دانيال، "انفصل عنه حجر، لا بقوّة اليدين"، فسحق الممالك الأرضيّة، وأنشأ مملكة لا تنقض إلى الأبد" (راجع دا 2: 31- 45).
* وهي الكرمة التي زرعها الله لتعطي عنقودًا إلهيًّا ثمرة الحياة (مز 80 (79): 9- 16)، وهي الأرض المباركة التي تعطي غلّة وافرة (مز 67 (66): 7).
5- النصوص الكتابيّة التي تُقرأ في أعياد مريم العذراء
هذه العلاقة بين مريم العذراء والسيّد المسيح، ابن الله المتجسّد ومخلّص العالم، تتغنّى بها الكنيسة في كل صلواتها الليترجيّة. وفي أعياد مريم العذراء تختار نصوصاً من الكتاب المقدّس تتحدّث عن علاقة الله الخلاصيّة بالإنسان. وفي هذه النصوص لا ترى الكنيسة نبوءات بحصر المعنى عن مريم العذراء، بل تؤكّد من خلال اختيارها هذه النصوص أنّ علاقة الله بالإنسان التي ظهرت في العهد القديم في رواية الفردوس، وفي كلّ ما يرتبط بهيكل أورشليم من تابوت العهد والمائدة والجرّة الذهبية والحكمة والمدينة المقدّسة والجبل المقدّس، قد وصلت إلى كمالها في تجسّد كلمة الله في أحشاء مريم العذراء. فمريم هي إذن مسكن الله الذي حلّ فيه ابن الله ليتّحد من خلاله بالبشر ويمنحهم الخلاص والحياة الأبديّة.
والكنيسة، لدى قراءتها هذه النصوص، تقرأ فيها في الوقت عينه سيرة تكوينها على مدى التاريخ عبر تلمّسات البشر ومحاولاتهم الوصول إلى الاتّحاد بالله، وسرّ كيانها الراهن: إذ هي الآن نقطة التلاقي بين وحي الله وتوق الإنسان ورغبته في الاتّحاد بالله.
أ) نصوص العهد القديم
* من نصوص العهد القديم تقرأ الكنيسة البيزنطيّة في عيد البشارة (25 آذار)، وعيد ميلاد العذراء (8 أيلول)، وعيد رقادها (15 آب) المقاطع التالية في صلاة الغروب:
القراءة الأولى: حلم يعقوب: السلّم المنتصبة على الأرض ورأسها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها (تك 28: 10- 17). فكما أنّ الله اختار يعقوب في العهد القديم ليوصل من خلاله الخلاص إلى شعبه ويربط هكذا الأرض بالسماء إذ لا خلاص إلاّ من الله، هكذا في تمام الأزمنة اختار مريم لينزل من خلالها ابن الله على الأرض ويحقّق الخلاص. وكون السلّم تنتصب من الأرض يشير إلى دور مريم العذراء ودور البشريّة وإسهامها في الخلاص بإيمانها وانفتاحها على عمل الله.
القراءة الثانية: رؤيا حزقيال: الباب المغلق في الهيكل (حز 43: 27- 44: 4)
يتكلّم النصّ على "باب يكون مغلقًا، لا يفتح ولا يدخل منه إنسان، لأنّ الربّ، إله إسرائيل، قد دخل منه... "ونظرت، فإذا بمجد الربّ قد ملأ بيت الرب". في هذه الصورة إشارة إلى قداسة الله وقداسة مسكنه وقداسة عمله. وقد رأت الكنيسة فيها رمزًا لأمومة مريم البتوليّة. فابن الله دخل أحشاءها ولم يكن لها علاقة مع أيّ إنسان، لا قبل ولادتها يسوع ولا بعد الولادة. فيها حضر الله، ومجد الربّ ملأها ليتجلّى من خلالها للعالم.
والليترجيّا البيزنطيّة تذكر هذا الرمز في صلوات عدّة:
"السلام عليك يا باب الله، الذي اجتازه الخالق متجسّدًا وحفظه مختومًا. السلام عليك أيّتها السحابة الخفيفة الحاملة المسيح المطر الإلهي. السلام عليك أيّتها السلّم والعرش السماويّان. السلام عليك أيّتها الجبل المقدّس المخصب غير المقتطع منه" (أوكتوئيخوس الآحاد، اللحن الثالث، آخر قطعة من قطع التيبيكا والتطويبات التي تتلى في القداس الإلهي).
القراءة الثالثة: وليمة الحكمة (أم 9: 1- 11)
يشبّه العهد القديم حضور الله بين الناس بوليمة. فالإنسان الذي يتّحد بحكمة الله كأنّه يأكل خبز الله ويتناول خمر الله: "الحكمة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة. ذبحت ومزجت خمرها وصفّفت مائدتها. أرسلت جواريها تنادي على متون مشارف المدينة: من هو ساذج فليمل إلى هنا. وتقول لكلّ فاقدي اللبّ: هلمّوا كلوا من خبزي واشربوا من الخمر التي مزجت. اتركوا السّذاجة واحيوا. إنهجوا طريق الفطنة" (9: 1- 6). بتجسّد ابن الله وكلمته، ظهرت حكمة الله بين البشر. فالمسيح هو نفسه حكمة الله، وقد ظهر لنا في مريم العذراء. ووليمة الحكمة هي أيضاً صورة لمائدة الملكوت السماويّ التي أعدّها الله في حياة المجد. وقراءة هذا النصّ في أعياد مريم العذراء إشارة إلى أنّ الملكوت قد بدأ على هذه الأرض بتجسّد ابن الله في أحشاء مريم العذراء.
- في عيد دخول السيّدة إلى الهيكل (21 تشرين الثاني)، يقرأ عوضاً عن القراءتين الأولى والثالثة نصّان يشيران إلى أنّ مريم العذراء هي مسكن الله الحقيقي، وتابوت العهد الجديد:
القراءة الأولى: نصب المسكن وتقديسه على يد موسى (خر 40: 1- 5، 9- 10؛ 16: 34- 35).
القراءة الثانية: نقل تابوت العهد إلى هيكل أورشليم (1 مل 8: 1- 11).
وتنتهي القراءتان بتأكيد حضور الله: "ومجد الربّ قد ملأ المسكن" (خر 40: 35)، "ومجد الرب قد ملأ بيت الرب".
- في عيد البشارة (25 آذار) تضاف قراءتان:
القراءة الأولى: العلّيقى الملتهبة التي لا تحترق (خر 3: 1- 8). وتوضح إحدى الصلوات سبب اختيار هذا النص: "إنّ ظلّ الشريعة قد جاز بورود النعمة. فكما كانت العلّيقى متوقّدة ولم تحترق، كذلك أنت يا عذراء، ولدت ولبثت عذراء. وعوض عمود النار أشرق شمس العدل، وعوض موسى المسيح مخلّص نفوسنا" (الأكتوئيخوس، غروب الأحد على اللحن الثاني، آخر قطعة من قطع مزامير الغروب).
القراءة الثانية: الحكمة الأزليّة التي بها خلق الله العالم (أم 8: 22- 31). إنّ ابن الله وكلمته هو تلك الحكمة التي كانت لدى الله منذ الأزل وبها تمّ خلق العالم. وقد ظهرت لنا تلك الحكمة في تجسّد ابن الله في أحشاء مريم العذراء. وهكذا اعتلن في العالم السرّ الذي منذ الأزلي، وتحقّق قصد الله في خلاص الإنسان.
- في عيد دخول السيّد إلى الهيكل (2 شباط)
الذي هو في آن واحد عيد مريمي، تقرأ ثلاث قراءات خاصة:
القراءة الأولى: مختارات من شريعة موسى حول تكريس الأبكار لله وتطهير الأمّ (خر 13: 1- 3، 10- 12، 14- 16؛ أح 12: 1- 4، 6- 8؛ عد 8: 16- 17).
القراءة الثانية: رؤيا أشعيا في الهيكل حول قداسة الله وتنقيته على يد ملاك بجمرة أخذها بملقط من المذبح ومسّ بها فمه (أش 6: 1- 12).
القراءة الثالثة: مختارات من نبوءة على مصر وارتدادها إلى الله، "لأنّهم يصرخون إلى الربّ من مضايقيهم، فيرسل لهم مخلّصاً وربًّا فينقذهم" (أش 19: 1- 21). والمسيح المولود من مريم العذراء هو، حسب نبوءة سمعان، "نور يضيء للأمم" (لو 1: 32).
ب) المزامير
في هذه الذهنيّة نفسها يجب النظر إلى المزامير التي اختارتها الكنيسة لتتلوها في أعياد مريم العذراء، وأهمّها المزموران: 45 (44) و132 (131). فالمزمور 45 هو نشيد دنيوي لعرس ملك في إسرائيل، يعظّم الملك والملكة القائمة عن يمينه. وقد استخدمته الكنيسة لتعظيم السيّد المسيح، ملك الشعب الجديد، ومريم العذراء أمّه الملكة التي منها ولد الملك (راجع هذا المزمور).
والمزمور 132 يشيد بتابوت العهد في احتفال انتقاله إلى مدينة داود الملكية. ومريم العذراء هي تابوت العهد الجديد، لأنّ كلمة الله حلّ فيها (راجع هذا المزمور).
إضافة إلى هذين المزمورين، تختار الكنيسة من مزامير أخرى آيات تتلوها في صلوات السحر والغروب والقدّاس الإلهي (في الأنديفونات قبل دورة الإنجيل. وآيات هللويا قبل الرسالة)، نقتطفه منها المقاطع التالية:
- المزمور 46 (45):
5: "لقد قدّس العليّ مسكنه".
6: "الله في وسطها فلن تتزعزع".
- المزمور 48 (47):
2: "عظيم الربّ ومسبّح جدًّا في مدينة إلهنا في جبله المقدّس".
4: "الله في أبراجها يُعرَف، عندما ينصرها".
9: "كما سمعنا كذلك رأينا، في مدينة ربّ القوّات، في مدينة إلهنا".
- المزمور 65 (64)
5: "قدّوس هيكلك وعجيب في العدل".
- المزمور 72 (71):
1: "أللهمّ أعطِ حكمَك للملك وعدلك لابن الملك".
3: "بشّروا من يوم إلى يوم بخلاص الهنا".
6: "ينزل كالمطر على الجزّة، كالقطر على الأرض".
- المزمور 87 (86)
1: "أساسُها على الجبال المقدسة".
2: "الرب يؤثر أبواب صهيون على جميع مساكن يعقوب".
3: "لقد قيلت الأمجاد فيك يا مدينة الله".
من المزامير اختارت إذن الكنيسة الآيات التي تشيد بمسكن الله وبين البشر، بمدينة الله التي قدّسها العليّ نفسه، ومن خلالها تشيد لعمل الله في مريم العذراء التي هي مسكن الله الجديد بين البشر ومدينة الله المقدّسة التي قيلت فيها الأمجاد، وفجها تحقّق ما قالته في نشيدها في زيارتها لأليصابات: "ها منذ الآن تغبّطني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي عظائم" (لو 1: 48- 49).
هكذا يتّضح لنا أنّ الكنيسة في عودتها إلى نصوص العهد القديم لا تقصد أن تستخرج منها نبوءات حول مريم العذراء، بل ترى فيها وسيلة للتغنّي بعمل الله الخلاصي الذي رافق مسيرة البشريّة منذ نشأتها وبلغ كماله في تجسّد ابنه كلمته في أحشاء مريم العذراء.
ج) نصوص العهد الجديد
في أعياد مريم العذراء تُقرأ أيضاً نصوص خاصّة مستقاة من العهد الجديد: من الإنجيل المقدّس ومن الرسائل.
- في صلاة السحر: يقرأ في جميع أعياد العذراء نصّ زيارة مريم العذراء إلى أليصابات مع نشيد مريم العذراء "تعظّم نفسي الربّ" (لو 1: 39- 56)، ما عدا عيد دخول السيّد إلى الهيكل حيث يقرأ نصّ تقدمة السيّد المسيح إلى الهيكل (لو 2: 25- 32).
- في القدّاس الإلهي: يُقرأ من الرسائل إمّا نص تواضع ابن الله وتمجيده (في 2: 5- 11)، وإمّا وصف مسكن الله وخيمة الموعد وتابوت العهد كما جاء في الرسالة إلى العبرانيّين (عب 9: 1- 17). وفي عيد تهنئة مريم العذراء في اليوم الثاني لعيد ميلاد السيّد المسيح، يُقرأ نصّ التجسّد في تصميم الله الخلاصي (عب 2: 11- 18). وفي عيد دخول السيّد إلى الهيكل، يقرأ نصّ تفوّق كهنوت المسيح على كهنوت هرون (عب 7: 7- 17).
ومن الإنجيل المقدّس يقرأ في عيد البشارة رواية لوقا لحدث البشارة (لو 1: 24- 38)، وفي عيد تهنئة العذراء يقرأ نصّ يروي ما جرى بعد ميلاد المسيح أي الهرب إلى مصر (متى 2: 13- 23)، وفي عيد دخول السيّد إلى الهيكل تقرأ رواية الحدث بحسب إنجيل لوقا (لو 2: 22- 40)، وفي سائر الأعياد المريميّة (عيد ميلاد العذراء، عيد دخولها إلى الهيكل، عيد رقادها)، يقرأ نص استقبال مريم ومرتا للسيّد المسيح في بيتهما (لو 10: 38- 42)، ويضاف إلى هذا النصّ مقطع "طوبى للبطن الذهب حملك" (لو 11: 27- 28).
إنّ اختيار هذه النصوص الإنجيليّة يستند إمّا إلى كونها تروي حدث العيد، إذا كان للعيد ذكر في الإنجيل المقدّس، وإمّا إلى قداسة مريم العذراء التي يمكن قراءتها من خلال هذه النصوص. فمن خلال إنجيل لوقا (10: 38- 42؛ 11: 27- 28)، يتّضح أنّه، كما أنّ مريم أخت لعازر "قد اختارت النصيب الصالح الذي لن يُنزَع منها" (لو 10: 42) وهو "أن تجلس على قدمي يسوع وتسمع كلامه" (لو 10: 39)، كذلك مريم العذراء تميّزت بقبولها كلام الربّ، وقد استحقّت الطوبى ليس فقط لأنّها حملت المسيح في أحشائها ("طوبى للبطن الذي حملك...")، بل لأنّها "سمعت كلمة الله وعملت بها" (لو 11: 27- 28). ولوقا نفسه يضع على لسان أليصابات الطوبى عينها، توجهها لمريم العذراء: "طوبى للتي آمنت بأنّه سيتمّ ما قيل لها من قبل الربّ" (لو 1: 45).
ولذلك اختارت أيضاً الكنيسة المقطع من الرسالة إلى الفيليبيّين الذي يتكلّم على اتّباع المسيح في طاعته التامّة لإرادة الآب، "فإنّه قد وضع نفسه وصار طائعًا حتى الموت، موت الصليب، لذلك رفعه الله..." (في 2: 5- 11).
وهكذا أيضاً في قراءات العهد الجديد تبدو مريم العذراء رمز الكنيسة المدعوّة إلى أن تحمل في ذاتها المسيح كلمة الله فتحيا به وتلتزم استعداداته، فيتاح لها أن تعطيه للعالم، ليتقدّس به ويتألّه.
الفَصل الرَّابع
مَريَم العَذرَاء في لاَهُوت الكنَائِس الإنجيليّة
سنة 1963 نشر ماكس توريان، وهو أحد إخوة دير تيزيه البروتستنتيّين، كتابًا عنوانه "مريم أمّ الربّ ورمز الكنيسة"، أوضح فيه نظرة الفكر البروتستنتي (الذي يدعى اليوم "الإنجيلي") في مريم العذراء، ولا سيّما أفكار المصلحين الأوائل الذين انطلقت منهم مختلف الكنائس البروتستنتيّة. لقد تطوّرت تلك الكنائس وتشعّبت كثيرًا، بحيث يستحيل تكوين فكرة واضحة عن تعليم البروتستنتيّة في مريم العذراء. فالفكر البروتستنتي يتمتّع في هذا الموضوع بكثير من الحرّية. فالكتاب المقدّس هو مصدره الأوحد، والسيّد المسيح المخلّص هو محور تفكيره، والإيمان بالكتاب المقدّس وبالمسيح المخلّص هو ركيزة حياته وروحانيّته. لذلك يبدو في نظره هامشيًّا كلّ ما يقال عن مريم العذراء، وينتقد الكاثوليكيّين والأرثوذكسيّين متّهمًا إيّاهم بالمغالاة والتطرّف في إكرام العذراء، وكأنّه يخشى أن ينقص الإكرامُ المؤدّى للعذراء مريم من الاهتمام بالسيّد المسيح المخلّص الأوحد والوسيط الأوحد بين الله والناس.
لقد بيّنا في كل صفحات هذا الكتاب أنّ إكرامنا لمريم العذراء لا يقود إلى التنقيص من أهمّية الخلاص بالمسيح ولا إلى إنكار وحدانيّة وساطة المسيح. إنّ إكرامنا لمريم العذراء يستند إلى كونها أمّ المسيح، وشفاعتها ترتكز على ارتباطها بوساطة المسيح. وهذه العلاقة بين مريم العذراء وابنها المسيح الربّ هي التي يؤكّدها المصلحون الأوائل، في مختلف النقاط المرتبطة بمريم العذراء.
1- مريم العذراء والدة الإله
إنّ لقب "والدة الإله" الذي أعلنه مجمع أفسس يجد تأييدًا لدى لوثر وزفينكلي، فيما يبقى كالفين متردّدًا حياله.
سنة 1539 كتب لوثر مقالة بعنوان "في المجامع والكنائس"، جاء فيها: "هكذا لم يأت مجمع أفسس بشيء جديد في الإيمان، وإنّما دافع عن الإيمان القديم ضدّ ضلال نسطوريوس الجديد. فالقول إنّ مريم هي والدة الإله كان في الكنيسة منذ البداية، ولم يخلقه المجمع جديدًا، بل قاله الإنجيل أو الكتاب المقدّس. ففي القدّيس لوقا (1: 32)، نجد أنّ الملاك جبرائيل بشّر العذراء بأنّ ابن العليّ سوف يولد منها. وقالت القدّيسة أليصابات: "من أين لي هذا أن تأتي أمّ ربّي إليّ؟" وأعلن الملائكة معًا يوم الميلاد: "اليوم ولد لكم مخلّص، هو المسيح الربّ" (لو 1: 11). وكذلك بولس الرسول: "أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة" (غلا 4: 4). هذه الأقوال التي أؤمن بصحّتها تدعم، وبكلّ تأكيد، الحقيقة القائلة إنّ مريم هي والدة الإله". أمّا زفينكلي فقد كتب سنة 1524 عظة عن "مريم الدائمة البتوليّة الطاهرة والدة الإله"، استعمل فيها بحرّية لقب "والدة الإله"، وأعلن في مقطع منها نافيًا اتّهامات ذوي الإرادة السيّئة الذين ادّعوا أنّهم سمعوه يتحدّث عن مريم بأنّها امرأة خاطئة شبيهة بأيّة خليقة، قال: "لم أفكّر إطلاقًا، ولم أعلّم، ولم أقل جهرًا عن العذراء الطاهرة، مريم أمّ مخلّصنا، أيّ قول معيب أو شائن أو سيّئ".
وكتب بولينجر خلف زفينكلي على زوريخ، ينتقد نسطوريوس الذي رفض تسمية العذراء بلقب "والدة الإله". وكذلك كتب القسّ الفرنسي شارل دريلانكور: "بسبب هذا الاتّحاد المتين غير المدرك (بين طبيعتي المسيح)، فإن ما يناسب إحدى الطبيعتين يمكن أن يُنسَب إلى الشخص بشكل عام. لهذا قال بولس الرسول: "إنّ اليهود صلبوا ربّ المجد" (1 كو 2: 8). ولا نرى أيّ صعوبة في القول مع الأقدمين إنّ العذراء هي والدة الإله، لأنّ الذي ولدته هو الإله الفائق كل شيء، المبارك إلى الأبد" (رو 9: 5).
2- مريم العذراء الدائمة البتوليّة
يقول ماكس توريان: "يؤكّد تقليد الكنيسة العريق بتوليّة مريم الدائمة. وقد أقرّ زعماء الإصلاح أنفسهم في القرن السادس عشر أنّ مريم دائمة البتوليّة... فقد بشّر لوثر بعقيدة بتوليّة مريم الدائمة طول حياتها. وفي الثاني من شباط سنة 1546، يوم عيد تقدمة المسيح إلى الهيكل، قال: "كانت بتولاً قبل الحبل والولادة، وظلّت بتولاً حتى الولادة وبعدها". ولم يكن زفينكلي أقلّ تأكيدًا من لوثر، فتكلّم كثيرًا على بتوليّة مريم الدائمة، فأعلن في مدينة برن في كانون الثاني سنة 1528: إنّي أستشهد بكنيسة زوريخ التقيّة وبجميع مؤلّفاتي لأعترف بمريم بتولاً دائمًا وقدّيسة". وكان سنة 1524 في عظة عن مريم العذراء كّد بتوليّتها الدائمة بقوله: "إنّي أؤمن إيمانًا ثابتًا، استنادًا إلى ما جاء في الإنجيل المقدّس، أنّ هذه العذراء الطاهرة قد ولدت لنا ابن الله، وأنّها ظلّت، في الولادة وبعدها أيضاً، عذراء نقيّة وبكرًا إلى الأبد".
وكذلك كالفين، وإن تردد في استعمال لقب "والدة الإله بسبب ما يحمله من خطر على سوء فهم علاقة مريم العذراء بالله، فقد كان صريحًا في موضوع بتوليّة العذراء الدائمة، ورفض أن يكون لمريم أولاد غير يسوع. ويوجز ماكس توريان إيمان المصلحين بقوله: "إنّ موقف مريم من احترامها سرّ إعدادها الأزلي يجعلنا نقرّ أنّ عقيدة مريم الدائمة البتوليّة التقليدية تنسجم، على الأقلّ، مع دعوة مريم الفريدة، المكرّسة تمامًا لخدمة الله، والممتلئة من نعمة الله، والمتّجهة كلّيًا نحو ملكوت الله. مريم، في بتوليّتها، هي علامة الخليقة المصطفاة والمكرّسة والممتلئة من ملء الله، التي لم تعد تنتظر شيئًا غير الاكتمال النهائي في ملكوت الله الظاهر، وتعيشه الآن بشكل خفيّ ومسبّق. هي علامة الكنيسة المقدّسة التي لا تنتظر ولا ترجو سوى عودة المسيح".
نذهب للفقرة الخامسة لأن الفقرات 3 و 4 ليست في صلب الموضوع المطروح
5- مريم العذراء رمز الكنيسة وأمّ المسيحيّين
يقول ماكس توريان، تعليقًا على قول يسوع ليوحنّا الواقف مع مريم العذراء أمام الصليب: "هذه أمّك": "يستطيع التلميذ الذي يحبّه يسوع أن يقول عن مريم إنّها أمّ يسوع وأمّه شخصيًّا، فيحقّق الصداقة الحميمة التي تربطه بالمسيح، ربّه وأخيه. مريم، أمّ يسوع وأمّه، هي الشخص الذي يستطيع أكثر من أي شخص آخر أن يقرّبه من المسيح سيّده وربّه، وقد كانت وإيّاه شاهدة على ساعات المصلوب الأخيرة، وسمعت آخر كلماته، وقبلت الروح الذي أسلمه إلى كنيسته. فمريم هي له، وبه لجميع التلاميذ وللكنيسة التي تجتمع حولهم، علامة قريبة لحضور الربّ، أمّ روحية في الجماعة المسيحية، وهي الأكثر إكرامًا من بين الأمّهات الروحيّات التي يجدها المسيحي في الكنيسة. إنّها الأمّ الروحيّة بكلّ ما في هذا التعبير من عمق وسموّ للتلميذ الحبيب والأمين، أي لكلّ مسيحي. لأنّ كلّ مسيحي هو أخ ليسوع... مريم هي بالنسبة للتلميذ الذي كان يسوع يحبّه، ولكلّ التلاميذ معه، صورة الكنيسة-الأمّ، والأمّ الروحيّة التي يجدها في الكنيسة من يؤمن بالمسيح (راجع مر 3: 31- 35). وتستطيع، بقدرة الروح، أن تنقل إلى التلاميذ وإلى الكنيسة الأولى كلّ ما تعرف عن يسوع، ابنها الحبيب، وما حفظته وما تأمّلته في قلبها (لو 2: 19، 51). ستحمل بتواضع إنجيل ابنها، لا على طريقة الرسل المبشّرين، بل على طريقة أمّ محبّة تعمل بصمت، أمّ بشريّة لابن الله الذي عرفته في أعماقه أكثر من أيّ شخص آخر، وأمّ روحيّة للتلاميذ تساعدهم على أن يتذكّروا كلّ ما قاله المسيح وعمله، وكانت له شاهدة متيقّظة وأمينة. بإيمانها ورجائها ومحبّتها وصلاتها، ستكون أمًّا روحيّة في الكنيسة-الأمّ التي هي صورتها الحيّة والمتواضعة".
ثمّ يعرض المؤلّف بعضاً من أقوال لوثر في هذا الموضوع:
"إنّه لفرح عظيم يتحدّث عنه الملاك. وهي تعزية الله ورحمته الفائضة. فيحقّ لكلّ إنسان أن يفتخر بكنز كهذا: مريم هي أمّه الحقيقية والمسيح أخوه والله أبوه".
"أظنّ أن لا أحد منّا يرفض أن يترك أمّه ليكون ابن مريم. ويمكنك الوصول إلى ذلك. بل هذا معروض عليك، وهو فرح أعظم ممّا لو كنت تعانق أمّك وتقبّلها بقبلات حقيقيّة".
"مريم هي بحق أمّنا. ولكن إذا أردنا أن نبني على ذلك، فنأخذ من المسيح كرامته ورسالته ونعطيها لمريم، فهذا يعني إنكارًا لآلام المسيح".
"مريم هي أمّ يسوع وأمّنا جميعًا... فإذا كان (يسوع) خاصّتنا، وجب أن نكون نحن في وضعه. فحيث هو، يجب أن نكون أيضاً، كلّ ما له يجب أن يكون لنا، وأمّه هي أيضاً أمّنا".
ويرى لوثر علاقة حميمة بين العذراء والكنيسة. فالعذراء هي صورة الكنيسة، فهي ولدت المسيح، والكنيسة تلد إخوة المسيح. يقول: "إنّنا نختلف في الولادة الجسديّة. ولكنّنا، في العماد، كلّنا أبناء أبكار للعذراء، أي للكنيسة التي هي العذراء النقيّة بالروح. عندها كلمة الله النقيّة، تحملها في أحشائها. هنا نحن الثمار الأولى الحقيقيّة (البواكير)، لنكون ملك الربّ إلهنا".
ويتابع المؤلّف تلك الصورة فيقول: "تلد الكنيسة أبناء الله الآب، إخوة يسوع، بقدرة الروح القدس، وتغذّيهم، وتعتني بهم. بكلمة الله والمعموديّة تلد المؤمنين الجدد إلى عالم الإيمان والرجاء والمحبّة، وبالإفخارستيّا تغذّيهم بجسد الربّ ودمه المحيِيَيْن، وبالحلّ تعزّيهم في رحمة الآب، وبالمسحة ووضع اليد تمنحهم شفاء الجسد والنفس.
"إنّ كلّ خدمة تمارسها تتّسم بسمة الأمومة الروحيّة هذه. لقد كتب بولس، لنفسه ولجميع الرعاة الذين يرتسمون لخدمة الكنيسة من أجل بناء كهنوت المؤمنين الملكي: "أيّها الكورنثيّون، إنّ فمنا قد انفتح إليكم وقلبنا قد اتّسع. لستم متضايقين فينا... إنّي أكلّمكم كأبنائي. وسّعوا أنتم أيضاً قلوبكم... لقد قلت لكم آنفًا: إنّكم في قلوبنا للحياة وللموت. إنّ لي بكم ثقة عظيمة، ولي بكم فخرًا عظيمًا، ولقد امتلأت تعزية، وأنا أفيض فرحًا في كل ضيقنا" (2 كو 6: 11- 13؛ 7: 3- 4)، "وما عدا هذه، ما يتراكم عليّ كلّ يوم، والاهتمام بجميع الكنائس. فمن يضعف ولا أضعف أنا، من يعثر ولا أحترق أنا؟" (2 كو 11: 28- 29). أليس هذا الكلام شبيهًا برسالة أمّ لأبنائها؟ يبدو بولس في رسائله أحيانًا أبًا، وأحيانًا أمًّا. وفي خدمته يحقّق رسالة الأمّ في الكنيسة. هذا العطف وهذا الحنان اللذان يميّزان قلب الأمّ عرفهما أيضاً يوحنّا في خدمته الراعويّة: "يا أولادي الصغار، أثبتوا الآن فيه... يا أولادي الصغار، لا يضلّكم أحد" (1 يو 2: 1، 12، 28؛ 3: 7، 18؛ 4: 4؛ 5: 21، تتكرّر لفظة "أولادي الصغار" سبع مرّات في الرسالة).
ثمّ يختم المؤلّف بقوله: "يجب على سلطة الخدمة أن تقترن بوداعة الخدمة. السلطة الضروريّة في الكنيسة يجب أن تظهر بروح محبّة الكنيسة الأمّ. ومريم صورة الكنيسة الأمّ، يمكنها أن تعلّم خدّام الكنيسة، والسلطات في الكنيسة، وجميع المؤمنين، أنّ من يعي الإرشاد الروحي كما تعيه الأمّ وعيًا شديدًا وبدون ميوعة، يستطيع وحده التعبير حقيقة عن محبّة الآب الذي يلد إلى الإيمان، ويغذّي، ويعزّي، ويشفى بكلمته وعلامات حضوره".
6- مريم العذراء في الليترجيّا
نتابع عرضنا لموضوع مريم العذراء في الفكر البروتستنتي، فنكتشف أنّ التراث البروتستنتي الأصيل يعتبر ضروريًّا إكرام مريم العذراء والقدّيسين في الليترجيّا. لا شكّ أنّ الفكر البروتستنتي عرف في تطوّره مراحل كثيرة، وفي حدّة النقاش مع الكاثوليكيّين ردّ بعض البروتستنتيّين على تطرّف بعض الكاثوليكيّين بتطرّف معاكس، فأنكروا إكرام مريم العذراء والقدّيسين. ولكن بعد أن انحسرت موجة المجادلات والنقاشات الحادّة، وعاد الجوّ الى التحاور باعتدال ورصانة، رأى البروتستنتيّون ضرورة إكرام العذراء والقدّيسين، وإن بطريقة تختلف عن الطريقة المتّبعة في الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة. وهذا ما نقرأه في كتاب ماكس توريان. يقول في فصل عنوانه: "مريم في الكنيسة":
"مريم، حسب الإنجيل، "تطوّبها جميع الأجيال" (لو 1: 48): في الليترجيّا وفي المواعظ وفي تقوى الكنيسة. لأنّ مريم حاضرة في الكنيسة بكونها المرأة المسيحيّة الأولى، ولأنّها رمز الكنيسة، لها مكانتها في إعلان كلمة الله في الكنيسة وفي حياة المؤمنين الروحيّة. لا شكّ أنّ هذه الالتفاتة الى مريم في الكنيسة قد عرفت ولا تزال تعرف تطرّفًا قد يسيء الى عبادة الله الثالوث الذي له وحده يجب السجود. ولكنّ هذا الخوف من التطرّف يجب ألاّ يقودنا الى الصمت والى غياب مريم عن الضمير المسيحي، فيكون ذلك أيضًا عدم أمانة لإنجيل المسيح.
"لقد أكّدنا، في خلال هذه الدراسة، استنادًا الى الكتاب المقدّس، كلّ ما تستطيع التقوى المسيحيّة أن تكتسبه من علم راسخ ومحيٍ في التأمّل بدعوة مريم، أمّ الربّ ورمز الكنيسة. بقي علينا هنا أن نحدّد كيف يمكن الإعلان عمّا صنعه الله في مريم أن يجد مكانه المشروع في ليترجيّا الكنيسة، وفي كرازتها، ليتاح لجميع الأجيال أن تطوّب أمّ الرب، حسب قول الكتاب المقدَّس.
"للعذراء مريم مكانتها في الليترجيّا حيث يمكن أن تُعلَن، كما في الكرازة، النعمة التي صنعها الله فيها.
"أو ليس الكتاب المقدّس رواية المعجزات التي حقّقها الله لشعبه ولكلّ من أفراده؟ ومريم، بكونها عضوًا متميّزًا في الكنيسة، وصورة لشعب الله الأمين والممتلئ من نعمته، يجب أن تكون المناسبة لليترجيّا لتمجّد بها الله تمجيدًا خاصًّا. ولوثر الذي حافظ على عدّة أعياد للعذراء في الليترجيّا قال في عيد البشارة في 25 آذار سنة 1539: "هذا العيد هو واحد من أهمّ الأعياد التي يمكننا الاحتفال بها كمسيحيّين. لأنّنا دعينا، كما يقول بطرس، الى أن نكون شعبًا يبشّر بعجائب الله ويعلنها". هذا هو معنى الليترجيّا التي تقام بمناسبة الأعياد التي تذكّر بدعوة مريم في تصميم الخلاص، لمجد الله وحده. إنّ حضور مريم في الليترجيّا، في بعض الأعياد الأكثر قدمًا، هو فرصة للمسيحيّين ليعلنوا، بمناسبة مريم، أمّ الربّ وصورة الكنيسة، تسابيح الذي دعاها ودعانا من الظلمة الى نوره العجيب.
"إنّ ذكر الرسل والشهداء وشهود الكنيسة والعذراء مريم في الليترجيّا أمر ضروري لندرك أنّنا لسنا وحدنا في سجودنا لله وتضرّعنا له تضرّع شفاعة من أجل البشر. بل إنّ المسيح يضمّ في جسد واحد معنا كلّ "السحاب من الشهود الذي يحدق بنا". إنّ شركة القدّيسين توحّد جميع المسيحيّين في صلاة واحدة وحياة واحدة في المسيح. إنّها توحّد كنيسة اليوم وكنيسة كلّ الأزمنة، الكنيسة المجاهدة على الأرض والكنيسة المنتصرة في السماء. والكنيسة، في عراكها، بحاجة الى التطلّع الى آية سفر الرؤيا الإسختولوجية: المرأة الملتحفة بشمس الله، والكون تحت قدميها، وهي مكلّلة باثني عشر كوكبًا. هذه المرأة هي الكنيسة عينها، التي هي بالرغم من معركتها الضارية مع هذا العالم، موعودة بالمجد... والكنيسة بحاجة الى أن تشعر "بالسحاب الكثير من الشهود" يحيط بها لتسعى بثبات في ميدان المحنة المقدّمة لها (عب 12: 1). الكنيسة تسير نحو الملكوت بموكب عيد حافل: "لقد دنوتم الى جبل صهيون، والى مدينة الله الحيّ، الى أورشليم السماويّة، الى ربوات ملائكة، والى عيد حافل، الى جماعة الأبكار المكتوبين في السماوات، الى الله ديّان الجميع، الى أرواح الصدّيقين الذين بلغوا الى الكمال، الى يسوع وسيط العهد الجديد، والى دم مطهّر أبلغ منطقًا من دم هابيل" (عب 12: 22- 24). إنّ شركة القدّيسين هذه التي ترافق الكنيسة في عراكها وفي مسيرها نحو الملكوت تقوّيها في الإيمان، وتفرّحها في الرجاء، وتنعشها في المحبّة. هذا السحاب الكثيف من الشهود يذكّر الكنيسة بأنّها لا تحصى وبأنّها منتصرة في معركة تبدو وكأنّها ستغمرها. ومريم، أمّ الربّ وصورة الكنيسة، هي فرد من هذه الجماعة العظيمة من المسيحيّين، في مكان متميّز لكونها المسيحيّة الأولى الممتلئة نعمة. وهي أيضًا للكنيسة رمز أمومتها المتألّمة التي تلد المؤمنين الى حياة القيامة. إنّها مثال في الإلهي يمان والطاعة والثبات والقداسة، والكنيسة المجاهدة، وهي تتطلّع الى الكنيسة المنتصرة، ترى فيها مريم رمز انتصارها الأكيد.
"إنّ أمّ الربّ يمكن للكنيسة أنّ "تطوّبها" في الذكرى الليترجيّة للأحداث الكبرى من حياتها، وذلك من خلال أعياد إنجيليّة بسيطة، في تسبيح يُرفَع لمجد الله وحده، وتقدّم لجميع المؤمنين بالمسيح مثالاً في الإيمان والطاعة والثبات والقداسة".
ثمّ يذكر المؤلّف كيف حافظ لوثر على معظم أعياد العذراء ثمّ اكتفى بثلاثة منها: البشارة والزيارة وتقدمة يسوع الى الهيكل، لأنّه وجد لها مستندًا في الإنجيل المقدّس. أمّا كلفين، الأكثر تشدّدًا من بين المصلحين، فقد ألغى كلّ أعياد العذراء والرسل والقدّيسين. ويشير أخيرًا المؤلّف الى ضرورة المحافظة على أربعة من أقدم أعياد العذراء: البشارة والزيارة وتقدمة يسوع الى الهيكل ورقاد العذراء. ويختم بقوله: "ليس القصد في هذه الأعياد الأربعة إلاّ أن نرفع آيات المجد والشكر لله لأجل كلّ ما حقّقه في حياة أمّه البشريّة، ونطلب اليه نعمة اتّباع مثل العذراء مريم في إيمانها وطاعتها وثباتها وقداستها، ونفرح في شركة القدّيسين، بانتظار القيامة وملكوت الله، حيث سنحيا مع مريم وجميع القدّيسين حياة أبدية وفرحًا كاملاً".
قد لا يجد الكاثوليكي أو الأرثوذكسي في هذه النظرة البروتستنتيّة الجديدة تعبيرًا كافيًا عن إيمانه بما صنعه الله في العالم بواسطة مريم العذراء. ولكنّنا نرى أنّ هذه المحاولة تقرّب وجهات النظر المختلفة التي عبّرت من خلالها كلّ كنيسة عن إيمانها بالله وبعمله الخلاصي في العالم. وهذا هو في النهاية موضوع إيماننا المسيحي الذي أعلنته الكنيسة منذ المجامع الأولى وأوجزته في قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني:
"نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل...
وبربّ واحد يسوع المسيح... الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنّس..."
إنّ إكرامنا لمريم العذراء يهدف أوّلاً الى تمجيد الله والإشادة بما صنعه "من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا"، فتجسّد بقدرة الروح القدس من مريم العذراء. ويهدف ثانيًا الى مساعدتنا على قبول هذا الخلاص الذي جاءنا به ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح المولود من مريم العذراء. وفي مسيرتنا الخلاصية هذه نتّخذ "جميع القدّيسين"، "وخصوصًا سيّدتنا الكاملة القداسة الطاهرة، الفائقة البركات المجيدة والدة الإله الدائمة البتوليّة مريم"، قدوة ومثالاً ورفقاء درب على طريق الملكوت.
لقراءة الكتاب كاملاً
http://www.bustros.org/word/4/4.html
تحياتي القلبية
سيخرجونكم من المجامع, بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله
[url]www.christpal.com[/url]