عرض مشاركة واحدة
قديم 07/08/2005   #1
شب و شيخ الشباب imad
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ imad
imad is offline
 
نورنا ب:
Jul 2005
مشاركات:
188

افتراضي الإيمان والعقل ( قداسة البابا يوحنا بولس الثاني)


صحيح انها طويلة لكني أحببت ان اضعها لأهميتها

رسالة جامعة
في
الإيمان والعقل
FIDES ET RATIO

من قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
إلى اساقفةالكنيسة الكاثوليكيّة
في العلاقات
بين الإيمان والعقل


أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية

تحية وبركة رسولية

الإيمان والعقل هما بمثابة الجناحين اللذين يمكّنان العقل البشري من الارتقاء إلى تأمل الحقيقة. فالله هو الذي وضع في قلب الإنسان الرغبة في معرفة الحقيقة ومعرفته هو ذاته، في النهاية، حتى إذا ما عرفه وأحبّه تمكّن من الوصول إلى الحقيقة الكاملة في شأن ذاته (را خر 33، 18؛ مز 27 [28]، 8-9؛ 63 [62]، 2-3؛ يو 14، 8؛ ا يو 3، 2).

تمهيد
«اعرف نفسك»
1. في الشرق كما في الغرب، بالإمكان أن نلحظ مسيرة دفعت بالبشرية، على مدى أجيال، إلى التقرب شيئاً فشيئاً من الحقيقة ومجابهتها. هذه المسيرة تطوّرت - ولم يكن بالإمكان غير ذلك - في مجال وعي الإنسان لذاته: فبمقدار ما يعرف الإنسان الحقيقة والعالم، يعرف ذاته في فرادتها، فيما يلجّ عليه أكثر فأكثر السؤال عن معنى الأشياء ومعنى وجوده بالذات. فما يظهر لنا موضوع معرفة إنما هو جزء من حياتنا. القول المأثور: «اعرف نفسك» كان منقوشاً على عتبة هيكل دِلف ليشهد لحقيقة أساسيّة، يجب أن تُعتبر قاعدة دُنيا في نظر كل إنسان يريد أن يتميّز عن غيره من الخلائق، ويتّصف بكونه إنساناً لأنه، بالضبط، «يعرف نفسه».

نظرة بسيطة إلى التاريخ القديم تُظهر بوضوح ما ينشأ في غير جزءٍ من أجزاء العالم المعروفة بثقافاتها المتنوّعة، من أسئلة عميقة تطبع مسيرة الوجود البشري بطابع مميّز: من أنـا؟ من أين أنا وإلى أين؟ لماذا وجود الشرّ؟ وماذا يعقب هذه الحياة؟ هذه الأسئلة ماثلة في كتب إسرائيل المقدّسة، ولكنها تطفو أيضاً في كتب الفيدا وكتب الأفستا؛ ونقع عليها أيضاً في مصنّفات كونفوشيوس ولاوتسو كما نعثر عليها في عظات التيرثنكارا وبوذا. ونستشّفها أيضاً في شِعر هوميروس ومسرحيات أوربيذوس وسوفوكليس وكذلك في مصنّفات أفلاطون وأرسطو الفلسفيّة. هذه الأسئلة لها مصدر مشترك: البحث عن المعنى الذي يلج أبداً في قلب الإنسان، والجواب على هذه الأسئلة هو الذي يوجّه الحياة.

2. الكنيسة ليست غريبة عن هذه المسيرة الباحثة ولا تستطيع أن تتجاهلها. فمنذ أن تلقّت، في السرّ الفصحي، هبـة المعرفة القصوى في شأن حياة الإنسان، انطلقت على دروب العالم تنادي بأن يسوع المسيح هو «الطريق والحق والحياة» (يو 14، 6). من بين الخدمات التي تؤديها الكنيسة للبشرية خدمة تُلزِم مسؤوليتَها بطريقة خاصة جداً: وهي خدمة الحقيقة[1]. فمن جهة، نرى أن هذه المُهمّة تدعو جماعة المؤمنين إلى المساهمة في ما تبذله البشرية من جهد مشترك لبلوغ الحقيقة[2]. وهي تلزمها، من جهة أخرى، بأن تتعهَّد المناداة باليقينيات المكتسبة، مع العلم بأن كل حقيقة نُصيبها ما هي سوى مرحلة في الطريق إلى الحقيقة الكاملة التي سوف تظهر لنا في تجليّ الله الأخير: «الآن ننظر في مرآة، في إبهام، أمَّا حينئذٍ فوجهاً إلى وجه. الآن أعلم علماً ناقصاً، أما حينئذٍ فَسَأعْلَم كما عُلِمت» (1 قو 13، 12).

3. يملك الإنسان طاقات كثيرة لدفع التقدَّم في معرفة الحقيقة، بحيث تصبح حياته إنسانية أكثر فأكثر. من بين هذه الطاقات الركون إلى الفلسفة التي تساهم مباشرة في طرح السؤال في شأن معنى الحياة واستطلاع الجواب عليه. الفلسفة هي إذن مهمة من أشرف مهامّ البشرية. لفظة «فلسفة»، في أصلها اليوناني، تعني «حبّ الحكمة». والواقع أن الفلسفة نشأت وترعرعت في الزمن الذي بدأ فيه الإنسان يتساءل عن علة الأشياء وغايتها. ففي أشكال وأنماط متنوعة، تُبيّن لنا الفلسفة أن شوق الحقيقة هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان. إنها مزيّة فطريّة من مزايا العقل أن يتساءل عن علّة الأشياء حتى وإن كانت الأجوبة التي تحظى بها البشرية شيئاً فشيئاً تدخل في إطار رؤية يتجلى من خلالها تكامل الثقافات المتنوّعة التي يعيش فيها الإنسان.

إن ما أحدثته الفلسفة من وقعٍ عميق في تكوين الثقافات في الغرب وتطويرها يجب ألاَّ يُنسينا الأثر الذي خلَّفته أيضاً في مفاهيم الوجود عند الشرقيين. كل شعب يملك حكمة أهلية هي بمثابة ثروة ثقافية حقيقية تسعى إلى أن تعبّر عن ذاتها، وتنضُج أيضاً عبر أنماطٍ فلسفية مميّزة. والبرهان على ذلك أن ثمّة نمطاً أساسياً من أنماط المعرفة الفلسفية لا يزال قائماً حتى اليوم ويمكن أن نتحققه حتى في المسلَّمات التي تستوحيها مختلفُ التشريعات الوطنية والدولية لتثبيت قواعد الحياة الاجتماعية.

4. على كلٍ لا بدَّ من أن نلحظ أن وراء لفظة واحدةٍ تكمن معانٍ مختلفة. لا بدَّ إذن من شرح تمهيدي. يسعى الإنسان، بدافع من رغبته في اكتشاف الحقيقة القصوى في شأن الوجود، إلى امتلاك المعارف العامة التي تتيح له أن يكتنه ذاته اكتناهاً أفضل ويتقدَّم في تحقيق ذاته. المعارف الأَساسية تنبثق من الاندهاش الذي يبعثه فيه تأمّل الخليقة: فالكائن البشري يستحوذ عليه الذهول باكتشاف ذاته مندمجاً في العالم، وفي علاقة مع كائنات أخرى تشبهه يشارك مصيرها. هنا تبدأ المسيرة التي تفضي به إلى اكتشاف آفاقٍ من المعرفة دائمة التجدّد. بدون هذا الاندهاش يقع الإنسان في التكرار ويمسي شيئاً فشيئاً عاجزاً عن أن يحيا حياة شخصية حقيقية.

الطاقة الفكرية التي يتميّز بها العقل البشري تمكّنه من أن يصوغ، عبر النشاط الفلسفي، نمطاً من الفكر الصارم، ومن أن يبني هكذا علماً نظيماً يتميّز بتماسك المقولات تماسكاً منطقياً وبطابع بنيويّ المحتوى. بفضل هذا المسار، استطاعت البشريّة أن تحرز، في قرائن ثقافية مختلفة وفي أزمنة متراوحة، نتائج أفضت إلى صياغة مذاهب فكرية حقيقية. ولكن ما نتج عن ذلك، تاريخياً هو تعرّض الفلسفة غالباً لاعتبار تيارٍ فكريٍ واحد بمثابة الفكر الفلسفي بأجمعه. إلاَّ أنه من الواضح، في مثل هذه الحال، أن هناك شبه «غطرسةٍ فلسفية» تدّعي وضع نظرتها الخاصة، بالرغم من محدوديتها، موضع الرؤية الشاملة. والواقع ان كل مذهب فلسفي، حتى وإن احتُرمَتْ جميع مقوّماته بمنأىً عن كل محاولة من محاولات التوسيل، يجب أن يعترف بأولويّة الفكر الفلسفي الذي ينبثق منه والذي يجب أن يتطوّع له بطريقة متماسكة.

بالإمكان، والحالة هذه، أن نهتدي إلى وجود نواةٍ من المفاهيم الفلسفية الثابتة في تاريخ الفكر، بالرغم من التقلبات عبر الأزمنة، وتطورات العلم. وحسبنا، مثالاً على ذلك، أن نعود بالفكر إلى مبدأ اللاتناقضية والغائية والسببية، وكذلك إلى رؤية الإنسان كائناً حراً مفكّراً وقدرته على معرفة الله والحقيقة والخير؛ حسبنا أن نعود أيضاً إلى بعض القواعد الأخلاقية الأساسية المعترف بها عامَّة. هذه المفاهيم وغيرها هي الدليل على أن هناك مجموعة من المقولات يمكن أن نعتبرها شبه تراث روحي للبشرية باسرها، بصرف النظر عن التيارات الفكريّة المختلفة؛ فكأنما نحن بإزاء فلسفة ضمنية تحمل كلاَّ منا على الشعور بأنه يمتلك هذه المبادىء، حتى وإن كان ذلك بطريقة عامة وعفويَّة. هذه المفاهيم، بسبب كونها تراثاً مشتركاً بين الجميع، إلى حدٍّ ما، يجب أن تكوّن مراجع تعتمدها مختلف المدارس الفلسفية. عندما يتوصل العقل إلى أن يدرك ويصوغ المبادىء الأولى والشاملة وأن يستخلص منها، بطريقة سليمة، النتائج المتماسكة على صعيد المنطق والأخلاق، بإمكاننا عندئذٍ أن نتكلم عن عقل سويّ، على حدٍّ تعبير القدامى.

5. وأمَّا الكنيسة فلا تخلو من أن تقدّر جهود العقل للوصول إلى الأهداف التي تضفي على الوجود الشخصي مزيداً من الكرامة. فهي تتوسَّم في الفلسفة وسيلة لا بدَّ منها للتعمق في فهم الإيمان، وتبليغ حقيقة الإنجيل للذين لم تصل بعد إليهم.

تعقيباً على ما قام به أسلافي في هذا المجال، أودُّ أنا أيضاً أن أوجّه نظري إلى هذا النمط الخاص من النشاط الفكري. وما يحملني على هذا هو ما يبدو لنا غالباً، في هذا العصر خصوصاً، من محاولات التعتيم على التماس الحقيقة. لا شك أن الفلسفة المعاصرة لها الفضل الكبير في تركيز انتباهها على الإنسان. من هذا المنطلق، أخذ العقل المزدحم بالتساؤلات يعزّز رغبته في امتلاك معرفة أوسع وأعمق. هكذا نشأت مذاهب فكرية معقّدة أعطت ثمارها في مختلف مجالات العلم وساعدت في تطوير الثقافة والتاريخ.

علم الإنسان والمنطق وعلوم الطبيعة والتاريخ واللغة، بل عالم المعرفة كله، تناولته الفلسفة بطريقة ما. إلاّ أن النتائج الإيجابيّة المحصَّلة يجب ألاّ تلهينا عن أن هذا العقل ذاته المنهمك في التحرّي عن الذات الإنسانية بطريقة حصرية، يبدو في غفلة عن أن هذا الإنسان لا يزال مدعواً أيضاً إلى الشخوص إلى حقيقة تتخطاه. بمعزلٍ عن هذا المرجع يظلُ الإنسان عرضة للاعتباطية ويمسي خاضعاً لمقاييس برغماتية مرتكزة جوهرياً على المعطى الاختباري، وذلك من منطلق يقين زائف بأن التقنيَّة يجب أن تُهيمن على كل شيء. ونجم عن ذلك أن العقل المثقل بمثل هذا القدر من العلم، بدلاً من أن يعبّر قدر الإمكان عن نزوعه إلى الحقيقة. انكفأ على ذاته وأمسى يوماً أقلَّ من يوم أهلاً لأن يرفع بصره إلى فوق، ويتجرأ على الوصول إلى الحقيقة. الفلسفة المعاصرة، في غفلتها عن التماس حقيقة الكيان، كثَّفت بحثها في المعرفة البشرية. وبدلاً من أن ترتكز على قدرة الإنسان على معرفة الحقيقة آثرت التركيز على محدوديتها ومظروفياتها.

نتج عن ذلك غير شكلٍ من أشكال اللاّأدرية والنسبويّة أدت بالبحث الفلسفي إلى الضياع في الريبيَّة الشاملة ورمالها المتحركة. وقد أخذت تتفاقم، في المدة الأخيرة، بعض التعاليم النازعة إلى الحطّ من قيم الحقائق التي كان الإنسان قد تثبَّت من بلوغها. وهكذا تراجعت التعدّدية المشروعة في المواقف أمام التعدّدية اللامبالية المرتكزة على المبدأ القائل بأن كل المواقف سواء. وتلك دلالة من أكثر الدلائل انتشاراً على ما نلحظه، في القرائن الراهنة، من حذر تجاه الحقيقة. هناك نظريات في الحياة صادرة من الشرق لا تخلو، أيضاً من مثل هذا التحقظ. ففي نظرها يجب أن نخلع عن الحقيقة طابعها المطلق، وذلك انطلاقاً من الفرضيَّة القائلة بأن الحقيقة تتجلى بطريقة متساوية في معتقدات مختلفة بل متضاربة. من هذا المنظار، كل شيء يصبح مجرَّد رأي. ويسودنا الشعور بأننا بإزاء حركة متموّجة: فمن جهة نرى أن الفكر الفلسفي قد أفلح في سلوك الطريق التي تقرّبه أكثر فأكثر من الوجود البشري في مختلف تعابيره، ونرى، من جهة أخرى، أنه ينـزع إلى تنمية اعتبارات وجودية وتفسيرية ولغويّة تطمس السؤال الجوهري في شأن حقيقة الحياة الشخصية وحقيقة الكيان والله؛ وبالنتيجة أخذت تظهر عند الإنسان المعاصر، وليس عند بعض الفلاسفة وحسب، مواقف ارتياب على جانب من الانتشار حيال ما يملكه الكائن البشري من طاقات كبيرة تخوّله الوصول إلى المعرفة. وبدافع من التواضع المزيّف، بات عصرنا مكتفياً بالحقائق الجزئية والوقتية، متنصّلاً من السعي إلى طرح الأسئلة الجذرية حول معنى الحياة البشرية الشخصية والاجتماعية ومرتكزها الأخير. وخلاصة القول أن عصرنا قد فقد الرجاء في أن يتلقى من الفلسفة أجوبة حاسمة على هذه الأسئلة.

6. وأمَّا الكنيسة المدعومة بما تلقته من وحي يسوع المسيح، فهي تجد نفسها أهلاً لأن تؤكد، مرة أخرى، ضرورة البحث عن الحقيقة. وهذا ما حملني على التوجه إليكم، أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية الذين أشترك وإياهم في «إظهار الحق» (2 قو 4، 2)، كما أتوجه أيضاً إلى اللاهوتيين والفلاسفة الذين يقع عليهم واجب التحرّي عن مختلف وجوه الحقيقة. وأتوجه أخيراً إلى الذين هم في طور البحث، لأنقل إلى هؤلاء جميعاً بعض الأفكار في الطريق المؤدّية إلى الحكمة الحقيقية، حتى يتمكن كل الذين يحملون في قلوبهم محبّة الحكمة من أن يسلكوا الطريق الصحيحة التي توصلهم إليها ويجدوا فيها مكافأة أتعابهم مقرونة بالفرح الروحي.

إن ما يدفعني إلى اتخاذ هذه المبادرة هو أولاً تنبّهي لما يعبّر عنه المجمع الفاتيكاني، عندما يؤكد أن الأساقفة هم «شهود الحقيقة الإلهية والكاثوليكيّة»[3]. الشهادة للحقيقة هي إذن مسؤولية وُكلت إلينا تحن الأساقفة، ولا يسوغ لنا أن نستعفي منها بدون أن نخلِف بالخدمة التي أُسنِدَت إلينا. عندما نؤكّد حقيقة الإيمان، بإمكاننا أن نعيد إلى إنسان عصرنا ثقة حقيقية بطاقاته الإدراكية ونتحدَّى الفلسفة لتعود وتكتشف ثانية كرامتها الكاملة وتعزّزها.

هناك دافع آخر يحثني إلى تسطير هذه الأفكار. في رسالتي العامة «تألق الحقيقة» لفتُّ الانتباه إلى «بعض الحقائق الأساسية في التعليم الكاثوليكي المعرّضة للتشويه والرفض في القرائن الراهنة»[4]. إني أود، من خلال هذه الرسالة، أن أواصل هذا البحث وأركّز الانتباه على موضوع الحقيقة بالذات ومرتكزها بالنسبة إلى الإيمان. لا يمكننا، في الواقع، أن ننكر ما يجري في هذه الفترة من تحوّلات سريعة ومعقَّدة تعرّض الأجيال الناشئة، وبخاصّة التي في يدها المستقبل وبها يتعلَّق، لأن تشعر بفقدان المعالم الصحيحة على طريق الحقيقة. ضرورة الارتكاز على أساس يبنى عليه صرح الوجود الشخصي والاجتماعي أمست حاجة مُلِحَّة، خصوصاً عندما نجدنا مضطرين إلى لمس الطابع التصدّعي في طروحات ترفع الأشياء العابرة إلى مستوى القيم، توهماً أنه بالإمكان الوصول إلى الوجود في معناه الحقيقي. وينجم عن ذلك أن كثيراً من الناس يجرجرون حياتهم عند حافة الهوّة، لا يدرون إلى أين يتوجهون. وهذا منوط أيضاً بأن الذين كانوا مدعوِّين بدعوة خاصة إلى التعبير عن ثمرة تفكيرهم في أشكال ثقافية، قد أشاحوا بنظرهم عن الحقيقة وآثروا النجاح الفوري على عناء البحث الصبور في ما هو جدير بالحياة. الفلسفة التي تحمل المسؤولية الباهظة في تنشئة الفكر والثقافة، بالدعوة الدائمة إلى التماس الحقيقة، عليها أن تعود إلى اكتشاف رسالتها الأصيلة اكتشافاً ناشطاً. ولذا شعرتُ لا بضرورة الخوض في هذه المسألة وحسب بل بالواجب الملقى على عاتقي في معالجة هذا الموضوع، لكي تتمكن البشرية، وهي عند عتبة الألف الثالث من التاريخ المسيحي، من أن تعي بوضوح أكثر الطاقات العظيمة التي أُكرمت بها وتسير، بشجاعة متجدّدة، في سبيل تحقيق خطة الخلاص التي يتسجَّل فيها تاريخها.



الفصل الأول
الكشف عن حكمة الله
يسوع يعلن لنا الآب

7. في منطلق كل فكر تخوض فيه الكنيسة، نجد اليقين بأنها مؤتمنة على رسالة تنبع في ذات الله (را 2 قو 4، 1-2). المعرفة التي تقدمها الكنيسة للإنسان ليست عصارة تفكيرها، مهما سما، بل نتيجة تلقيّها كلمة الله في الإيمان (را 1 طيم 2، 13). كياننا نحن المؤمنين ينبع من لقاء فريد من نوعه، اطَّلعْنا به على سرّ مطوي منذ الدهور (را 1 قو 2، 7؛ روم 16، 25-26)، وانكشف لنا الآن: «لقد رضي الله في جودته وحكمته أن يكشف لنا ذاته ويطلعنا على سرّ مشيئته» (را أف 1، 9) الذي يوصل الناس إلى عند الآب بواسطة المسيح الكلمة المتجسّد، وفي الروح القدس، ويصيرون به شركاء في الطبيعة الإلهية»[5]. تلك بادرة مجَّانيَّة على الإطلاق، تصدر من عند الآب لتتدارك البشرية وتخلصها. إن الله، بوصفه ينبوع حبّ، يريد أن يعرِّفنا ذاته، وما يحصّله الإنسان من معرفة الله يساعده في استكمال كل معرفة أخرى تتعلق بمعنى وجوده، وبإمكان عقله أن يتوصَّل إليها.

8. الدستور العقائدي «كلمة الله» الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني، قد استعاد بطريقة شبه حرفية ما ورد في المجمع الفاتيكاني الأول في دستوره العقائدي «ابن الله»، كما استعان بالمبادىء التي حددها المجمع التريدنتيني ليواصل المسيرة العريقة في فهم الإيمان، وتأمَّل في الوحي في ضوء التعليم البيبلي ومجمل التقليد الآبائي. في المجمع الفاتيكاني الأول أكبَّ الآباء على التنويه بالطابع السماوي في الوحي الإلهي. النقد العقلاني الذي كان يطعن في الإيمان آنذاك، انطلاقاً من طروحات خاطئة وشديدة الانتشار، كان يهدف إلى نفي كل معرفة لا تُجتنى من طاقات العقل الطبيعية. هذا الواقع اضطَرَّ المجمع إلى أن يعود ويؤكد بقوة أن هناك معرفة هي من مزيّة الإيمان إلى جانب المعرفة النابعة من العقل البشري، القادر على الوصول إلى الله بطريقة طبيعية. هذه المعرفة الإيمانية تعبّر عن حقيقة ترتكز على وحي من الله، وهي حقيقة مؤكدة لأن الله لا يغلط ولا يريد أن يخدع[6].

9. المجمع الفاتيكاني الأول يعلمنا إذن أن الحقيقة التي نحصّلها عن طريق الفكر الفلسفي والحقيقة الصادرة عن الوحي لا تختلطان، وأن الواحدة لا تغني عن الأخرى: «هناك صنفان من المعرفة متميزان، لا من حيث المصدر وحسب، بـل من حيث الموضوع أيضاً. أمّا من حيث المصدر، فلأن المعرفة الأولى تتوسّل العقل الطبيعي، وأمّا الثانية فتعتمد الإيمان الإلهي للوصول إلى المعرفة. وأمّا من حيث الموضوع، فلأن هناك ما يتخطى الحقائق التي يستطيع العقل الطبيعي أن يحصّلها، وهو مجموع ما يقدّمه لنا الإيمان من أسرارٍ مطويَّة في الله نعجز عن معرفتها إذا لم يكشفها الله لنا»[7]. والواقع أن الإيمان المرتكز على شهادة الله والمدعوم بالنعمة العلوية هو من غير مستوى المعرفة الفلسفية؛ فهذه تعتمد الإدراك الحسي والاختبار وتنمو في ضوء العقل فقط. الفلسفة والعلوم تتقدّم على صعيد العقل، بينما الإيمان الذي يستنير ويهتدي بالروح فهو يجد في بشرى الخلاص «ملء النعمة والحق» (را يو 1، 14) الذي أراد الله أن يكشفه لنا في التاريخ وبطريقة حاسمة بابنه يسوع المسيح (را 1 يو 5، 9؛ يو 5، 31-32).

10. آباء المجمع الفاتيكاني الثاني ثبتوا نظرهم على يسوع الذي كشف لنا [سرّ الله]، فنوّهوا بما يتميّز به الكشف عن الله في التاريخ من طابع خلاصي، وعبَّروا عن فحوى هذا الكشف بالعبارات التالية: «في عملية المكاشفة هذه يخاطب الله غير المنظور (قول 1، 15؛ 1 طيم 17) جماعة البشر، مـن فيض حنانه، كما يخاطب الأحباء (خر 33، 11 يو 15، 14-15). إنه يتحدث إليهم، وهو في علاقة معهم (را با 3، 83)، ليطلب منهم أن يشاركوه في حياته ويقبلهم في هذه الشركة. وقد شاء أن تتم هذه المكاشفة بواسطة أعمال أجراها، وأقوال ساقها، وكلاهما وثيق الارتباط: فالأعمال التي عملها في تاريخ الخلاص أوضحت تعاليمه، ووطَّدت مدلول كلامه، كما أن الأقوال التي قالها أشادت بأعماله، وأظهرت ما فيها من تدابير تفوق الإدراك. بواسطة هذه المكاشفة، بدأت الحقيقة العميقة في شأن الله كما في شأن خلاص الإنسان تتجلى لنا بسناء في المسيح الذي هو وسيط كل الوحي وكما له في آن واحد»[8].

11. الوحي الإلهي يندرج إذن في الزمان وفي التاريخ. وحتى تجسّدُ يسوع المسيح صار «في ملء الزمان» (غل 4، 4). ألفي سنة من بعد هذا الحدث، أشعر بحاجة العودة إلى التأكيد بقوة «أن الزمن في المسيحيّة له أهمية أساسية»[9]. ففـي الزمن يظهر كل عمل الخلق والخلاص، ويتجلى لنا خصوصاً أننا، بواسطة تجسّد ابن الله، نعيش ونستبق، منذ الآن، ما سوف يكون كمال الزمان (را عب 1، 2).

الحقيقة التي وكلها الله إلى الإنسان في شأن ذاته وفي شأن حياته تندرج إذن في الزمان وفي التاريخ. ومن الثـابت أن هذه الحقيقة نُطق بها مرة واحدة في سرّ يسوع الناصري. وهذا ما ورد بوضوح في الدستور العقائدي «كلمة الله»: «إن الله، بعد أن تكلّم بلسان الأنبياء مراراً عديدة، وبأساليب مختلفة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة بالابن» (عب 1، 1-2). فلقد أرسل الله ابنه، الكلمة الأزلي، الذي ينير كل البشر، ليسكن بين الناس، ويطلعهم على أعماق الله (يو 1، 1-18)، فجاء يسوع المسيح كلمةً متجسداً وبشراً رسولاً إلى البشر، «ينطـق بكلمات الله» (يو 3، 34)، ويُجري عمل الخلاص الذي أعطاه اللهُ أن يتمّمه. «ولأن من رآه فقد رأى الآب» (يو 14-9) جاء يسوع ليعيش بين البشر ويظهر لهم ذاته، بأقواله وأعماله ثم بآياته وعجائبه، وخاصة بموته وقيامته المجيدة من بين الأموات وأخيراً بإرساله روح الحق، ويُنجِز هكذا الوحي ويتمّمه»[10].

التاريخ في نظر شعب الله هو بمثابة طريق لا بدَّ من أن نسير فيه حتى النهاية، بحيث تصبح الحقيقة الموحاة قادرة على التعبير عن محتواها تعبيراً كاملاً بفضل ما يقوم به الروح من عمل دائم (را يو 16، 13). وهذا ما نجده أيضاً في الدستور العقائدي «كلمة الله»، عندما يؤكد: «تسعى الكنيسة، بلا انقطاع، وعلى مرّ العصور، إلى أن تبلغ الحقيقة الإلهية كاملة، إلى أن يحين لها الوقت، فتتحقق فيها أقوال الله»[11].

12. يصبح التاريخ إذن الموقع الذي نتحقق فيه عمل الله لخير البشرية. إن الله يلاقينا في ما هو مألوف لدينا ولا يصعب علينا التحقق منه، لأن التاريخ هو إطار حياتنا اليومية وبدونه لا يمكن أن يتم التفاهم بيننا.

إن تجسّد ابن الله يتيح لنا أن نشهد الحصيلة النهائية التي لم يكن العقل البشري، من منطلق ذاته، يتصوّرها ولو بالخيال: وهو أن الأبديّ اقتحم الزمن، والكلَّ احتجب وراء الجزء، والله اتخذ وجه إنسان. الحقيقة التي عبَّر عنها وحي المسيح لم تعد محصورة في حيّز جغرافي وثقافي محدود، بل هي مفتوحة على كل إنسان، رجلاً كان أم امرأة، يريد أن يقبلها كلمةً قادرة بقدرة حاسمة على أن تعطي معنىً للوجود. والواقع أن الجميع يجدون في المسيح طريقاً إلى الآب: وذلك بأن المسيح، بموته وقيامته، وهب الحياة الأبدية التي كان آدم قد رفضها (را روم 5، 12-15). بواسطة هذا الكشف يتلقى الإنسان الحقيقة القصوى في شأن حياته وفي شأن مصير التاريخ: «ممّا لا شك فيه أن مصير الإنسان لا يستضيء حقاً إلاّ في ضوء سرّ الكلمة المتجسد، على حدّ ما يؤكده الدستور العقائدي «فرح ورجاء»[12]. بمنأىً عن هذه الرؤية، يبقى سـرَّ الوجود الشخصي لغزاً مطبقاً.

أين يستطيع الإنسان أن يلقى جواباً على الأسئلة الخطيرة كالعذاب وعذاب البريء والموت إلاّ في الضوء المنبعث من سرّ آلام المسيح وموته وقيامته؟

العقل في مواجهة السرّ

13. على كلٍّ، يجب ألاَّ يغرب عن فكرنا أن الوحي يظلّ مطبوعاً بطابع السرّ. لا شك أن يسوع، من خلال حياته كلها، قد كشف لنا عن وجه الآب، ما دام قد جاء إلى الأرض ليعرّفنا بأعماق الله[13]. ومع ذلك فمعرفتنا لهذا الوجه لا تزال مطبوعة بطابع الجزئية والمحدودية. الإيمان وحده يتيح لنا ولوج السرّ ويساعدنا في إدراكه إدراكاً منطقياً.

يصرّح المجمع بقوله: «بإزاء الله الذي يوحي، يقوم واجب الإنسان بطاعة الإيمان»[14]. هذه العبارة المقتضبة والمكثّفة تعبّر عن حقيقة أساسية من حقائق المسيحيّة. فنحن نقول أولاً بأن الإيمان إنما هو جواب طاعة لله. ويفترض هذا أن نُقِرَّ بألوهيته وسموّه وحريته المطلقة. إن الله الذي يعرّف عن ذاته في سلطة سموّه المطلق يؤتينا أيضاً من الأسباب ما يجعلنا نؤمن بوحيه. بالإيمان يذعن الإنسان لهذه الشهادة الإلهية؛ ويعني هذا أنه يُقرّ إقراراً كاملاً وكلياً بحقيقة ما يوحى به إلينـا لأن الله نفسه هو كفيل ما يقوله. هذه الحقيقة التي أُكرم بها الإنسان والتي لا يسوغ للإنسان أن يطالب بها تدخل في نطاق المكاشفة المتبادلة، وتحمل العقل على أن يتقبلّها ويدرك معناها الصميم. ولذا فما يقوم به الإنسان من تقدمة ذاته لله، تعتبره الكنيسة لحظة خيار أساسيّة يلتزم بها الإنسان كلَّه. ويتعاون العقل والإرادة إلى أقصى ما تطيقه طبيعتهما الروحية، ليتيحا للإنسان أن يأتي بعمل يُمارس فيه الحرّية الشخصية ممارسة كاملة[15]. في الإيمان، ليست الحريّة أمراً راهناً وحسب، بل هي مقتضىً من مقتضياته. لا بل إن الإيمان هو الذي يتيح لكل مناً أن يعبّر عن حريته بأكمل وجه. وبتعبير آخر لا يمكن أن تتحقق الحرية في الخيارات المعادية لله. فكيف نحسب رفض الانفتاح على ما يتيح لنا تحقيق الذات وجهاً صحيحاً من وجوه استعمال الحرية؟ وذلك بأن الحرية، ههنا، تلتقي يقين الحقيقة، وتقرّر العيش معها.

الدلالات الماثلة في الوحي تساعد هي أيضاً العقل في سعيه إلى فهم السرّ، وتفيد في تحقيق البحث عن الحقيقة بوجه أعمق وتخوّل العقل أن يتغلغل في أعماق السرّ بطريقة مستقلّة. وعلى كلٍ، إذا كانت هذه الدلالات، من جهة، تقوّيل العقل ليتمكّن بوسائله الخاصة من التماس الحقيقة داخل السرّ بوسائله الخاصة التي يحرص عليها، فهي تدعوه، من جهة أخرى، إلى التسامي فوق صفتها الدلالية ليتلقّى ما تحمله من معانٍ قصية. فهي تحمل إذن حقيقة مطوية يعود إليها العقل ولا يسوغ له أن يجهلها بدون أن يهدم الدلالة المقدَّمة له.

إن لنا هنا عودة، نوعاً ما، إلى الوحي من زاويته الأسرارية، وبخاصة إلى العلامة الإفخارستية التي نجد فيها من الترابط الوثيق بين الحقيقة ومدلولها ما يساعدنا في فهم السرّ في عمقه. في الإفخارستيا، المسيح حاضر حضوراً حقيقياً وحياً ويعمل بواسطة روحه؛ «ولكنك - على حدّ قول القديس توما (الأكويني) - ، لا تفهمه ولا تراه. ولكن الإيمان الحيّ هو الذي يؤكّد ذلك، متعالياً فوف الطبيعة. تحت الشكل المزدوج، وهو ذاته علامة شيء آخر، تنبض الحقيقة المقدَّسة»[16]. ويصدي الفيلسوف باسكال لهذه الفكرة بقوله: «كما ظل يسوع المسيح مغموراً بين الناس، تظل حقيقته مغمورة بين الأفكار الشائعة، لا تختلف عنها في الظاهر. كذلك الإفخارستيا بين الخبز الشائع»[17].

خلاصة القول أن المعرفة الإيمانية لا تلغي السرّ، بل تجلوه وتعلنه بمثابة أمر جوهري في حياة الإنسان: إن الربّ يسوع «في كشفه عن سرّ الآب ومحبته، يبيّن للإنسان حقيقة الإنسان في وضوحٍ كامل، ويكشف له عن سرّ دعوته»[18]، وهي المشاركة في سرّ الله وحياته الثالوثية[19].

14. تعليم مجمعي الفاتيكان يفتح لنا أيضاً رؤية حقيقية لمستجدات العلم الفلسفي. فالوحي يُدخل في التاريخ معْلماً لا يسوغ للإنسان أن يجهله، إذا أراد الوصول إلى اكتناه سرّ وجوده. ولكن هذه المعرفة، من جهة أخرى، تعيد الإنسان دوماً إلى سرّ الله الذي لا يستطيع العقل أن يسبر عمقه بل عليه أن يقبله ويتقبله في الإيمان. ضمن هذين المعطيين، يتمتع العقل بحيّز خاص يخوّله القدرة على البحث والفهم، لا يحدُّه في ذلك إلاَّ محدوديته بإزاء سرّ الله اللامحدود.

يُدخل الوحي إذن في تاريخنا حقيقة شاملة وقصوى تحمل الذهن البشري على ألاَّ يتوقف أبداً، لا بل تحفزه على ان يوسّع بلا انقطاع نطاق علمه، ما دام لم يقتنع بأنه أنجز كل ما في وسعه، من غير أن يهمل شيئاً. في هذا المجال الفكري نجد في القديس انسلمُس عوناً وهو أحد أخصب المفكّرين وأبرزهم في تاريخ البشرية، ومرجع لا بدًّ منه للفلسفة كما للاَّهوت. وقد أورد رئيس أساقفة كانتور بري في كتابه «التمهيد» ما يلي: «لما كنت مراراً وباندفاع أوجّه فكري إلى هذا الأمر، فما كنت أبحث عنه، كنت أتصور أحياناً أنه أصبح ضمن مداركي، وأحياناً أخرى كان يفلِت من نظر عقلي؛ وإذ تولاّني اليأس أخيراً هممت بالتوقف، وقد بدا لي أني ألاحق طريدة يستحيل إدراكها. ولكن فيما كنت مصمّماً كل التصميم على ان أتخلى عن هذه الفكرة لئلاَّ تشغل ذهني وتحبسني عن مشاغل أخرى بإمكاني أن أتقدم فيها، إذا بها تعود وتراودني أكثر فأكثر حتى الإزعاج، بالرغم من رفضي ودفاعي […] ولكن ويحي أنا الشقي من بين أشقياء آخرين من بني حوّاء البعيدين عن الله، ماذا صنعت وماذا أنجزت؟ إلى أين كنت أطمح وإلى أين وصلت؟ إلام كنت أتشوّق وعلام كنت أتنهًّد؟ […] وبالتالي، ربّ، لستَ فقط بحيث لا يمكن أن نتصوّر شيئاً أعظم منك وحسب، بل أنت أعظم مما يمكن أن نعقله […] فإذا لست هذا بعينه فبالإمكان أن نفعل شيئاً أعظم منك، وهذا مُحال»[20].

15. حقيقة الوحي المسيحي الذي نجدها في يسوع الناصري تتيح لكل إنسان أن يتقبّل «سرّ» حياته. ومع كونها حقيقة قصوى، فهي تحترم استقلالية المخلوق وحريته وتناشده الانفتاح على ما هو فوق المخلوق. هنا تصبح العلاقة بين الحرية والحقيقة أمراً مطلقاً، ويصبح بإمكاننا أن نفهم كلام الربّ: «تعرفون الحق والحق يُحرِّركم» (يو 8/32).

الوحي المسيحي هو النجم الذي به يهتدي الإنسان الساعي وسط قرائن الذهنية المثولية ومآزق المنطق التكنوقراطي. إنها الفرصة القصوى التي يضعها الله في تصرفنا لنستعيد كامل الخطة الأصلية، خطة الحبّ التي بدأها الله منذ الخلق. الإنسان الذي يتوق إلى معرفة الحق، إذا كان لا يزال قادراً على أن ينظر إلى ما هو ابعد من ذاته، ويرفع بصره إلى ما هو أسمى من مخططاته، مثل هذا الإنسان يحظى بما يمكّنه من العثور على علاقة صحيحة مع ذاته، باتباعه طريق الحق. كلمات سفر تثنية الاشتراع تنطبق تماماً على هذا الوضع: «إن هذه الوصية التي أنا آمرك بها اليوم ليست فوق طاقتك ولا بعيدة منك. لا هي في السماء فتقول: من يصعد لنا إلى السماء فيتناولها ويُسمعنا إياها فنعمل بها؟ ولا هي في عبر هذا البحر فتقول: من يقطع لنا هذا البحر فيتناولها ويُسمعنا إياها فنعمل بها؟ بل الكلمة قريبة منك جداً في فمك وفي قلبك لتعمل بها» (تث 30/11-14). هذا النص توازيه فكرة القديس الفيلسوف واللاهوتي أوغسطينوس: «لا تخرج خارجاً، بل عُد إلى ذاتك، ففي الإنسان الباطن تكمن الحقيقة»[21].

في ضوء هذه الاعتبارات، نصل إلى النتيجة الأولى الملزمة: الحقيقة التي ينقلها إلينا الوحي ليست هي الثمرة الناضجة أو القمة التي يفضي إليها فكر يفرزه العقل، بل تبدو لنا، بالعكس، حقيقة مجَّانيّة تُفعِّل الفكر ولا يمكن إلاَّ أن نتقبلها بمثابة تعبير من تعابير حبّ الله. هذه الحقيقة الموحاة هي استباق في التاريخ للرؤية الأخيرة والحاسمة، رؤية الله المحفوظة للمؤمنين به والباحثين عنه بقلب مخلص. الغاية القصوى للوجود الشخصي إنما هي موضوع بحث للفلسفة كما للاهوت، وكلتاهما، وإن بطرق ومحتويات مختلفة، يتفحصان «طريق الحياة»، هذه (مز 16 [15]/11) التي تفضي بنا أخيراً، على حدّ ما يؤكده لنا الإيمان، إلى مشاهدة الله الواحد والمثلث الأقانيم في ملء الفرح وديمومته.



الفصل الثاني
أومن لأفهم
» الحكمة تَعلَم وتَفهمُ كلَّ شيء« (الحكمة 9، 11)

16. العلاقة العميقة بين المعرفة بالإيمان والمعرفة بالعقل يعبّر عنها الكتاب المقدّس بكلمات غايةٍ في الوضوح. هذه المعضلة تعالجها الكتب الحكميَّة خصوصاً. واللافت في قراءة هذه الصفحات من الكتاب المقدّس، بلا تحيّز، هو أن هذه النصوص تتضمن لا إيمان إسرائيل وحسب، بل كنـز الحضارات والثقافات البائدة. فمن خلال هذه الصفحات الغنية بالبداهة العميقة، ولغاية محدّدة، تعود مصر وبلاد ما بين النهرين تردّد صوتها على أسماعنا، وتعيد الحياة إلى بعض الملامح المشتركة ما بين ثقافات الشرق القديم.

وليس من باب الصدفة أن يعمد أصحاب الكتب المقدّسة إلى وصف الرجل الحكيم بأنه يهوى الحقيقة ويلتمسها: «طوبى للرجل الذي يتأمل في الحكمة ويتحدّث بها في عقله، ويفكّر في طرقها بقلبه ويتبصّر في أسرارها، وينطلق في إثرها كالباحث ويترقب عند مداخلها ويتطلع من كواتها ويتسمّع عند أبوابها، ويحلُّ بقرب بيتها ويضرب وتداً في حائطها وينصب خيمته بجانبها وينزل بمنزل الخيرات؛ يجعل بنيه في كنفها ويسكن تحت أغصانها، يستتر بظلها من الحر وفي مجدها يجد راحة» (ابن سيراخ 14، 20-27).

نلحظ إذن أن التوق إلى المعرفة، في نظر الكاتب المقدّس، هو مزيّة مشتركة ما بين جميع الناس. القدرة على «انتشال الماء العميق» أي ماء المعرفة، بواسطة العقل، إنما هي عطية يمّن بها الله على الجميع، المؤمنين وغير المؤمنين. معرفة العالم وظاهراته، في شعب إسرائيل القديم، لم تكن لتتم بطريقة تجريدية كما لدى الفيلسوف الاغريقي أو الحكيم المصري. ولم يكن الاسرائيلي العادي ليدرك المعرفة انطلاقاً من مقاييس الزمن المعاصر الذي ينـزع إلى تقسيم المعرفة. ومع ذلك فقد سعى العالم البيبلي إلى توجيه رفده الأصيل وجرّه إلى بحر نظرية المعرفة.

ما هو هذا الرفد؟ إن ما يتميّز به النصّ البيبلي هو الاعتقاد بأن هناك وحدة عميقة ومتماسكة بين المعرفة بالعقل والمعرفة بالإيمان. العالم وما يجري فيه، وكذلك التاريخ وتقلبات الشعوب هي من الحقائق التي ينظر فيها العقل ويحلّلها ويحكم فيها بوسائله الخاصة، ولكن بدون أن يظل الإيمان بمنأىً عن هذا السياق. فالإيمان لا يتدخل ليقلّل من استقلالية العقل أو لينتقص من رقعة عمله، ولكن ليُفهِم الإنسان أن إله إسرائيل يتجلّى ويعمل من خلال هذه الأحداث. ومن ثم، فالوقوف على أحوال العالم وأحداث التاريخ وقوفاً راسخاً لا يتم إلاّ إذا رافق هذه المعرفة الطبيعية اعلان إيماننا بالله الذي يعمل فيها. الإيمان يرهف النظر الباطن ويتيح للعقل أن يكتشف، في سياق هذه الأحداث، ملامح العناية الإلهية وحضورها الفاعل. إننا نجد، في سفر الأمثال، كلاماً معبّراً في هذا الشأن: «قلب الإنسان يفكّر في طريقه والرب يهدي خطواته» (16، 9)؛ ونرى، بتعبير آخر، أن الإنسان بإمكانه أن يهتدي طريقه في ضوء العقل، ولكنه يقدر أن يجتازه سريعاً وبلا عائق حتى النهاية إذا خلصت نيته ووضع بحثه في منظور الإيمان. العقل والإيمان لا يمكن إذن الفصل بينهما بدون أن يفقد الإنسان قدرته على أن يعرف ذاته، ويعرف الله والعالم معرفة وافية.

17. من المستحيل إذن أن يقوم صراع أو منافسة بين العقل والإيمان: فالواحد يندمج في الآخر ولكلٍّ منهما حيّزه الخاص. وهنا أيضاً، نقرأ في سفر الأمثال ما يوجّهنا في هذا الاتجاه: «مجد الله كتْم الكلمة ومجد الملوك فحص الكلمة» (25، 2). الله والإنسان، كلٌّ في عالمه الخاص، مرتبطان بعلاقة فريدة. الله مصدر الأشياء كلها وفيه يكتمل السرّ، وهذا هو مجده. وأما الإنسان فعليه أن يبحث عن الحقيقة بعقله، وهذا شرفه. إلى هذه الفسيفساء ينضاف عنصر آخر نجده في صلاةٍ لصاحب المزامير: «اللهّم ما أصعب أفكارك، ما أكثر أبوابها، أعُدُّها فتزيد على الرمال. هل انتهيت؟ إني لم أبرح معك» (139 [138]، 17-18). التوق إلى المعرفة هو من القوّة والدينامية بحيث إن قلب الإنسان، بالرغم من محدوديته المانعة، يحنُّ إلى ما في الآخرة من ثروة لا محدودة، مدرِكاً بالحدس أنها تتضمن الجواب المقنع على الأسئلة المستعصية.

18. يسوغ لنا القول إذن إِن اسرائيل استطاع أن يفتح للعقل طريقاً إلى السرّ: لقد سبر في الوحي الإلهي سبراً عميقاً كل ما كان يسعى إلى إدراكه بالعقل، دون جدوى. من منطلق هذا الشكل الأعمق من المعرفة، أدرك الشعب المختار أنّ على العقل أن يراعي بعض القواعد الأساسيّة ليتمكن من التعبير عن طبيعته بأفضل وجه. القاعدة الأولى هي اعتبار المعرفة البشرية طريقاً لا هدنة فيه، والثانية تنبع من اليقين بأن الانسان لا يستطيع أن يسلك مثل هذا الطريق وهو يتبجَّح كمن يظنّ أن كل شيء هو ثمرة تحصيل شخصي. وأما القاعدة الثالثة فترتكز على «مخافة الله» الذي يجب على العقل أن يعترف بسيادته المطلقة وبمحبته البصيرة في تدبير العالم.

كل مرة يبتعد الإنسان عن هذه القواعد يتعرَّض للفشل ويمسي في النهاية في حكم «السفيه». في الكتاب المقدَّس، تشكّل هذه السفاهة خطراً يهدّد الحياة. فالسفيه يتوهَّم الوقوف على شوؤن كثيرة، بيد أنه، في الواقع، عاجزٌ عن أن يثبّت نظره في الجوهري من شؤون الحياة، وفي هذا ما يحول دون قدرته على تنظيم ما في عقله (را سفر الأمثال 1/7)، واتخاذ الموقف المناسب تجاه ذاته وتجاه محيطه. وعندما يُقدم على القول: «ليس من إله!» (را مز 14 ٍ[13]، 1) يبرهن بكل وضوح ان معرفته قاصرة وكم هي بعيدة عن كمال الحقيقة في شأن الأشياء ومصدرها ومآلها.

19. سفر الحكمة يتضمن نصوصاً هامة تلقي على هذه القضية ضوءاً آخر. فالكتاب المقدَّس يتحدَّث فيه عن الله الذي يعرّف عن ذاته من خلال الطبيعة أيضاً. في نظر القدامى كان درس العلوم الطبيعية يوازي، في معظمه، العلم الفلسفي. فمن بعد أن يؤكد النص المقدّس أن الإنسان قادر بعقله أن يعرف نظام العالم وقوة العناصر…ومداور السنين ومراكز النجوم وطبائع الحيوان وأخلاق الوحوش» (سفر الحكمة 7، 17؛ 19-20)، وأنه، بوجيز التعبير، أهل لأن يتفلسف، يخطو خطوة متقدّمة على جانبٍ كبير من الأهميّة. يؤكد الكاتب المقدس، بعد وقوفه على فكر الفلسفة الإغريقية، التي يبدو أنـه يستشهد بها في هذه القرائن، أن الإنسان إذا أعمل فكره في الطبيعة، بإمكانه أن يرتقي منها إلى الخالق: «إنه بعظم جمال المبروءات يُبصر فاطرها على طريق المقايسة» (سفر الحكمة 13، 5). نجد إذن ههنا اعترافاً بأن المرحلة الأولى في الوحي الإلهي هو «كتاب الطبيعة» في روعة جمالها. فإذا قرأنا هذا الكتاب بوسائل العقل البشري أمكننا الوصول إلى معرفة الخالق. فإذا لم يتوصَّل الإنسان، بواسطة عقله، إلى معرفة الله بارىء كل شيء، فما ذلك بسبب انتفاء الوسيلة المناسبة، بل بسبب العوائق الناجمة عن حريّة إرادة الإنسان وعن خطيئته.

20. من هذا الملحظ يتضح أن العقل مقدّر حق قدره، لا فوق قدره. فكل ما يصل إليه العقل يمكن أن يكون صحيحاً، ولكنه لا يكتسب ملء معناه إلاّ إذا وُضع محتواه في رؤية أوسع، هي رؤية الإيمان: «إنما خطوات الرجل من الربّ أمّا الإنسان فكيف يفهم طريقه؟» (سفر الأمثال 20، 24). في نظر العهد القديم الإيمان يحرّر إذن العقل، متيحاً له البلوغ، بطريقة منطقية، إلى موضوع معرفته ويضعه في إطار النظام الأسمى حيث يكتسب كل شيء معناه. وخلاصة القول أن الإنسان يبلغ الحقيقة بالعقل لأنه إذا استضاء بنور الإيمان يكتشف في كل شيء معناه الأعمق، وخصوصاً معنى وجوده. الكاتب المقدّس يضع إذن، بكل حق، المعرفة الحقيقية في مخافة الله: «مخافة الرب رأس العلم» (سفر الأمثال 1، 7؛ را ابن سيراخ 1، 14).

»إكتسب الحكمة، إكتسب الفطنة« (سفر الأمثال 4، 5)

21. المعرفة، في نظر العهد القديم، لا ترتكز فقط على التيقظ في ملاحظة الإنسان والعالم والتاريخ. فهي تفترض، لا محالة، علاقة بالإيمان وبمحتوى الوحي. ونجد هنا التحديات التي اضطر الشعب المختار إلى مواجهتها وكيف تصدّى لها. إن الإنسان البيبلي، بعد التفكير في وضعه، اكتشف أنه لا يستطيع أن يفهم ذاته إلا بصفته «كائناً ذا علاقة: بذاته وبالشعب وبالعالم وبالله. هذا الانفتاح على السرّ الذي جاءه من الوحي أصبح في النهاية مصدر معرفة حقيقية مكّنت عقله من الولوج في مجالات لا نهاية لها وأتاحت له قدرة استيعابٍ لم يكن ليحلم بها.

في نظر الكاتب المقدَّس، الجهد في البحث والتنقيب لم يكن ليخلو من عناء ناجم عن مواجهة محدودية العقل. وهذا ما نلحظه، مثلاً، في الأقوال التي يعبّر فيها سفر الأمثال عن العناء الذي يتكبده الإنسان في سعيه إلى تفهم مقاصد الله الخفية (را 30، 1-6). ولكن المؤمن، على ما يتكبده من عناء، لا يستسلم لليأس. إن ما يحتاجه من قوة ليستمرّ في طريقه الى الحقيقة يأتيه من يقينه بأن الله خلقه «باحثاً» (سفر الجامعة 1، 13) مهمته ألاّ يزهد في أي بحث، بالرغم مما يساوره دائماً من تساويل الشك. فإذا اتكل على الله ظلَّ شاخصاً، دائماً وفي كل مكان، إلى ما هو جميل وجيّد وحق.

22. ان القديس بولس، في الفصل الأول من رسالته إلى الرومانيين، يساعدنا في أن نقدّر، بوجه أفضل، إلى أي مدىً تتميّز الكتب الحكميّة بأفكارها النافذة. ويعمد الرسول إلى التوسع في محاجّة فلسفية بلغة شعبية، معبّراً عن حقيقة عميقة: من خلال المخلوق، تستطيع «بصيرة العقل» التوصل إلى معرفة الله. فالله، بواسطة خلائقه، يُظهر للعقل «قدرته، وألوهيته». (را روم 1، 20) هذا إذن إقرار بأن للعقل البشري قدرة قد تتخطىّ حدوده الطبيعية: فالعقل لا ينحصر في المعرفة الحسيّة، وذلك لكونه قادراً على أن يتفحصها بطريقة نقدية، بل يستطيع أيضاً، بمعالجة المعطيات الحسيّة، أن يتوصل إلى معرفة السبب الذي تصدر منه الأشياء الحسيّة كلها. باللغة الفلسفية يسوغ لنا القول إِن هذا النص البولسي الهامّ يؤكد ما ينعم به الإنسان من قدرة ميتافيزيقية.

يرى الرسول أن الله قد وضع في جذور الخلق قدرة العقل على أن يتخطى المعطيات الحسيّة بلا عناء، ليدرك مصدر كل شيء، أعني به الخالق. ولكن على أثر تمرّد الإنسان على الله ورغبته في أن يجعل نفسه في حالة استقلال كامل ومطلق عمن خلقه، زالت قدرته على أن يرتقي بلا عناء إلى الله الخالق.

سفر التكوين يصف بطريقة بليغة جداً وضع الإنسان هذا، عندما يقص لنا كيف وضع الله الإنسان في جنة عدن، وفي وسطها «شجرة معرفة الخير والشر» (2،17). الرمز واضح: لم يكن بوسع الإنسان أن يميّز ويقرّر بذاته ما هو الخير وما هو الشر، بل كان عليه أن يرجع إلى مبدأ أعلى. عمى الكبرياء ألصق بجدّينا الأوَّلَين الوهم بأنهّما سيِّدان ومستقلان، وأنهما قادران على الاستغناء عن المعرفة الصادرة من عند الله؛ وهكذا جراًّ كل رجلٍ وكل امرأة إلى عصيانهما الأوّل وألحقا بالعقل جروحاً كان لا بدّ أن تعرقله في طريقه إلى تمام الحقيقة. ومنذئذٍ أظلمت قدرة الإنسان على معرفة الحقيقة، بسبب نفوره ممن هو نبع الحقيقة ومصدرها. الرسول هو الذي يكشف لنا أيضاً إلى أي مدىً أمست باطلةً أفكارُ الناس بسبب الخطيئة، واستدلالاتهم مبلبلةً ومزيفة (را روم 1، 21-22). بصيرة العقل أمست عاجزة عن أن ترى الحقيقة بوضوح، وأمسى العقل، رويداً رويداً، سجين ذاته. وجاء المسيح فكان مجيئه هو الحدث الخلاصي الذي افتدى العقل من ضعفه وحرّره من القيود التي بات سجينها.

23. وبالتالي أصبحت علاقة المسيحي بالفلسفة بحاجة إلى تمييز جذري. في العهد الجديد، وبخاصة في رسائل القديس بولس، يبرز بأجلى وضوح التعارضُ بين «حكمة هذا العالم» وحكمة الله المتجليّة في يسوع المسيح. عمق الحكمة الصادرة من الوحي يكسر طوق أنماطنا الفكريّة المعهودة، العارية كل العراء من كل أُهبةٍ للتعبير عنها بطريقة مناسبة.

الرسالة الأولى إلى الكورنثيين تطرح هذه القضية في مستهلّها، طرحاً جذرياً. ابن الله المصلوب هو الحدث التاريخي الذي تتحطم عنده كل محاولة فكريّة تهدف إلى الاكتفاء ببراهين بشريّة لبناء ما يبرّر معنى الوجود تبريراً كافياً. النقطة المركزية الحقيقية التي تتحدّى كل فلسفة هي موت يسوع المسيح على الصليب. هنا كل محاولة لتقليص خطة الآب الخلاصية إلى مجرّد منطق بشري مآلها الفشل. ويتساءل الرسول بشيء من التفخيم: «أين الحكيم؟ أين المثقَّف؟ أين محجاج هذا الدهر؟ أوَلم يجهّل الله حكمة هذا العالم؟» (1 قور 1، 20). إن حكمة الرجل الحكيم وحدها أمست قاصرة بإزاء ما يريد الله أن يحققه، ولا بدّ لها من تحوّل حاسم يمكّنها من قبول رؤية مستجدة جذرياً: «اختار الله ما هو جاهل في العالم ليخزي الحكماء، [000] واختار الله ما هو خسيس في العالم وحقير وغير الموجود، ليعدم الموجود» (1 قور 1، 27-28). الحكمة البشريّة تأبى أن تتوسم في ضعفها شرط قوتها. وأمّا القديس بولس فلا يتردّد في القول: «متى ضعفت فحينئذٍ أنا قوي» (2 قور 12، 10). يفهم الإنسان كيف يمكن أن يكون الموت ينبوع حياة وحب؛ ولكن الله اختار ما يحسبه العقل «جهالة» و«عثرة» ليكشف لنا سرّ تدبيره الخلاصي. وينتحل بولس لغة معاصريه من الفلاسفة، فيبلغ ذروة تعليمه وذروة المقولة التناقضية التي يريد التعبير عنها: لقد اختار الله غير الموجود ليُعدم الموجود! (را 1 قور 1،28) ولم يحجم الرسول عن استعمال اللغة الجذرية التي كان يعتمدها الفلاسفة في أحاديثهم عن الله، ليعبّر عن مجَّانية الحب المتجلّي لنا في صليب المسيح. لا يقوى العقل على تفريغ سرّ الحب الماثل في الصليب، بينما الصليب يستطيع أن يعطي العقل ما يتلمّسه من جواب أخير. إن ما يَعُدّه بولس مقياساً للحقيقة وللخلاص معاً ليس هو حكمة الكلام بل كلام الحكمة.

حكمة الصليب تتخطى إذن كل الحدود الثقافيّة التي يريد الناس أن يخضعوها لها، وتضطرنا إلى الانفتاح على شموليّة المعرفة التي تحملها. فأيّ تحدٍّ للعقل هذا التحدي! وأي فائدة يستخرجها العقل من هذا التحدي إذا قبله! إن الفلسفة التي تستطيع، من تلقاء ذاتها، أن تُقرَّ للإنسان قدرته المستمرّة على تخطي ذاته، بإمكانها أن تنفتح، بمعونة الإيمان وتقبل، في «جهالة» الصليب، النقد السليم الموجّه إلى كل الذين يتوهمون امتلاك المعرفة وهم في الواقع يضيّقون على خناقها في مأزق نظامهم. العلاقة بين الإيمان والفلسفة تجد في المناداة بالمسيح المصلوب والناهض من الموت الصخرة التي يمكن أن ترتطم بها فتغرق، كما يمكن أن تتخطاها لترتمي في محيط الحقيقة الذي لا حدود له. هنا يظهر بجلاء الحدّ الفاصل بين العقل والإيمان، ولكننا نرى أيضاً أين يمكنهما التلاقي.



الفصل الثالث
أفهم لأومن
التقدم في البحث عن الحقيقة

24. يورد الإنجيلي لوقا في كتاب أعمال الرسل أن بولس وصل يوماً إلى أثينا في غضون أسفاره الرسولية. وكانت مدينة الفلاسفة ملأى بتماثيل عدد من مختلف الأصنام. واسترعى انتباهه أحد الهياكل فانتهز الفرصة حالاً ليحدّد منطلقاً مشتركاً لكرازته: «يا أهل أثينا، أراكم مغالين في التديّن من كل وجه. فإني وأنا سائر أنظر إلى أنصابكم وجدت هيكلاً كتب عليه: إلى الإله المجهول. فما تعبدونه وأنتم تجهلونه، فذاك ما أنا مبشركم به» (رسل 17، 22-23). من هذا المنطلق أخذ بولس يحدثهم عن الله الخالق والمتعالي فوق كل شيء وواهب الحياة لكل خلق . وواصل حديثه قائلاً: «لقد صنع جميع الأمم البشرية من أصل واحد ليسكنوا على وجه الأرض كلها، وجعل لسكناهم أزمنة موقوتة وأمكنة محدودة، ليبحثوا عن الله لعلهم يتحسَّسونه ويهتدون إليه، مع أنه غير بعيد عن كل منا» (رسل 17، 26-27).

ونوّه الرسول بحقيقةٍ ما برحت الكنيسة تستفيد منها، وهي أن الله قد زرع في عمق قلب الإنسان التوق والحنين إلى الله. في ليترجيا الجمعة المقدّسة تذكرنا الكنيسة أيضاً بذلك وتشدّد عليه وتدعو المؤمنين إلى الصلاة لأجل الذين لا يؤمنون، بقولها: «أيها الإله الأزلي القدير، لقد خلقت البشر ليبحثوا عنك بكل قلبهم، ويستريح قلبهم عندما يجدونك!»[22] هناك إذن طريق يستطيع الإنسان أن يسلكه إذا أراد: وينطلق هذا الطريق من قدرة العقل على الارتقاء فوق الزائل والوثوب نحو اللامتناهي.

لقد برهن الإنسان بطرق متعددة وفي أزمنة مختلفة أنه يستطيع أن يعبّر عن هذا الشوق. فالأدب والموسيقى والرسم والنقش والهندسة وسائر منتوجات عقله الخلاق أصبحت شبه أقنية للتعبير عن طموحات بحثة. وقد اعتنقت الفلسفة خصوصاً هذا التوجه وعبّرت بوسائلها وطبقاً لأنماطها العلمية عن هذا الشوق الذي يشمل كل الناس.

25. «كل الناس يحنّون إلى المعرفة»[23]، وموضوع هذا الحنين هو المعرفة. الحياة اليومية نفسها تبيّن لنا أن كل إنسان يهمّه أن يكتشف ماهية الأشياء، بعيداً عمّا يتناقله الناس. ولا غرو، فالإنسان هو الكائن الوحيد في كل الخليقة المنظورة الذي لا يتميّز فقط بالقدرة على العلم، بل يعلم أيضاً كيف يعلم؛ ومن ثم فهو يهتم بحقيقة ما يبدو له. لا يستطيع أحدٌ ألاّ يبالي بحقيقة ما يعلم إذا كان مخلصاً مع ذاته. فإذا اكتشف زيفه رذله. وأمّا إذا استطاع أن يتحقق صوابه، غمره الرضى. وهذا هو الدرس الذي نتلقَّنه من القديس اوغسطينوس في قوله: «لقد التقيت أناساً كثيرين يبتغون الغش ولكني لم التقِ أحداً يرضى بأن يُغَشّ»[24]. نعتبر بحق أن الإنسان يبلغ سنّ الرشد عندما يصبح بإمكانه أن يميّز بوسائله الخاصة بين الحق والباطل، ويحكّم عقله في حقيقة الأشياء. هذا موضوع بحوث كثيرة ـ وبخاصة في مضمار العلوم ـ أدّت في غضون القرون الأخيرة إلى نتائج مميّزة ساعدت البشرية كلها في إِحراز تقدّم حقيقي.

إن ما تحقق من بحوث في المجال العملي يضاهي في الأهميّة ما تحقق على الصعيد النظري، أعني البحث عن الحقيقة في مجال الخير. الإنسان الذي يتبع إرادته الحرّة والقويمة، في تصرفه الخلقي، ينتهج طريق السعادة ويصبو إلى الكمال. في هذه الحال أيضاً، القضية قضية حقيقة! هذا اليقين، عبّرتُ عنه في رسالتي الجامعة «تألق الحقيقة»: «ليس ثمة من حياة خلقية بدون حريّة [000] إذا كان للإنسان حق في أن يُحتَرَمَ في مسيرته الباحثة عن الحقيقة، فهناك أيضاً وقبلاً واجبٌ ادبيّ ثقيل يلزم الجميع بالبحث عن الحقيقة، فإذا وجدوها عليهم أن يعتنقوها»[25].

لا بدّ إذن من أن تكون القيم التي نختَارها وننتهجها في الحياة قيماً حقيقية، وذلك بأن القيم الحقيقية وحدها تقدر أن تسوق الإنسان إلى الكمال وطبيعتَه إلى التمام. حقيقة القيم هذه يجدها الإنسان لا بالتقوقع على ذاته بل بالانفتاح على هذه الحقيقة وقبولها أيضاً في الأبعاد التي تتخطاه. هذا شرط ملزم ليصبح كل منّا ذاته وينمو شخصاً بالغاً وناضجاً.

26. الحقيقة يتمثلها الإنسان، في البدء، في صيغة تساؤلية: هل للحياة معنى؟ وما غايتها؟ قد يبدو الوجود الشخصي، لأول وهلة، وجوداً لا معنى له على الإطلاق. ولسنا بحاجة إلى الاستعانة بفلاسفة المحال ولا بالأسئلة الاستفزازية التي نقع عليها في سفر أيوب للشك في معنى الحياة. خبرة الألم اليومية، عندنا وعند الآخرين، ورؤية الكثير الكثير من الأحداث التي يستعصي على العقل فهمها، تكفيان لجعل مثل هذا السؤال عن معنى الحياة أمراً لا مفرّ منه[26]. ولا بدّ من أن نضيف إلى ذلك أن أول حقيقة مبرمة، إلى جانب حقيقة وجودنا، هي أننا سوف نموت لا محالة. في مواجهة هذه الحقيقة المقلقة، يصبح البحث عن جواب شافٍ أمراً ملزماً. كلٌّ منا يريد بل عليه أن يعرف الحقيقة في شأن آخرته. يريد أن يعرف هل الموت هو خاتمة وجوده أم هناك شيء يتخطَّى الموت؛ وهل يُتاح له أن يرجو حياة أخرى أم لا. من اللافت أن موت سقراط قد وجه الفكر الفلسفي في اتجاه حاسم، وخلّف فيه أثراً لا يزال قائماً منذ أكثر من ألفي سنة. ليس إذن من باب الصدف أن يكون الفلاسفة، في مواجهة واقع الموت، قد كررّوا طرح هذه المعضلة على أنفسهم بلا انقطاع، ومعها معضلة معنى الحياة والخلود.

27. لا يستطيع أحد أن يُفلِت من هذه الأسئلة، لا الفيلسوف ولا الإنسان العادي. بالجواب على هذه الأسئلة تتعلق مرحلة حاسمة من مراحل البحث: هل بالإمكان الوصول إلى حقيقة شاملة ومطلقة؟ مبدئياً كل حقيقة، وإن جزئية، إذا كانت بالفعل حقيقة، هي عندنا حقيقة شاملة. ما هو حق يجب أن يكون حقاً في كل مكان وكل زمان. إلاّ أن الإنسان يطلب، بالإضافة الى هذه الشموليّة، مطلقيّة قادرة على أن تؤدّي جواباً ومعنى لمطلبه، وتكون شبه مرجعية أخيرة ومرتكز لكل شيء. إن ما يطلبه الإنسان إنما هو–بتعبير آخر–تعليل نهائي وقيمة قصوى ليس من بعدها ولا يمكن أن يكون من بعدها أسئلة أو مراجع أخرى. الفرضيات تستطيع أن تغرينا ولكنها لا تستطيع أن تُروي عطشنا. ويأتي يوم لا بدّ لنا فيه جميعاً، شئنا أم أبينا، من أن نُرسِي وجودنا على حقيقة نعتبرها مرتكزاً نهائياً، وتتيح لنا يقيناً لا يرقى إليه الشك من بعد.

لقد سعى الفلاسفة، على مرّ الأجيال، إلى الكشف والتعبير عن حقيقة من هذا المستوى، فعمدوا إلى إنشاء مذهب أو مدرسة فكريّة. بيد أن هناك، بالإضافة إلى المذاهب الفلسفية، تعابير أخرى يسعى الإنسان من خلالها إلى أن يضفي صيغة على «فلسفته» الخاصة. هذه الفلسفة الخاصة إنما هي مجموعة من القناعات والخبرات الشخصيّة والتراثات العيلية والثقافية والمسيرات الوجوديّة يتكىء فيها الفرد على سلطة معلم. وإن ما يبقى نابضاً في هذه الظاهرات إنما هو التوق إلى بلوغ يقين الحقيقة وقيمتها المطلقة.

حقيقة الإنسان ووجوهها المختلفة

28. لا بدّ من الإقرار بأن مطلب الحقيقة لا يبدو لنا دوماً بمثل هذه الشفافيّة وهذا التماسك.فمحدوديّة العقل وتقلب القلب كثيراً ما يغشيان مسيرة البحث الشخصي وينحرفان به. هنالك أيضاً مصالح أخرى مختلفة المصادر قد تساهم في طمس الحقيقة. وقد يكون هناك من يتهرّب من الحقيقة تهرّباً مطلقاً، ما إِن تلوح له، وذلك تخوّفاً من إلزاماتها. ومع ذلك فالحقيقة هي التي تؤثر دوماً في وجوده حتى وإن تهرّب منها. فالإنسان لا يمكنه ولا بوجه من الوجوه أن يبني حياته على الشك والريب أو على الزيف. مثل هذا الوجود يبقى دائماً مهدّداً بالخوف والقلق. وخلاصة القول اننا نستطيع أن نعرّف الإنسان بأنه الباحث عن الحقيقة.

29. لا يمكننا أن نتصور أن مثل هذه النـزعة المتجذرة عميقاً في طبيعة الإنسان يمكن أن تكون عقيمة وباطلة من كل جوانبها. قدرة البحث عن الحقيقة وطرح الأسئلة هما، بحدّ ذاتهما، جواب أول. وذلك بأن الإنسان لا يمكنه أن يبحث عن حقيقة يجهلها تماماً أو يحسبها متعذرة الإدراك. أمل الوصول إلى جواب يستطيع وحده أن يدفعه إلى أن يخطو الخطوة الأولى. وهذا في الواقع ما يجري في البحث العلمي. عندما يُقبل عالِم، على أثر حدسٍ، على البحث في ظاهرة معيّنة يفسّرها تفسيراً منطقياً يمكن التثبُّت منه، فإنما هو على يقين، منذ البداية، بأنه سوف يلقى جواباً، ولا تهبط عزيمته أمام ما يعترضه من إخفاق. إنه لا يحسب حدسه الأول فكرة لا جدوى منها لمجرّد أنه أخطأ الهدف، بل يعتقد بحق أنه لم يجد بعد الجواب الشافي.

هذا المنطق يجب أن يصحَّ أيضاً في مجال البحث عن الحقيقة في المسائل المصيريّة. العطش إلى الحقيقة هو من التجذّر في قلب الإنسان بحيث لا يمكن صرف النظر عنه إلاّ ويصبح الوجود في أزمة. يكفي أن نراقب الحياة اليوميّة لنتثبّت من أن كلاّ منا يحمل في ذاته وسواس بعض الأسئلة الجوهريّة، كما أنه يحفظ في ذهنه أقلّه تلاويح الأجوبة. هذه الأجوبة نجدنا مقتنعين من صحتها لأنها لا تختلف في الجوهر عن الأجوبة التي توصَّل إليها كثيرون آخرون. لا شك أن الحقائق المكتسبة لا تتساوى كلها في القيمة. بيد أن قدرة الإنسان على الوصول مبدئياً إلى الحقيقة يؤكدها مجموع النتائج المحصَّلة.

30. قد يكون من المفيد الآن أن نستعرض بسرعة مختلف أشكال الحقيقة. أكثر هذه الحقائق هو الذي يرتكز على بديهيات مباشرة أو يثبت بالاختيار؛ ويدخل في هذا النطاق حقيقة الحياة اليومية والبحث العلمي. في مرتبة أخرى نجد الحقائق الفلسفية التي يدركها الإنسان بما يميّز عقله من قدرة فكرية. ثمة أخيراً الحقائق الدينية التي تتجذر هي أيضاً، إلى حدٍ ما، في الفلسفة؛ وهي متضمنة في الأجوبة التي تقترحها الأديان المختلفة على الأسئلة المصيريّة جرياً على تقاليدها[27].

وأمّا الحقائق الفلسفية فلا بد من أن نوضح أنها لا تنحصر في التعاليم الواهية أحياناً التي ينادي بها الفلاسفة المحترفون. كل إنسان هو–كما قلت–فيلسوف ويملك نظرياته الفلسفية التي توجّه حياته؛ فهو، بطريقة أو بأخرى، يكوّن لذاته رؤية شاملة وجواباً على معنى وجوده، فيترجم حياته الشخصيّة، وينظِّم تصرفه في ضؤ قناعته. ههنا يجب أن يُطرح السؤال عن العلاقة بين الحقيقة الفلسفية–الدينيّة، والحقيقة الموحاة بيسوع المسيح. وقبل أن نجيب على هذه المعضلة، يحسن بنا أن نحسب حساباً لمعطىً لا حقٍ من معطيات الفلسفة.

31. لم يُكَوَّن الإنسان ليعيش وحده. فهو يولد ويترعرع في أسرة استعداداً للدخول لاحقاً بعمله في المجتمع. منذ مولده يلفي نفسه إذن مندمجاً في تقاليد مختلفة يستمدّ منها لا لغته وتنشئته الثقافية وحسب بل أيضاً «مجموعة من الحقائق التي يعتنقها اعتناقاً غريزياً نوعاً ما. وفي كل حال، لا بدّ للإنسان، عند نموّه ونضجه الشخصي، من أن يضع هذه الحقائق نفسها موضع الشك ويخضعها لنشاط فكره الناقد. ولكن هذا لا يمنع الإنسان، بعد هذه المرحلة العابرة، من أن «يعود ويجد» هذه الحقائق، ارتكازاً على اختباره لها أو اعـتماداً على استنتاجات فكره. ومع ذلك، فالحقائق التي يعتنقها الإنسان اعتناقاً بديهياً تبقى في حياته اكثر من التي يكتسبها بتمحيصه الشخصي. من يقدر، مثلاً، أن يُخضع للنقد دفق النتائج العلميّة التي ترتكز عليها الحياة العصريّة؟ من يستطيع أن يراقب، لحسابه الخاص، ذاك السيل المتدفق من المعلومات التي تصل إلينا، يوماً بعد يوم، من كل أنحاء العالم والتي نعدّها صحيحة على وجه الإجمال؟ ومن يستطيع أخيراً أن يعود وينتهج الدروب الاختبارية والفكريّة التي اختُزِنَتْ بفضلها كنوزُ الحكمة والتديّن لدى البشريّة؟ الإنسان الباحث عن الحقيقة هو إذن من يحيا بالإيمان.

32. كل منّا، في فعل إيمانه، يثق بالمعارف التي اكتسبها غيره من الناس. بالإمكان أن نلحظ هنا توتُّراً لافتاً: فمن جهة تبدو المعرفة عن طريق الإيمان شكلاً ناقصاً من أشكال المعرفة، يجب أن يتكامل رويداً رويداً بما نكتسبه شخصياً من معطيات البداهة. ومن جهة أخرى يتجلّى الإيمان بشرياً أثـرى من البداهة لأنه يفترض علاقة بالآخرين ويفعّل لا الطاقات المعرفية الشخصية وحسب بل الأهبة الجذرية للوثوق بأشخاص آخرين والدخول وإياهم في علاقة أشدّ متانة وأكثر وداً.

من المفيد التنويه بأن الحقائق المطلوبة في هذه العلاقة المتبادلة ليست أولاً علاقة عملانية أو فلسفيـة. ما هو مطلوب إنما هو حقيقة الشخص في حدّ ذاتها: ما هي وماذا تعكس من مقوّمات كيانه الصحيح. كمال الإنسان لا يقوم، في الواقع، على ما نكسبه من معرفة مجرّدة للحقيقة وحسب، بل يقوم أيضاً على علاقة حيّة، علاقة بذل ووفاء تجاه الآخر. في هذا الوفاء المعطاء يحظى الإنسان بملء اليقين وملء الأمان. بيد أن المعرفة عن طريق الإيمان التي ترتكز على الثقة المتبادلة لا تخلو من مرجعيّة إلى الحقيقة: فالإنسان المؤمن يتكل على الحقيقة التي يتجلّى فيها الآخر.

كم من مَثَلٍ يمكن أن نسوقه تدليلاً على هذه المعطيات. إلاّ أني أتوجه بالفكر تواً إلى شهادة الشهداء. فالشهيد هو، في الواقع، الشاهد الأوثق لحقيقة الوجود. فهو يعلم أنه وجد، في لقائه يسوع المسيح، حقيقة حياته؛ وليس من شيء ولا من كائن بإمكانه أن ينتزع منه هذا اليقين: لا العذاب ولا الموت العنيف بوسعهما أن يردّاه عن التصاقه بالحقيقة التي وجدها في لقائه المسيح؛ ولذا لا تزال شهادة الشهداء حتى اليوم تخلب الأذهان وتبعث الرضى، وتحظى بالاصغاء والاحتذاء. وهذا ما يحمل على الوثوق بكلامهم. فنحن نكتشف فيهم بداهة حب لا يحتاج إلى تدليلات طويلة ليكون مقنعاً، ما دام هذا الحب يحدّث كلاً منا عما يحسبه في عمق ذاته حقيقةً يفتش عنها منذ أمدٍ بعيد. وقصارى القول أن الشهيد يوقظ فينا ثقة عميقة لأنه ينطق بما نشعر به، ويعبّر بوضوح عما نريد أن نجد الجرأة للتعبير عنه.

33. نرى هنا أن عناصر السؤال تتكامل رويداً رويداً : الإنسان، بطبيعته، يبحث عن الحقيقة. هذا البحث لا يهدف فقط إلى تحصيل حقائق جزئية أو اختبارية او علمية. الإنسان لا يلتمس فقط الخير الحقيقي لكلٍ من قراراته…إنه ينـزع ببحثه الى حقيقة أبعد تمكّنه من وجود تفسير لمعنى حياته؛ بحثه لا يستطيع إذن أن ينتهي إلاّ في المطلق[28]. بفضل مؤهلات الفكر، باستطاعة الإنسان أن يظفر بمثل هذه الحقيقة ويعترف بها. هذه الحقيقة، بوصفها حقيقة حيوية وجوهرية لوجوده، يستطيع الإنسان أن يحصّلها لا عن طريق العقل وحسب، بل أيضاً عن طريق الوثوق بأشخاص آخرين بإمكانهم أن يضمنوا له يقين الحقيقة وسلامتها. قدرة الإنسان على أن يكل ذاته وحياته، بفعل اختيار حرّ، إلى شخص آخر، إنما هي بالتأكيد من أهم وأبلغ ما يقوم به الإنسان من أفعالٍ انتروبولوجيّة.

يجب ألاّ يغيب عن ذهننا أن العقل نفسه بحاجة إلى أن يظلّ مدعوماً في سعيه، بفعل حوارٍ واثق وصداقة مخلصة. جوّ الريبة والحذر الذي يحيط أحياناً بالبحث الفكري يذهل عن تعليم الفلاسفة الأقدمين الذين كانوا يحسبون الصداقة قرينة من أهم القرائن لإجادة الفلسفة.

ينتج مما قلت إلى الآن أن الإنسان ينتهج في البحث طريقاً لا نهاية له بشرياً: بحث عن الحقيقة وبحث عن شخصٍ يضع فيه ثقته. ويستطيع الإيمان المسيحي أن يساعده ويؤهله عملياً ليُفلح في هذا البحث. الإيمان المسيحي يتخطىَّ مجرّد التصديق ويُدخل الإنسان في نظام النعمة الذي يمكنّه من المشاركة في سرّ المسيح الذي يخوّله أن يعرف الله واحداً في ثلاثة أقانيم معرفة راهنة ومتراصّة. وهكذا يكتشف الإيمانُ في يسوع المسيح–الإله الحق–الدعوةَ القصوى الموجّهة إلى البشرية، لتتمكّن من تحقيق ما توجسه من شوق وحنين.

34. هذه الحقيقة التي يكشفها الله لنا في يسوع المسيح لا تناقض الحقائق التي ندركها بالفلسفة. فكلا هاتين المرتبتين في المعرفة تقودنا، بالعكس، إلى كمال المعرفة. وحدة الحقيقة هي من أسس مسلّمات العقل البشري، يعبّر عنها مبدأ اللاتناقض. ونجد في الوحي يقين هذه الوحدة عندما يؤكد لنا أن الإله الخالق هو أيضاً إله تاريخ الخلاص. الإله الذي هو أساس وضمانة النظام الطبيعي الذي يرتكز عليه العلماء بكل ثقة[29] هو نفسه الذي كشف لنا ذاته أبا ربنا يسوع المسيح. وحدة الحقيقة هذه، الطبيعية والمنـزلة، تجد في المسيح تناغمها الحي والشخصي، على حدّ ما يذكّر به الرسول: «الحقيقة التي في يسوع» (أف 4، 21؛ را قول 1، 15-20). إنه الكلمة الأبدي، الذي به كل شيء كوِّن، وهو في آنٍ واحد الكلمة المتجسّد، الذي كشفه الآب في ملء شخصه (را يو 1، 14-18)[30]. إن ما يبحث عنه العقل البشري «وهو لا يعرفه» (را رسل 17،23)، لا يمكن أن يجده إلاّ بواسطة المسيح: لأن ما يتجلّى فيه إنما هو «ملء حقيقة» (را يو 1، 14-16) كلّ كائن كُوِّنَ فيه وبه، ويجد فيه ملء كيانه (را قول 1، 17).

35. من منطلق هذه الأفكار العموميّة، لا بدّ الآن من أن ندقِّق مباشرة في العلاقة بين الحقيقة الموحاة والفلسفة. هذه العلاقة تفرض علينا اعتباراً مزدوجاً، وذلك بأن الحقيقة المستقاة من الوحي هي نفسها الحقيقة التي ندركها في ضؤ العقل. والواقع أنه يتعذّر علينا أن نستوضح العلاقة الصحيحة بين الحقيقة الملهمة والعلم الفلسفي إلاّ في هذا المفهوم المزدوج. وسوف نتناول أولاً العلاقات بين الإيمان والفلسفة عبر التاريخ، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نستوضح بعض المبادىء التي يمكننا اعتمادها والرجوع إليها لإقامة الصلة الصحيحة بين هاتين المنـزلتين في المعرفة.



الفصل الرابع
الصلات بين الإيمان والعقل
المحطات اللافتة في ملتقيات الإيمان والعقل

36. يروي لنا كتاب أعمال الرسل كيف اصطدم البلاغ المسيحي منذ البداية بالتيارات الفلسفية السائدة في ذلك العهد. ويورد نفس الكتاب النقاش الذي جرى في أثينا بين بولس و«بعض الفلاسفة الإبيقوريين والرواقيين» (17، 18). التحليل التفسيري لهذا الخطاب في ساحة الأريوباغس يبيّن لنا بوضوح تلميحات كثيرة إلى معتقدات شعبية معظمها من مصدر رواقي. ولم يكن ذلك من باب الصدف. فالمسيحيون الأوَّلون لم يَقْصُروا استشهاداتهم على «موسى والأنبياء»، في خطبهم إلى الوثنيين، ليفهموا مضمون كلامهم، بل عمدوا أيضاً إلى معرفة الله الطبيعية، وإلى صوت الضمير الأدبي عند كل إنسان (را روم 1، 19-21؛ 2، 14-15؛ رسل 14، 16-17). ولكن لما كانت هذه المعرفة الطبيعية، في الديانة الوثنية، قد هوت في الصنميّة (را روم 1، 21-32) فقد رأى الرسول من دواعي الحكمة أن ينيط خطابه بفكر الفلاسفة الذين كانوا، منذ البداية، قد جابهوا الديانات الأسطورية والطقوس الأسراريّة بنظريات تراعي السموّ الإلهي.

من أهم الجهود التي بذلتها الفلسفة الكلاسيكية تمحيصُها للمعتقدات الدينية من أدرانها الميتولوجيّة. ونعرف أن الديانة الإغريقية لم تكن، هي أيضاً، لتختلف كثيراً عن معظم الديانات الكونية الأخرى في اعتناقها الشرك وتأليه الأشياء والظاهرات الطبيعية. إن المحاولات التي بذلها الإنسان ليدرك أصل الآلهة وأصل الكون من خلالها تحققت أولاً في الشعر. فالملحمات الثيوغونية (الباحثة في أصول الآلهة وأنسابهم) لا تزال حتى اليوم أولى دلائل هذا السعي البشري. وأما الرباط القائم بين العقل والدين فيعود الفضل في إظهاره إلى آباء الفلسفة. لقد رفعوا نظرهم إلى أبعد من ذلك، إلى المبادىء الشاملة، ولم يكتفوا بالأساطير القديمة بل أرسَوا معتقدهم في الألوهة على مرتكزٍ عقلي. وهكذا انتهجوا طريقاً تحوّلت عن التقاليد القديمة الخاصة وأفضت إلى تطوّر فكري يتلاءم ومقتضيات العقل الشامل. وكانت الغاية من هذا التطوّر إخضاع المعتقد لحكم الوعي الناقد. وكان أول من استفاد من هذه المسيرة النقدية فكرة الألوهة. فأُقِرَّت خُرافية الأساطير وطُهِّرت الديانة، وإن جزئياً، بفضل التحليل العقلاني. على هذا الأساس سعى آباء الكنيسة إلى إقامة حوار مثمر مع الفلاسفة القدامى، مفسحين الطريق إلى التبشير بإله يسوع المسيح وتقريبه من الأذهان.

37. عندما نلمح إلى هذه الحركة التي قرّبت المسيحيين من الفلسفة، لا بدّ من أن نذكّر أيضاً بالمواقف الفطينة التي دفعتهم إليها عناصر أخرى من العالم الثقافي الوثني، كالغنوصية مثلاً. لقد كان من اليسير أن يقع التباس بين الفلسفة بصفتها حكمة عملية ومدرسة حياة، ونمطٍ من المعرفة الراقية والباطنيّة، هو الذي ألمح، ولا شك، إليه القديس بولس في رسالته التحذيرية إلى أهل قولوسي: «إياكم وأن يخلبكم أحد بالفلسفة، بذلك الغرور الباطل القائم على سُنّة الناس وأركان العالم، لا على المسيح» (قول 2، 8). كلمات الرسول هذه تبدو لنا على جانب كبير من الواقعية إذا قارنَّاها بمختلف أشكال الباطنية الرائجة اليوم حتى في أوساط بعض المؤمنين الذين لا يملكون أدنى قدرٍ من الحس النقدي. ثمة كُتّاب آخرون من القرون الأولى من مثل القديس إيريناوس وترتليانس، ساروا في خطى القديس بولس فأبدوا تحفظاتهم على بعضٍ من المواقف الثقافية المدّعية إخضاع الحقيقة المنـزلة لتأويل الفلاسفة.

38. ملتقى المسيحية والفلسفة لم يكن إذن فوريّاً ولا هيّناً. ولقد اعتبر المسيحيون الأولون ممارسة الفلسفة ومخالطة المدارس الفكريّة مبعث قلقٍ لا سانحة حظ. لقد كان الواجب الأول والمُلِحّ، في نظرهم، المناداة بالمسيح الناهض وذلك ضمن لقاء شخصي يمكن أن يقود المخاطَب إلى توبة القلب وطلب المعمودية. ولا يعني هذا أنهم تخلّوا عن واجب التعمق في فهم الإيمان وحوافزه، بل بالعكس. ومن ثم فالحمْلة الانتقادية التي شنهَّا شلسيوس على المسيحيين بتهمة أنهم قوم «أميّون وأفظاظ»[31] تبدو لنا جائرة وبلا أساس. هذه اللامبالاة في بداية العهد المسيحي، يجب أن نعزوها إلى سبب آخر. والواقع أن الذين التقوا الإنجيل أصابوا فيه جواباً مقنعاً على السؤال عن معنى الحياة، وكان قد بقي حينئذٍ بلا جواب، فبدت لهم مخالطة الفلاسفة شأناً بعيداً تخطَّاه الزمن إلى حدٍّ ما.

وهذا ما يبدو لنا اليوم أكثر وضوحاً إذا فكّرنا في مساهمة المسيحيّة في تأكيد الحق الشامل في الوصول إلى الحقيقة. فالمسيحيّة من بعد أن نقضت الحواجز العنصرية والاجتماعيّة والجنسيّة، منذ مطلع تاريخها، هبَّت تنادي بمساواة جميع البشر أمام الله. وأول نتيجة من نتائج هذه النظرية كان لها صلة بقضيّة الحقيقة. لقد تخطّت المسيحيّة بلا رجعة الطابع النخبوي الذي اتخذه البحث الفلسفي عند القدامى: فما دام الوصول إلى الحقيقة منحةً تخوّل الوصول إلى الله، فالجميع مخوّلون السير في هذا الطريق. المسالك المؤديّة إلى الحقيقة متنوّعة وكثيرة: ولكن، بما أن الحقيقة المسيحيّة تتميّز بقدرتها الخلاصية، فكلٌّ من تلك الدروب تصبح سالكة، ما دامت تفضي إلى الغاية الأخيرة وهي الوحي بيسوع المسيح.

من بين روّاد اللقاء المثمر بالفكر الفلسفي، وإن تميّز بشيء من النقد المتحفظ، لا بد من أن نذكر القديس يوستينوس: فمع احتفاظه، حتى من بعد اهتدائه، بقدر كبير من التقدير للفلسفة اليونانية، كان يؤكّد بقوة ووضوح أنه وجد في المسيحيّة «الفلسفة الوحيدة الآمنة والمفيدة»[32]. وكذلك القديس إكليمنضس الإسكندري الذي كان يتوسّم في الإنجيل «الفلسفة الحقيقية»[33] ويشبّه الفلسفة، من باب القياس، بالشريعة الموسويّة، ويرى فيها تعليماً ممهِّداً للإيمان المسيحي[34] ومدخلاً إلى الإنجيل[35]. بما أن «الفلسفة تطلب الحكمة التي قوامها استقامة النفس والكلام ونقاوة الحياة، فهي تملك مؤهلات حب وصداقة تجاه الحكمة وتسعى كل جهدها للوصول إليها. الفلاسفة عندنا هم المغرمون بالحكمة خالقة الكون ومربيّته، أي المغرمون بمعرفة ابن الله»[36]. في نظر الإسكندري، الفلسفة اليونانيّة لا تهدف أولاً إلى إكمال الحقيقة المسيحية ودعمها: مهمتها هي الدفاع عن الإيمان: «تعليم المخلّص يكفي ذاته وليس بحاجة إلى أي شيء آخر، ما دام هو «قوة الله وحكمة الله»؛ وعندما تنضاف الفلسفة اليونانيّة، فهي لا تجعل الحقيقة أكثر قوة، بل توهي هجمات الصفصطائيّة عليها وتحبط فخاخها، ولذا سميّت بحق سياج الكرم وسوره»[37].

39. في تاريخ هذا التطوّر، نلحظ أن المفكرين المسيحيين قد اعتمدوا الفكر الفلسفي بطريقة نقديّة. من أوائل الأمثلة على ذلك مثل أوريجينوس، وهو بلا ريب مثل لافت. فهو يردّ على هجمات شلسيوس الفيلسوف، مستعملاً الفلسفة الأفلاطونية للدفاع عن المسيحية؛ وفي ركونه إلى عدد كبير من عناصر الفلسفة الأفلاطونية، نراه يبدأ في تكوين أول نواة في تاريخ اللاهوت المسيحي. لفظة اللاهوت نفسها ومفهومها كخطاب عقلاني حول الله، كانا حتى ذاك مرتبطين بجذورهما اليونانية. في الفلسفة الأرسطوطالية مثلاً، كانت هذه اللفظة تشير إلى الجزء الأشرف بل إلى ذروة الخطاب الفلسفي. وأما في ضؤ الوحي المسيحي، فما كان يُعتبر أولاً تعليماً عاماً في شأن الألوهة، بدأ يكتسب معنىً جديداً جداً، وذلك بمقدار ما أصبح اللاهوت هو البحث الذي يقوم به المؤمن للتعبير عن العقيدة الحقيقية في شأن الله. هذا الفكر المسيحيّ الجديد المتطوّر كان يستعمل الفلسفة ولكنه كان يسعى، في الوقت نفسه، إلى التميّز عنها تميّزاً واضحاً. ويبيّن لنا التاريخ أن الفكر الأفلاطوني نفسه الذي استعان به اللاهوت، قد خضع لتغيّرات عميقة، وبخاصة في نطاق بعض المقولات كخلود النفس مثلاً وتأليه الإنسان ومصدر الشرّ.

40. في هذا المسعى إلى مسحنة الفكر الأفلاطوني والأفلاطوني الجديد، لا بدّ من أن نذكر خصوصاً الآباء الكابادوكيين وديونيسيوس الأريوباغي وخصوصاً القديس أوغسطينوس؛ وكان الملفان الغربي الكبير قد بات على اتصال بمدارس فلسفية مختلفة، ولكنها خيّبت كلها ظنه. فعندما مثلت الحقيقة المسيحية أمامه تمكّن من أن يتوب توبة جذريّة لم تستطع الفلسفات التي التقاها من قبل أن تقوده إليها. وقد أفصح هو نفسه عن سبب ذلك: «آثرت منذئذٍ لهذا السبب العقيدة الكاثوليكية، وشعرت أنها تطلب باعتدال وبدون غش أن يؤمن الإنسان بما لم يقم عليه البرهان–سواء أكان هناك دليل وظَلَّ مستغلقاً على البعض أو لم يكن هناك دليل البتة–بينما كان [المانيون] يَعِدون بالعلم بطريقة متهوّرة ولا يبالون بإيمان الناس ويفرضون عليهم بعد ذلك التسليم بما لا يحصى من الخرافات والسخافات التي لم يكن بالإمكان إقامة الدليل عليها»[38]. وكان أوغسطينوس يوجّه الملامة إلى الأفلاطونيين أنفسهم الذين كان يركن إليهم بطريقة مميّزة، لأنهم عرفوا الغاية التي يجب النـزوع إليها ولكنهم جهلوا الطريق المؤديّة إليها وهو الكلمة المتجسّد[39]. لقد أَفلح أسقف هيبونة في أن يضع أولى كبريات الخلاصات في الفكر الفلسفي واللاهوتي التي جبت إليها روافد الفكر اليوناني واللاتيني. ونجد عنده أيضاً أن الوحدة العلمية الكبرى المرتكزة على الفكر البيبلي قد لقيت في الفكر النظري تثبيتاً ودعماً. هذه الخلاصة التي حققها القديس أوغسطينوس سوف تظلّ في الغرب، على مدى أجيال، أرقى أشكال الفكر الفلسفي واللاهوتي. ولقد تمكَّن أيضاً، بفضل تاريخه الشخصي، وبدعم من قداسة حياته العجيبة، أن يُدخِل في مؤلفاته عناصر كثيرة مستوحاة من الخبرة، مهَّدت لما كان لا بدّ أن يجري في المستقبل من تطورات في بعض التيارات الفلسفية.

41. لقد بات إذن لآباء الشرق والغرب طرق متنوعة في الاتصال بالمدارس الفلسفية. ولا يعني ذلك أنهم لبّسوا محتوى إيمانهم بالمذاهب التي اعتنقتها تلك المدارس. وقد تساءل ترتليانوس قائلاً: «أي شركة بين أثينا وأورشليم؟ بين الأكاديمية والكنيسة؟»[40] هذا التساؤل هو دليل واضح على الوعي النقدي الذي تميّز به المفكرون المسيحيون، منذ فجر التاريخ المسيحي، لمعالجة معضلة العلاقات بين الإيمان والفلسفة، وقد نظروا إليها، بالإجمال، في ملامحها الإيجابية وفي محدوديتها. لم يكونوا من طراز المفكّرين السذج، ولأنهم كانوا يعيشون محتوى إيمانهم بكثير من الجديّة، تمكنوا من الوصول إلى أعمق أشكال الفكر النظري. فمن باب الظلم والتخفيض ألاّ نرى في مؤلفاتهم سوى التعبير عن حقائق الإيمان بمقولات فلسفية. لقد حقًّقوا الكثير من ذلك فأفلحوا في إبراز ما كان مضمراً وجرثومياً في فكر كبار الفلاسفة الأقدمين وأضفوا عليه حلته الكاملة[41]. هؤلاء الفلاسفة اتخذوا لهم رسالة –كما قلت–أن يبيِّنوا إلى أي مدى بوسع العقل، إذا تخلَّص من قيوده الخارجيّة، أن يخرج من نفق الأساطير وينفتح على سموّ الألوهة بطريقة أمثل. العقل إذا تطهّر واستقام بإمكانه إذن أن يرقى إلى أعلى درجات الفكر ويجد مرتكزاً متيناً لإدراك الكيان والوصول إلى العلويّ والمطلق.

هنا تكمن، بالتحديد، جدّة الآباء. لقد رحَّبوا ترحيباً كاملاً بالعقل المنفتح على المطلق ورفدوه بالثروة الصادرة عن الوحي. هذا اللقاء لم يتمّ فقط على صعيد الثقافات التي انهارت الواحدة مخلوبة بالأخرى. لقد تحقق في عمق النفوس وإذا به لقاء بين الخليقة وخالقها. هكذا استطاع العقل أن يدرك الخير الأسمى والحقيقة القصوى في الكلمة المتأنس، متخطياً بذلك الغاية التي كان ينـزع إليها بفعل طبيعته وبطريقة لا شعورية. ومع ذلك لم يخشَ الآباء، في مواحهة الفلاسفة، من الإقرار بالعناصر المشتركة كما بالفوارق القائمة بينها وبين الوحي. إدراك العناصر الجامعة لم يكن ليوهي عندهم الاعتراف بالعناصر الفارقة.

42. في اللاهوت المدرسي نرى العقل المثقّف بالفلسفة يتعاظم شأنه أكثر فأكثر بحافزٍ من التأويل الأنسلمي في قضيّة فهم الإيمان. ففي نظر رئيس أساقفة كنتربري أوَّلية الإيمان لا تتعارض مع البحث العقلاني. العقل ليس مدعواً إلى أن يحكم في محتوى الإيمان. إنه عاجز عن ذلك لأنه ليس أهلاً له. مهمة العقل أن يجد معنىً ويكتشف الأسباب التي تُتيح للجميع الوصول إلى شيء من فهم محتوى الإيمان. ويلحّ القديس أنسلموس على أن العقل يجب أن يسعى وراء ما يحبّه. كلّما ازداد حبه ازداد شغفه بالمعرفة. من يحيَ للحقيقة يَتُقْ إلى شكل من المعرفة يتأجج أكثر فأكثر حباً لما يعرفه، مع إقراره بأنه لم يبذل بعد كل ما يرغب في أن يبذله: «لقد وُجدتُ لأراك ولم أحقق بعدُ ما وُجدت لأجله»[42]. الشوق إلى الحقيقة يحفز إذن العقل إلى أن يذهب دائماً إلى أبعد ممّا وصل إليه؛ ولكنه يشقُّ عليه أن يلحظ أن له من طاقة الإدراك ما يتخطَّى دائماً أكثر فأكثر ما يدركه. ومع ذلك، فبإمكان العقل أن يلحظ هنا كمال مسيرته: «إني أرى أن الباحث عن اللاَّمدرك يجب أن يكتفي بالتوصل، عن طريق العقل، إلى معرفة ما هو اللامدرك، على وجه اليقين، حتى وإن عجز عن أن يدرك بعقله كيف هو [000] ولكن هل هناك شيء أبعد عن الإدراك وأبعد عن الوصف ممّا هو فوق كل شيء؟ فإذا كانت القضايا التي تجادلنا فيها حتى الآن، في شأن الماهيّة الإلهيّة، مبنيَّة على أسباب موجبة، فلن يتزعزع يقيننا في شأنها حتى وإن لم يستطع العقل أن يستوعبها أو أن يفسرّها عبر الألفاظ. وإذا كان العقل قد أدرك، باستدلال سابق، ما هو اللامدرك، فالطريقة التي تَعْلَم فيها الحكمة السامية ما فعلت هي التي تفسّر كيف تعلم ذاتها وتعبّر عن ذاتها، مع العلم بأن الإنسان لا يستطيع أن يعرف منها شيئاً أو تقريباً لا شيء»[43].

التناغم الأساسي بين المعرفة الفلسفية والمعرفة بالإيمان، يجد هنا إثباتاً جديداً: فالإيمان يطلب أن يُدركَ موضوعه عن طريق العقل، والعقل، في ذروة بحثه، يرضى بضرورة محتوى الإيمان.

فكر القديس توما الأكويني وجِدَّته الدائمة

43. في هذه المسيرة الطويلة، يشغل القديس توما مكاناً فارقاً جداً، وليس لجهة محتوى تعليمه وحسب، بل أيضاً لجهة الحوار الذي عقده مع الفكر العربي والفكر اليهودي في زمانه. في زمن عاد فيه المفكرون المسيحيون إلى اكتشاف كنوز الفلسفة القديمة والفلسفة الأرسطوطالية بطريقة مباشرة، كان له الفضل الكبير في التركيز على التناغم القائم بين العقل والإيمان. نور العقل ونور الإيمان كلاهما من الله، على حدّ تفسيره، ولذا لا يستطيعان أن يتناقضا[44].

ويرى القديس توما، في نظرة جذريّة، أن الطبيعة، وهي موضوع الفلسفة، بإمكانها أن تساهم في فهم الوحي الإلهي. الإيمان لا يخشى إذن العقل بل يلتمسه ويثق به. وكما أن النعمة تفترض الطبيعة وتكمّلها[45]، كذلك الإيمان يفترض العقل ويكمّله. العقل المستنير بالإيمان يتحرّر من الأوهان والمحدوديات الناجمة عن عصيان الخطيئة، ويجد القوّة اللازمة للارتقاء إلى معرفة سر الله الواحد والثالوث. الملفان الملائكي، مع تنويهه بما يتصف به الإيمان من طابع يتخطىّ الطبيعة، لم يُغفِل ما يتميّز به الإيمان أيضاً من طابع عقلاني، بل عرف بالعكس أن يستقصي معنى هذه العقلانية ويستجليها. والواقع أن الإيمان هو، نوعاً ما، «رياضة للفكر»؛ وذلك بأن العقل البشري لا يتلاشى ولا يُقهر عندما يذعن لمحتوى الإيمان. هذا المحتوى إنما ندركه بفعل خيار حرّ ومسؤول[46].

لهذا السبب دأبت الكنيسة بحق على أن تقترح القديس توما معلّم فكر ونموذجاً صحيحاً من نماذج العمل اللاهوتي. ويطيب لي أن أذكّر، في هذا السياق، بما كتبه سلفي خادم الله بولس السادس بمناسبة الذكرى المئوية السابعة لوفاة الملفان الملائكي: «لا شك أن القديس توما قد تحلّى بأعلى درجة من الشجاعة في قولة الحق وحرّية الفكر في مواجهة المعضلات الجديدة، والنـزاهة الفكريّة في رفض كل تلوث للمسيحية بالفلسفة الدنيويّة، ولكن بدون رفض الفلسفة رفضاً اعطباطياً. ولذا فهو يُعدُّ في تاريخ الفكر المسيحي «من روّاد الطريقة الفلسفية الجديدة والثقافة الشاملة. النقطة المركزية ونواة الحلّ الذي عالج به، بحدسه النبوي والعبقري، معضلة التواجه الجديد بين العقل والإيمان، هي ضرورة التوفيق بين دنيوية العالم وجذرّية الإنجيل، فتجنّب بذلك تلك النـزعة اللاطبيعيّة المتنكرّة للعالم وقيمه، من دون أن يُخِلَّ بالنظام العلوي ومقتضياته الصارمة»[47].

44. من الومضات الفكرية الكبرى التي تميّز بها القديس توما دورُ الروح القدس في إنضاج المعرفة البشريّة والارتقاء بها إلى مرتبة الحكمة الحقيقية. ففي أولى صفحات الخلاصة اللاهوتية[48]، أراد الأكويني أن ينوّه بأوَّليّة الحكمة التي هي موهبة من مواهب الروح القدس، والتي تُدخِل الإنسان إلى معرفة الحقائق الإلهية. لاهوت الأكويني يُمكِّن من فهم خصوصية الحكمة في ارتباطها الوثيق بالإيمان وبالمعرفة الإلهية. هذه الحكمة تتميّز بمعرفة فطريّة، وتفترض الإيمان وتتوصل إلى استنباط حكم صائب انطلاقاً من الإيمان نفسه: «الحكمة المعدودة موهبة من مواهب الروح القدس هي غير الحكمة المعدودة فضيلة فكرية مكتسبة: فهذه يكتسبها الإنسان بجهده وأما تلك «فتنحدر من العلاء» على حدّ قول الرسول يعقوب. وهي لذلك تختلف عن الإيمان، لأن الإيمان يذعن للحقيقة الإلهية في حدّ ذاتها، وأمّا موهبة الحكمة فمزيتها أن تحكم طبقاً للحقيقة الإلهية»[49].

اعتراف الملفان الملائكي بأوّلية هذه الحكمة لا ينسيه وجود شكلين متكاملين من الحكمة: الحكمة الفلسفية التي ترتكز على قدرة العقل على التماس الحقيقة ضمن حدوده الفطرية، و الحكمة اللاهوتيّة التي ترتكز على الوحي والتي تفحص محتوى الإيمان لتصل إلى سرّ الله ذاته.

لقد كان القديس توما مقتنعاً كل الاقتناع من القول المأثور: «كل حقيقة أيّاً كان قائلها، هي من الروح القدس»[50]، فكان هاوياً للحقيقة بطريقة مجرّدة، وبحث عنها أينما تجلّت وبذل كل ما في وسعه للتنويه بشموليتها. السلطة التعليمية في الكنيسة أقرّت وأعجبت بما كان لديه من شغف بالحقيقة؛ والواقع أنه قد توصل بفكره إلى ذرىً لم يكن العقل البشري ليحلم بالوصول إليها، وذلك لأنه استمرّ دائماً في اتجاه الحقيقة الشاملة والموضوعية والسامية»[51]؛ ولأنه كان يبحث عن الحقيقة بدون تحفظ، عرف، في نظرته الواقعية[52]، أن يعترف بما يميّزها من طابعٍ موضوعيٍ؛ وبالتالي ففلسفته هي، بالحقيقة، فلسفة الكائن لا فلسفة الظاهر.

مأساة الفصل بين الإيمان والعقل

45. مع ظهور الجامعات الأولى، كان لا بدّ للاهوت من أن يواجه، بطريقة مباشرة، أشكالاً أخرى من البحث والمعرفة العلمية. وكان القديس ألبرتس الكبير والقديس توما في طليعة المعترفين بضرورة التسليم باستقلالية الفلسفة والعلم في مجالات أبحاثهما، مع المحافظة على العلاقة العضوية بين اللاهوت والفلسفة. ولكن مع نهاية العصر الوسيط، أخذ الفرق الشرعي بين علمي اللاهوت والفلسفة يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى انفصال مشؤوم. فبسبب ما كان هنالك من روح عق

imad
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05790 seconds with 9 queries