عرض مشاركة واحدة
قديم 24/07/2008   #1
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي صحيفة قديمة جدا ... حازم سليمان


لم يكن لديه ما يقوله .. كان مجرد كائن مطبق على أفكار لزجة بمذاق سيّئ جدا :
" فقط لو أني لست أنا "
جملة عبرت رأسه في اللحظة التي راح يقلب أوراق صحيفة قديمة جدا ، كان قد اشتراها لأنه وجد في جيبه بضع ليرات لايحتاجها , قال حينها :

- سأستحم .. أتناول الطعام .. أقرأها .. وأنام
لكنه يومها لم يذهب إلى البيت ، ظل يتجول في المدينة ، من مقهى لآخر ومن حديقة لأخرى إلى أن هدّه التعب ، فلم يستحم ولم يأكل ، فقط قال لزوجته حين دخل البيت آخر النهار ... أريد أن أنام ... ومات . أو لنقل نام كالقتيل .
حتى أنه لم يصحو على استغاثات زوجته التي باغتها الطلق المبكر وأسعفها الجيران إلى المشفى حيث أنجبت طفلا ميتا ، ولأنها المرة الرابعة ، كان قد اعتاد على هذا النوع من الألم ، وكان على وشك الإيمان بما قيل له بأن لله يحب ذريته ، ولذلك يطلبها إلى جواره ، لكنه وفي الكثير من اللحظات كان يدعو سرا : " ربي امنحني ولدا يعيش وأدخله النار ، فقط أن يعيش " .
الصحيفة قالت أن وزراء الخارجية العرب وجدوا مخرجا مناسبا لهم مما يحدث على الساحة , لا أحد يعرف أي ساحة لكنها بالتأكيد ليست ساحة المرجة التي ذهب إليها منذ لا يعرف متى ليشتري لزوجته فتة المقادم التي تحبها كثيرا من عند " سحلول " ويذكر أنه استقل سيارة أجرة ليصل المنزل قبل أن تبرد ، وأن السيارة تعطلت في ذلك الشتاء ، وأنهم دفشوها الى أن دارت من جديد ، وأن صاحب السيارة عرج على منزل رجل آخر ليعطيه السيارة فهما يتقاسمان العمل عليها ، وأن الرجل الثاني كان واضحا من الوهلة الأولى أنه مخبر فاشل لأنه وقبل أن ينطلق لعن الدولة مئة مرة ، لعن الوزراء ، والضباط ، رجال الأمن ، مجلس الشعب ، وحاول أن يستدرج المستعجل إلى منزله قبل أن تبرد الفتة ، أن يستدرجه للحديث عن سرقات الأموال العامة ، وغلاء المعيشة ، والرواتب . شتم كل شيء حتى أمه التي أنجبته في هذه البلاد اللعينة .
وبالرغم من كل شيء استطاع الوصول وفي الفتة بقايا حرارة ، لكن الجيران أخبروه أن زوجته جاءها طلق مبكر ونقلوها إلى المشفى وهناك علم أنها أنجبت طفلا جميلا وحيا وماتت ، وقتها لم يعرف الشعور الذي أحسه ، أدرك أنه يحب زوجته كثيرا ، يحبها منذ أن التقيا في إحدى المسيرات الصاخبة لذكرى حرب خاضتها البلاد ، حرب طاحنة جدا دحرت فيها الأعداء وخسرت الأرض .
يومها ضحك جدا ، ضحك لأنه لم يستطع التقاط الحكمة من ذلك على اعتبار أن لكل شيء حكمته ومعناه ، لم يشعر إلا بالسخرية ، فقط أخرج سيجارة كان قد خبأها لكوب الشاي بعد وجبة الفتة ومضى في هذا الليل الشتوي ، حتى أنه لم ينظر في وجه المولود ، ولم يحضر العزاء في زوجته .
- أترغب ببعض القهوة ؟
يوميء موافقا لتمضي المرأة الجديدة التي ارتضت أن تساكنه كل هذا الأسى ، لتصنع له قهوته المرة المعتادة ، هي امرأة لا يعرف كيف يشعر بها ، يحبها أو تحبه ، يحبان بعضهما ، لا فرق لديه ما دام تزوجها ولم يمضي على وفاة زوجته الأولى عدة أشهر متحججا برعاية المولود ، لكن الحقيقة أن المرأة أعجبته من الجلسة الأولى ..
- المشكلة أني أرمل ولي ولد من المرحومة
- هذه ليست مشكلة ، ولدك هو ولدي
- لماذا لا نعطي لأنفسنا فرصة للمزيد من اللقاءات والتعارف
- الأمر لا يحتاج لكل هذه المقدمات .. إن أردتني حقا لن تجد صعوبة في الوصول إلى أبي .
في الحقيقة حاول الرجل استدراجها إلى المنزل بكافة السبل والوسائل ، أن يقنعها بأن الزواج مقبرة للحب ولأشياء كثيرة ، لكنه في نهاية المطاف وجد نفسه يتزوجها ويمضي بها إلى المنزل .
يا ترى هل أحبها حقا ؟ سؤال مباغت ، ولأن الأمر لا يشغله كثيرا ، أسترسل بالنظر إلى المدينة التي يطل عليها ، لديه رغبة في اختراق جدران البيوت ، أن يرى كل سكان هذه البلاد في لحظاتهم السرية ... آه أيتها الشوارع والحدائق المخفية أبدا ... آه أيها العمر الذي تبعثر هنا وهناك ، كم يحلوا لي أن أعود طفلا صغيرا لأعيد ترتيب اللحظات والمواقف وأختيار الأصدقاء والنساء والأولاد الذين لا يموتون أبدا ، والعيش .. نعم العيش في وطن لا يأكل لحم أبناءه
- اشرب القهوة قبل أن تبرد
- كيف هو الصغير ؟
- إنه نائم
يا لك من امرأة صامتة وحكيمة ، أعرف أني أقتلك اليوم تلو الأخر ، أعرف كم هي أنانيتي ، وكم أنت جميلة ، كل ما فيك يصرخ بالأنوثة ، لطالما تساءلت كيف يفكر بك الرجال حين تعبرين من أمامهم بهذا الجسد الغض المفعم بالحيوية ... لطالما تساءلت كيف تشعرين بي حين ألج الفراش قربك ، ألا زالت حواسك تنتفضك كما كانت ، أم أنك دخلت دوامة اللا مبالاة التي أعيشها ، ولأن الأمرفي نهاية المطاف لا يعنيه كثيرا ، ابتلع القليل من فنجان قهوته ، أشعل سيجارته وهي العاشرة اليوم ليأتيه صوت الطبيب الذي يطارده كلما اشعل سيجارة " الامتناع عن التدخين ، والشرب والسهر والأنفعال والملح والسكر والدسم ، وعليك بالدعاء عسى الله أن يمن عليك بالشفاء " ولأنه لم يستطع تطبيق أي شيء من هذه الوصايا اكتفى بالدعاء لنفسه بين الحين والأخر .
الصحيفة تقول أن كلينتون أدخل السيجار في مونيكا ، وأن الكوبيين ألفوا كتابا بعنوان " رحلة سيجار كوبي في البيت الأبيض " . راقت له الفكرة لكن طعم الأفكار اللزجة لم يعطه المجال أن يمضي في بعض الخيالات المشرقة .
لم يكمل قهوته ، نهض إلى غرفة الولد فقط ليتأكد أنه مازال على قيد الحياة ، وفي غرفته كان ثمة امراة نائمة تدعى زوجته ، اقترب منها ، بحث عن تلك الرائحة الخاصة بفتاة المسيرة التي كانت محمرة مبحوحة الصوت من الهتاف ، كان يعشق رائحة نومها .
قال للمرأة النائمة ... دفعت للبقال خمسمائة ليرة من حسابه ، وتركت لك ألف ليرة في درج المكتب ، لا تنسي أن تأخذي الولد إلى المستوصف .
لا تخف حبيبي ... يمكنك الموت .
ارتمى على السرير .. دعا لنفسه بالشفاء العاجل ، استسلم للخدر الذي لف جسده ، أغمض عينيه ومات .
" مات عن جد "


* حازم سليمان : كاتب سوري مقيم في الإمارات العربية ، محرر الملحق الثقافي لجريدة البيان الإماراتية .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04151 seconds with 10 queries