مذكّرات قرصان...
الـجُمعة 18 تـمّوز 2008
كانَ اليومُ مُميّزاً، فقد رقدتُ الليلة الماضية، وللمرّة الأولى منذ احتلالي كوبري غَمْرَة في العاصمةِ المصريّة، مبكّراً، تقريباً عندَ مُنتصف الليل! ولأنّي لم أعتد النومَ مع الدَّجاج فقد كانَ غيابي قصيراً حتّى لفحني الصّباحُ بنورِه فارتعشَتْ عيناي وتفتّحتا في الخامسة. كانَ الفطورُ دسماً هذه المرّة فقد ازدردتُ بيضتين و"عيشاً" (خبزاً) مصريّاً مع كأسٍ من الشّاي الثّقيل وتراوحت ملحقاتُ هذا الصَّبوح بين الجبنةِ واللبنةِ. أسرعتُ إلى بريدي الإلكترونيّ فقد كنتُ مداناً إلى صديقةٍ برسالةٍ طويلةٍ أجترُّ فيها رسائلها الأخيرة وكلَّ ما دارَ فيها، ثمَّ ألقي في كتابي إليها بوحَ القلبِ والعقلِ المنعقدَين بين ثنايا السّطور.
ما يزالُ عندي وقتٌ طويل فحدّثتُ نفسي ودعيتُها إلى مائدة من موائد الأدبِ الرّوائي المصريّ، فعندَ وصولي بلدَ النّيلِ والأهرام تذكّرتُ رواية نجيب محفوظ تلك التي حامت حولها منذ فترة قصيرة أقلامُ النقّادِ والأدباء والصحفيّين "أولادُ حارتِنا". والقصّةُ باختصار هي التّالي: رغبت إحدى دور النّشر بإعادة نشر هذه الرّواية، فاشترطَ الأديبُ المصريُّ موافقةَ الأزهر لأسبابٍ عدّة أهمّها تحريم روايته لأسبابٍ دينيّة لا أرغبُ الدّخول في تفاصيلها. وافقَ الأزهرُ وكتبَ أحد أركانِه مقدّمتها بعدما نشرَ تلك المقدّمة في الصّحافة على أنّها كانت عرضاً لنواة تدور أساساً حول مقابلة أُجريت مع المؤلِّف وفيها أنكرَ كلَّ اعتراضٍ دينيّ وأثبتَ إيمانَه بالتّوحيد وبدين الإسلامِ... ثارت الأقلامُ الحرّة على الأديب المصريِّ وكُتبتْ شتّى المقالات تدين هذا التصرّف، لأنّه قد يكون فاتحةً لتحريم الأدبِ وتحليلِه من قِبلَ السّلطات الدينيّة أيّاً كانت. هذه المناوشات التي حدثت منذ فترة لا بأس بها لفتت نظري، ولضيقِ الوقت تجاوزتُ الرواية ولم أخصّص لها مكاناً في برنامج قرصنتي الثقافيّة... وحالما بلغتُ مصرَ قرّرتُ تأويلها والتحليق في عالمِها بين التحريم والتحليل!!!
تلقّفتُها ذاك الصّباح بشغفٍ وفضولٍ وقرأتُ منها الصّفحات الأولى وكيفَ طردَ الجبلاويُّ ابنَه البكر إدريس ابن الهانم وعيّن أدهمَ ابنَ الجارية مديراً للوقف... ارتفعت الشَّمسُ في كبد السّماء فتركتُ الرّواية وهممتُ في مغادرة المنزل.
وصلتُ مترو الأنفاق وانطلقتُ من محطّة غَمرة باتّجاه حلوان، فمررنا في طريقِنا على تاريخٍ سياسيٍّ حافل بالرؤساء والعظام، بدأنا بأقربِهم حسني مبارك ثمَّ التقينا بأحمد عرابي فجمال عبد الناصر صاحب الوحدة المصريّة السوريّة، وسلّمنا بعدَها على أنور السّادات الذي اغتيلَ في أثناء عرضٍ عسكريّ وهكذا مررنا بسعد زغلول فالسيّدة زينب فالملك الصّالح حتّى وصلنا مار جرجس، فنزلتُ أحثُّ الخطى للخروج إلى منطقة مجمع الأديان في مصر القديمة. هذه المنطقة الزّاخرة بكنائسٍ قديمةٍ تعود إلى ما بين القرنين الرّابع والثّامن.
حالما بلغتُ الشّارعَ طالعتني يميناً كنيسة القدّيسة العذراء والشّهيدة دميانة الملقّبة بـ"المعلّقة"، وإلى يساري ارتفعت كنيسة اليونان الأورثوذكس الدّائريّة، فخطوتُ إلى اليمين راغباً في زيارة الأقباط في بطريركيّتهم القديمة تلك التي عُلّقت فوق برجين من أبراج حصن بابليون القديم، فأخذت تسميتها من واقعها، كما ويتحدّثُ أصحابُها بقصّةٍ طريفة مفادها أنَّ مياه النّيل كانت تبلغ هذه الأطراف فقاموا بمدّ جذوع النّخل فوق جدران المعبدِ الرّومانيّ القديم، وفوق هذه رصفوا الأحجار ليشيّدوا عليها كنيستهم تلك. ولهذا فهي الكنيسة الوحيدة بغير قبّة فأمّا سقفها فهو خشبيّ على شكلِ فلك نوح الذي نجا من الطوفان. وقفتُ أمامها أمتّعُ النّظر بهيبة الباب الخشبيّ المزركش وقد توّجتْه آيةُ المسيح بخطٍّ عربيٍّ كوفيٍّ جميل تقولُ: "سلوا تُعطَوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم". ولجتُ منه أسألُ وأطلبُ وأقرعُ الأبوابَ راجياً أن أُعطى وأجدَ ويُفتحَ لي!
في الفناء تتوسّطُ بضع شجيرات وأشجار وفي صدرِه السلّم الحجريّ الموصل إلى الكنيسة عبر بابٍ آخر تعلوه عبارةٌ ذات مغزى ومعنى تقول: "من أرادَ الغنى فالقناعةُ تكفيه". قرأتُها وابتسمتُ متذكّراً الجدلَ الذي صارَ في الأخويّة قبل مدّة حول القناعة والطّموح وهل يجمعهما شيءٌ أم يفصلُهما التضادُّ!!! عبرتُه فبلغتُ ردهةً تملؤها صورُ بطاركة الأقباط في القرن العشرين وهناك اصطفّت الكتبُ والمنشورات والتذكارات فاجتزتُها ودخلتُ المعبدَ المفعم بعبق البخور واللبان. نظرتُ إلى الشّرقِ فوجدتُ أنَّ الستائرَ تحجبُ قدسَ الأقداسِ وتخفيه عن عيون الزّائرين، وصحنَ الكنيسة عبارةٌ عن ثلاثة أقسامٍ يتربّع في القسمِ الأوسط البيما، أي المنبر، مرتفعاً ثلاثة أمتار، وهو تقليدٌ عريقٌ في القِدم ويمتاز بأعمدته الرّخاميّة البيضاء المعرّقة بألوانٍ مختلفة. طرازُ الكنيسة بازيليكيٌّ وهو أقدم أنواع أبنية الكنائس ويعود إلى القرنِ الثّاني الميلاديّ وهو أيضا أبسط الأنواع إذ يقسم صحنَ البناء إلى ثلاثة أقسام أكبرهما القسم الأوسط ويتساوى فيه الجناحان الجانبيّان اللذان ينفصلان عن الوسط بأعمدة حجريّة تتوّجها زخارف متنوّعة إغريقيّة ورومانيّة وترتفع فوق الأعمدة آيات الزّبور التي تدعوك إلى توبةٍ عميقة. المراوح التي تكسرُ من حدّة الحرارة المرتفعة وتنثرُ أنفاس البخور في الأرجاء، والنوافذ الزجاجيّة الشفّافة التي تتخلّل أرضَ الكنيسةِ وتحدّثك عن قصّة المعلّقة فوق نخيل مصر وأبراج الرّومان هرباً من غضب النّيل وثورته. والنّوافذُ الخشبيّة التي ترتفعُ هنا وهناك فتزهو بجمالِ طرازها وزخرفتها العثمانيّة وريثة التلاقي بين الإسلامِ والغرب! فأمّا المقاعدُ العريضة المعلَّمة بصلبانٍ مربّعة فدليلُ تقليدٍ شرقيّ أثيل.
بعدَ ذلك حملتُ بعضي وغادرتُ أصحابَ البيتِ لألتقي بالغرباء في كنيسة مار جرجس لليونان الأورثوذكس وهؤلاء كانوا يُعدّون من أكبر الجاليات المسيحيّة بعدَ الأقباط. كنيستُهم مميّزة بدائريّتها وأيقونستازِها وكراسيها الممتدّة في باطن دائرتها لتلتفَّ وتحيط بالمصلّين من كلِّ جانبٍ وجهة. خرجتُ على عجلٍ وعرّجتُ على مقبرتهم التي تزيّنها قبور الصّامتين. هذا هو المكان الوحيدُ الذي يتساوى فيه الأغنياء والفقراء، الملوك والخدّام، الأحرار والعبيد. هؤلاء هم الذين يصمتون فلا يجيبون لا مديحاً أو شكراً ولا حتّى تعنيفاً أو رذلاً، هذه هي مدينة الموت الأخيرة!
بعدَ الموتِ والقبور دخلتُ مكاناً فيه بئرٌ عذبة يُقالُ إنَّ العائلة المقدّسة، أي يوسف ومريم ويسوع، شربوا منه عندَ مرورِهم في هذا المكان بعدَ هربهم من بطش هيرودس. ومنه خرجتُ إلى الشّارع واجتزتُ في طريقٍ ضيّقٍ امتلأت جدرانُه بالكتبِ والصّور من مختلف اللغات وفي نهايته كانت بانتظاري كنيسة الشهيدين سرجيس وباخوس المعروفة بأبي سرجه! ويجمعُ التقليد أنَّ هذه الكنيسة مقامة فوق المحلّ الذي أقامت فيه العائلة المقدّسة في مصر.
ومن المسيحيّة إلى اليهوديّة حيث معبد بن عزرا. عندَ الباب لافتةٌ مكتوبٌ عليها "ملك الطائفة اليهوديّة بالقاهرة" ونجمة داود السداسيّة تزيّن الجدار الآخر... أهلاً بك بين يهود مصر!
أخبرتِني تلك السيّدة الجالسة أمام طاولة البيع أنَّ اليهودَ المصريّين يبلغ عددهم أربعاً وستين شخصاً ومعابدهم سبعة عشر. هنا عالَمُ العبريّة والشّعب المختار وجماعات الشّتات. في وسط الكنيست يرتفع منبرٌ يعلوه مدرج من الكتب المقدّسة ملفوفٌ على شكلِ الكتبِ القديمة... واللغة العبريّة تعجّ في المكان، ونافذة الزّجاج الملوّن ترتفعُ في أعلى الحائط الشرقيّ يميّز النّاظرُ إليها أربعة حروف عبريّة: الياء والهاء والواو والهاء مشكّلةً كلمة "يهوه" التي تعودُ إلى المضارع من فعل الكون والصّيرورة. عند مقدّمة المنبر ينتصبُ شمعدانٌ برؤوسه السّبعة وهو رمزٌ لذاك الذي كان منصوباً في الهيكل قرب تابوت العهد، فأمّا الرؤوس السّبعة فهي إشارةٌ إلى أيّام الخليقة وكي يبقى النورُ يطرد الظلامَ الذي قد يقعُ على قدس الأقداس حيث التابوت حافظ الوصايا وعصا هارون!
لملمتُ ما تناثرَ منّي وحملتُها في طريق العودة حتّى المنزل...
نلتقي في القريب...
Mors ultima ratio
.
www.tuesillevir.blogspot.com
|