أخوية

أخوية (http://www.akhawia.net/forum.php)
-   السقيفة (http://www.akhawia.net/forumdisplay.php?f=58)
-   -   أحـاديـثُ مُـحَمَّـد إبـراهيـم (http://www.akhawia.net/showthread.php?t=130572)

قرصان الأدرياتيك 15/10/2009 17:32

أحـاديـثُ مُـحَمَّـد إبـراهيـم
 
الحديثُ الأوّل

كانَ ذاكَ المساءُ ثقيلاً عليَّ كعتمتِه، خرجتُ من المنزلِ ورحتُ أتمشّى لعلّي بهذا أدفعُ عنّي ما كانَ فيَّ من ألمٍ وقلقٍ واضطراب. نظرتُ إلى بيروتَ ثمَّ إلى البحرِ وسرّحتُ الطَّرفَ باحمرارِ الأفقِ بعدَ مقتلِ شمسِ ذاك النّهار. أخرجتُ من جيبي علبةَ التّبغِ ثمَّ فرشتُ وريقاته الخضراء على الورقة البيضاء وأدخلتُ في مؤخّرتِها فيلتراً صغيراً ولففتُها بإحكام! أشعلتُها وأعدتُ من جديد النّظرَ إلى الجبالِ فالبحرِ فبيروتَ، وقلقي يزدادُ وألمي ينمو، واللفافةُ تحترقُ ولا شيءَ معها يحترقُ سوى رئتيَّ!

مكثتُ على هذه الحال نصفَ ساعةٍ أحرقتُ فيها ثلاث لفافاتٍ وأعصابي. قرّرتُ أن أعودَ إذ لم تسعفْني الطّبيعة بكلّ سحرِها، ولم يكن لها أن تُخرجَني ممّا أنا فيهِ. مررتُ في طريقي على دكّانٍ صغير، دخلتُه مسلِّماً، ثمَّ جلتُ بناظريَّ بين الرّفوف لا أعلمُ ماذا أريد... أخيراً وقعتْ عينايَ على زجاجةٍ بيضاءَ شفّافةٍ وكانَ ما فيها أيضاً أبيضَ شفّافاً، أشرتُ إليها وقلتُ للبائع: هاتِ من فضلِك زجاجةَ الفودكا تلك! دفعتُ ثمنَها وخرجتُ...

أخرجتُها من الكيس ووضعتُها أمامي على الطّاولة التي عجّتْ بكلِّ ما هبَّ ودبَّ. أقربُ الأشياء إليها كانَ كتابَ "برهان العسل" ابتعتُه على طلبِ صديقٍ سألني أن أقرأَه، وهو كتابٌ فيه من الأقوال ما يوقفُ شعرَ الرّأسِ وأشياء أخرى!

الوقتُ يمشي الهوينة، والدّقائقُ تمرُّ عليَّ كأنّها ساعات، ولم يكن لي من سبيلٍ إلى اغتيالِ الزّمن سوى نثره هباءً... وبدونِ أن أفعلَ شيئاً أضعتُ عدّة ساعات، وفجأةً طُرقَ البابُ، التفتُّ نحوه وقلتُ في نفسي مَن عساه يكون الطّارق في مثلِ هذا الوقت! فتحتُه وإذ بصديقي محمّد إبراهيم يبتسمُ ملء شدقيه:
- مساءُ الخير يا عزيزي
- مساءُ النّور، أهلاً أهلاً ويا مرحباً، تفضّل
- دخلَ سريعاً فرددتُ البابَ ببطءٍ وأعملتُ فكري في صديقي وقدومِه المفاجئ...

كانَ محمّد إبراهيم شابّاً مصريّاً أسمرَ كأهلِ النّيل قويَّ البنية ذكيّاً يحملُ في صدرِه قلباً طيّباً لكنّه بالمقابل كانَ يتجنّبُ الشرَّ بقدر ابتعادِه عنه! يعشقُ الفولَ فتراه وجبتَه المفضّلة ليلَ نهار، درسَ الاقتصاد ويعمل به الآن ولهذا فهو يتنقّل من مكانٍ إلى آخر... قدمَ بيروت للاطّلاع على أحوال لبنان الاقتصاديّة وما يُمكن لمصريٍّ مثله أن يفعلَ في مثل هذا البلد المُضطرب.

- بماذا تُفكّر؟! (قالَها وهو ينظرُ إليَّ باسماً)
- لا شيء... بلى، بلى، أفكّر فيك وفي قدومِك هذه السّاعة من الليل
- ها ها ها... لا تقلق، أردتُ مسامرتَك بعدما وجدتُك تعباً بالأمس
- لكنّي اعتقدتُ أنّك لم ترَ منّي شيئاً، فقد حاولتُ جهدي الحفاظَ على طبيعتي
- بتُّ أعرفُك يا صديقي، وإن لم يكن التعبُ والقلقُ باديَين على وجهِك فهما يظهران في أفعالِك وأقوالِك
- لهذا أقولُ لكَ دائماً أنتَ تُعجبُني وتزدادُ قرباً منّي
- هل ستبقى تحدّثني وحلقي يجفّ وصدري يلتهب؟
- لا، لا، عذراً... نسيتُ نفسي في غمرة التفكير، ماذا نشربُ اليومَ؟
- أرى كأسَك هناك، ماذا شربت؟
- فودكا... أتريدُ منها؟
- لا، أنا أفضّل الغربيّين وما يشربون ويصنعون، لستُ مثلك ميّالاً إلى بلاد الجليد والزمهرير
- حسناً... عندي الرّوم، وأظنّه سيعجبك...

بعدَ أن أعددتُ لمحمّد كأساً من المنكر والنّكير، عدّلتُ كأسي وأضفتُ إليها قطعتين من الثّلج وجلستُ قبالته أنظرُ إليه راغباً عن بدء الحديث
- هذا أنت منذ عرفتُك، لا تبوحُ بشيءٍ ولا تُقدم على حديث، ماذا تريد؟ هل أقولُ أنا في ما كنتَ تفكّر فيه بالأمس، صدّقني لا أعرف!
كنتُ حينَها أعدُّ لفافةً من التبغ الذي وصلني قبلَ أيّام من بلدة جبلة السوريّة، فسألتُه
- ألا يُعجبك أن تنفخَ الدخانَ وتشرب النّارَ؟
- لا، شكراً، فأنا بالإضافة إلى تجنّبي الدخانَ والمدخّنين أكرهه!
هززتُ رأسي ضاحكاً وقلتُ له
- أنتَ لم تتذوّق من الحياةِ بعد إلا صحنَ فول... وقليلاً من الشّراب... ها ها ها...
- قلْ لي، ما الذي كانَ يُقلقك البارحة؟!
- لا شيء... كنت قلقاً فقط!
- ولماذا؟
- لأنّي لستُ أجدُ الرّاحة في هذا العالم!
- ومن تُراه منّا يجدُ الرّاحة؟!
- لا أعني هذا... أعني راحة الوجود في عالم الإنسان لا الحياة، فالحياة صعبة ونحن جميعنا نعلم ذلك!
- لستُ أفهمك... لماذا تفصل الحياة عن الوجود، وهل هنالك فصلٌ بين هذا وذاك؟!
- نعم... فالحياةُ واحدة لكلّ ذي بشر، لا بل لكلّ حيّ موجود...
- والوجود؟!
- فأمّا الوجود الذي أعنيه فهو ما يربطُ شخصاً مثلك أو مثلي بالحياة وبعالم الحياة
كان محمّد يشربُ كأسَه ببطء شديد، وحالما قلتُ ذلك، دفعَ كلَّ ما تبقّى فيها إلى جوفِه فاحترقَ وأغمضَ عينيه وقال وهو يمسحُ ما أهدره منها على ذقنِه:
- منذ متى وأنتَ تتعاطى فلسفة الحياة؟ أراك تفكّر وتفكّر وتتعب وتقلق وأخيراً تخرجُ علينا بكلمات لا أفهمُ ماذا تريد منها...
- لا أريدُ شيئاً، أريدُ أن أفكّ عقدة وجودي في هذا الكون...
ضحكَ وضحكَ حتّى استحالَ سمارُه احمراراً وقال:
- من قال لك إنَّ وجودَك عقدة؟ وإذا افترضتُ معك ذلك، فمن ذاك الغبيّ الذي أنبأك بأنّك قادرٌ على حلِّ مثل هذه العقد؟
- أنا هو ذاك الغبيّ... (ونفختُ في وجهِه من دخان لفافتي)
قامَ من مكانِه مبعداً بيده الدخانَ، وصبَّ لهُ كأساً جديدة واستدرك يقول:
- عذراً... لم أعنِ ذلك، لكنّي أراك تَنشدُ ما لا يُنشَد، وتطلب المستحيل، وفي هذا حماقة...
- قد يكونُ كما تقول، لكنَّ البحثَ فيه وعنه ليسَ حماقةً أو غباءً كما تقول
- وإن كنتَ تعرفُ مُسبقاً أنّك لن تصل؟
- حتّى وإن كنتُ أعلمُ ذلك، فالبحثُ من شأنِه أن يقودَك إلى أشياءَ لم تخطر لك على بال، واكتشافات لم تتوقّعها
- مثل ماذا؟
- كأن تُدرك يوماً أنَّ عقلَ الإنسان المحدود لا يُمكنه بكلّ قدراتِه اكتشافَ ذاته بكليّتها
- هذا بديهيّ
- لكنّه ليسَ أمام عينيك دائماً، وأنا أريدُه أن يكون كذلك
- أنتَ تدور في متاهة عليكَ أن تخرجَ منها لأنّها تُتعبك بدون فائدة
- بلا فائدة بالنسبة إليك، لا إليّ
- أوف منك... بدأتَ تُتعبني معك... لا، لا، لن أفعل مثلك...
- ها ها ها ها ها لوهلة ظننتُك وقعتَ...
- أبداً، إنَّ مشاغلي منصبّة على عالم الاقتصاد، لا عالم الأفكار والتنظير
- إذن حدثني عن آخر الأخبار...
وقفتُ أحدّقُ في جدران الغرفة وأطلُّ من نافذتها على عالمٍ مليءٍ بالأضواء والعتمات، وصديقي محمّد يتحدّث عن البورصة وعوالمها بانفعالٍ وشوق!

ابو ريتا 15/10/2009 17:35

تسجيل متابعة :D

Sun Shine Art 15/10/2009 18:37

متابعه كمان ....:D..

حنين. 15/10/2009 18:49

نيالكم مولانا وقرصان:D
كمل كمل قرصانو

saba n 15/10/2009 19:24

تسجيل متابعة ....و ..... اعجاب (اكيد)

*Marwa* 15/10/2009 22:21

كمّل كمّل ..

أسلوبك حلو , مشّوق :)

mhsen77 15/10/2009 22:36

انو هالمولانا بيطلع معو احاديث مو قليلة :clap:

قرصان الأدرياتيك 16/10/2009 15:53

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : ابو ريتا (مشاركة 1348263)
تسجيل متابعة :D

سجّلت الله وكيلك، ليكو فرجيك الدّفتر :p!
ميت هلا بأبو ريتا (عفواً: بأبي ريتا كونها مجرورة :oops:) :D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : Sun Shine Art (مشاركة 1348283)
متابعه كمان ....:D..

اشتقتلّك يا أحلى صن، وإنشالله تعجبك أحاديث هالمنظوم محمّد!
ميت هلا بالورد :D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : حنين. (مشاركة 1348288)
نيالكم مولانا وقرصان:D
كمل كمل قرصانو

مو عَ أساس تفارقنا أنا وأنتِ، وحطينا بنصرينا (الأصبع الصغير) ببعض وقلنا:
فرق فرق للتابوت، اللي يحكي مع التاني يموت! :lol:.
إي لا تتطلعي هيك، أنا شديد الزعل منّك وما رح أرضى لتنفذي وعدك.
:D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : saba n (مشاركة 1348302)
تسجيل متابعة ....و ..... اعجاب (اكيد)

تسلمي يا طيبة، إعجابك بيخجلنا.
هلا والله حي الله :D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : *Marwa* (مشاركة 1348350)
كمّل كمّل ..
أسلوبك حلو , مشّوق :)

إنشالله قريباً هيك يعني كام سنة ينزل الحديث التاني...
ليش عم شوفو لصاحب الأحاديث!
تسلمي يا صغيرة يا أمورة :D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : mhsen77 (مشاركة 1348355)
انو هالمولانا بيطلع معو احاديث مو قليلة :clap:

مو هيك؟ شايف أنت!
تاريه مخبّى بـتيابو... بسيطة بوكرا نطالع منّو الخمير والفطير... :D.

ياسمين_الشآم 16/10/2009 16:10

وأنا كتير متابعة ومتشوقة للحديث اللي بعدو
وهي الك :D

بنفسجة 16/10/2009 16:38

رائعة عم حسيت اني بلشت اقرا رواية كتير حلوة مشوفة
تابع

W.E.G.A 17/10/2009 04:29

اي وانا بدي سجل

ما حدا احسن من حدا :pos:

بس عن جد حلوة كتير كمل كمل :D

i m sam 17/10/2009 10:26

تعودنا من بيروت ان تكون مقرا لأحداث كبيرة
واليوم تجمع اثنين من عمالقتنا .
متابع لنقاش يدور بين فكرين مختلفين وجميلين وشخصين هما الاقدر على الدفاع عن فكرهما.
أرجو ألا تبتعد المسافات كثيرا بين الحديث والحديث. وأطيب تمنياتي لكما.

:D

Nay 17/10/2009 13:26

مو سهل انك تلاقي شخص تحكي معو هالايام.... كيف اذا بدك تسمع حديث اتنين..
انا ناطرة وعم تابع لنشوف هالمسلسل الحلو:larg:

ritka 18/10/2009 06:25

و انا كمان متابعة معك
كفي كفي :mimo:

marochka 18/10/2009 08:38

وأنا كمان شكلي علقت بالموضوع، ناطرين ما يتبع...

قرصان الأدرياتيك 19/10/2009 08:04

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : ياسمين_الشآم (مشاركة 1348664)
وأنا كتير متابعة ومتشوقة للحديث اللي بعدو
وهي الك :D

أهلا ومرحبا بالياسمين... ليكي هيك بتمليلنا المكان من عبقك الرّائع.
ليكو الحديث التاني واصل عن قريب، يعني شي 5 كيلومتر ويطب علينا...
شكراً إلك :D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : بنفسجة (مشاركة 1348677)
رائعة عم حسيت اني بلشت اقرا رواية كتير حلوة مشوفة
تابع

"عم حسيت" :?. :lol:. :p.
يعني "عم" هي حرف يستخدم للدلالة على استمرار الفعل بزمنو، فكيف "عم حسيتِ" ما بعرف!
عمَّ أمزح معك طولي بالك علينا، شو بكن اليوم كلكن معصبين؟!
بكلّ الأحوال روايتي مشوِّقَة" ومانها "مشوفة" بنوب :p.
بنفسجة هلا فيك وميت مرحب :D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : W.E.G.A (مشاركة 1348881)
اي وانا بدي سجل
ما حدا احسن من حدا :pos:
بس عن جد حلوة كتير كمل كمل :D

هلا والله، حي الله، إي والله...
الله يحلّي أيّامك وين ما بتروح :D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : i m sam (مشاركة 1348940)
تعودنا من بيروت ان تكون مقرا لأحداث كبيرة
واليوم تجمع اثنين من عمالقتنا .
متابع لنقاش يدور بين فكرين مختلفين وجميلين وشخصين هما الاقدر على الدفاع عن فكرهما.
أرجو ألا تبتعد المسافات كثيرا بين الحديث والحديث. وأطيب تمنياتي لكما.
:D

ختامها مسك متل ما بيقولوا، طبعاً البركة بالجميع... وكلهن مسك وعنبر...
أنّو شو قصّة العملاق؟! مبارح حضرت على اليوتيوب حلقة من حكايات عالميّة "العملاق الأنانيّ" :lol:.
وهي كرمالك يا صديقي ما بعّدت المسافات، بس الله يخليك اعطيني فرصة لأكتب مو أكتر.
وميت وردة لأحلى سام :D.

قرصان الأدرياتيك 19/10/2009 08:17

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : Nay (مشاركة 1348999)
مو سهل انك تلاقي شخص تحكي معو هالايام.... كيف اذا بدك تسمع حديث اتنين..
انا ناطرة وعم تابع لنشوف هالمسلسل الحلو:larg:

أهلا بالرّفيقة العزيزة...
هو مو سهل معك حق، بس إلا ما يلتقى...
مسلسل؟ معناها لطالع روحكن وبوكرا أعملو شي مسلسل مكسيكي أو صيني بألف حلقة :lol:!
إنشالله تعجبك الأحاديث...
:D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : ritka (مشاركة 1349232)
و انا كمان متابعة معك
كفي كفي :mimo:

كاتيوشا أنتِ هون، يا مرحب ببلاد الزمهرير :p.
أهلا فيكِ :D.

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : marochka (مشاركة 1349248)
وأنا كمان شكلي علقت بالموضوع، ناطرين ما يتبع...

وأخيراً مرّوشكا الترجمانة التي أنهت الكتاب في ليلة واحدة... وين صرنا بهداك المشروع؟!
هلا ومرحب :D.

قرصان الأدرياتيك 19/10/2009 08:23

الحديثُ الثّاني

وضعتُ الكتابَ جانباً وأخذتُ رشفةً طويلة من فنجان القهوة الممزوجة بقليلٍ من الحليب، ونظرتُ إلى السّاعة للمرّة الثّالثة وقلتُ في نفسي: لقد تأخّر كثيراً، ماذا حدث... أو ماذا يُمكن أن يحدثَ معه؟! هو لا يعرفُ أحداً في هذا البلد، فما الذي أعاقَه يا ترى؟! وازداد اضطرابي وقلقي، وخاصّة بعدَ محاولتي الاتّصالَ بهِ دون جدوى. وفي الحقيقة لم يكن بإمكاني فعلُ أيِّ شيء... إن أنا ذهبتُ إليه في منزله، فماذا يحدث لو وصلَ المقهى في تلك اللحظة ولم يجدْني؟! أشعلتُ سيجارتي ورحتُ أفكّر في ما عساي أفعل!

كنتُ في الحقيقة جالساً في مقهى جامعة الكسليك منتظراً صديقي محمّد الذي أخبرني قبلَ ساعتين أنّه خرجَ لتوّه من البيت قاصداً الجامعة للبحثِ في مكتبتِها عن كتابٍ يهمّه فصلٌ فيه، واتّفقنا على اللقاء أوّلاً في المقهى قبلَ أن يذهبَ كلٌّ منّا إلى عملِه... ولم يكن يلزمه لذلك سوى نصفِ ساعة راجلاً، وأربعين دقيقة إن أبطأ في السّير.

كانَ صديقي المصريُّ الأسمرُ قد استأجرَ غرفةً في منزلِ أرملةٍ يقعُ في أحد أحياء بلدة جونيه، ولم يكن يرغبُ في البقاءِ كثيراً في هذا المكان، فقد أخبرني أنّه في الشّهرِ القادم عازمٌ على السّكنِ في بيروت العاصمة، لأنّه اعتاد العيشَ على صخبِ المدنِ الكبرى!

وبينما أفكّرُ في هذا وذاك، قرّرتُ الذّهابَ إليه، فإن لم أجدْه أعودُ إلى هذا المقهى، وإن لم يكن فيه أنتظرُ ساعةً أخرى أتّصلُ بعدَها بالشّرطة... رفعتُ الكتابَ وأطفأتُ ما تبقّى من السّيجارة في المِنفضة، وأبعدتُ الكرسيَّ هامّاً بالنّهوض فلمحتُه من خلفِ زجاج الباب يُحادثُ فتاةً بيضاء كالثّلج فاتنةً كالرّبيع، فجلستُ أبتلعُ غضبي وأكتمُ غيظي الذي سبقني إلى وجهي... مرّت دقيقة دخلَ من بعدِها محمّد باسماً مسلِّماً وقد أشرقَ وجهُه والتمعتْ في عيناه ومضةٌ أدركتُ للحال أنّها تُخفي وراءَها قِصَّة.
- أهلاً... كنتُ أكفرُ بكَ قبلَ قليل، وأكفرُ بنفسي لأنّي قبلتُ بهذا الموعد و...
- مهلاً مهلاً... ما بكَ، وعلامَ احمرارُك؟!
- يا لبراءتكِ... حسبتُك لفرطِها فتاةً من وراء زجاجِ ذلك الباب (قلتُها ساخراً راسماً على ثغري ابتسامةً ماكرة)
نظرَ إلى البابِ ثمَّ إليَّ وسحبَ كرسيّاً وجلسَ دونَ أن يفوه بكلمة، ولربّما ما كانَ يعرفُ ماذا يقول... فبادرتُه:
- كنتُ ساذجاً حينَ وثقتُ بكلامِك وصدّقتُك بأنّك لا تعرفُ أحداً في هذه البلاد!
- صدّقتَ أم لم تصدّق هذا شأنُك لا شأني!
- لكنَّ ما رأيتُه هناكَ خلفَ الباب يكذّبُ قولَك
- أنتَ لا تعرفُ شيئاً... ولا تجيد إلا الإرشاد والمواعظ (قالها محتدّاً، فالتفتت إلينا رؤوسُ الروّاد)
- أنا أولى منكَ بالغضبِ والانزعاج، انتظرتُك لأكثرِ من ساعة ونصف، وبدلاً من اعتذارك، تنتهرني وتغضبُ لأنّي طلبتُ منكَ تفسيراً
- أنت لم تطلبْ شيئاً، أنتَ صرختَ في وجهي، وسخرتَ منّي و...
- رويدك رويدك، إن كنتُ أمازحُك بقولي، فهل يعني هذا بنظرِكَ أنّي صرختُ وسخرتُ...
- لم أعدْ أحتمل (ووقفَ محمّدٌ يريدُ الذّهابَ)
أمسكتُه من معصمِه الأيسر وقلتُ:
- اهدأ، ما هكذا تُوردُ الإبلُ... لنخلع عنّا العتابَ والغضب... اجلسْ أرجوك، صرنا فرجة الطلاب!
ووضعتُ كفّي الأخرى على كتفِه اليُمنى وابتسمتُ قائلاً:
- ألا يستحقُّ انتظاري جلوسَك؟

فجلسَ وقد احمرَّ وجهُه وعكستْ سحنتُه غضبَ أبي الهول، وفي الحقيقة كنتُ أنا أيضاً مُشتعلاً، لكنّي فضّلتُ كتمانَ ذلك في نفسي على إفسادِ اللقاء. جلسنا قليلاً صامتَين، يُفكّرُ كلٌّ منّا في ما يقول، فبدّدتُ الصّمتَ قائلاً:
- ماذا تشرب؟ سأحضرُ لي مزيداً من القهوة، وسأطلبُها هذه المرّة مضاعفةً لتستطيع أعصابي الصّمودَ أمامَك
- أحضر لي أنا أيضاً قهوة مضاعفة لأحتملَ ما بلاني اللهُ بهِ في هذا البلد (قالَها ورفعَ يدَه مُشيراً إليَّ)
وضعتُ القهوةَ أمامَه وأزحتُ كتابيَ مفسحاً المكانَ لعلبة التّبغِ والمِنفضة. رشفَ من فنجانِه رشفةً ثُمَّ قالَ:
- أنتَ تريدُ تبريراً لكلِّ شيء في لحظةٍ واحدة، وأنا من طبعي أن أقولَ ما أُسأل عنهُ شيئاً فشيئاً... اسمع إذن حكايتي: بعدَ أن أقفلتُ الهاتفَ عقبَ مكالمتي إيّاكَ، تعثّرتْ فتاةٌ أمامي وكانت تحملُ في يدها كيساً من التفّاح، وكي لا تقع على وجهِها تركتِ الكيسَ من يدها واستندتْ بها على الأرض، فتناثرتْ حبّاتُ التفاحِ في كلِّ مكانٍ، ودونَ تفكيرٍ منّي هُرعتُ إليها أسألها إن كانت تأذّت، ثُمَّ أعنتها على لملمة ما تناثرَ من التفّاحِ
- واللهِ وأقسمُ بالأهرام أنّك أنت من نصبتَ لها فخَّ العثار (قاطعتُه)
- لا تسخر... أنا جادٌّ في ما أقول... المهمُّ في الأمر أنّنا تعارفنا، ثُمَّ ذهبتُ أوصلُها إلى البيت القريب، وأصرّت هي أيضاً على مرافقتي إلى الجامعة. هذا كل ما في الأمر.
- آه... ! هذا فقط وفي ساعة ونصف؟!
- نعم، لم نأتِ توّاً إلى هنا، بل دعوتُها إلى مقهى قريبٍ لنشربَ شيئاً معاً ونواصلَ أحاديثَنا
- وأنا هنا أنتظرُ وأعصابي اهترأت لغيابِك دون عذر، وأنتَ تنعمُ بأحاديثِك ولا تكلّف نفسَك الإجابة على رنين الهاتف!
- لم يكن بإمكاني أن أفعلَ شيئاً آخر...
- ثُمَّ وما هي تلك الأحاديث الهامّة التي دارتْ بينكما وأنتما لا تعرفان بعضكما بعضاً إلا منذ قليل؟
- لا شيء، كنتُ أحدّثها عن نفسيَ وعن مصر
- عن نفسِك؟ وماذا قلت؟
- هل هذا استجواب؟!
- لا، لا... لكنّي غيران منكَ الآن وأودُّ أن... (تراجعتُ عن إكمالِ الكلمة، وهمتُ في سيجارتي أبتلعُ من دخانها ما لذَّ وطاب)
- تودُّ أن... ماذا؟!
- لا شيء كنتُ أريدُ أمراً لم أعدْ أريدُه الآن
- في ثانية واحدة أردتَه ثُمَّ لم تعدْ تريده؟ باللهِ عليك، وبحقِّ الصّداقة قلْ لي ماذا كنتَ تريدُ أن تقول؟!
نظرتُ إليه طويلاً مبتسماً وقلتُ:
- الصّديق عندَ الضّيق أليسَ كذلك؟ ولم أنتظر جوابَه، فأردفتُ: وكنتُ أودُّ التعرّف إليها و...
ضحكَ محمّدٌ ضحكته المدوّية وقال: يا لكَ من حسود! ستعرفُها قريباً لا تخف. قلتُ لهُ:
- وماذا تنتظرَ منها؟
- لا شيء...
- إذن لماذا تعرّفتَ إليها؟
- بالصّدفة، ثُمَّ ارتحتُ إليها
- وما دمتَ ألِفْتَها لمرّة واحدة، لماذا لا تفكّر في بناء صداقةٍ معها وخاصّة أنّك لا تعرفُ أحداً هنا؟
- لأنّي لا أؤمن بالصّداقة بين أنثى وذكر!
- ماذا؟ لم أفهمْ... كيفَ لا تؤمن بصداقةٍ كهذه، ولماذا؟
- لأنَّ الصّداقةَ يا صديقي هي قبلَ كلِّ شيءٍ صدقٌ وأمانة...
- إذن ما المشكلة؟ ألا يُمكنك أن تكونَ صادقاً وأميناً مع صديقةٍ أنثى؟!
- إن لم أكن صادقاً في كلِّ شيء وأميناً في كلِّ شيء، فقد أخللتُ بهما إطلاقاً
- إذن كن كذلك!
- قد أكونُه في كلِّ شيء ما خلا أمور الجسد، أعني حياتي الجنسيّة الحميميّة، وبهذا لا يُمكن لأنثى أن تكونَ صديقتي
- هل تخجل من الحديث عن حياتِك الجنسيّة الخفيّة أمام الأصدقاء؟!
- أنا لم أقل أصدقاء، وأنتَ بالذّات تعلمُ الكثير، لكنّي قلتُ "الصّديقة الأنثى"
- يا لك من مصريٍّ حقيقيّ... لا أعلمُ بماذا أجيبُك، لأنّك قهرتني والله، لا يُمكن بلوغ كمال الصّداقة إلا مع الأنثى، لا الذّكر!
- هذا عندَك، لا عندي...
- دعنا من هذا وذاك، هل ستذهبُ إلى المكتبة؟
- طبعاً، طبعاً... فالكتابُ مهمٌّ جداً ولا بُدَّ من الاطّلاعِ على الفصلِ الثّالثِ فيه
- إذن تذهبُ إلى المكتبة، وأذهبُ إلى بيتي بعدَ أن أضعتُ وقتي الثّمين هذا هباءً
- هباءً؟ يا لك من وغد... تريدُ إغضابي في كلِّ لحظة... هذا دأبك في كلِّ لقاء
- أُسرُّ بكَ غضبانَ والعرقُ يرشحُ من جبهتك السّمراء...
وقفَ محمّد وقالَ: لم يعد عندي الكثير من الوقت، أنا ذاهب، افعلْ ما شئت، وقلْ ما تريد...
ثُمَّ استدارَ وخطا نحوَ البابِ بخطاه الثّقيلة المعهودة، وما إن أمسكَ بدفّته يُريد الخروج، صحتُ:
- متى ألقاكَ؟! أجابَ وهو يخرج:
- يومَ البَعْث الأخير.


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 08:49 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون

Page generated in 0.05891 seconds with 11 queries