ولعلي قبل أن أستطرد في الحديث، وللحديث بقية، أتذكر أن أحد أعضاء تنظيم الجهاد، ممن اغتالوا الرئيس السادات في المنصة، كان مشهوراً عنه أنه يكحل عينيه، وعندما سئل، قال تأسياً بابن عباس، ولعله لو قرأ ما قرأناه عنه ما تأسى به وما أكتحل مثله، واقرأوا معي رسالة علي لابن عباس، بعد أن استقر في مكة، هانئاً بين جواريه، قانعاً بأموال المسلمين .
(أما بعد، فأني كنت أشركتك في أمانتي، ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إليّ. فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت له ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن لله تريد بجهادك، أو كأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلطت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزي الهزيلة وظالعها الكبير، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثم من أخذها، كأنك لا أباً لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله !
أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟ أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله، وأد أموال القوم فإنك والله إلا تفعل ذلك ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده، وأقمع الظالم، وأنصف المظلوم، والسلام).
خطاب يقطر دماً، ولو استقبله ابن عباس بقلب فيه ذرة من إيمان لخشع وتاب، ورجع عن فعله وأناب، لكنه يرد مستخفاً في سطرين لا أكثر فيقول (أما بعد، بلغني كتابك تعظم على إصابة المال الذي أصبته من مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال لأعظم مما أخذت منه والسلام).
هذه المرة يأتي الرد سافراً، نعم أخذت، لكنه حقي، بل إن حقي فيه أكثر، أي حق؟ وبأي حق؟ وهل لعبد الله بن عباس في بيت مال المسلمين حق أكثر مما لرجل من المسلمين؟
هذا ما تساءل به علي في رده على هذا الخطاب، وهو رد بليغ وحزين لا أريد أن أشغل به القارئ فأزيده حزناً فوق حزن، لكني أنتقل به فجأة إلى رد (برقى) آخر من ردود ابن عباس، حسم به النقاش، وأنهى به الجولة، وختم به حديث الدين والعقيدة، مهدداً بسطوة الدنيا وسيفها، وسلطانها وزيفها، قائلاً لابن عمه علي:
"لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به".
وهكذا أصبحت الموعظة الحسنة أساطير لدى عبد الله بن عباس، وأصبحنا نحن في حيص بيص كما يقولون، نضرب كفا بكف، ونتساءل في مرارة، هل نأتمن على ديننا من لم يؤتمن على دنيانا؟.
لا بأس أن نترك علياً لأحزانه، وهو يرى (كما يقول) أن أمانة الناس قد خربت، والأمة قد فتنت، وابن عمه قد انقلب عليه، وفضل رغد العيش من مال المسلمين في مكة، على نضال العقيدة من أجل الإسلام في الكوفة ولن يمر وقت طويل حتى يقتل علي،، وحتى نرى عبد الله بن عباس، ضيفاً على معاوية في مقر خلافته في دمشق، مستقبلاً بالتوقير والملاطفة والعطايا، غير أن العلة لم تكن فقط في نكوص رموز العقيدة عن حمل أعبائها، بل كانت هناك علل أخرى قد تسللت إلى بنيان الدولة الإسلامية الوليدة فأجهزت عليه وهنا نترك حديث العقيدة ورموزها إلى حديث الدنيا وسياستها، ونشير إلى أن أي حكم في التاريخ لا بد له مهابة، وأن هيبة الحكم محصلة للتفاعل بين الحاكم والمحكوم، وهي في النهاية ضرورة ليس لصلاح الحكم، فهذا أمر آخر، بل لتوطيد دعائمه، واستمراره واستقراره، ولا شك في أن أبا بكر بحروب الردة قد حفظ هذه الهيبة بل ورسخها في نفوس المحكومين، ولا شك في أن عمر بعنفه وعدله معاً قد وصل بهذه الهيبة إلى أقصى الدرجات.
ولا شك أيضاً في أن عثمان قد هبط بها رويداً رويداً حتى تلاشت أو كادت، فهو مرة يصدر قراراً خاطئاً، ثم لا يلبث أن يقف على المنبر لكي يعتذر ويبكي (حتى يبكي الجميع)، ثم لا يلبث أن يعود عن اعتذاره إلى عنف لا يملك مقوماته، وهو في تأرجحه بين العنف واللين، وتراوحه بين القرار وعكسه، يفقد الحكم هيبته لدى الرعية شيئاً فشيئاً، حتى يصل الأمر إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين، وإلى قذفه بالحجارة وهو على المنبر حتى يغشى عليه، وإلى محاصرته ومنع المياه عنه، بل أن يرسل إليه الأشترالنخعى خطاباً يفتتحه بالعبارة التالية:
"من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره"
ولعلى أجزم بأنه لم يكن هناك سبيل لعودة هذه الهيبة إلا برجل دنيا وسياسة وحكم من شاكلة معاوية، رجل لا يتحرج أن يقتل حُجر بن عدى، على إيمانه وعدله وزهده، حين يعبر حجر الخيط الرفيع بين معارضة الحكم ومحاربته، وبين الاعتراض على الحاكم، والثورة عليه، لأن القضية في نظره حكم أو لا حكم، وسلطة أو لا سلطة، وهيبة أو لا هيبة
لا اله الا الانسان
نشأ الدين عندما التقى أول نصاب بأول غبي
Religion can never reform mankind , because religion is Slavery
|