عضو
-- قبضاي --
نورنا ب: |
Jun 2005 |
المطرح: |
ألمانيا |
مشاركات: |
735 |
|
الأخت نور
هذا الرد طويل جداً على قدر اسئلتك الطويلة فأرجوا ان تاخذي الوقت لقراءته قبل الرد عليه
لشرح الصلب والإيمان به من وجهة نظرنا لا بد من الدخول في سبب حدوث الفداء الذي كان الصليب تتويجه , ولذلك لا بد من الحديث عن خلق الإنسان وسقوطه ومن ثم الصلب .
الخلق
يروى لنا الكتاب المقدس عـمـلية خـلق الإنسان فى الفصـلين الأول والثانى من سفر التكـوين و هـذا النص يحـوى حقائق مغـلّقـة فى صـور رمـزية, وشعـرية بحسب اللغة الأصلية للكتاب .
الإنسان عـلى صـورة الله ومثـاله:
يقـول لـنا الكـتاب المقـدّس [ نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا ] [ تكوين 1: 26 ]...
هـذا يعـنى أن الله قـد خـصّ الإنسان وحـده بمـيزة وهـى أنـه جـعـل شبهـًا بين ذلك المخـلوق وبين الخـالق , فجـعـل فى الإنسان عـقـلاً وإرادة وحـرية وإبـداعـًا وحـبًا كـلها صـفات شبيهـة بالصـفات الموجـودة فـيه...
هكـذا يظهـر لنـا أن هـذا الإنسان هـو, من ناحية, جـزء من هـذه الطبيعـة التى أخـذ منها ( لأنه يتكون من العناصر الطبيعية نفسها ), وهـو من ناحية أخـرى, متسامٍ بما لا يقاس عـلى هـذه الطبيعة لأنه يحـوى فى ذاته صـورة الله خـالق الطبيعـة الجـامدة والحـية . وبعــبارة أخـرى, إذا كان الإنسان ـ وهو جـزء من الطبيعـة ـ قـادرًا عـلى إدراك أسرارها وتسخـير قـواها لخـدمته, فإنما يعـود ذلك إلى صـورة الله الكـامنة فيه...
وقـد كـان عـلى الإنسان أن يمارس سلطـته بالعـمـل الذى هـو, بشكل ما المساهمة بأن يجعـل الطبيعـة أكـثر ترتيبـصا وجمالاً وإنتاجـًا[ وَأَخَذَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا...] [ تكـوين 2: 15 ] .
غـاية خـلق الإنسان:
حـياة الله فـرح دائم لا حد له , و " الله محـبّة" ولذلك شاء أن يوجـد كائـنات يقـيم معها عـلاقة حب فيشركها بحـياته وفـرحه. فأوجـد البشر ليكـونوا أحـباء له متمتعـين بخـيراته و سعادته . هـذا هـو مجـد الله, أن يحـيا الإنسان ويسعـد , " مجـد الله هـو حـياة الإنسان" كما يقـول القـدّيس " إيروناوس" ( وهو أحـد آباء الكنيسة عـاش فى القـرن الثـانى ) . ومصـدر هـذه السعـادة بالنسبة للإنسان هـو اتحـاد الإنسان مع الله الذى يعـبّر عـنه الكـتاب المقـدّس بالألفـة التى يظهـرها بين الله وآدم .
وقـد كـان هـذا الاتحـاد بالله حـريًا أن يمتع الإنسان بالخـيرات التالية:
أ ـ التنعم بتمام القـوى النفسية: التنعّـم بتمام القـوى النفسية من عـقـل نـيّر وإرادة قـوية توّاقـة إلى الخـير ونيّـة طاهـرة ومحـبة دون أنانية...
ب ـ الخـلود : لم يكـن الإنسان خـالدًا بطـبيعـته ولكن إتحـاده بالله كان حـريًا بأن يهـبه الخـلود يإشراكـه فى خـلود الله نفسه. لذلك قـال الكـتاب أن الله جـعـل [ شَجَرَةَ اَلْحَيَاةِ فِي وَسَطِ اَلْجَنَّةِ ]ٍ [ تكوين 2: 9 ] حتـى إذا أكـل الإنسان منها [ َيَحْيَا إِلَى اَلأَبَدِ ] [ تكوين 3: 22 ] وهـذا يعـنى رمـزيـًا أن الخـلود نعـمة وهـبها الله للإنسان وأن هـذه النعـمة كانت مرتبطـة بسكنى الإنسان فى جـنّـة عـدن أى فى كـنـف الله, فى الاتحـاد مع الله...
ج ـ السيادة عـلى الطبيعـة: وقـد كانت الطـبيعـة مهيـأة لتخضـع للإنسان بالنظـر للصـورة الإلهـية الكـامنة فيه, فـلا تثـور عـليه ولا تضـره ولا تسبب له مشقات ونكـبات.وهـذا ما يرينا الإنجـيل إيّـاه فى شخص يسوع الذى كان يحمل فى إنسانيته الصـورة الإلهـية كاملة, فيقـول الإنجيـلى مرقس:
[ وَكَانَ هُنَاكَ فِي اَلْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً ... وَكَانَ مَعَ اَلْوُحُوشِ... ] [ مرقس 1: 13 ]...
السقوط أو الخطيئة الأصلية :
كان يحـتاج هـذا المخـلوق الجـديد عـيشًا متواصـلاً فى محـبة الله حتى يتلقـّن منه كيفية القـيام بمهمته السامية ألا وهى أن يكـون وكـيل الله عـلى هـذه الأرض ناقـلاً إرادته تعـالى فى كـلّ مجـالات الحـياة
كماكلّـنا يعـلم أن الطفل يشبه والديه ولكـنه ليس مثلهما أو بعـبارة أخـرى إنه عـلى صـورتهما ولكن
عـلى الأبوين أن يحتضـناه ويربّـياه ويدخـلاه يومـًا بعـد يوم فى سرّ الكـيان الإنسانى حتى يصبح يومـًا ما هـو أيضـًا مثلهما يفكّـر وينطـق وينتج ويعـمل . أمّا الولد فعـليه أن ينصاع إلى تعـاليم الوالدين المحـبّة .
هـذه الحقيقة العـميقة يصـوّرها لـنا الكتاب المقدّس بشكل رمـزى ـ كما جـرت العـادة فى تلك العصـور من تاريخ الإنسان ـ فى قـوله أن الله طلب من الإنسان ألا يأكل من ثمـار شجـرة معـرفة الخـير والشر.فكـان قـصد الله إدخـال الإنسان تدريجـيًا فى سرّ الألوهـة وذلك من خـلال تربيته اليومية عـلى أصـول الحـياة الفـردوسية...وكأى تدريب آخـر تتطـلّب التربية الإلهـية معـاشرة متواصـلة وتفـترض طـاعـة... أمّـا الإنسان فقـد فضّـل الإستغـناء عـن محـبّة الله وإحـتضـانه له...
أراد أن يغـتصب الألوهـة إغـتصـابًا معـتقـدًا أنّ معـرفة الخـير والشر هـى التى تجعـله إلهـًا . فسمع للشيطان الذي خاطبه قائلاً [ أنكما يوم تأكلان من الشجرة تصيران كالله ] .. فكانت الكارثة بأن انقطـع الإنسان بإرادته عـن جـوار الله وتـاه فى جـو لا يناسب أصـله . وترعرع فيما بعد عبر الأجيال فيه حتى بات يعتقده هو عالمه الأصلي . وصـلتنا بخطـيئة الأنسان الأول ليست إذًا صـلة وراثـة ولكن صـلة جـو يتـرعـرع فيه الإنسان .
بغـياب الله عـن جـوّنا الذى اخـترناه , أصبح للموت ( بدل الخلود ) سلطـانـًا فى حـياتنا , وعـدم قـدرة الإنسان بدون الله عـلى التخـلّص من هـذا الكابوس يجعـله ييأس ويعـود إلى مزيـد من التلطـخ فى الخطـيئة .
نتـائج السقـوط
مأساة الإنسان التى نشأت عـن غـياب الله عـنه هي مأساة التفكك...
أ ـ تصـدعـت وحـدة الإنسان مع ذاته:
بإنفصـال الإنسان عـن الله حصل تفكّـك فى شخصـه أى أن الإنسجام بطُـل فى كـيانه:
ـ فالأهـواء ثارت عـلى العـقـل عـوض أن تكـون خاضعـة له, موجهة منه, لذلك أظلم عـقل الإنسان إذ أصبح فى كـثير من الأحـيان مسخـّرًا لخـدمة الشهـوات. هكـذا, انتشرت الآراء والمعـتقـدات الباطـلة بين البشر وأخـذ الإنسان ينظـر إلى الأشياء لا كما هى بل كما تصـوِّرها له أهـواؤه. وأصبح وهو الكائن العاقل يؤلّـه المال والقـوة والجـاه والنفـوذ ويتعـبّد لأناس مثاله من زعـماء وغـيرهم وأصبح يسخّر العـلم نفسه للدمار...
ـ كذلك ثـارت الغـرائز عـلى الإرادة التى كانت وظيفتها فى الأساس أن تسيّر هـذه الغـرايز وفـقـًا لصـالح الإنسان الحقيقى. فأصبحت هـذه الغـرايز تشدّ الإنسان إليها خـلافـًا لحـاجاته فضعـفت الإرادة وأصبحت لا تقاوم الشر إلا بصعـوبة ولا تُردع إلا بجهد جموح الشهوات...
ب ـ تصـدعـت الوحـدة بين الإنسان والغـير :
و هـذا التفكّـك الذى ساد فى كـيان الإنسان الشخصى تعـدّاه إلى العـلاقة بين الإنسان والإنسان وذلك أن الإنسان بإنفصـاله عـن الله انفصـل أيضـًا عـن أخـيه الإنسان , فالخطـيئة بأبعـادها الإنسان عـن الله تبعـده عـن قـريبه , هـذا التفكّـك بدأ فـورًا بعـد السقـوط عـندما سأل الله آدم عـن مخالفـته فأجـابه[ الْمَرْأَةُ اَلَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِـي هِـيَ أَعْـطَتْنِي مِـنَ اًلشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ ] [ تكوين 3 : 12 ]وهكـذا ألقـى المسئولية عـلى إمـراته فـاصـلاً مصـيره عـن مصـيرها, بينما كانا قـد خُلقـا " ليكـونا جسدًا واحـدًا" أى كـيانًا واحـدًا. وهكذا أصبحت الأنانية تفصـل حتى بين الإنسان وأقـرب الناس إليه, وتشوّه الحب عـلى أنواعـه بإرادة التسلّط عـلى الآخـر وامتلاكه كأنه مجـرّد شئ او متعـة وقـاد ذلك إلى تنافـر بين الأخ وأخـيه, وبين الأب وابنه , وبين الزوج وزوجته...
ولذا يروى لنا الكـاب المقـدّس كيف أن السقوط تلاه قـتل قايين لأخـيه هابيل...
وانفجـرت الأحـقـاد بين البشر وحسد بعـضهم بعـضًا, وتجـبّر بعـضهم عـلى بعض, واستعـبد بعـضهم بعـضًا, وتطاحـنوا فى حـروب مدمرة...
ج ـ تصـدعـت الوحـدة بين الإنسان والطبيعـة :
أخـيرًا كان من عـواقب السقوط أن بطـل هـذا الانسجام الذى خـلقـه وأعـدّه الله بين الإنسان والطـبيعـة هـذه الطـبيعـة التى كانت معـدّة لتخضـع للإنسان الحـامل فى ذاتـه صـورة الخـالق, تمـرّدت عـليه حين تشوّهت صـورة الله فيه...
وهكـذا لم يعـد الإنسان فى مـأمن من حتمية نواميس الكـون بلّ صار إلى حـدّ بعـيد ضحـية هـذه النواميس .
يسوع المسيح, الذى حافظ عـلى صـورة الله فيه أيقظنا عـلى الحقيقة مذكّـرًا إيّانا بأن الإنسانية الحقـة تكمن فى صـلتنا الوثيقـة بالله... وعـلّمنا أيضـاً أن تحقيق صـورة الله كاملة فينا يكمن فى إتضـاعـنا المستمر...
سر الفداء يبدأ في التجسد
في الحقيقة تؤمن المسيحية ان الفداء أعده الله ورتبه منذ السقوط إن لم يكن منذ الخلق .
بالخطيئة انفصـل الإنسان عـن الله وغـدا طريحًا غـير قادر أن ينهض نفسه من الهـوة التى سقط فيها.ولم يكن بإمكانه أن يرتفع إلى الله ولذلك فقد شاء الله فى محـبته أن ينحـدر بنفسه إلى الإنسان ليعـيد الشركة بين الإنسان وبينه. إن الله أحـبّ الإنسان " حـبًا جنونيًا" عـلى حـدّ تعـبير اللاهـوتى " نقـولا كباسيلاس" , حتى أنه وهـو الكائن الأبـدى, الخالق, ذو السعـادة المطلقة, لم يترك وشأنه ذاك الإنسان الذى رفضه إخـتياريـًا بلّ إنحـدر إليه ساعـيًا فى طـلبه كما سعـى الراعـى الذى تكلّم عـنه الرب يسوع وراء الخـروف الضال [ لوقا 15: 1ـ 7 ] غـير مكتفٍ بالملائكة كما لم يكتف ذل الراعـى بالتسعة والتسعـين خـورفًا التى لم تضلّ...
بالتجسّد أخـذ الله طـبيعـتنا البشرية المنحطـّة, الساقطة, واتحـدت مع لاهـوته اتحـادًا فائق الوصف , ليداوى الله بالتجسّد النزيف الروحى الذى هـو الخطيئة الأصـلية.بالتجسّد بث الله حـياته فى الإنسان المريض, ليعـيد إليه القـوة الروحية التى خارت والجمال الذى تشوّه.وبالتجسد اتحـد الله ذاته بالإنسان لتسرى فى الإنسان حـياة الله ...
رأينا ان الإنسان سقط لكونه أراد أن يجعـل نفسه إلهـًا دون الله, بالاستغـناء عـن الله , فلقـد كان يتوق إلى التألّـه ولكنه ضلّ الطـريق إذ اعـتقـد أن التألّـه يتم بانتفاخ الأنـا. فالله لم يخلق الإنسان ليكون له عـبدًا بل شريكًا فى حياته الإلهية , وهذا لم يكن ممكنًا بمعـزل عـن الله بلّ كان مشروطًا باتحـاد الإنسان بالله , لأن من الله يستمد الإنسان كل موهبة وقـوة وحـياة وخارج الله ليس سوى العـدم والفـراغ والمـوت...
ولكـن الإنسان استمع على خـداع الشرير فطمع بالتألّـه دون الله, فلم يبلغ مأربه بل انحطّ من مستواه الإنسانى الأصـيل وأخضع طبيعـته للمـوت...
كانت وعـود الشيطان كاذبة, لقـد قال عـنه يسوع أنه " كَـذَّاب وَأَبُواَلْكَـذِب " [ يوحنا 8: 44 ], عـندما اعـلن للإنسان أنه بمخالفة الله يصـير إلهـًا. وتلك الوعـود البراقـة كانت وهمـًا وخـداعـًا . ولكن ما لم يستطع الإنسان أن يحققه عـندما تشامخ حققه له الله عـندما نزل إليه...
وحتى لا يتششت القارئ فى معنى أن الإنسان تألّه بالتجسد؟...
هـذا لا يعـنى أننا أصبحـنا آلهة بالطبيعة, فإننا مازلنا مخلوقات...
ولكن التألّـه يعـنى أن حـياة الله قـد أُعْطيت لنا فصـرنا مشاركين له فى محبته, فى مجده, فى قـوته, فى فـرحه, فى حكمته, فى قـداسته, فى خلوده.. لم ولن نبلغ جوهـر أو لاهـوت الله لأنه دائمًا متعـالٍ لا يمكن الوصول إليه, ولكن النعمة الإلهية أعْطيت لنا وأصبحت فى متناولنا...
الصلب
الفـداء الذى بلغ بالصليب قـمته يمكن أن يُنظـر إليه من ثلاث وجهات نظـر:
بالصليب حطم المسيح حواجز أنانيتنا :
بالتجسّد أصبح الله حاضـرًا فى الإنسان ليجـدّده ويشفيه ويشركه فى حـياته الإلهية ولكن بقـى أن يُزال الحاجز الذى أقامته الخطيئة فى صميم الإنسان بينه وبين خالقه في إنغـلاق الإنسان وإنطـواؤه عـلى نفسه دون الله, هـو عـبادة الأنـا التى حكمت عـلى الإنسان بعـزلة مميتة . وكان ينبغى, إذًا, تحطيم هـذا الحاجز لتتدفق فى الإنسان حـياة الله, لأن الإنسان الممتلئ من ذاته لم يعـد لله مكان فيه.. لذلك عـندما اتخـذ الله طـبيعـة الإنسان, داوى أنانيتها بالانفـتاح الكامل والعطاء الكامل اللذين حققهما فى إنسانيته...
فإنه طيلة حـياته عـلي الأرض, لم يرد أن يتمتع بالمجـد الإلهى الذى كان كامنـًا فيه بل [ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ ] [ فيليبى 2: 7 ]...
أخـلى ذاته من التمتع بالمجـد الإلهى وقبل طوعـًا بوضع العـبد , وفضّل العـطاء عـلى التمتع, ومع أن كل شئ كان فى متناول يده, أراد أن يبذل لا أن يأخـذ و حـياته كلها كانت قربانـًا لله الآب وللبشر الذين صار أخـًا لهم. ولم يرد أن ينتـقم من غير المؤمنين به بل إنتهـر يعـقـوب ويوحنا عـندما طـلبا إنـزال نـار من السماء لإحـراق قـرية رفـضت أن تستقـبله[لأَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ اَلنَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ] [ لوقا 9: 51 ـ 59 ]ونهر بطـرس عـندما أراد أن يدافع عـنه بالسيف وصلّى من أجـل قاتليه . وأراد, وهو المعلّم والسيّد, أن يكون وسط تلاميذه كالخادم وأن يغسل أرجلهم ..
هـذا العـطاء الذى به أراد المسيح أن يستأصل أنانيتنا, بلغ ذروته فى الصليب. وكان فى وسع المسيح أن لا يموت بالنظـر لللاهـوت الكامن فيه ولكنه ذهب فى تخليه عـن " الأنـا" إلى أقـصى الحـدود, بـاذلاً ذاتـه للمـوت, وهكـذا قـدّم حـياته عـلى الصليب قـربان محـبة للآب, وتعـبيرًا عـن تخـلّيه التـام عـن مشيئته الذاتية, كما قال بنفسه فى بستان جسيمانى:
[ يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ.... يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ ] [ متى 26: 39, 42 ]...
هكـذا تمـرّد آدم, وأطـاع المسيح..تكـبّر آدم, فتواضع المسيح..اكتفـى آدم بذاته, فتخلّى المسيح عـن ذاته .. أراد آدم الكمال بالأنانية وحب الذات , وعلمنا المسيح الطريق الحقيقي إلى الكمال بالتواضع التام ..[ وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ ] [ فيليبى 2: 8 ] . وهكـذا بموته عـلى الصليب, أعـطى البشرية الـدواء الشافى لـداء الأنانية الذى فـصلها عـن الله...
بالصليب أخذ المسيح عـلى ذاته خطيئتنا :ومن وجهة نظـر أخـرى, نـرى أن الرب يسوع المسيح, لكى ينقـذنا من الخطـيئة التى أصبحنا نئن تحت وطأتها, شاء أن يأخـذها عـلى نفسه, لا أن يأخـذها هى بـلّ أن يحتمل فى ذاته نتائجها المريعة حـبًا بنا,كما أن المحب يود لو أنه يستطـيع أن يأخـذ عـلى نفسه مرض المحبوب ليخلصه من وطـأته , ولكن ما لا يستطيع أن يفعـله الحب البشرى, استطـاع أن الرب يسوع المسيح أن يتممه إذ أنه, لأجـل محـبته لنا, أخـذ عـلى نفسه مرضنا لينقـذنا منه , وهـو البـرئ من كل خطـيئة, أخـذ عـلى نفسه كل الشقاء الذى جـرّته الخطـيئة عـلى الجنس البشرى وكـانه مـتروك من الله نفسه [ إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ ] [ متى 27: 46 ] حاصـلاً فى ظلمة وحزن مميتين[ نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى اَلْمَوْتِ ] [ متى 26: 38 ] .. كانت هذه صرخات البشرية البعيدة عن الله والتي كان يفترض ان تكون هي المعلقة على صليب الموت بدلاً من يسوع , وليس كما يفهم البعض بأن المسيح كان يصلي إلى إلهه .
وهكـذا فإن يسوع المسيح عـلى الصليب ظهـر لله الآب مجسمًا فى جسده الجـريح, الممزّق, المخـتنق, وفى نفسه المنسحقة, بشاعة كل خطيئة البشر التى أخـذها عـلى نفسه فـصار شفـيعـًا للخطـأة أجمعـين عـندما وحـد ذاته معهم[ لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ اَلأَعِزَّاءِ وَمَعَ اَلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي اَلْمُذْنِبِينَ ] [ أشعـياء 53: 12 ] ذلك أن الآب لم يعـد ينظـر إلى الخطـأة إلا من خـلال هـذه الصـورة, صـورة ابنه الوحـيد الحبيب المصـلوب الذى جعـل نفسه كواحـد منهم.
هكـذا كان الحمل الذى كان يُـذبح فى الهيكـل اليهودي حسب الناموس الموسوي تكفـيرًا عـن خـطايا الشعـب رمـزًا وإشارة إلى المسيح الذى قـال عـنه يوحـنا المعـمدان [ هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ اَلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ ] [ يوحنا 1: 29 ]...
بالصليب انتصر المسيح عـلى الألم والموت بدخوله فيهما :أخـيرًا, معـنى ثالث بالغ الأهـمية يتجـلّى فى الصـليب.لقـد دخـل البشر بالخطـيئة فى مملكة المـوت ( وبلغـة الكتاب والآبـاء تُدعـى " الجحيم" ) وساد عـليهم الحـزن والألم والضعـف والفـناء كمن اُغـلَّق عـليهم فى سجن مظـلم رهـيب...
لقـد كان بإمكان الله أن يحـرّرهم من الخارج, بكلمة منه فـقـط, بإرادتـه الفائقـة , ولكن محـبته دفعـته أن يشارك البشر أولاً مصـيرهم لكـى يوحّـد ذاته معهم , و لم تدفعـه إلى إجـتياز الهـوة الفاصلة بين الخالق والمخلوق وحسب ـ وهـذا هو التجسّد ـ بل إلى مشاركته أيضًا بكلّ ما تعـرّض له هـذا الإنسان من جـرّاء الخطـيئة, من حـزن وضـيـق وآلام ومـوت , مخـتبرًا إيـّاها بكـلّ شقائهـا, حتى يشعـر الإنسان فى حـزنه وبؤسه, فى آلامـه الجسدية والمعـنوية, فى نـزاعـه ومـوته, إنـه محـبوب, وأن الله نفسه شاركه فى ذلك كلّه...
هكـذا دخـل يسوع المسيح, حـبًا بالإنسان, مملكة المـوت التى كان غـريبًا عـنها إطـلاقـًا, ليس فـقـط من حيث إلوهـيته, بلّ من حيث إنسانيته أيضًا.. فإنسانية يسوع المسيح لم تعـرف الخطـيئة البتـّة ولذلك فقـد كانت بالكـليّه غـريبة عـن مملكة المـوت .مملكة المـوت هـى مملكة الشيطـان الذى قـتل الناس بالخطـيئة, ولم يكن للشيطان شئ فى إنسانية يسوع المسيح البريئة من كل عـيب, ولـذا قال يسوع لتـلاميذه قـبل تسليمه بقـليل[ لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ ( أى الشيطان الذى تسلّط عـلى العـالم بالخطـيئة ) يَأْتِي ( أى أن يسوع سوف يدخـل بالمـوت إلى مملكته ) وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ ] [ يوحنا 14: 30 ].
ولكن مملكة المـوت لم يكـن بوسعـها أن تضبط سيد الحـياة والقـدّوس الـبرئ من الخطـأ, لـذا كان دخـول يسوع فـيها مقـدمة لتحطـيمها وتحـرير الإنسان منها و هكـذا لما شاركـنا الرب فى الآلام والمـوت أعـتـقـنا من المـوت والآلام.. ولمّا أسلم ذاتـه لذلك العـالم الرهـيب الذى أوجـدته الخطـيئة ضـرب قـوى الخطـيئة الكامنة فينا ضـربة قاضـية..وعـندما طـرح نفسه فى ظلمتنا, أضاءها بنوره, وعـندما شاركنا فى موتنا أعـطانا حـياته...
هكـذا تحقـقت نبـؤة أشعـياء التى ردّدها الإنجـيل مطبقـًا إيّاها عـلى يسوع [ اَلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظَِلاَلِ اَلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ ] [ أشعـياء 9 : 2 ] و[ الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ ] [ متى 4: 16 ]...
النتيجة
يسوع المسيح وحـده تمم بناسوته ما لم يكـن بوسع أى إنسان أن يتممه و استطـاع وحـده أن يتخـلّى بالحقـيقة عـن تملّـك ذاته، وبعـبارة أخـرى استطـاع وحـده أن يقـبل المـوت بالكـلية وفى الصميم ولـذا, استطـاع وحـده أن يـلج بإنسانيته إلى مجـد الله , وأتمّ هـذا العـطاء الكامل لا من أجـل نفسه بلّ بالنيابة عـن البشر أجمعـين..فعـندما قـبل المـوت كـليًا إنما قـبله كممثل عـن البشر الذين لا يستطيعـون هـم قـبوله...
أما نحن فعـطاؤنا ناقـص لا يمكن أن نبلغ به إلى الله، إنه مشوب بالأنانية المستحكمة فـينا بسبب خـوفنا من المـوت.. ولكننا نستطيع أن نلج إلى الله من خـلال عـطاء يسوع المسيح الكامل...
أمر لا بد من الإنتباه له :
ولكـن الفـداء لا يفـعـل فـينا بشكل سحـرى فالله لا يُخلّص الإنسان بالاستقـلال عـن إرادة الإنسان لأنه يحـترم حـريته في الخلاص كما احترم حريته في خياره بالسقوط والابتعاد عنه لـذا لا ينـال القـيامة من يرفـض الإشتراك فى صـليب المسيح، أى من لا يقـبل أن يدخـل فى طـريق المـوت عـن الذات سلكها يسوع حتى النهـاية...
لقـد علّمنا الرب صـراحة أنه لا يسعـنا الإشتراك معه فى الحـياة الإلهـية ( أى فى قـيامته ) إن لم نسلك فى أثـره طـريق المـوت[ إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا ] [ متى 16: 24, 25 ]وقـد عـلّمنا الرسول بولس أن إشتراكنا فى الصليب ضـرورى إذا شئنـا أن نكـون منتمـين إلى المسيح وبالتـالى أبناء القـيامة [ وَلَكِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا اَلْجَسَدَ ( أى الخطـيئة، أى عـبادة الذات ) مَعَ اَلأَهْوَاءِ وَاَلشَّهَوَاتِ ] [ غـلاطية 5: 24 ] وبقوله [ فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ اَلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ ] [ رومية 6: 8 ]..
إننا فى وضعـنا الساقط لا نستطيع أن نقـدّم ذواتنا بالكـلية، ولكـن المطلوب منا أن نجـتهد فى هـذا السبيل وأن ننـوى بصـدق السير فى طـريق نكـران الـذات وراء المعـلم , فتلك هـى التـوبة فى الأساس. وهـذا السير يدوم الحـياة كلها لأن عـطاءنا يبقى ناقصـًا أمام محبة الله ما حيينا..لـذا فالكنيسة ليست كنيسة الصـديقين بلّ كنيسة التائبين أى العـائدين من عـبادة ذواتهم إلى عـبادة ربهم...ولنا فى هـذا السير دافعـان يشددان عـزمنا: محبة المسيح لنا وثقتنا بقيامته وغلبته
هذا ضروري حتى لا يقول لي أحدكم : المسيحيين يفعلون ما يحلو لهم لن المسيح خلصهم واخذ خطاياهم فهذا عدم فهم لشيء بالمسيحية
شكراً وأرجو ان يكون قد توضح مفهوم الخلاص في صليب المسيح
الرد تم بمعونة وتصرف من كتاب ( مدخل الى العقيدة المسيحية ) لِ " كوستي بندلي "
www.serafemsarof.org
تعليم الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة المقدسة الرسولية
|