عرض مشاركة واحدة
قديم 07/08/2005   #4
شب و شيخ الشباب imad
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ imad
imad is offline
 
نورنا ب:
Jul 2005
مشاركات:
188

افتراضي


التكملة....

الفصل السابع
المقتضيات والمسؤوليات في أيامنا
كلام الله ومقتضياته الملزمة

80. يحتوي الكتاب المقدّس، بطريقة ظاهرة أو متضمنة، على مجموعة من العناصر تمكّننا من الوصول إلى تصوّر للإنسان والعالم يتميّز بكثافة فلسفية حقيقية. لقد أدرك المسيحيون شيئاً فشيئاً غنى هذه النصوص المقدّسة. وما يتضح من ذلك أن الواقع الذي نختبره ليس بالأمر المطلق: فلا هو غير مخلوق، ولا يتولّد من ذاته. الله وحده مطلق. ثم إن صفحات الكتاب المقدّس ترسم لنا الإنسان مخلوقاً على صورة الله، مع ما تتضمنه هذه الرؤية من عناصر محدّدة تتناول كيانه وحرّيته وخلود روحه. وبما أن العالمَ لا يحظى باكتفاء ذاتي فكل وهم استقلالي يتجاهل العلاقة الجوهرية التي تنيط كل خليقة والإنسان نفسه بالله، يفضي حتماً إلى أوضاع مأساويّة تلغي البحث العقلاني عمّا يميز الوجود البشري من تناغم ومعنى.

معضلة الشرّ الأدبي ـ وهي أتعس أشكال الشر _ يعالجها الكتاب المقدّس أيضاً، مؤكداً أن الشرّ لا ينجم عن نقصٍ في المادّة بل عن جرحٍ في الإنسان مصدره انحراف في استعمال الحريّة البشرية. ونجد في كلام الله أخيراً إيضاحاً لمعنى الوجود وجواباً يوجه الإنسان إلى يسوع المسيح كلمةِ الله المتجسّد، وفيه ملء كمال الوجود البشري. ثمة نواحٍ أخرى يمكن تفسيرها انطلاقاً من قراءة النص المقدّس. وعلى كل، فما ينتج عن ذلك كله إنما هو رفض كل شكل من أشكال النسبويّة والماديّة والحلولية.

القناعة الأساسيّة في هذه الفلسفة المتضمنة في الكتاب المقدّس هو أن الحياة البشرية والعالم لهما معنى وتوجُّهٌ نحو اكتمالهما في يسوع المسيح. وسيبقى سرّ التجسّد دائماً هو المحور الذي يجب أن نتخذه منطلقاً لفهم لغز الوجود البشري والعالم المخلوق والله نفسه. في هذا السرّ لا بدّ للفلسفة من أن تواجه تحديّات قصوى، وذلك بأن العقل مدعوّ إلى أن يعتنق منطقاً يتخطى الحدود التي قد ينحصر ضمنها. ولكن تلك هي الطريقة الوحيدة التي تفضي بنا إلى قمة معنى الوجود. والواقع أن صميم جوهر الله وصميم جوهر الإنسان يصبحان في متناول العقل: ففي سرّ الكلمة المتجسّد تُصان كل من الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، وتبقى كل منهما مع استقلاليتها، وتتجلّى، في الوقت نفسه، الصلة الفريدة في علاقتهما المتبادلة من غير اختلاط ولا تشويش[97].

81. لا بدّ من أن نلحظ أن وجهاً من أبرز وجوه وضعنا الراهن هو «أزمة المعنى». إن وجهات النظر في الحياة والعالم _ وأكثرها ذو طابع علمي _ قد تكاثرت بحيث نشهد تفاقماً في ظاهرة تصدّع المعرفة. وهذا، بالتحديد، ما يعسّر ويجهض البحث عن معنى الحياة. وهناك ما هو أخطر: ففي هذا التشابك في المعطيات والأحداث الذي نعيش فيه والذي يبدو كأنه يكوّن نسيج الوجود، كثيرون يتساءلون: هل هناك بعد من معنىً للتساؤل عن المعنى. إن تعدّد النظريات المتنافسة في الجواب واختلاف النظريات في تفسير الكون وحياة الإنسان يثيران الشك في النفوس ويفضيان إلى الوقوع في الريبية واللامبالاة أو في مختلف أشكال العدمية. وينجم عن هذا كله أن العقل البشري يغشاه من اللَّبس والغموض في نمط تفاسيره ما يدفعه إلى مزيد من التقوقع على ذاته، ضمن حدود داخليّة، بمعزلِ عن كل مرجعيّة عُلْويّة. كل فلسفة لا تتساءل عن معنى الوجود تتعرض لخطر تحجيم العقل وحصره في الوظائف الأداتية بمنأىً عن كل شغفٍ بالبحث عن الحقيقة.

لكي تكون الفلسفة في تناغم مع كلام الله، لا بدّ لها من أن تكتسب، قبل كل شيء، بُعدَها الحكمي، وقدرتها على البحث في الحياة بمعناها الأخير والشامل. هذا المقتضى الأول هو، بعد الفحص والاستقصاء، بمثابة حافز مفيد جداً للفلسفة، لتكون منسجمة مع طبيعتها. بهذه الطريقة لا تكون الفلسفة مجرّد محكمة نقديّة حاسمة تبيّن لمختلف مجالات المعرفة العلمية مرتكزاتها وحدودها، بل تكون أيضاً المرجعيّة الأخيرة لتوحيد العلم والعمل الإنساني وتوجيههما نحو هدف ومعنىً أخيرين. هذا البعد الحكمي هو اليوم في غاية اللزوم لما نلحظه من تفاقم في القدرة التقنية البشريّة يتطلب وعياً متيقظاً ومتجدداً للقيم الأخيرة. فإذا كانت هذه الوسائل التقنية لا تتوخى إلاّ الأغراض المنفعية البحتة، فسرعان ما تظهر بربريتها وتتحوّل إلى طاقة هدامّة للجنس البشري[98].

كلام الله يكشف لنا غاية الإنسان الأخيرة ويضفي على تصرفاته في هذا العالم معنىً شاملاً. ومن ثم فهو يدعو الفلسفة إلى التطوّع للبحث عن هذا المعنى في مرتكزه الطبيعي وهو التوق الديني الذي يكوّن شخصية الإنسان. وكل فلسفة ترفض إمكانية وجود معنىً أخير وشامل، فهي ليست فلسفة نابية وحسب، بل فلسفة ضالة.

82. هذا الدور الحكمي، لا تستطيع أن تضطلع به أي فلسفة ليست هي نفسها علماً حقيقياً وصحيحاً يعالج الواقع في جوانبه الخاصة والنسبية _ سواء أكانت وظيفية أم شكليّة أم منفعيّة _ ولا يتناول حقيقته الكلية والنهائية، أي موضوع المعرفة في صميمه. هذا إذن مقتضىً ثانٍ: وهو أن نتثبَّت من قدرة الإنسان على الوصول إلى معرفة الحقيقة، معرفة تبلغ إلى الحقيقة الموضوعيّة، من منطلق مبدأ المعادلة بين الحقيقة والعقل الذي ارتكز عليه ملافنة الفلسفة المدرسية[99]. هذا المقتضى _ وهو من خصائص الإيمان _ قد ثبَّته صراحة المجمع الفاتيكاني الثاني: «لا يقتصر العقل في عمله على الظاهرات بل يستطيع أن يتعداها إلى الحقائق المعقولة، يدركها إدراكاً ثابتاً ولو اعترضه، في إدراكه، بعض الغموض والضعف، من جراء آثار الخطيئة»[100].

كل فلسفة ممعنة في الظاهرانية أو النسبوية لن تساعد في التعمّق في غنى كلام الله. فالكتاب المقدّس يفترض دائماً أن الإنسان، وإن ثبت عليه النفاق والبهتان، قادر على أن يدرك الحقيقة في صفائها وبساطتها. وإننا نجد في الكتب المقدّسة وبخاصة في العهد الجديد نصوصاً ومقولات ذات طابع أونطولوجي بحت. فالكتّاب الملهمون أرادوا أن يعبّروا عن مقولات حقيقية قادرة على أداء الحقيقة الموضوعية. ولا يمكن القول إن التقليد الكاثوليكي قد حاد عن الصواب عندما فهم بعض النصوص الواردة في كتابات القديس يوحنا والقديس بولس على أنها مقولات في كيان المسيح نفسه. عندما يسعى اللاهوت إلى فهم هذه المقولات وشرحها فهو بحاجة إلى رفد فلسفة لا تنكر على الإنسان إمكان معرفة تتميّز بحقيقتها الموضوعية، وإن كانت قابلة دوماً للاكتمال. وما جئنا على ذكره الآن يصحُّ أيضاً في أحكام الضمير الأدبي التي يفترض الكتاب المقدّس أنها تملك حقيقة موضوعيّة[101].

83. المقتضيان اللذان أتينا على ذكرهما يلحقهما مقتضىً ثالث: ضرورة فلسفة تتَّسم بقيمة ميتافيزيقية حقيقية، بإمكانها أن تتخطى المعطيات الاختبارية للوصول، في سعيها إلى الحقيقة، إلى ما هو مطلق ونهائي وأساسي. ذلك مقتضىً ضمني سواء في المعرفة الروحيّة أم في المعرفة التحليلية. وهو، خصوصاً، من مزايا معرفة الخير الأدبي الذي مرتكزه هو الخير الأسمى أي الله نفسه. ليس بوديّ أن أتحدّث هنا عن الميتافيزيقية من حيث هي مدرسة محدّدة أو تيار تاريخي خاص. أودّ فقط أن أصرّح أن الواقع والحقيقة يتخطيان الأمور الحدثانية والاختبارية، وأتمنّى أن أثبِّت قدرة الإنسان على معرفة هذا البعد العلوي والميتافيزيقي معرفة صحيحة وثابتة، وإن ناقصة وعلى سبيل القياس. ويجب، في هذا الصدد، ألاّ نحسب الميتافيزيقية بديلاً من الانتروبولوجية، لأن الميتافيزيقية هي التي تتيح إرساء مفهوم كرامة الإنسان انطلاقاً من طبيعته الروحية. ولا شك أن الإنسان هو المخوّل، في الطليعة وبطريقة خاصة، أن يدرك ماهية الكيان وينصرف من ثم إلى الفكر الميتافيزيقي.

حيثما يوجس الإنسان نداءً إلى المطلق والعلوي، يتراءى له الوجود في بعده الميتافيزيقي: أي في الحقيقة والجمال والقيم الأخلاقيّة وفي شخص الغير، في الكيان نفسه وفي الله. ثمة تحدٍّ كبير نواجهه اليوم في نهاية هذا الألف، وهو القدرة على الانتقال _ وهو أمر ضروري وملح _ من الظاهر إلى الأساس. ليس بالإمكان أن نتوقف على الاختبار وحسب، حتى عندما يعبّر هذا الاختبار ويكشف عن باطن الإنسان وروحيّته؛ لا بدّ للعقل المفكر من أن يبلغ الجوهر الروحاني والأساسي الذي يرسو عليه. الفكر الفلسفي الذي يرفض كل انفتاح ميتافيزيقي ليس مؤهلاً البتة لأن يضطلع بمهمة الوساطة في فهم الوحي.

كلام الله في علاقة دائمة مع ما يتخطّى الاختبار وحتى الفكر البشري نفسه. ولكن هذا «السرّ» لا يمكن أن يُكشف ولا اللاهوت بإمكانه أن يخوّلنا بعض فهمه[102]، إذا اقتصرت المعرفة البشريّة قطعاً على عالم الاختبار الحسّي. البحث الميتافيزيقي يظهر إذن بمثابة وساطة مميّزة في البحث اللاهوتي. كل لاهوت خالٍ من النظرة الميتافيزيقية لا يمكنه أن يذهب إلى أبعد من تحليل الاختبار الديني، ولا يتيح التعبير، بطريقة منطقية، عن الحقيقة الموحاة وما تتميّز به من قيمة شاملة وعلوّية.

إذا كنتُ أُلح على العنصر الميتافيزيقي فلأني مقتنع من أنه هو الوسيلة الضرورية للتغلّب على حالة التأزم التي تمتّد اليوم إلى قطاعات واسعة في الفلسفة ولتصحيح بعض التصرفات الشائعة في مجتمعنا.

84. أهميّة المعالجة الميتافيزيقية تزداد وضوحاً إذا اعتبرنا ما وصلت إليه العلوم التفسيريّة والبحوث اللغويّة في أيامنا. نتائج هذه الدراسات يمكن أن تفيد كثيراً في فهم الإيمان، وذلك بمقدار ما تساعدنا في استجلاء تركيبتنا الفكريّة وتعابيرنا اللغوية وكذلك المعاني التي تتناقلها اللغة؛ إلاّ أن هناك من المختصين بهذه العلوم من ينـزعون، في أبحاثهم، إلى الاكتفاء بالطريقة التي تُفهَم فيها الحقيقة وتُقال، ويتحاشون التحقيق في الطاقات التي يملكها العقل لاكتشاف ماهيتها. كيف لا نرى في مثل هذا الموقف الدليل على أزمة الثقة التي يجتازها عصرنا تجاه الطاقات التي ينعم بها العقل؟ وعندما تنـزع هذه الطروحات، بسبب المسلّمات المسبقة، إلى تعكير محتوى الإيمان أو إلى نفي صحته الشاملة فهي لا تخفض من قيمة العقل وحسب بل تضع ذاتها هي أيضاً خارج اللعبة. والواقع أن الإيمان يفترض جلياً أن اللغة البشرية بوسعها أن تعبّر عن الحقيقة الإلهية والعلويّة[103] بتعابير تشبيهية ولكنها لا تقلّ بلاغة عن غيرها. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كان بوسع كلام الله _ وهو دائماً كلام إلهي بلغة بشريّة _ أن يقول شيئاً عن الله. تفسير هذا الكلام لا يمكن أن يتنقل بنا فقط من تفسير إلى آخر من غير أن يتيح لنا الوصول إلى مقولة حقيقية في بساطتها؛ وإلاّ لم يكن ثمة من وحي إلهي، بل مجرّد تعبير عن مفاهيم بشريّة في شأنه تعالى أو ما نفترض أنه يفكّر في شأننا.

85. إني أعلم حق العلم أن هذه المقتضيات التي يفرضها كلام الله على الفلسفة قد تبدو صارمة في نظر الكثيرين ممن يعيشون الوضع الراهن في سياق البحث الفلسفي. وهذا بالضبط ما يحدوني إلى أن أتبنى ما لا يزال يردّده الأحبار العظام في تعليمهم منذ أجيال وأجيال وما كرّره المجمع الفاتيكاني الثاني، معبّراً بشدّة عن الاقتناع من أن الإنسان قادر على الوصول إلى تصوّر للمعرفة موحّد وعضوي. وهذه مهمة يجب على الفكر المسيحي أن يضطلع بها على مدى الألف المقبل من التاريخ المسيحي. تفتُّت المعرفة يحول دون ما يجب أن يكون عليه الإنسان المعاصر من وحدة باطنية، لأن هذا التفتُّت يجرّ عليه إلماماً بالحقيقة مصدّعاً، ومن ثم تصدّعاً في اكتناه المعنى. كيف تطيق الكنيسة ألاّ تهتمّ لهذا الخطر؟ هذه المهمة المنوطة بالرعاة على الصعيد الحكمي تنبع تواً من الإنجيل ولا يسعهم أن يستعفوا من واجب القيام بها.

أرى أن الذين يودون الاستجابة فلسفياً للمقتضيات التي يفرضها كلام الله على الفكر البشري، عليهم أن يبنوا خطابهم مرتكزاً على هذه المسلّمات ويضعوا ذواتهم في خطّ متماسك ومنسجم مع التقليد الكبير الذي ابتدأه القدامى وتابعه آباء الكنيسة ومعلّمو الفلسفة المدرسيّة واندمج أخيراً في المكاسب الجوهرية التي أحرزها الفكر الحديث والمعاصر. إذا عرف الفيلسوف كيف يغرف من هذا التقليد ويستلهمه، فلن يخلو من أن يكون وفياً لمقتضى استقلالية الفكر الفلسفي.

من اللافت، في هذا الصدد، وفي القرائن الراهنة، أن يقوم بعض الفلاسفة رواداً يعملون على إعادة اكتشاف التقليد ودوره الحاسم في الوصول إلى صيغة معتدلة في المعرفة. والواقع أن الركون إلى التقليد ليس مجرَّد تذكير بالماضي، بل هو الإقرار بقيمة تراث ثقافي هو ملك البشرية كلها. ويمكن القـول أيضاً إننا نحن المعنيّون بالتقليد وأنه لا يسوغ لنا أن نتلاعب به كما نشاء. ارتدادنا إلى جذور التقليد هو الذي يتيح لنا التعبير عن فكر مبتكر وجديد وشاخص إلى المستقبل. مثل هذا التذكير يصح أكثر في اللاهوت، ليس فقط لأن اللاهوت يعتمد التقليد الكنسي الحيّ ويغرف من معينه الأصلي[104]، بل لأنه يتوجب عليه، بسبب ذلك، أن يكون قادراً على اكتشاف التقليد اللاهوتي العميق الذي واكب الحقب السابقة وكذلك التقليد الفلسفي الثابت الذي استطاع، في حكمته الخالصة، أن يتخطى حدود الزمان والمكان.

86. الإلحاح على ضرورة علاقة تواصل وثيقة بين الفكر الفلسفي المعاصر والفكر الذي أفرزه التقليد المسيحي، يهدف إلى اتقاء الأخطار التي تلازم بعض أنماط من الفكر المنتشرة اليوم بطريقة لافتة. يبدو لي من المفيد أن أتوقف، ولو بإيجاز، عند بعض هذه النـزعات للتنبيه إلى الأضاليل والأخطار التي تهدّد النشاط الفلسفي.

أولى هذه النـزعات هي ما يُسمى بالانتقائية، وتشير إلى موقف من دأبوا في البحث والتعليم والنقاش وحتى في الجدل اللاهوتي، على أن يتبنّوا شتاتاً من الأفكار المتخذة من فلسفات مختلفة بدون التنبه لمنطقيتها وتماسكها ولا لانتسابها إلى مذهب معيّن ولا إلى قرائنها التاريخيّةِ؛ وهكذا يضعون أنفسهم في أوضاع لا تمكنّهم من أن يميّزوا ما في الفكر من حقيقة أو من ضلال أو انحراف. هناك أيضاً شكل آخر من الانتقائية ينقاد إليه بعض اللاهوتيين في استعمال المفردات الفلسفية بطريقة بلاغية مسرفة. هذا الضرب من الاستغلال لا يساعد في البحث عن الحقيقة ولا يُعِدّ العقل - اللاهوتي أو الفلسفي _ للتدليل بطريقة جدّية وعلمية. الاطلاع الدقيق والعميق على النظريات الفلسفية ولغتها الخاصة والقرآئن التي تكوّنت فيها يساعد في التغلّب على أخطار الانتقائية ويمكّن من إدراجها، بطريقة مناسبة، في البرهان اللاهوتي.

87. الانتقائية خطأ في الأسلوب ولكنه قد ينطوي على طروحات التاريخانية. فلكي نفهم جيداً نظرية سالفة، لا بدّ من أن نضعها في سياقها التاريخي والثقافي. الطرح الأساسي، في نظر التاريخانية، هو العمل، بالعكس، على إثبات حقيقة فلسفية انطلاقاً من انطباقها على حقبة معيّنة أو مهمة معيّنة في التاريخ. هكذا تنتفي، ولو ضمنياً، استمراريّة الحقيقة. تؤكد التاريخانية ان ما كان حقاً في زمن ما يمكن ألاّ يكون حقاً في زمن آخر. وخلاصة القول أن التاريخانية تحسب تاريخ الفكر لا أكثر من أطلال أرخيولوجية يُستعان بها لعرض مواقف من الماضي قد انتهى معظم أمرها، ولم يعد لها أي أثر في الحاضر. علينا، بالعكس، أن نحسب أن الحقيقة أو الضلال، وإن كان التعبير عنهما مرتبطاً بحقبة ما أو بثقافة ما، يجب، في كل حال، أن نتحققهما ونتفحصهما في حد ذاتهما، بالرغم من المسافة المكانية والزمانية.

في الفكر اللاهوتي، تسعى التاريخانية إلى أن تظهر، على أبعد حدّ، بمظهر «العصرانية». وبسبب اهتمامها - عن حق _ بأن تجعل الخطاب اللاهوتي عصرياً وفي متناول أهل زماننا، فهي لا تعوّل إلاّ على المقولات واللغة الفلسفية الأكثر حداثة، وتتغاضى عن الاعتراضات والانتقادات التي كان لا بدّ من إثارتها، عند اقتضاء الحاجة، في ضؤ التقليد. هذا الشكل من أشكال العصرانية، بسبب خلطها بين الحداثة والحقيقة، تبدو لنا عاجزة عن تلبية مقتضيات الحقيقة التي يقع على عاتق اللاهوت أن يلبّيها.

88. العلوميَّةخطر آخر لا بدّ من التنبّه له. هذه النظرية الفلسفيّة تأبى الاعتراف بأنماط من المعرفة غير الأنماط المعتمدة في العلوم الوضعية، وتعتبر ضرباً بحتاً من ضروب الخيال المعرفة الدينيّة واللاهوتيّة وكذلك العلم الأخلاقي والجمالي. وكانت هذه النظريّة، من قبل، تعتمد الوضعية والوضعية الحديثة أداة للتعبير عن آرائها، وكلاهما يرى أن المقولات الميتافيزيقية عارية من كل معنى. لقد ندّد النقد العلومي بهذا الموقف ولكن سرعان ما ظهر ثانية بملامح العلوميَّة الجديدة. في هذا المنظار، تمسي القيم مجرّد انفعالات شعوريّة وينتفي مفهوم الكيان ليحلّ محلّه الواقع البحت. يتحفّز العلم إذن للسيطرة على جميع قطاعات الوجود البشري، بواسطة التقدّم التقني. ولا شك أن ما أحرزته الأبحاث العلميّة والتقنيّة المعاصرة من نجاح لا جدل عليه، قد يساهم في تعميم الذهنيّة العلوميَّة التي لم يعد لها من حدود نظراً إلى الطريقة التي تسرّبت فيها إلى مختلف الثقافات ونظراً إلى التحوّلات الجذريّة التي أحدثتها.

لا بدّ من أن نلحظ - مع الأسف - أن العلوميَّة ترى كل ما له صلة بالسؤال عن معنى الحيـاة داخلاً في نطاق اللامعقول أو الخيال. في هذا التيار الفكري لسنا بأقلّ شعوراً بالخيبة تجاه طريقتها في مقاربة المعضلات الفلسفية الكبرى. فهي، إذا لم تتجاهلها، تعالجها بأساليب من التحليل الفكري ترتكز على أقيسة سطحية خالية من كل أساس عقلاني. وفي هذا ما يفقّر الفكر البشري ويحرمه القدرة على معالجة المعضلات الأساسيّة التي طرحها الإنسان على ذاته منذ مطلع وجوده على الأرض. في هذه الرؤية أفلحت العلوميَّة، بعدما أقصت النقد المتعلّق بالتقييم الأخلاقي، في إقناع الكثيرين من الفكرة القائلة بأن كل ما يمكن أن يتحقق تقنياً يصبح، بالفعل ذاته، مقبولاً على الصعيد الأدبي.

89. الذرائعية أو (البرغماتية) لا تقل خطراً عن العلوميَّة؛ وهي الحالة الذهنية التي يعتنقها الذين، في خياراتهم، يستبعدون الاحتكام إلى الفكر النظرياتي أو إلى التقييمات المرتكزة على مبادىء أخلاقية. هذا النمط الفكري نتائجه العلمية جسيمة ولافتة. وينتهي أتباع هذه الفلسفة، بوجه خاص، إلى الدفاع عن طريقة في ممارسة الديمقراطية لا تحفل بالاحتكام إلى مبادىء أخلاقية ثابتة: وهكذا يمسي صوت الأكثرية البرلمانية هو مقياس الحكم في المقبول أو المرفوض في التصرف البشري[105]. نتيجة هذه النظرية تظهر بوضوح: القرارات الأخلاقية الكبرى المتعلقة بالإنسان باتت تخضع للمداولات التي تتخذها، شيئاً فشيئاً، الأجهزة المؤسساتية. وينضاف إلى ذلك أن هذه الانتروبولوجية نفسها أمست خاضعة خضوعاً ذريعاً لنظرية منحازة في شأن الكائن البشري، فيها استبعاد للمعضلات الأخلاقية الكبرى والتحليلات الوجودية في معنى العذاب والتضحية، ومعنى الحياة والموت.

90. القضايا التي استعرضناها حتى الآن تفضي، بدورها، إلى نظرية أعمّ تبدو اليوم بمثابة النقطة المشتركة بين فلسفات كثيرة قد أقلعت عن النظر في معنى الكيان. إِني أفكّر هنا في النظرية العدميّة وهي، في آن واحد، رفض كل أساس وإنكار كل حقيقة موضوعية. العدمية، قبل أن تعارض مقتضيات كلام الله ومحتواه، هي إنكار إنسانية الإنسان وهويته. لا يسعنا أن ننسى أننا، عندما نهمل قضية الكيان، ننجرُّ حتماً إلى قطع كل صلة بالحقيقة الموضوعية، وبالتالي، بالمرتكز الذي ترسو عليه كرامة الإنسان. وهكذا ينفسح المجال لأن تمّحي من وجه الإنسان الملامح التي تجعله شبيهاً بالله فيندفع شيئاً فشيئاً في طريق التسلّط الهدام أو في طريق العزلة اليائسة. كل مرّة تُسحب الحقيقة من الإنسان، يمسي من باب التوهم أن نعيد إليه الحريّة. ولا غرو، فالحقيقة والحريّة إمَّا يسيران معاً وإمَّا يتلفان معاً وبئس المصير[106].

91. لم يكن في نيتي، وأنا أعلّق على التيارات الفكرية التي أتيت على ذكرها، أن أرسم صورة كاملة عن وضع الفلسفة في حالتها الراهنة: وعلى كلٍ، فإنه من الصعب أن نحصرها في لوحة موحّدة. وأود أن أؤكد أن تراث العلم والحكمة قد ازداد غنى في مجالات كثيرة. وحسبنا أن نذكر المنطق وفلسفة اللغة والمعرفتية وفلسفة الطبيعة وعلم الإنسان والتعمق في تحليل الأساليب الوجدانيّة في المعرفة، والمحاولة الوجوديّة في تحليل الحريّة. ويتضح لنا، من جهة أخرى، أن تأكيد مبدأ المثولية _ وهو مركزي في ادّعاء العقلانيّة _ قد أثار منذ القرن الفائت ردوداً أدّت إلى إعادة نظر جذرية في المسلّمات المحسوبة منيعة على كل جدل. هكذا ظهرت تيارات لا عقلانية في حين أخذ النقد يؤكد بوضوح بطلان المبدإ القائل باستقلالية العقل المطلقة.

هناك مفكرون أطلقوا على عصرنا صفة «ما بعد الحداثة ». هذه التسمية المتواترة الاستعمال في قرائن مختلفة جداً بعضها عن بعض تشير إلى ظهور عوامل جديدة استطاعت، بامتدادها وفاعليتها، أن تحدث تحوّلات لافتة ودائمة. هذا النعت استُعمل أولاً للتعبير عن ظاهرات جماليّة أو اجتماعيّة او تقنولوجية؛ ثم انتقل إلى ميدان الفلسفة ولكنه ظل على شيء من الغموض، لأن الحكم على ما نصفه بما «بعد الحداثة» يكون مرة إيجابياً ومرة سلبياً، ثم لأن ليس ثمة إجماع على المعضلة الدقيقة المتعلقة بتحديد مختلف حقب التاريخ. ولكن ليس من شك في أن التيَّارات الفكرية المنتسبة إلى حقبة «ما بعد الحداثة» جديرة بأن نهتم لها اهتماماً متنبهاً. في نظر بعض هذه التيارات أن وقت اليقينيات قد ولّى بلا رجعة، وأن على الإنسان، من الآن فصاعداً، أن يتعوّد العيش في جوّ انتفاء كل معنى، وتحت مظلة الوقتي والزائل. وهناك من الكُتَّاب _ وهم كثر _ من ينكرون أيضاً يقينيات الإيمان، في نقدهم الهدام لكل يقين، وفي جهلهم التمييزات التي لا بدّ منها.

هذه العدمية تجد لها بعض ما يثبتها في خبرة الشر الفظيعة التي وسمت عصرنا. في مواجهة هذه الخبرة الفاجعة لم تتمكن التفاؤلية العقلانية من الصمود، بعدما توسمَّت في التاريخ مسيرة العقل الظافرة، وفي العقل ينبوع السعادة والحريّة. وقد نتج عن ذلك أن أخطر ما يهدّد الإنسان في نهاية القرن هو تجربة الانسياق إلى اليأس.

وإنما يبقى صحيحاً أن شيئاً من الذهنية الوضعية لا يزال يروّج للوهم القائل بأن الإنسان، بفضل مكاسبه العلمية والتقنية، وبصفته كائناً خلاقاً، يستطيع وحده أن يجعل ذاته سيداً مطلقاً يسيطر على مصيره.

مهامّ الفلسفة في أيامنا

92. في مختلف حقب التاريخ، وجد اللاهوت، بصفته قيّماً على فهم الوحي، ما يدفعه دائماً إلى الاستفادة من العناصر المبثوثة في مختلف الثقافات ليُدخِل فيها، بواسطته، محتوى الإيمان طبقاً لأسلوب عقلاني متماسك. واليوم أيضاً يتحمل اللاهوت مهمة مزدوجة. فمن جهة، عليه أن يضطلع بالرسالة التي وكلها إليه المجمع الفاتيكاني الثاني يوم ذاك: وهي تجديد الأساليب في سبيل خدمة أفعل لهدف البشارة. كيـف لا نذكر، في هذا الصدد، الكلمات التي نطق بها الحبر الأعظم يوحنا الثالث والعشرون، عند افتتاح المجمع؟ قال يومها: «لا بدّ لهذه العقيدة من أن تلبّي الترّقب الشديد الكامن في نفوس الذين يحبّون الديانة المسيحية الكاثوليكية والرسولية فتتوسع معرفتها وتتعمق وتساهم في إخصاب الأذهان وتنشئتها. ولا بدّ من أن نسعى إلى التمعن في هذه العقيدة الأكيدة والثابتة والمفروض أن نتقيد بها تقيداً مخلصاً، وعلينا عرضها بالطريقة التي يستسيغها أهل زماننا»[107]. وعلى اللاهوت، من جهة أخرى، أن يشخص بنظره إلى الحقيقة الأخيرة التي وكلها إليه الوحي، ولا يكتفي بالتوقف على الحقائق المرحلية. ويحسن باللاهوتي أن يتذكر أن عمله يلبي «الدينامية الماثلة في الإيمان نفسه»، وأن موضوع بحثه إنما هو «الحقيقة والله الحي وقصده الخلاصي الذي كشفه يسوع المسيح»[108]. هذا الواجب الذي يقع أولاً على اللاهوت يتناول الفلسفة أيضاً. إن مجموع المشكلات التي تفرض ذاتها اليوم يتطلب عملاً مشتركاً، وإن بأساليب مختلفة، حتى يعود الناس إلى الاعتراف بالحقيقة والتعبير عنها. الحقيقة _ وهي المسيح _ تفرض ذاتها سلطة شاملة تسوس وتحفز وتنمي (را أف 4، 15) اللاهوت والفلسفة على السواء.

الاعتقاد بأن الإنسان بوسعه أن يدرك حقيقة يعترف بها الجميع ليس مصدر تشدّد وتعصب، بل هو بالعكس شرط ضروري لكل حوار بين الأشخاص مخلصٍ وسليم. بهذا الشرط وحده يصبح بالإمكان التغلب على الانقسامات والسير معاً في الطريق المؤديّة إلى الحقيقة الكاملة، واتباع الدروب التي لا يعرفها إلاّ روح الرب الناهض من بين الأمـوات[109]. بالنسـبة إلى مهامّ اللاهوت في أيامنا، أودّ الآن أن أبيّن كيف تبدو عملياً ضرورة الوحدة في عصرنا.

93. الهدف الرئيس الذي يتوخاه اللاهوت هو العمل على فهم الوحي ومضمون الإيمان. إلاّ أن المحور الحقيقي لكل فكر لاهوتي إنما هو تأمل سرّ الله واحداً وثالوثاً. ولا نستطيع أن نبلغ هذا الهدف إلاّ بإِعمال الفكر في سرّ تجسد ابن الله الذي صار إنساناً وارتضى أن يتألم ويموت؛ وقد انتهى هذا السرّ في قيامته المجيدة وصعوده وجلوسه إلى يمين الآب، وإرساله روح الحق ليقيم كنيسته ويحييها. من هذا الملحظ يتضح أن أولى مهمات اللاهوت هي أن يفهم كيف أخلى الله ذاته، وهو للعقل البشري سرّ عظيم حقاّ لأن العقل البشري يستحيل عليه أن يسلّم بأن العذاب والموت يستطيعان أن يعبرّا عن الحب الذي يبذل ذاته من غير أن يتوقع في مقابل ذلك شيئاً. من هذا الملحظ، أولى المقتضيات وألحُّها هو العمل على تفسير النصوص تفسيراً دقيقاً: النصوص الكتابية أولاً ثم النصوص التي تعكس التقليد الحيّ في الكنيسة. في هذا الصدد، تُطرح اليوم أسئلة مستحدثة جزئياً، وليس لها حلٌّ شافٍ بدون رفد الفلسفة.

94. أول عنصرٍ مشكلٍ يتناول العلاقة بين المفهوم والحقيقة. المصادر التي يفسّرها اللاهوتي، على غرار كل نصّ آخر، تنقل إلينا أوّلاً «مفهوماً»، لا بدّ من إدراكه وعرضه. والواقع أن هذا المفهوم إنما هو الحقيقة في شأن الله، ينقلها إلينا الله نفسه من خلال النصّ المقدّس. هكذا، في لغة البشر، تتجسد لغة الله الذي ينقل إلينا حقيقته «بتنازل عجيب» ينسجم مع منطق التجسّد[110]. لا بدّ إذن للاهوت، عندما يفسّر مصادر الوحي، أن يتساءل ما هي الحقيقة العميقة والصحيحة التي تبغي النصوص أن تنقلها إلينا، مع اعتبار[111] الحدود اللغوية.

في شأن النصوص الكتابية، وبخاصة الأناجيل، لا تنحصر، ولا شك، حقيقتها في رواية مجرّد أحداث تاريخية أو في سرد وقائع حياديّة، كما ترى الفلسفة الوضعية التاريخانية. هذه النصوص تسرد، بالعكس، أحداثاً تتخطى حقيقتُها الواقع التاريخي الصرف. هذه الحقيقة تكمن في مفهوم هذه الأحداث ضمن تاريخ الخلاص ولأجل تاريخ الخلاص. هذه الحقيقة تلقى تفسيرها الكامل في القراءة التي تتابعها الكنيسة عبر الأجيال، محتفظة بمعناها الأصيل بمنأى عن كل تحريف. من الملحّ إذن أن نتساءل من الناحية الفلسفية أيضاً عن العلاقة القائمة بين الشيء ومعناه، وعليها يرتكز معنى التاريخ في طابعه المميّز.

95. كلام الله لا يتوجه إلى شعب معيّن ولا إلى حقبة معيّنة؛ كذلك المقولات العقائدية، مع ارتباطها أحياناً بثقافة الحقبة التي نشأت فيها، تعبّر عن حقيقة ثابتة ونهائية. لا بدّ، من ثم، أن نتساءل كيف يمكن التوفيق بين مطلقية الحقيقة وشموليتها والظرفيّة الحتميّة التي تتسم بها تعابيرها التاريخية والثقافية. طروحات التاريخانية يتعذر إذن الدفاع عنها، كما أشرت إلى ذلك آنفاً، بينما الاستعانة بأسلوب تفسيري منفتح على مقتضيات الميتافيزيقية بإمكانها أن تبيّن لنا كيف يتحقق العبور إلى الحقيقة من خلال الظروف التاريخيّة والظرفيّة التي وُضعت فيها هذه النصوص، علماً بأن هذه الحقيقة تتخطى هذه القرائن.

بوسع الإنسان أن يعبّر عن حقائق تتخطى الواقع اللغوي، عن طريق لغة تاريخيّة محدودة الإطار. فالحقيقة لا يمكن أن تنحصر البتة في حيّز زمني أو ثقافي. إنها تُعرف في التاريخ ولكنها تتجاوز التاريخ نفسه.

96. هذه الفكرة تمكنّنا من استشفاف حلٍّ لمعضلة أخرى وهي معضلة اللغة التجريديّة المستعملة في التحاديد المجمعيّة، ومدى ديمومتها. لقد سبق لسلفي الجليل البابا بيوس الثاني عشر أن عالج هذه المسألة في رسالته الجامعة «الجنس البشري»[112].

النظر في هذه المسألة ليس بالأمر السهل، لأنه لا بدّ من أن نقيم وزناً جدّياً للمعنى الذي تكتسبه هذه المفردات في مختلف الثقافات والأزمنة. وعلى كلٍ يتضح لنا من تاريخ الفكر، عبر تطوّر الثقافات وتنوّعها، أن بعض المفاهيم الأساسيّة تحتفظ بقيمتها الظرفيّة الشاملة، وبالتالي بحقيقة القضايا التي تعبّر عنها[113]. ولو لم يكن الأمر على هذا النحو لم يبقَ مجال للتفاهم بين الفلسفة والعلوم، وأمست الفلسفة والعلوم عاجزة عن الاندماج في ثقافات غير التي نشأت فيها وتبلورت. المشكلة التفسيرية قائمة إذن ولكنها غير مستعصية. ثمة مفاهيم كثيرة ذات قيمة واقعية، وإن كانت مشوبة، أحياناً كثيرة، بمضامين ضعيفة. التنظير الفلسفي قد يعود علينا بفائدة كبيرة في هذا المجال، ونتمنى عليه أن يلتزم التعمق خصوصاً في درس العلاقة بين اللغة المجرّدة والحقيقة وأن يقترح علينا طرقاً ناجعة في فهم هذه العلاقة فهماً صحيحاً.

97. لئن كان تفسير المصادر وظيفة مهمّة من وظائف اللاهوت، فإن فهم الحقيقة الموحاة، أو صياغة مفهومية الإيمان، إنما هما، بعد ذلك، من أدق المهمات وأشدها تطلباً. مفهومية الإيمان تفترض، كما قلنا سابقاً، رفد فلسفة تتيح للاهوت العقائدي قبل كل شيء أن يضطلع بمهمته على أكمل وجه. البراغماتية العقائدية التي انتشرت في مطلع هذا القرن، والتي تحسب حقائق الإيمان مجرد قواعد مسلكيّة، قد فُنِّدت واستُبعدت[114]؛ ومع ذلك تبقى هناك نزعة إلى فهم هذه الحقائق من ناحيتها الوظيفية البحتة. فإذا كانت تلك هي الحال، فنحن بإزاء مسعىً مخفقٍ وخالٍ من قوة التجريد. فإذا انتهجت الكريستولوجية طريقها «من أسفل» كما يُقال اليوم، أو إذا صيغت الإكليزويولوجية على نموذج المجتمعات المدنية وحسب، فمثل هذه المحاولات لا يخلو من هذا النمط من التخفيض.

إذا اقتضت مفهوميّة الإيمان أن تستوعب كل ثروة التقليد اللاهوتي عليها أن تستعين بالفلسفة الأنطولوجية. هذه الفلسفة يجب أن تتمكن من إعادة النظر في معضلة الكيان، تبعاً لمقتضيات التقليد الفلسفي بأجمعه وروافده، ومن ضمنه التقليد الحديث، مع محاشاة الوقوع في رتابة التصورات العقيمة البائدة. فلسفة الكيان، في إطار التقليد الميتافيزيقي المسيحي، هي فلسفة ديتاميّة تنظر إلى الواقع في بنياته الأنطولوجية والسببية والعلاقية، وإنها لتجد قوتها وديمومتها في ارتكازها على فعل الكون نفسه الذي يتيح انفتاحاً كاملاً وشاملاً على الواقع برمّته وتخطياً لكل الحدود حتى الوصول إلى ذاك الذي يسوق كل شيء، إلى كماله[115]. هذا التوجه في اللاهوت الذي يستمد مبادئه من الوحي من حيث هو مصدر جديد من مصادر المعرفة، يتثبت بقوة العلاقة الوثيقة التي تربط الإيمان بالمعقولية الميتافيزيقية.

98. ثمة اعتبارات تضاهي ما أتينا على ذكره ويمكن تطبيقها أيضاً على اللاهوت الأدبي. من الملح أن نلوذ أيضاً بالفلسفة في مجال مفهومية الإيمان المتصلة بتصرفات المؤمنين. في مواجهة التحديات المعاصرة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية، نرى الضمير المناقبي في مهبّ الريح. في رسالتي الجامعة «تألق الحقيقة»، نبّهتُ إلى أن كثيراً من المعضلات المطروحة في عالم اليوم سببها «أزمة في شأن الحقيقة [. . .] فإذا انتفى الاعتراف بحقيقة شاملة بالنسبة إلى الخير المعروف بواسطة العقل البشري، ففكرة الضمير تتغيّر هي أيضاً بطريقة حتميّة: فالضمير لا يعود مفهوماً في حقيقته الأصيلة، أي في صفته فعلاً من أفعال العقل البشري الذي عليه أن يطبّق ما لديه من معرفة شاملة للخير على وضع معيّن، ويعبّر هكذا عن حكمه في ما يجب أن يختاره من تصرف سليم في حالة محدّدة في الزمان والمكان. هناك نزعة إلى أن يُسنَد إلى الضمير الفردي امتياز البتِ في ضوابط الخير والشر بطريقة مستقلة والعمل بهذا المبدأ. هذه الرؤية ليست سوى ضرب من ضروب المناقبية الفردانية التي ترى كل إنسانٍ في مواجهة مع حقيقته المختلفة عن حقيقة الآخرين»[116].

على مدى الرسالة كلها، بيَّنتُ بوضوح دور الحقيقة الأساسي في المجال الأخلاقي. هذه الحقيقة تطالب اللاهوت الأدبي، في ما يتعلّق بمعظم المعضلات الأخلاقيّة الملِحّة، بأن يُعمِل الفكر ملياً ويبيّن بوضوح أن اللاهوت الأدبي يمتدُّ بجذوره إلى كلام الله. لكي يتمكّن اللاهوت الأدبي من الاضطلاع بهذه الرسالة عليه أن يستعين بالمناقبية الفلسفية التي تتناول حقيقة الخير، لا المناقبية الذاتية ولا المنفعية. المناقبية التي نحن في انتظارها تقتضي وتفترض أنتروبولوجية فلسفية وميتافيزيقية الخير. فإذا ارتكز اللاهوت الأدبي على هذه الرؤية الموحِّدة المرتبطة حتماً بالقداسة المسيحية وممارسة الفضائل البشرية والفائقة الطبيعة، أصبح بإمكانه أن يعالج، بطريقة مناسبة وفاعلة، مختلف المعضلات المرتبطة بصلاحيته، كمعضلة السلام والعدالة الاجتماعية والأسرة والدفاع عن الحياة والبيئة الطبيعية.

99. العمل اللاهوتي في الكنيسة هو أولاً في خدمة بشارة الإيمان والتعليم الديني[117]. وتدعو البشارة أو الكرازة إلى التوبة، مقترحة حقيقة المسيح التي تبلغ ذروتها في سرّه الفصحي: فليس بالإمكان أن نعرف ملء الحقيقة المخلّصة إلاّ في المسيح (را رسل 4، 12؛ 1 طيم 2، 4-6).

في هذه القرائن، نفهم جيداً لماذا يهمنا أن نذكر التعليم الديني إلى جانب اللاهوت: فالتعليم الديني له لواحق فلسفية يحسن أن نتمعنها في ضؤ الإيمان. إن ما يحصِّله الإنسان في التعليم الديني يؤثّر في تنشئته. فالتعليم الديني الذي هو أيضاً أسلوب من أساليب الاتصال اللغوي، يجب أن يعرِّف بالعقيدة الكنسية في جميع جوانبها[118]، ويُظهر ما لها من علاقات بحياة المؤمنين[119]. وهكذا نتوصل إلى أن نجمع، بطريقة مميّزة، بين التعليم والحياة، وهذا يتعذّر تحقيقه إلاّ بهذه الطريقة. والواقع أن ما ينقله التعليم الديني ليس مجموعة من الحقائق المجرّدة بل هو سرّ الله الحيّ[120].

بوسع الفكر الفلسفي أن يساعد كثيراً في توضيح العلاقات بين الحقيقة والحياة، بين الحدث والحقيقة العقائدية، وخصوصاً بين الحقيقة العُلويّة واللغة المفهومة بشرياً[121]. طرق التقابس بين المباحث اللاهوتية والنتائج التي أفرزتها التيارات الفلسفية على أنواعها يمكن أن تعود بالخصب الحقيقي في نقل الإيمان وفهمه بطريقة أعمق.



خاتمة
100. بعد مئتي سنة من نشر الرسالة الجامعة «الآب الأزلي» للبابا لاون الثالث عشر، التي استشهدتُ بها مراراً في هذه الصفحات، استحسنْتُ أن أعود ثانية وبطريقة منهجية إلى شرح العلاقات بين الإيمان والفلسفة. من الواضح أن للفكر الفلسفي أهمية كبرى في تطوير الثقافات وتوجيه التصرفات الفردية والاجتماعية. ولهذا الفكر الفلسفي أيضاً أثر عميق في اللاهوت ومختلف مباحثه، وإن لم يُعترف به دائماً بطريقة صريحة. لهذه الأسباب، رأيتُ من دواعي الحق والضرورة أن أنوّه بقيمة الفلسفة في فهم الإيمان، والحدود التي تصطدم بها عندما تنسى أو ترفض حقائق الوحي. والواقع أن الكنيسة لا تزال مقتنعة كل الاقتناع من أن الإيمان والعقل «يتعاونان»[122]، ويضطلعان، الواحد تجاه الآخر، بوظيفة غربالِ منقِّ، أو حافزِ للتقدّم في طريق البحث والتمعّن.

101. إذا وجهنا نظرنا ألى تاريخ الفكر، وبخاصّة في الغرب، تيسّر لنا اكتشاف الثروة التي حققها، لرقي البشرية، اللقاء بين الفلسفة واللاهوت وتبادل مكاسبهما. فاللاهوت الذي يتمتع بانفتاح ومزيّة يجعلانه «علم الإيمان»، قد حفز العقل على أن يظلّ منفتحاً على الوحي الإلهي وما يحمله من جدّة أصيلة. ولا شك أن هذا التقابس قد عاد بالفائدة على الفلسفة التي انفسحت أمامها آفاق جديدة من المعاني المبتكرة يستطيع العقل أن يتقصَّاها.

من منطلق هذا الواقع، أظن من واجبي الإلحاح على التنويه بالمنفعة التي تجنيها الفلسفة من استعادة اللحمة مع اللاهوت، لمصلحة الفكر وتقدّمه، كما كرّرت أيضاً القول بواجب اللاهوت أن يستعيد علاقته الصحيحة بالفلسفة. ولا بدّ من أن تجد الفلسفة في اللاهوت ليس فقط فكراً فردياً معرّضاً لمحدوديّة الرؤى التي تَصِم دوماً فكر الإنسان الفرد، وإن تميّز بالعمق والغنى، بل ثروة تفكير مشترك. ولا غرو فاللاهوت، في بحثه عن الحقيقة، مدعوم طبيعياً بطابعه الكنسي[123]، وبتقليد شعب الله، وما يتضمنه من فيض المعارف والثقافات في وحدة الإيمان.

102. بمثل هذا الإلحاح على أهمية الفكر الفلسفي وأبعاده الحقيقية، تعمل الكنيسة على تعزيز الدفاع عن كرامة الإنسان ونشر البلاغ الإنجيلي. لا نجد اليوم طريقة ألح في التأهب للاضطلاع بهذه المهام، إلاّ الطريقة التالية: وهي أن نحمل الناس على اكتشاف قدرتهم على معرفة الحقيقة[124] ورغبتهم في الوصول إلى معنى الوجود الأخير والنهائي. في صدد هذه المقتضيات العميقة التي نقشها الله في الطبيعة البشرية، يتجلّى كلام الله بوضوح أكثر في مضمونه الإنساني والمؤنّس. فإذا تمكن الإنسان المعاصر من الاستعانة بفلسفة أضحت بمثابة حكمة حقيقية، استطاع الإقرار بأن نموّه الإنساني منوط بانفتاحه على المسيح وثقته بالإنجيل.

103. ثم إن الفلسفة هي شبه مرآة تنعكس فيها ثقافة الشعوب. كل فلسفة تتطوّر بدافعٍ من مقتضيات اللاهوت، في تناغم مع الإيمان، تصبح عاملاً من عوامل «تبشرة الثقافة»، التي اعتبرها بولس السادس هدفاً أساسياً من أهداف نشر الإنجيل[125]. وفيما لا أكِلُّ عن المناداة بإلحاحية بشارة جديدة، أناشد الفلاسفة التعمق في مجالات الحق والصلاح والجمال، التي يؤدي إليها كلام الله. ويصبح الأمر أشد إلحاحاً عندما نفكّر بالتحدّيات التي سيواجهنا بها الألف الثالث والتي تهدّد خصوصاً المناطق والثقافات العريقة بتراثها المسيحي. هذا الاهتمام يجب أن نعدّه رافداً أساسياً ومبتكراً من روافد البشارة الجديدة.

104. الفكر الفلسفي هو غالباً المجال الأوحد للتفاهم والحوار مع الذين لا يشاركوننا إيماننا. الحركة الفلسفية المعاصرة تفرض التزاماً وطيداً وكفؤاً من قبل فلاسفة مؤمنين بوسعهم أن يتحسَّسوا ما تنطوي عليه هذه الحقبة من التاريخ من تطلعات وانفتاحات ومشاكل. بإمكان الفيلسوف المسيحي، إذا اعتمد دائماً أسلوباً في التدليل مرتكزاً على العقل ومتقيداً بقواعده، وإذا اهتدى بما يأتيه من كلام الله من فهم إضافي، أن يقيم من الحجج ما هو مفهوم وحصيف حتى في نظر الذين لا يدركون بعد ملء الحقيقة المتجليّة في الوحي الإلهي. هذا المجال الوفاقي والحواري هو اليوم من الأهميّة بمقدار المعضلات الملحّة المطروحة على البشريّة: معضلات البيئة والسلام وتعايش الأجناس والثقافات. هذه المعضلات يمكن حلّها بفضل تعاون صريح ونزيه بين المسيحيين والمؤمنين من الديانات الأخرى والذين يحرصون على تجديد البشرية وإن لم يشاركوا في عقيدة دينية. وهذا ما أكده المجمع الفاتيكاني بقوله: «الرغبة في مثل هذا الحوار المفضي إلى الحقيقة عن طريق المحبة وحدها، مع الاحتفاظ، في كل حال، بالفضيلة المناسبة، هذه الرغبة، من جهتنا، لا تستثني أحداً، لا أولئك الذين يعظِّمون قيم النفس الإنسانية السامية ولكنهم لا يقرّون بعد بالذي خلقها، ولا الذين يقاومون الكنيسة ويضطهدونها[126] بأساليب مختلفة ». كل فلسفة ينعكس فيها شيء من حقيقة المسيح ، وهو الجواب الوحيد والأخير لمعضلات الإنسان[127]، تشكّل مستنداً فاعلاً للمناقبية الحقيقية والكونيّة التي تحتاجها البشرية اليوم.

105. أريد أن أختتم هذه الرسالة الجامعة بالتوجه، مرة أخرى، «إلى اللاهوتيين خصوصاً ليهتموا اهتماماً خاصاً بما يستلزمه فهم كلام الله من مضامين فلسفية ويُعمِلوا فكرهم بحيث يبرز العلم اللاهوتي بكثافته النظرية والعملية. وأوّد أن أشكر لهم ما يؤدُّونه من خدمة كنسية. العلاقة الحميمة بين الحكمة اللاهوتية والعلم الفلسفي هي من أنفس ثروات التراث المسيحي للتعمق في الحقيقة الموحاة. ولذا أشجّع اللاهوتيين على التنويه، قدر الإمكان، بالحقيقة في بعدها الميتافيزيقي، للدخول هكذا في حوار ناقدٍ وحازمٍ مع الفكر الفلسفي المعاصر، ومع التراث الفلسفي بجملته، أكان على اتفاقٍ مع كلام الله أم على خلاف. وليكن ثابتاً في ذهنهم ما أدلى به القديس بونفانتورا–وهو المعلّم الكبير في الفكر والروحانية–في مقدّمة كتاب «مسيرة العقل في الله». فهو يدعو القارىء «ألاّ يظنَّ أنه بالإمكان أن نكتفي بالقراءة بدون التخشّع، وبالتنظير بدون التعبّد، وبالبحث بدون التعجّب، وبالفطنة بدون التهلُّل، وبالعمل بدون التقوى، وبالعلم بدون المحبّة وبالعقل بدون التواضع، وبالدرس معزولاً عن النعمة الإلهية وبالفكر المعزول عن الحكمة الموحاة من الله»[128].

وأتوجه بالفكر أيضاً إلى الذين يضطلعون بمسؤولية التنشئة الكهنوتية، الأكاديميّة والرعائية، ليؤمّنوا، بتنبه خاص، التنشئة الفلسفية للمزمعين أن يبشّروا بالإنجيل أهل زماننا، وخصوصاً للمزمعين أن يتكرّسوا لتعليم اللاهوت والبحث. وليجهدوا في أن يقوموا بعملهم في ضؤ تعليمات المجمع الفاتيكاني الثاني[129] والإجراءات المتخذة بعد المجمع، وهي تنوّه بالواحب الملّح والملزم للجميع في المساهمة في نقل حقائق الإيمان نقلاً صحيحاً وعميقاً. ولا ينسَ أحد المسؤولية الباهظة في تأمين تنشئة إعدادية ومؤآتية للجسم التعليمي المُعدّ لتعليم الفلسفة في الإكليريكيات والمعاهد الكنسية[130]. ولا بدّ من أن تتضمن هذه التنشئة تأهيلاً علمياً مؤاتياً، وتُنظّم بطريقة منهجيّة وتقدِّم للطلاب التراث العظيم النابع من التقليد المسيحي وتُرفَق بما يلزم من التمييز حيال الحاجات الراهنة في الكنيسة والعالم.

106. وإني أتوجه بندائي أيضاً إلى الفلاسفة ومعلمي الفلسفة، ليجرُءوا على استعادة ما يتميّز به الفكر الفلسفي، في خطّ تقليد فلسفي ثابت وقيّم، من صفات الحكمة الصحيحة، والحقيقة الراهنة بما فيها الحقيقة الميتافيزيقية. ولينقادوا للمقتضيات النابعة من كلام الله. وليجرُءوا على أن يقيموا خطابهم العقلي وأسلوبهم البرهاني من منطلق هذا النداء. وليكونوا دائماً مشدودين إلى الحقيقة وحريصين على الخير المتضمن في الحق، فيتمكنوا هكذا من أن يرسموا المناقبية الصحيحة التي أمست البشرية بأمسّ الحاجة إليها، وبخاصة في هذه الأيام. إن الكنيسة تتتبَّع أبحاثهم بانتباه وتعاطف. وعليهم، من ثم، أن يتأكدوا مِما تكنّْه الكنيسة من احترام لعلمهم واستقلاليته المشروعة. وأودّ أن أشجع خصوصاً المؤمنين الذين يعملون في حيّز الفلسفة لينيروا النشاط البشري في مختلف نطاقاته، بأسلوب تفكيري يزداد يقيناً وحصانة بمقدار اعتماده على الإيمان.

ولا يسعني أخيراً إلاّ أن أتوجّه إلى رجالات العلم الذين يزوّدوننا، من خلال أبحاثهم، بمزيد من التعرف على الكون في مجمله، وعلى مقوّماته من الأحياء والجمادات في مختلف أنواعها وثريّ أصنافها، وفي بنياتها الذريّة والخليويّة المعقّدة. لقد قطعوا في الطريق التي سلكوها، وبخاصة في هذا القرن، مراحل لا تزال تثير فينا الدهش؛ وفيما أعبّر عن إعجابي وتشجيعي لهؤلاء الشجعان البواسل، رواد البحث العلمي الذين تدين لهم البشرية بجزء كبير من تطوّرها الراهن، أشعر بواجب حضّهم على مواصلة جهودهم مع الاستمرار دوماً في الخط الحكمي الذي تنضم فيه المكاسب العلمية والتكنولوجيّة إلى القيم الفلسفية والمناقبيّة التي يتجلّى فيها الشخص البشري في مزاياه الجوهرية. ولا شك أن رجل العلم يعي وعياً جيداً «أن التماس الحقيقة، وإن لم يتوخّ سوى العالم أو الإنسان في حقيقته المحدودة، ليس له نهاية ويردّنا دوماً إلى ما هو أرقى من موضوع البحث المباشر، أي إلى المسائل التي تفضي إلى السرّ المكنون»[131].

107. أطلب من الجميع أن يعتبروا الإنسان في كل عمقه، وفي بحثه الدائم عن الحقيقة وعن معنى الحياة، الإنسان الذي خلّصه المسيح بسرّ محبته. ثمة مذاهب فلسفية مُضِلّة أقنعت الإنسان بأنه سيد ذاته المطلق، وأنه يستطيع أن يقرّر، مستقلاً، مصيره ومستقبله، متكلاً فقط على ذاته وطاقته الشخصية. ليس على هذا تقوم عظمة الإنسان، ولن يتحقق كماله الذاتي إلاّ إذا اتخذ قراراً حاسماً بالدخول في الحقيقة، وبناء بيته وسكناه في ظلّ الحكمة الإلهية. ولن يتوصلّ الإنسان إلى أن يمارس ملء حريته ودعوته إلى حبّ الله ومعرفته، ويجد فيه تعالى أقصى اكتماله، إلاّ في هذا الشخوص إلى الحقيقة.

108. وأتوجّه بالفكر أخيراً إلى تلك التي تدعوها الكنيسة في صلاتها «عرش الحكمة». حياتها نفسها هي بمثابة نموذج حقيقي يشعّ بنوره على ما أتيت به من أفكار. بالإمكان، ولا شك، أن نجد تناغماً عميقاً بين دعوة الطوباوية العذراء والفلسفة الصحيحة. فكما دُعيَت العذراء إلى أن تقرّب بشريّتها وأنوثتها ليتمكن كلمة الله من أن يتأنس ويصبح واحداً منا، كذلك تُدعى الفلسفة إلى ممارسة عملها العقلاني الناقد، ليتمكن اللاهوت من أن يتفهم الإيمان تفهماً خصباً وفاعلاً. وكما أن مريم لم تفقد شيئاً من بشريتها وحريتها الحقيقية، عندما تقبلّت بشرى جبرائيل، كذلك الفكر الفلسفي، عندما يسمع النداء الصادر من حقيقة الإنجيل، لا يفقد شيئاً من استقلاليته، بل يرتقي ببحثه إلى ذروة كماله. هذه الحقيقة فهِمَها الرهبان القديسون الأقدمون «فهماً جيداُ عندما وصفوا العذراء بأنها «مائدة الإيمان العقلية»[132]. لقد توسموا فيها الصورة المتماسكة للفلسفة الحقيقية، واقتنعوا من واجب التفلسف في مريم.

عسى أن يكون عرش الحكمة الملجأ الأمين للذين يجعلون من حياتهم بحثاً عن الحكمة. عسى أن تكون طريق الحكمة–وهي الغاية القصوى والحقيقية لكل علمٍ صحيح - حرّة من كل عائق، بشفاعة تلك التي ولدت الحقيقة وحفظتها في قلبها، وقدمتها هديّة للبشرية جمعاء وإلى الأبد!

أعطي في روما، بقرب كنيسة القديس بطرس، في 14 ايلول 1998، عيد الصليب المجيد، في السنة العشرين من حبريتي.

يوحنا بولس الثاني

سامحوني بقي الحواشي .... يتبع...

imad
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.13859 seconds with 10 queries