التطوّرات المتوقّعة وتغيير العالم!
نصر شمالي 25/05/2008
قيل الكثير عن سوء فهم الإدارات الأميركية المتعاقبة للتطورات التاريخية التي شهدها العالم منذ عام 1990، وسوف يقال ما هو أكثر وأوضح في المستقبل القريب،
خاصة سوء فهمهم لحدث انهيار الاتحاد السوفييتي الذي أخلّ بتوازن العلاقات الدولية، والذي احتفى به الأميركيون لهذا السبب بالذات ويا للعجب، "لأنّ انهياره سيجعلهم قطباً وحيداً ينفرد في السيطرة على العالم"! ثمّ اتضح أنّ ذلك لم يكن في صالحهم على المدى القريب وليس البعيد، حيث لم يمض سوى عقد ونصف من السنين كي ينكشف مأزقهم التاريخي الخطير الذي نجم عن تفرّدهم الإمبراطوري في قيادة العالم! وهاهو مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السابق، مايكل هايدن، يحاضر مؤخّراً أمام طلاب جامعة كنساس قائلاً أنً مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أي ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، قد انتهت بضعف العلاقات والروابط التي تجمع بين الولايات المتحدة وأوروبا، وأنّ السيطرة الأميركية الأحادية على العالم قد انتهت في جميع المجالات بسبب صعود تأثير أطراف عالمية أخرى!
لقد أدّى ضعف الروابط بين الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية إلى صعود أطراف عالمية أخرى، مثل الصين والهند وروسيا وغيرها، وعندما يتحدّث هايدن أو غيره عن مثل هذا الضعف في الروابط الأميركية الأوروبية فهو يتحدّث بالضبط عن ضعف في بنية القيادة التاريخية للنظام العالمي الاحتكاري الربوي المهيمن منذ حوالي خمسة قرون! أي ليس عن مجرّد تناقضات داخلية روتينية، سببها التنافس والمزاحمة، لا تسمح أبداً مهما بلغت حدّتها بصعود الآخرين، حتى لو بلغت مستوى الاشتباك المسلح بين أطراف هذه القيادة التاريخية كما حدث في الحربين العالميتين، بل عن ضعف بنيوي تاريخي لا علاج له ولم يعد ممكناً معه التصدّي للقوى الناهضة، لا سلماً ولا حرباً!
ألم يصنّفوا الاتحاد السوفييتي إرهابيّاً؟
ولكن، ما هو السبب المباشر الذي أدّى إلى ضعف الروابط بين أطراف رأس المال الدولي القائدة للعالم؟ إنّ مايكل هايدن يذكر سببين هما: أولاً، الحرب العالمية على الإرهاب، ثانياً، احتلال العراق! ويقول هايدن بصدد السبب الأول أنّ الولايات المتحدة وأوروبا (الغربية) تتفقان على ضرورة مكافحة الإرهاب، لكنّ الفوارق الأساسية بين موقفيهما تكمن في رهان واشنطن على الحرب العالمية ضدّ الإرهاب، بينما أوروبا ترى اعتبار الإرهاب شأناً داخلياً! ولإيضاح ما قاله هايدن بلغة دبلوماسية شديدة الحذر نقول: إنّ ما يسمّى حرباً على الإرهاب ليس في التحليل العميق والأخير سوى حرب ضدّ الشعوب المتطلعة إلى الخلاص من ربقة عبودية رأس المال الدولي الاحتكاري الربوي، والجميع يعرف أنّ الاتحاد السوفييتي كان مصنّفاً إرهابياً وراعياً للإرهاب الدولي (إمبراطورية الشرّ!) وأنّ تهمة الإرهاب ألصقت بجميع حركات التحرّر والاستقلال في جميع الأزمنة والقارات، فقد كان الفرنسيون في الجزائر والإنكليز في الهند والعنصريون المستوطنون في جنوب أفريقيا وفلسطين والأميركيون في فيتنام واليوم في العراق وأفغانستان، جميعهم يحاربون "المخرّبين الإرهابيين القتلة المتوحشين"! وهكذا فلا بدّ أنّ سبباً آخر، غير الذي ذكره هايدن، دفع إلى اعتراض الأوروبيين على الحرب العالمية الأميركية ضدّ الإرهاب العالمي، والسبب بالطبع هو تطلّع الأميركيين إلى الانفراد في السيطرة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واعتبار شركائهم التاريخيين في جملة هذا العالم مع " المعاملة الخاصة" لهم!
ترك عملية لجم الشعوب لحكّامها!
لقد شملت نزعة التسلّط الإمبراطورية الأميركية الأوروبيين أيضاً، وأرعبتهم بالطبع، لكنّهم كانوا من الحكمة وبعد النظر، بعكس الأميركيين، بحيث بقي هاجسهم الرئيسي هو أن لا يفلت زمام العالم الذي يمسكون به على مدى خمسة قرون، وهذا يقتضي الاحتفاظ بالأميركيين شريكاً رئيسياً رغم عدوانيتهم ضدّ أوروبا بالذات أيضاً، وإقناعهم أنّه كان من الأفضل ترك عملية لجم الشعوب، أو "محاربة الإرهاب"، للحكومات التابعة في البلدان المظلومة باعتبارها قضية داخلية، حسب قول هايدن الذي عبّر بطريقة غير مباشرة عن موافقته، بل حذّر من الاستمرار في النظر إلى العالم بعد اليوم من منظور أميركي بحت، وشدّد على أنّ الدور المستقبلي لأجهزة الاستخبارات الأميركية هو التركيز على تقديم فهم أفضل لثقافات وأديان وحضارات الأمم الأخرى!
أمّا عن احتلال العراق، وهو السبب الثاني من أسباب ضعف الروابط بين أطراف رأس المال الدولي القائدة، فقد كان محاولة أميركية إمبراطورية انفرادية للإمساك بخناق العالم بما فيه الشركاء الأوروبيين، لكنّ المحاولة فشلت فشلاّ ذريعاً على الصعيدين العراقي والدولي، وتحوّلت إلى حرب استنزاف رهيبة مرعبة ومدمّرة للأميركيين قبل غيرهم، ونحن نعرف أنّ الأوروبيين عارضوا احتلال العراق لاعتقادهم بخطر فشل العملية، إضافة إلى أنّها ضدّهم أيضاً، ولاعتقادهم أنّ السيطرة على العراق يمكن تحقيقها بوسائل أخرى!
تطورات كافية لتغيير العالم!
لكنّ مايكل هايدن لم يقف عند هذه الحدود في محاضرته ذات الدلالات المستقبلية الخطيرة، فبينما بعض الحكومات والأوساط العربية القيادية يلهث خلف الولايات المتحدة، وينخرط في عملياتها كأنّما هي عمليات مضمونة النجاح، نسمع رجل الدولة الأميركي يقول أمام طلبة جامعة كنساس أنّ الولايات المتحدة مهدّدة بأكبر المخاطر الاستراتيجية: صعود الصين المتسارع، والانفجار السكاني الذي تشهده الكرة الأرضية، وانتشار العنف والحروب، واستنزاف الموارد العالمية المحدودة، وتوقّع صعود أطراف دولية أخرى سواء أكانت حكومات أم قوى مستقلة، وهي القوى التي سوف يزداد تأثيرها على مسرح الأحداث الدولي، إضافة إلى ما طرأ على الرابطة التاريخية الأميركية الأوروبية من ضعف، وإضافة إلى انهيار توقعات ما بعد مرحلة الاتحاد السوفييتي، أو الحرب الباردة، وفشل الأميركيين في السيطرة العالمية الاقتصادية والسياسية والعسكرية! أي أنّ الرجل، وهو ليس وحيداً في ما يقوله، يتحدّث عن تطوّرات تاريخية كافية تدفع في اتجاه تغييرات جذريّة في العلاقات الدولية، أي في اتجاه تغيير العالم، وهو يعترف بأنّ الولايات المتحدة لم تعد قادرة على التصدي لهذه التطورات، ويدعوها لمراجعة سياستها والكفّ عن النظر إلى العالم من منظور أميركي، أي للتصالح مع الأمم كخيار لا مفرّ منه، فهل يراجع أولئك العرب الذين تقودهم إدارة بوش الصهيونية مواقفهم قبل فوات الأوان، ويتطلعون إلى موقع كريم يليق بتضحيات أمّتهم في العلاقات الدولية الجديدة، القادمة لا محالة؟
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النور:19]
|