السيمفونية السادسة: وضعت من مقام (فا ميجر) أول مرة عزفت في فيينا في 22 كانون الأول 1808 وهي تصوير واضح وجميل لمشاعر الفنان وحبه للريف واستمتاعه بمناظره الخلابة. وقد سميت (سيمفونية الرعاة) فمن يسمع هذه السيمفونية يشعر تماماً بتسلسل القصة التي أرادها الفنان، وهي تبدأ بقسمها الأول بهدوء القرية والرعاة وهم يجوبون المرعى، ينصتون إلى تغريد الطيور والبلابل، وينظرون فوقهم فيرون السحب تتجمع وتتفرق، بينما تُظهر الحركة الثانية مياه الجداول والسواقي وهي تتدفق فوق العشب الأخضر، وفي المقطع الثالث والرابع نشعر بالفلاحين وهم يجلسون ويرقصون ويطربون على أنغام الناي، ولا تلبث أن تنعكس الطبيعة منغِّصةً على الفلاحين جلستهم، حيث تنتشر السحب وتتجمَّع من جميع الاتجاهات، ويبدأ الرعد يقصف، والمطر يتساقط، وتمتد العاصفة برياحها الهوجاء، تطارد العازفين والراقصين، وأخيراً تأتي الحركة الخامسة والأخيرة لتنبئ بانتهاء العاصفة بسلام، فتبزغ الشمس بأشعتها الذهبية على الريف الحالم، فيخرج الريفيون من أكواخهم من جديد رافعين أيديهم إلى السماء يقدمون الشكر والعرفان إلى الله عزَّ وجل على نعمه.
السيمفونية السابعة: ألَّفها عام 1812 من مقام (لا ميجر) ويُطلَق عليها السيمفونية الضاحكة، لأن ألحانها اختلطت فيها عوامل المرح والنقمة، وكأنَّها إنفجارات صاخبة تُخيف (جوته) الفيلسوف العظيم الذي لم يرتح له بيتهوفن لتملقه السلطة، بينما أنغامه المتفجرة هذه أرادها رداً على الإمبراطور نابليون عند مروره بشوارع فيينا وبعد أن سحب بيهوفن إعجابه به. أما الحركة الأخيرة فيها تمثل الفنان مستهتراً بالحياة يتقدَّمه الإله (ديونيسيوس) إله الخمر والعالم السفلي في موكب للحرية.
السيمفونية الثامنة: وضعت من مقام (فا ميجر) وقدَّمها هدية إلى إمبراطور روسيا أيضاً عام 1812 وكانت صغيرة لا يظهر فيها موضوعاً، أو بالأحرى لم يحاول بيتهوفن إعطاءها تعبيرات خاصة عن موضوع معيَّن.
السيمفونية التاسعة: (الكورالية) أُلِّفت من مقام (ري ماينر) في عام 1824 وكانت هذه السيمفونية حصيلة عشر سنوات من العمل، وكأنه أرادها أن تكون بمثابة نهاية لحياته، فهو ينتقل فيها من هاوية الحزن إلى قمة الفرح، إنها عبقرية ملموسة، تمثل الفرح يهبط من السماء يتحسس بعذوبته القلوب النقية الطاهرة، وما أسرع ما يجتاح الفرح الكون بأسره، يعلن الحرب على الألم بجيوشه الجبارة، فالأناشيد القدسية تسمو إلى العالم العلوي، تمتزج نغماتها بأنفاس بيتهوفن وهتافاته العميقة، ثم تتبدَّل النغمات بأخرى، تصوِّر الفنان الملهم يرتاد الحقول والمراعي، يسجِّل مؤلفاته الجنونية تحت رذاذ المطر، ومنها تعبر إلى جنون الحب العذري، حيث تمثل الموسيقى ملكاً طاهراً يمدُّ ذراعيه إلى السماء، يهتف من أعماق قلبه، فيستقبله الفرح من جديد ويضمه إلى صدره الحنون.
قال الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر Richard Wagner (1813–1883) عن هذه السيمفونية:
"إننا ننظر إلى هذا العمل كعلامة تاريخية تحدد عهداً جديداً في هذا الفن العالمي.. فمن خلاله عاش العالم ظاهرة نادرة قلَّما يجود التاريخ بمثلها.. في أي زمان أو مكان.."
وقال ناقد آخر اسمه (جورج سانتيانا):
"إن الله قد خلق العالم حتى يكتب بيتهوفن سيمفونيته التاسعة".
"إنها وصية الحب والسلام.. ليحتويكم الحب يا ملايين البشر.. ها هي قبلة لكل العالم".
عندما قُدِّمت هذه السيمفونية في فيينا أثارت حماسة الكثيرين، فصفق من صفَّق، وبكى من بكى، وأغمي على بيتهوفن من قوة الانفعال فحملوه إلى دار صديقه "شنيدلر" وظلَّ فاقداً الوعي طوال الليل وصباح اليوم التالي. إن النجاح عند بيتهوفن كان عظيماً ولكن الربح كان قليلاً، فلم تتبدل حياته المادية، وظلَّ يائساً وحيداً إلى أن توفي عام 1827 أثناء عاصفة ثلجية، وكأنَّ الطبيعة أرادت أن تودِّع ابنها الموسيقار الألماني العظيم في جوٍ من موسيقاها العاصفة الحزينة يحوطه الإجلال بالتقدير.
قناع منسوخ عن وجه بيتهوفن بعد وفاته
فيا لها من معجزة ربانية! كيف يمكن لشخص أصم أن يقود أوركسترا ويوزع موسيقى سيمفونياته التي قام بتأليفها ويضيف بأحاسيسه الساحرة أصوات أوبرالية لكي يزين بها السيمفونية؟ ما هذا سوى إحساسه الداخلي وليس أذنه، ألا تعتقدون بأنها معجزة إلهية؟؟ عند الانتهاء من العزف لم يستطع سماع تحية الجمهور، فقد كان مديراً ظهره لهم، فما كان من أحد أعضاء الفرقة ألا أن أدار وجهه نحوهم ليشاهد حركات التحية والتصفيق والتقدير، وأثناء تلك اللحظة بكى بيتهوفن من شدة تأثره بالموقف وكأنه يهزأ من الدهر، وببكاء القائد الأصم بكت الصالة بأكملها.
لقد رحل ذلك العملاق الموسيقي (لودفيج بيتهوفن) لكنه سيظل خالداً في ذاكرة التاريخ وأذهان البشر وبقربه أعماله الساحرة، التي لم تقتصر على ما ذكرناه من سيمفونيات، ولكنه وضع إلى جانبها المئات من السوناتات والمقطوعات الموسيقية والرباعيات الوترية والأوبرات مثل: سوناتا ضوء القمر، والمؤثرة، والقداس الكبير.
ضريح بيتهوفن في فيينا
هكذا كانت حياة (نابليون الموسيقي) ومحطِّم (سيمفونية نابليون).
وأسرق وقتاً لكي يسرقوني من الوقت...
|