عرض مشاركة واحدة
قديم 07/08/2005   #2
شب و شيخ الشباب imad
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ imad
imad is offline
 
نورنا ب:
Jul 2005
مشاركات:
188

افتراضي


التكملة ...

فبسبب ما كان هنالك من روح عقلانية متشدّدة عند بعض المفكرين، تحجّرت المواقف إلى حدّ الوصول، فعلياً، إلى فلسفة معزولة ومستقلّة مطلقاً عن محتوى الإيمان: وبدأت تنمو في النفوس أيضاً، بنتيجة هذا الانفصام، عاطفة متنامية من الحذر تجاه العقل ذاته، فأخذ البعض ينادون بموقف شامل من الحذر والريبة واللاأدرية، وذلك إمّا ليفسحوا للإيمان مجالاً أوسع وإمّا ليندّدوا بكلِّ مرجعيّة عقلانية للإيمان.

وخلاصة القول أن ما توصّل إليه الفكر الآبائي والوسيطي من إقامة وحدة عميقة وفاعلة تُولِّد معرفة قادرة على الوصول إلى أرقى أشكال الفكر النظري، هذا كله قد انهار، عملياً، تحت وطأة المذاهب المنادية بمعرفة عقليّة مفصولة عن الإيمان وتحلّ محلّه.

46. أكثر هذه التصلبات هيمنةً باتت معروفة وظاهرة، وبخاصة في تاريخ الغرب. ولا نغالي في القول إن معظم الفكر الفلسفي المعاصر قد تطوّر متباعداً شيئاً فشيئاً عن الوحي المسيحي إلى حدّ معارضته بطريقة سافرة. وهذا التيار بلغ شأوه في القرن الفائت. بعض ممثلي الفلسفة المثالية سعوا، بكل الطرق، إلى تحويل الإيمان ومحتواه، بما في ذلك سرّ موت يسوع المسيح وقيامته، إلى مقولات جدلية في متناول الإدراك العقلي. هذه الفكرة تصدّت لها بعض أشكالٍ من الأنسِية الملحدة المبنيّة فلسفياً التي صوّرت الإيمان بصورة الخطر الوبيل الذي يتهدّد العقلانيّة في تطوّرها الكامل. هذه التيارات لم تخش الظهور للناس بمظهر ديانات جديدة أمست مرتكزات لخططٍ سياسية واجتماعية أدّت إلى قيام أنظمة توتالية خلّفت للبشرية صدمة عنيفة.

في إطار البحث العلمي توصّلت تلك المذاهب الفلسفية إلى فرض ذهنية وضعيّة لم تكتفِ بالابتعـاد عن كل نظرة مسيحية إلى العالم، بل أهملت أيضاً وخصوصاً كل مرجعيّة إلى أي رؤية ميتافيزيقية وأخلاقية. وبالتالي، فهناك قبضة من رجال العلم فقدوا كل مرجعيّة أدبيّة فلم يعد الإنسان ومجمل حياته محور اهتمامهم. وينضاف إلى ذلك أن بعضاً منهم، لعلمهم بالطاقات المخزونة في التطوّر التكنولوجي، أخذوا ينقادون لا لمقتضيات السوق بل لما تسوّله لهم نفوسهم من تسلّط مقتدر على الطبيعة وعلى الكائن البشري نفسه.

هناك أخيراً العدمية التي جاءت نتيجة أزمة العقلانية. وقد أفلحت، بوصفها فلسفة العدم، في أن تخلب أذهان معاصرينا. ويعتنق مناصروها نظرية البحث لأجل البحث، بدون أملٍ وبدون أي إمعان للتوصل إلى الحقيقة. في نظر التأويل العدمي، ليس الوجود سوى سانحة يختبر فيها الإنسان من الأحاسيس والخبرات ما يجعل للفانيات المكان الأول. العدمية هي مصدر العقلية الشائعة والقاضية بأن على الإنسان ألاّ يتقيّد بالتزام دائم. ولا غرو فكل شيء عابر ووقتي.

47. ويجب ألاّ ننسى، من جهة أخرى، أن دور الفلسفة نفسه قد تغيّر في الثقافة المعاصرة؛ فمن كونها حكمة وعلماً شاملاً انحدرت شيئاً فشيئاً لتمسي مجرّد حيّز من حيّزات المعرفة البشرية الكثيرة، لا بل قُصِرت مهمتها، في بعض وجوهها، إلى مجرّد دور هامشي. في هذه الأثناء، ترسَّخت أشكال أخرى من النشاط العقلاني بقوة متزايدة، وهدفها التركيز على هامشية العلم الفلسفي. هذه الأشكال العقلانية تنـزع أو بإمكانها أن تنـزع إلى أن تكون «وسيلة وظيفية» في خدمة الأهداف المنفعية، أهداف الامتلاك أو التسلط، بدلاً من أن تتجه إلى تأمل الحقيقة والبحث عن الغاية الأخيرة ومعنى الحياة.

في أولى رسائلي العامة لفتُّ النظر إلى خطر اعتبار هذه الطريقة أمراً مطلقاً، وكتبت في هذا الشأن: «إنسان اليوم يبدو دائماً مهدّداً بما يصنعه، أي بنتيجة عمل يديه، وبالأكثر بعمل ذهنه ونزعات إرادته. ثمار هذه النشاطات المتنوّعة التي يقوم بها الإنسان لا تُنتزع فقط من بين يديه، بطريقة سريعة وغير منتظرة، بل ترتدّ أحياناً بنتائجها على الإنسان نفسه ولو بطريقة جزئية وغير مباشرة، فتتوجه أو يمكن أن تتوجه ضده. على هذا يقوم ربما الفصل الأساسي من مأساة الوجود البشري اليوم في بعده الأوسع والأشمل. فالإنسان يعيش أكثر فأكثر في دوامة الخوف؛ إنه يخشى أن ترتد عليه منتوجاته، لا كلها طبعاً ولا معظمها بل بعضها، وبخاصة تلك التي تتضمن جزءاً ملحوظاً من عبقريته وقدرته الخلاقة»[53].

من جراء هذه التغيّرات الثقافيّة، أعرَض بعض الفلاسفة عن التماس الحقيقة في ذاتها واتخذوا لهم هدفاً وحيداً الحصول على يقين شخصي أو على منفعة عملية؛ فنتج عن ذلك ادلهمام العقل في كرامته الحقيقية وعجزُه عن معرفة الحق والبحث عن المطلق.

48. إن ما يتبيّن من هذه الحقبة الأخيرة من تاريخ الفلسفة هو الفصام المتزايد بين الإيمان والعقل الفلسفي. ومع ذلك لا يخفى على المراقب المتنبّه ما يبدو أحياناً، حتى عند الفلاسفة الذين ساهموا في توسيع الهوّة بين الإيمان والعقل، من بذور فكرية نفيسة بإمكانها أن تساعد في الكشف عن طريق الحقيقة، إذا مُحِّصت وطُوِّرت باستقامة ذهن ونزاهة قلب. هذه البذور الفكرية نقع عليها، مثلاً، في التحاليل العميقة في شأن الإدراك والخبرة والمخيّلة واللاوعي والشخصية والتبادل الشخصي، والحريّة والقيم، والزمان والتاريخ. وحتى فكرة الموت بإمكانها أن تصبح لكل مفكّر نداءً ملحاً للبحث في مطاوي ذاته. ولكن هذا لا يمنع من أن العلاقة الراهنة بين الإيمان والعقل لا تزال تقتضي جهداً تمحيصيّاً متيقظاً، لأن العقل والإيمان كلاهما قد افتقرا وضعُفا الواحد تجاه الآخر. فالعقل الذي حُرِم رِفد الوحي راح يخبط في دروب جانبية بإمكانها أن تثنيه عن رؤية هدفه الأخير. والإيمان، بدون العقل، أخذ يركّز على الإحساس والاختبار، متعرّضاً لأن تسقط عنه ميزته الشمولية. من العبث إذن التفكير بأن الإيمان يقوى بإزاء عقل ضعيف؛ بل هو يتعرض، بالعكس، لأن يمسي مجرّد أسطورة أو خرافة. وكذلك العقل، إذا لم يواكبه إيمان بالغ، لا يعود يهتم لما هو جديد وجذري في الحياة.

يجب أذن ألاّ يُعتبر نافلاً أن أطلق نداءً قوياً وملِحاًّ ليعود الإيمان والعقل إلى سابق ما كانا عليه من وحدة عميقة تجعلهما متناغمين مع طبيعتيهما مع احترام استقلالية كل منهما. «دالّة» الإيمان توازيها جرأة العقل.





الفصل الخامس
تدخلات السلطة التعليمية

في نطاق-الفلسفة

السلطة التعليمية في خدمة الحقيقة

49. الكنيسة لا تقترح فلسفتها الخاصة ولا تكرّس أي فلسفة على حساب الفلسفات الأخرى[54]. إن ما يعلّل في العمق هذا التحفّظ هو أن الفلسفة، حتى في علاقتها باللاهوت، يجب أن تعتمد وسائلها وقواعدها الخاصة؛ وإلاّ لم يبق لها ما يضمن شخوصها إلى الحقيقة ونزوعها إليها بأسلوب عقلاني يمكن التحقق منه. كل فلسفة لا تسير في ضؤ العقل، طبقاً لمبادئها الخاصة وأساليبها المميّزة، لا تجدي نفعاً كثيراً. وقصارى القول أن الاستقلالية التي تنعم بها الفلسفة مصدرها كون العقل، بطبيعته، مشدوداً إلى الحقيقة، ويملك من الوسائل ما يمكنّه من الوصول إليها. كل فلسفة تعي «نظامها التكويني» لا يمكنها إلاّ أن تحترم أيضاً مقتضيات الحقيقة الموحاة ومسلماتها.

ولكن التاريخ أظهر ما ارتطم به مراراً الفكر الفلسفي، وبخاصة الفكر المعاصر، من انحرافات وأخطاء. ليس من مهمات السلطة التعليميّة ولا من صلاحياتها أن تردم ثغرات خطاب فلسفي متعثر. إلاّ أن من واجبها أن تتصدى بقوّة ووضوح لكل طرح فلسفي مشبوه يهدّد فهم الوحي بوجه صحيح ولكل نظرية مزيَّفة ومنحازة تنشر من الأضاليل الخطيرة ما يبلبل إيمان شعب الله ويعكّر صفوه وبساطته.

50. السلطة التعليمية في الكنيسة بإمكانها إذن بل من واجبها أن تمارس، في ضؤ الإيمان، ما أوتيت من سلطة التمييز والنقد، تجاه الفلسفات والنظريات التي تناقض العقيدة المسيحية[55]. من حق السلطة التعليمية أن تحدّد، قبل كل شيء، ما هي المفترضات وما هي الخلاصات التي لا تتناغم مع الحقيقة الموحاة، وتوضح، بالتالي، المقتضيات التي تُلزم الفلسفة من وجهة نظر الإيمان. وينضاف إلى ذلك ما ظهر، في تطوّر العلم الفلسفي، من مدارس فكرية متنوعة. هذه التعدّدية تضع السلطة التعليمية تجاه مسؤوليتها في التعبير عن حكمها في شأن النظريات الأساسية التي تعتمدها هذه المدارس ومدى تناغمها أو تنافرها مع مقتضيات كلام الله والفكر اللاهوتي.

من واجب الكنيسة أن تبيّن ما يمكن أن يبدو منافياً للإيمان في كل نظام فلسفي. هناك قضايا فلسفية كثيرة كقضية الله مثلاً والإنسان وحريته ومسلكيته تمسّ الكنيسة مباشرة بسبب علاقتها بالحقيقة الموحاة التي أقيمت عليها وكيلة. عندما نضطلع بواجب هذا التمييز، نحن الأساقفة، علينا أن نكون «شهود الحقيقة» في ممارسة خدمة متواضعة وحازمة يجب على كل فيلسوف أن يقدّرها حق قدرها لفائدة العقل السوي أي العقل الذي يعقل الحقيقة بطريقة صحيحة.

51. هذا التمييز يجب ألاّ يُفهم أولاًّ في صورته السلبية، كما لو كانت نية السلطة التعليميّة أن تلغي أو أن تقلّص كل وساطة ممكنة. تدخلاتها تهدف بالعكس وأوّلاً إلى حث الفكر الفلسفي وتعزيزه وتشجيعه. ثم إن الفلاسفة هم أول من يتفهم ضرورة النقد الذاتي وتصحيح ما هنالك من أخطاء، وكذلك ضرورة تخطي الحدود الضيقة التي انصهر فيها فكرهم. ولا بد من أن ندرك، بوجه خاصّ، أن الحقيقة واحدة وإن تأثرت تعابيرها ببصمات التاريخ، وإن كانت، بالإضافة إلى ذلك، من صنع عقل بشري جرحته الخطيئة وأضعفته. وينتج عن ذلك أن ليس هناك من شكل تاريخي من أشكال الفلسفة يمكنه أن يدّعي الإحاطة بالحقيقة كلها ولا أن يفسّر بطريقة وافية سرّ الكائن البشري والعالم والعلاقة بين الإنسان والله.

واليوم، بسبب تعدّد المذاهب والأنماط والمقولات والتدليلات الفلسفية المعقّدة إلى آخر حدود التعقيد، أصبح من الضرورة الملحة إجراء تمييز ناقد في ضؤ الإيمان. هذا التمييز ليس بالأمر السهل؛ فلئن كان من الصعب الإقرار بما يملكه العقل من طاقات فطرية راهنة، ومحدوديات تكوينية وتاريخية، فإنه من المشكل أكثر أن نميّز ما تقترحه النظريات الفلسفية الخاصة من طروحات قيّمة ونافعة بالنسبة إلى الإيمان، أو بالعكس، من مفاهيم خطيرة وزائفة. وعلى كلٍ، فالكنيسة تعلم أن «كنوز الحكمة والمعرفة» مكنونة في المسيح (قول 2، 4)، وهذا ما يدفعها إلى حث الفكر الفلسفي وتشجيعه، لئلاَّ يُسدَّ في وجهه طريق معرفة السرّ الإلهي.

52. وليس بدعاً أن تتدخل السلطة التعليمية للتعبير عن رأيها في بعض التعاليم الفلسفية المحدّدة. حسبنا التذكير ببعض الأمثلة عبر القرون، كالمواقف التي اتخذتها من النظريات القائلة بالنفوس السابقة الوجود[56] أو من مختلف أشكال عبادة الأصـنام والباطنيـة الخرافية المتضمنـة في طروحات علم الفلك[57]، هذا ما عدا النصوص المنهجية ضد بعض طروحات الرشدية اللاتينية، التي لا تتماشى مع الإيمان المسيحي[58].

لئن سُمع صوت السلطة التعليمية أكثر، منذ منتصف القرن الأخير، فذلك بأن كثيراً من الكاثوليك، في هذه الحقبة، شعروا بواجب التصدي لمختلف تيارات الفكر المعاصر ومواجهتها بفلسفتهم الخاصة. عند هذا الحدّ، أصبح من واجب السلطة التعليمية في الكنيسة أن تسهر على هذه الفلسفات وتحول دون انحرافها، هي أيضاً، في أشكال زائفة وسلبية. وهكذا ندّدت الكنيسة بطريقة متوازية: بالإيمانية[59] والتقليديّة الجذرية[60]، من جهة، وذلك بسبب ارتيابهما بقدرات العقل الطبيعية؛ وبالعقلانية[61] والأنطولوجية[62]، من جهة أخرى، لأنهما ينسبان إلى العقل الطبيعي ما لا يمكن معرفته إلاّ في ضؤ الإيمان. إن ما ترسّب من هذا الجدل من محتوى إيجابي كان موضوع بيان عضوي في الدستور العقائدي «ابن الإنسان» الذي عالج فية لأول مرة، وبطريقة رسمية، مجمعٌ مسكونيٌ–وهو المجمع الفاتيكاني الأول–العلاقات بين العقل والإيمان. إن ما ورد في هذا النص من تعليم قد دفع البحث الفلسفي، لدى الكثيرين من المؤمنين، دفعاً قوياً وإيجابياً، ولا يزال حتى اليوم مرجعاً وقاعدة لكل فكر مسيحي سليم ونظيم، في هذا المضمار الخاص.

53. تصريحات السلطة التعليمية لم تهتم بطروحات فلسفية خاصة بقدر اهتمامها بضرورة المعرفة العقلية، ومن ثم بضرورة السعي الفلسفي إلى مفهومية الإيمان. إن المجمع الفاتيكاني الأول الذي جَمَعَ وثبَّت رسمياً التعاليم التي عرضتها السلطة الحبرية على المؤمنين، بطريقة عادية ومستمرة، قد نوّه بأن معرفة الله الطبيعية والوحي وكذلك العقل والإيمان هما أمران متلازمان ومتمايزان في آن واحد. لقد انطلق المجمع من مقتضى أساسي يفترضه الوحي نفسه، وهو قدرة الإنسان على معرفة وجود الله، مبدأ وغاية كل شيء، معرفة طبيعية[63]، وخلص إلى الإعلان الرسمي الذي أوردناه سابقاً: «ثمة مرتبتان للمعرفة متميزتان لا بالمصدر وحسب بل بالموضوع أيضاً»[64]. كان لا بدّ إذن من التأكيد، خلافاً لكل شكل من أشكال العقلانية، على الفرق بين أسرار الإيمان والكشوف الفلسفية، وكذلك على سموّ وتقدّم الأولى على الثانية. وكان لا بدّ، من جهة أخرى، من أن تُؤَكَّد،َ ضد الإيمانية المتطرفة، وحدةُ الحقيقة، وبالتالي المساهمة الإيجابية التي بإمكان المعرفة العقلية، بل من واجبها أن ترفد بها المعرفة الإيمانية: «ولكن، مع أن الإيمان يعلو على العقل، لا يمكن أن يكون هناك البتة خلاف حقيقي بين الإيمان والعقل، وذلك بأن الله هو نفسه الذي يوحي الأسرار ويهب الإيمان والذي ينـزل على النفس البشرية نور العقل: فالله لا يمكن أن ينكر ذاته، ولا الحق أن ينكر الحق»[65].

54. في عصرنا أيضاً، عادت السلطة التعليمية مراراً إلى معالجة هذا الموضوع فحذَّرت المؤمنين من تجربة الوقوع في العقلانية. في مثل هذه القرائن يجب أن ندرج تعاليم البابا القديس بيوس العاشر الذي بيّن بوضوح ارتكاز العصرانية على المقولات الفلسفية السائرة في اتجاه الظهرانية واللاأديّة والحلولية[66]. ولا يمكن أن ننسى أيضاً رفض الكنيسة الكاثوليكية للفلسفة المركسية والشيوعية الملحدة[67].

وقد أسمع البابا بيوس الثاني عشر أيضاً صوتة عندما حذّر، في رسالته العامة «الجنس البشري»، من التآويل الزائفة المرتبطة بطروحات التطوريّة والوجودية والتاريخانية. وأوضح أن هذه الطروحات لم تكن من صوغ ولا من طرح رجال لاهوتيين، بل تسرَّبت من «خارج حظيرة المسـيح»[68]؛ وأضاف أن هذه الانحرافات لا يكفي انتباذها، بل يجب فحصها بطريقة نقدية: «إن اللاهوتيين والفلاسفة الكاثوليك الذين يحملون عبء الذود عن الحقيقة البشرية والإلهية لا يمكنهم أن يجهلوا ولا أن يُهملوا هذه النظرية التي تنأى قليلاً أو كثيراً عن السراط القويم. لا بل عليهم، فضلاً عن ذلك، أن يعرفوها حق المعرفة، وذلك أولاً لأن الأمراض لا تُعالَج إلاً إذا وُقِف على أمرها وقوفاً محكماً، وثانياً لأن المقولات الزائفة نفسها تنطوي أحياناً على بعضٍ من حقيقة، وأخيراً لأن هذه المقولات نفسها تدعو الذهن إلى تفحّص بعض الحقائق الفلسفية واللاهوتية وتأمُّلها بمزيد من العناية»[69].

في الحقبة الأخيرة، اضطُر مجمع عقيدة الإيمان، بحافزٍ من مسؤوليته المميّزة في خدمة السلطة التعليمية الشاملة التي ينعم بها الحبر الروماني[70]، أن يعمد أيضاً إلى التحذير من خطر التسليم، بلا نقد، من قبل بعض لاهوتيّي التحرير، بالطروحات والمنهجيات المنبثقة عن المركسية[71].

لقد مارست السلطة التعليمية إذن، في الماضي، مراراً وتكراراً، وبأساليب متنوعة، واجبها التمحيصي في المجال الفلسفي. وكل ما صدر عن أسلافي الأجلاء، في هذا الشأن، هو بمثابة مساهمة نفيسة لا يمكن أن ننساها.

55. إذا تفحَّصنا وضعنا الراهن، اتضح لنا أن معضلات الماضي تتكرّر، ولكن في أشكال جديدة. فنحن لم نعد بإزاء معضلات محصورة في أفراد أو فئات معيّنين، بل بإزاء يقينيات مبثوثة في المحيط في شبه ذهنيّة منتشرة. من قبيل ذلك مثلاً ما نلحظه من ارتياب تجاه العقل، في كثير من التطوّرات الحديثة في الأبحاث الفلسفية. وقد بدأ الحديث، من جهات متعدّدة، عن «نهاية الميتافيزياء»: وكأن المطلوب أن تكتفي الفلسفة بالمهمات المتواضعة، أي بمجرّد تأويل الوقائع، ومجرّد البحث في نطاقات محدّدة من المعرفة البشرية أو في بنياتها.

وحتى في نطاق اللاهوت، بدأت تطفو ثانية المسوّلات القديمة. ففي بعض النظريات اللاهوتية المعاصرة، مثلاً، أخذ يتطوّر ثانية شكل من أشكال العقلانية، وخصوصاً عندما أخذت بعض المقولات المحسوبة راسخة من الوجهة الفلسفية تُعتبر من قواعد البحث اللاهوتي. وهذا ما يحدث أولاً عندما يستسلم اللاهوتي، بسبب خللٍ في كفايته الفلسفية، وبمنأى عن كل نظرة نقديّة، لمزاعم أصبحت جزءاً لا يتجزأ من اللغة والثقافة السائدتين، مع كونهما براء من كل أساس عقلي كافٍ[72].

ونلحظ أيضاً أخطار الانضواء ثانية إلى الإيمانية، التي تنكر أهمية المعرفة العقلانيّة والخطاب الفلسفي لفهم الإيمان، بل حتى لإمكان الإيمان بالله. ومن أشكال هذه النـزعة الإيمانية المنتشرة اليوم، البيبلية التي تسعى إلى جعل قراءة الكتاب المقدس أو تفسيره المرجع الصحيح الأوحد. ويصبح هكذا كلام الله محصوراً في الكتاب المقدّس، ويسقط بذلك تعليم الكنيسة الذي ثبَّته المجمع الفاتيكاني الثاني بطريقة صريحة. فمن بعد أن ذكّر المجمع بأن كلام الله متضمّن، على السواء، في النصوص المقدّسة وفي التقليد[73]، عاد وأكد بقوة في الدستور العقائدي «كلمة الله»: «التقليد المقدّس والكتاب المقدّس هما المستودع المقدّس الأوحد لكلام الله الموكول إلى الكنيسة؛ فعندما يعتنقه الشعب المقدّس برمّته متحداً برعاته فهو يعبّر بذلك عن خالص تعلّقه بتعليم الرسل»[74]. فالكتاب المقدّس، في نظر الكنيسة، ليس هو المرجع الوحيد. «فقاعدة الإيمان العليا»[75] تستمدها من الوحدة التي حققها الروح بين التقليد المقدّس والكتاب المقدس والسلطة التعليمية في الكنيسة، بحيث لا يمكن لأيٍ من هذه المراجع الثلاثة أن يستمرّ بطريقة مستقلة»[76].

ويجب، بالإضافة إلى ذلك، ألاّ نقلّل من الخطر الكامن في استخراج حقيقة الكتاب المقدس عن طريق منهجيّة مفردة بصرف النظر عن ضرورة اعتماد طريقة تفسيريّة أوسع تمكّن من الوصول، مع الكنيسة كلها، إلى ملء معنى النصوص. إن الذين يتفرغون لدرس الكتب المقدّسة، يجب ألاّ يغيب عن ذهنهم أن المنهجيات التفسيرية المختلفة ترتكز هي أيضاً على نظرية ما من النظريات الفلسفية، يحسن فحصها وتمحيصها قبل تطبيقها على النصوص المقدّسة.

ثمة أشكال أخرى من الإيمانية المتسترة، تُعرف بقلة اعتبارها للاهوت النظري، كما تُعرف أيضاً بازدرائها للفلسفة الكلاسيكية، مع العلم بأن اللاهوت النظري والفلسفة الكلاسيكية هما النبع الذي استقت منه الكنيسة مفرداتها للتعبير عن المفاهيم العقائدية المعتمدة في فهم الإيمان. البابا بيوس الثاني عشر المطوّب الذكر قد حذّر من مثل هذا الإغضاء عن التقليد الفلسفي كما حذّر من مغبّة التخلي عن التعابير التقليدية[77].

56. خلاصة القول أننا نلحظ حذراً متواتراً من المقولات الجامعة والمطلقة، وخصوصاً من قبل الذين يعتقدون أن الحقيقة إنما هي نتيجة الإجماع لا نتيجة التطابق بين العقل والغرض الموضوعي. من المفهوم، ولا شك، أن نلقى شيئاً من الصعوبة، وسط عالم حافل بالتخصصات، في الإقرار بما تتميّز به الحياة من معنىً كامل وأخير، بات هو الغرض الذي توخَّته الفلسفة في سعيها التقليدي. ومع ذلك لا يسعني، في ضؤ الإيمان الذي يتوسّم في يسوع المسيح هذا المعنى الأخير، إلاّ أن أشجِّع الفلاسفة، المسيحيين وغيرهم، على أن يثقوا بقدرات العقل البشري وألاّ يكتفوا بأهداف متواضعة في تفكيرهم الفلسفي. أمثولة تاريخ هذا الألف الذي نشرف على نهايته تشهد بأن هذه هي الطريقة التي يجب انتهاجها: يجب ألاّ نفقد الشغف بالحقيقة القصوى والاندفاع في البحث مقرونين بالجرأة على ارتياد طرق جديدة. الإيمان هو الذي يحث العقل على أن يخرج من عزلته ويغامر في سبيل الجمال والجودة والحق. وهكذا يصبح الإيمان هو المحامي عن العقل مقتنعاً ومقنعاً.

اهتمام الكنيسة بالفلسفة

57. في كل الأحوال، لم تكتف السلطة التعليمية في الكنيسة بالتنبيه على الأخطاء والانحرافات في التعاليم الفلسفية، بل أرادت، بنفس الاهتمام، أن تُعيد التأكيد على المبادىء الأساسية لإجراء تجديد صحيح في الفكر الفلسفي، مع الإشارة إلى الطرق العملية التي يجب انتهاجها. في هذا المجال أنجز البابا لاون الثـالث عشر، في رسالته العامة «الآب الأزلي»، خطوة بات لها أثر تاريخي في حياة الكنيسة. هذا النصّ لا يزال حتى اليوم هو الوثيقة الحبريّة الوحيدة، بهذا المستوى، المكرّسة كليّاً للفلسفة. هذا الحبر العظيم استعاد وطوّر ما جاء في المجمع الفاتيكاني الأول في شأن العلاقات بين الإيمان والعقل، مبيّناً أن الفكر الفلسفي إنما هو رافد أساسي للإيمان والعلم اللاهوتي[78]. بعد أكثر من قرن، لا تزال عناصر كثيرة من محتويات هذا النص محتفظة بكل أهميتها من الناحية العملية كما من الناحية التربوية؛ وأهم هذه العناصر ما يتعلّق بفلسفة القديس توما (الأكويني). لقد بدا للبابا لاون الثالث عشر أن العودة إلى التنويه بفكر الملفان الملائكي هي أمثل طريق لنعود ونكتشف نمطاً في استعمال الفلسفة يتلاءم ومقتضيات الإيمان. فالقديس توما–على حدّ ما ورد في الرسالة - «في ذات اللحظة التي يميّز فيها، كما ينبغي، بين الإيمان والعقل تمييزاً كاملاً، نراه يربطهما بربط صداقة متبادلة، فيحفظ لكلٍ منهما حقوقه ويسهر على كرامته»[79].

58. نعلم أن هذا النداء الحبري قد حظي بكثير من النتائج الموفّقة. فالأبحاث في فكر القديس توما وبقيّة المؤلفين المدرسيين عرفت نهضة جديدة. والبحوث التاريخية تحركّت بقوّة، مستتبعة العودة إلى اكتشاف ثروات الفكر الوسيط التي كانت حتى ذاك مغمورة في معظم الأوساط؛ كما أدّت إلى تكوين مدارس توماوية جديدة. اعتماد المنهجية التاريخية أفضى إلى تقدّمات كبيرة في معرفة آثار القديس توما، وكثر عدد الباحثين الذين تجرأوا وأدخلوا التقليد التوماوي في البحوث الجارية على المعضلات الفلسفية واللاهوتية في ذلك العهد. إن أكثر اللاهوتيين الكاثوليك نفوذاً في عصرنا هذا، والذين ساهموا مساهمة جُلىَّ في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني بأفكارهم وبحوثهم، هم من أبناء هذا التجدّد في الفلسفة التوماوية. لقد استطاعت الكنيسة، في غضون القرن العشرين، أن تعوّل هكذا على رهط كبير من أفذاذ المفكرين الذين تربوا في مدرسة الملفان الملائكي.

59. مهما يكن من أمرٍ، فالتجدد التوماوي والتوماوي الجديد لم يكن الدلالة الوحيدة على استعادة الفكر الفلسفي في الثقافة المستلهمة من المسيحيّة. فقبل ذلك، وفي موازاة الدعوة التي أطلقها لاون الثالث عشر، ظهر عدد كبير من الفلاسفة الكاثوليك الذين التحقوا بتيارات فكرية حديثة، ووضعوا مؤلفات فلسفية بات لها أثر كبير وقيمة خالدة، متبّعين في ذلك منهجيّة خاصة. وقد وضع بعضهم خلاصات موصوفة لا تقلُّ أهمية عن المذاهب الكبرى في الفلسفة المثالية. وأرسى آخرون الأسس المعرفيّة في محاولة جديدة لمقاربة الإيمان في ضؤ تصوّر متجدّد للضمير الأدبي. وهناك من وضعوا فلسفة تنطلق من تحليل مبدأ المثولية للوصول إلى الكائن العلويّ. وهناك أخيراً من حاولوا التأليف ما بين مقتضيات الإيمان من زاوية المنهجيّة الظاهرانيّة. إن ما جرى، في الواقع، من ملاحظ مختلفة، إنما هو المثابرة في اعتناق نماذج من التنظير الفلسفي غايتها استمرارية الفكر المسيحي في تأكيد الوحدة بين الإيمان والعقل، وهو تقليد مسيحي كبير.

60. وقد أورد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، من جهته، تعليماً ثرياً وخصيباً جداً، في شأن الفلسفة. ولا يسعني أن أنسى، وبخاصة في هذا الموضع من الرسالة، أن فصلاً كاملاً من الدستور العقائدي «فرح ورجاء» يتضمن شبه ملخصٍ للأنتروبولوجيّة البيبلية نجد فيه أيضاً مصدر إلهام للفلسفة. هذه الصفحات تعالج قيمة الشخص البشري المخلوق على صورة الله، وتبيّن كرامته وسموّه على باقي الخلق وتُظهِر ما يتميّز به عقله من قدرة سامية[80]. وقد أتى الدستور العقائدي «فرح ورجاء» على ذكـر معـضلة الإلحاد وحدّد معالمها، وبخاصة بالنظر إلى ما يتمتع به الإنسان من كرامة وحريّة لا يرقى إليهما مساس[81]. هذه الصفحات تكتسي، ولا شك، في قمة مضامينها، معنىً فلسفياً عميقاً، استعَدتُه في رسالتي الأولى «فادي الإنسان» واعتبره من ثوابت مراجعي التعليميّة: «الواقع ان سرَّ الإنسان لا يستضيء حقاً إلاّ في سرّ الكلمة المتجسد. وذلك بأن آدم، الإنسان الأول، كان صورة الإنسان الآتي، أي المسيح الرب. إن آدم الجديد أي المسيح، عندما يكشف لنا سرّ الآب ومحبته، إنما يظهر للإنسان ملء ذاته ويكشف له دعوته السامية»[82].

وقد اهتم المجمع أيضاً بتعليم الفلسفة الذي يجب أن يتفرّغ له المرشحون للكهنوت. هذه التوصيات يجب أن تشمل التعليم المسيحي في مجمله. وقد صرّح المجمع في ذلك: «تدرّس العلوم الفلسفية تدريساً يقود الطلاب أولاً إلى تحصيل معرفة عميقة ومتلاحمة الأجزاء للإنسان والعالم والله، معتمدين على التراث الفلسفي ذي القيمة الخالدة، ولا تُغفل البحوث الفلسفية المعاصرة»[83].

هذه التوجيهات جرى تثبيتها وتوضيحها مراراً في وثائق أخرى من السلطة التعليمية، لضمان تنشئة فلسفية متينة وبخاصة للمستعدين للدروس اللاهوتية. وأما أنا فقد نوّهت مراراً كثيرة بأهمية هذه التنشئة الفلسفية لمن يجب عليهم يوماً، في الحياة الرعويّة، أن يواجهوا أحداث العالم المعاصر ويفهموا أسباب بعض التصرفات للردّ عليها بطريقة ميسّرة[84].

61. لئن وجب التدخل في شأن هذا الموضوع، في ظروف مختلفة، مع التأكيد على قيمة الأفكار التي طرحها الملفان الملائكي، وضرورة اقتباس فكره، فقد ارتبط ذلك غالباً بعدم التقيد دائماً بتوجيهات السلطة التعليمية بالطواعية المرجوة. في كثير من المدارس الكاثوليكية، في غضون السنوات التي عقبت المجمع الفاتيكاني الثاني، لوحظ، في هذا الشأن، بعض الذبول الناجم عن تراجع لا في تقدير قيمة الفلسفة المدرسية وحسب، بل بوجه أشمل، في تقدير دراسة الفلسفة ذاتها حق قدرها. لا بدّ لي من أن ألحظ، بشيء من الاستغراب والأسف، أن عدداً من اللاهوتيين ينتحلون هذه اللامبالاة بدرس الفلسفة.

هذه اللامبالاة تعلّلها أسباب متنوعة، لا بدّ من أن نذكر منها أولاً ما يُبديه جزء كبير من الفلسفة المعاصرة من حذرٍ تجاه العقل، مهملاً إهمالاً ذريعاً كل بحث ميتافيزيقي في القضايا الإنسانية القصوى، مع التركيز على المعضلات الخاصة أو المحلية وحتى الشكليّة منها أحياناً. ويجب أن نضيف، علاوة على ذلك، ما حصل خصوصاً من التباس بالنسبة إلى «العلوم الإنسانية». لقد ذكّر المجمع الفاتيكاني الثاني غير مرة بالقيمة الإيجابيّة الناجمة عن كل بحث علمي يتوخى التعمق في سرّ الإنسان[85]. إن الدعوة الموجهة إلى اللاهوتيين ليقفوا على هذه العلوم ويطبّقوها، عند اقتضاء الأمر، تطبيقاً صحيحاً في بحوثهم، يجب ألاّ تفسّر بأنها ترخيص ضمني بتهميش الفلسفة أو بالاستعاضة عنها في التنشئة الرعويّة وفي التمهيد للإيمان. ولا يسوغ لنا أخيراً أن ننسى ما جدّ في عصرنا من اهتمامٍ بانثقاف الإيمان. وقد أتاحت لنا حياة الكنائس الفتية، بوجه خاص، أن نكتشف لا أشكالاً فكرية متطوّرة وحسب، بل وجود مجموعة من تعابير الحكمة الشعبية، تكوّن تراثاً حقيقياً من الثقافات والتقاليد. بيد أن الإكباب على الأعراف التقليدية يجب أن يتماشى مع البحث الفلسفي الذي يمكّننا من إبراز الملامح الإيجابيّة التي تتسم بها الحكمة الشعبية وخلق رُبُطٍ ملزمة بينها وبين البشارة بالإنجيل[86].

62. أود أن أذكِّر بحزمٍ أن درس الفلسفة يكتسي طابعاً أساسياً وأنه لا يسوغ إلغاؤه من بنية الدروس اللاهوتية وتنشئة المرشحين للكهنوت. وليس من باب الصدفة أن تسبق دورةَ الدروس اللاهوتية فترةٌ ينصرف فيها الإكليريكيون إلى درس الفلسفة خصوصاً. هذا الخيار الذي ثبّته المجمع اللاتراني الخامس[87]، تمتد جذوره إلى الخبرة التي نضجت في القرن الوسيط، حيث تبيّنت أهمية العمل على إقامة بنية متناغمة بين العلم الفلسفي والعلم اللاهوتي. نظام الدروس هذا قد طبع وسهّل وحفز، وإن بطريقة غير مباشرة، جزءاً كبيراً من تطوّر الفلسفة المعاصرة. ولنا في ذلك مثال بليغ في الأثر الذي خلّفته «المناظرات الميتافيزيقية» لفرنشسكوا سواريز التي وجدت لها مكاناً حتى في الجامعات اللوثرية الألمانية؛ وبالعكس، فقد أحدث الاستغناء عن هذه المنهجية ثغراتٍ خطيرة في التنشئة الكهنوتية كما في البحث اللاهوتي. ويكفي التفكير، مثلاً، باللامبالاة بالفكـر والثقافة المعاصرَين وما أدّت إليه من انغلاق على كل شكل من أشكال الحوار أو من استسلام لكل فلسفة بدون تمحيص.

إني آمل من صميم قلبي أن نتخطىّ هذه العقبات بفضل تنشئة فلسفية ولاهوتية واعية يجب ألاّ تنحجب البتّة عن الكنيسة.

63. نظراً إلى الأسباب التي أوردتها، أرى من المُلِحِّ أن أذكّر، في هذه الرسالة، بما تخصّ به الكنيسة الفلسفة من اهتمام كبير، كما أودّ أن أذكّر أيضا،ً بالإضافة إلى ذلك، بالرباط العميق القائم بين العمل اللاهوتي والبحث الفلسفي عن الحقيقة. من هنا واجب السلطة التعليمية أن تحدّد وتشجع نمطاً من الفكر الفلسفي لا ينافي الإيمان. عليَّ أن أقترح من المبادىء والضوابط ما أراه ضرورياً لإقامة علاقة متناغمة وفاعلة بين اللاهوت والفلسفة. في ضؤ هذه المبادىء والضوابط يصبح بالإمكان أن نوضّح العلاقات بين اللاهوت ومختلف النظريات والمقولات الفلسفية المطروحة في العالم المعاصر، وكيف يجب أن تكون هذه العلاقات.
يتبع ..

imad
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.10371 seconds with 10 queries