![]() |
مادمنا تحدثنا عن الصوفية، أعترف انني أحس ان لديك نزعة صوفية محفوفة ببعد ميتافيزيقي وخصوصاً في قصيدتك الطويلة «جدارية» التي اختبرت فيها تجربة الموت؟ ماذا يعني لك الشعر الصوفي؟ هل تقرأه؟
- قرأت الأدب الصوفي وأقرأه. وملاحظتي أن ليس الشعر هو أفضل ما فيه، بل النص النثري. مثلاً ابن عربي، نصه النثري أغنى كثيراً من نصه الشعري، ومملوء بالدلالات بل هو حافل بالألغاز والأسرار أكثر من شعره. أنظر الى الصوفية نظرة فكرية أو فلسفية، أنظر اليها نظرة شعرية من حيث هي مغامرة الذهاب الى الأقصى ومحاولة اتصال مختلفة بالكون ومحاولة بحث عمّا وراء هذا الكون، وما وراء الطبيعة، وعن الأسئلة الوجودية. ولا يعنيني في التجربة الصوفية معناها مقدار ما يعنيني سعيها اللغوي والعرفاني في بلوغ ما لا تبلغه المغامرات الأخرى. فهي مغامرة أدبية جعلت النثر أرقى من الشعر في الكتابة. وإذا أردنا أن نبحث عن المصادر الحقيقية التي أثْرت قصيدة النثر نجد الكتابة الصوفية النثرية مثل النفري والبسطامي والسهروردي وابن عربي. وهؤلاء كانوا شعراء من نوع آخر، أي بما يحملون من شحنات للسفر الى أبعد ما يمكن. ونحن لا نستطيع أن نذهب الى ما ذهب هؤلاء اليه. هذا هو الجانب الابداعي في الصوفية، ولكن هناك صوفية تشبه الشعوذة والسحر. > ما رأيك بالشعراء الذين يستعينون بالمصطلحات الصوفية القديمة ليكتبوا شعراً صوفياً حديثاً؟ - أنا شخصياً غير مهتم بهذه المسألة. ولا أعتقد أن في عصرنا الحديث والصاخب هذا هناك مكان للشعر الصوفي. > والصوفية الجديدة التي لا علاقة لها بالمصطلحات القديمة؟ - الصوفية الحديثة هذه هي شكل من أشكال التمرّد على طبيعة الحياة المعاصرة وعلى تشيّؤ الانسان وابتعاده عن السؤال الروحي والديني. وما نقرأه في الشعر هو ترصيع لبعض المصطلحات الصوفية الخارجة عن سياقها. > وماذا عن البعد الميتافيزيقي الكامن في شعرك؟ - لعل سؤال الموت في شعري شديد الصلة بالبعد الميتافيزيقي. هناك نظرتان الى الموت: نظرة دينية تقول ان الموت هو انتقال من الزائل الى الخالد، ومن الفاني الى الباقي، ومن الدنيا الى الآخرة. وهناك نظرة أخرى أو فلسفية تعتبره نوعاً من الصيرورة، وترى ان الحياة والموت مترافقان في جدلية أرضية. أحياناً أكتب عن الموت ولكن من دون أن أتعمق كثيراً في السؤال الى أقصى حدوده. فالذهاب في السؤال الى أقصاه هو أمر مملوء بالألغام التي لا أستطيع أن أنزعها ولا أن أفجرها. في «جدارية» كتبت عن تجربة شخصية، كانت مناسبة لي للذهاب في سؤال الموت، منذ أقدم النصوص التي تحدثت عن الموت، ومنها ملحمة جلجامش التي تحدثت أيضاً عن الخلود والحياة. هذه التجربة كانت لي اطاراً صالحاً للسرد أو لما يشبه السيرة الذاتية. ففي لحظة الموت تمر حياتك أمامك وكأنها في شريط سريع. انني عشت هذا ورأيته. كل الرؤى التي كتبتها في القصيدة كانت حقيقية: المعرّي ولقاء هيدغر ورينيه شار... رأيت الكثير ولم أكتب كل شيء. لكنني لاحظت ان القصيدة كانت مشدودة الى سؤال الحياة أكثر من سؤال الموت. والقصيدة في الختام كانت نشيداً للحياة. أهم عبرة استخلصتها من هذه المسألة ان الحياة معطى جميل، هدية جميلة، كرم إلهي غير محدود، وعلينا أن نحياها في كل دقيقة. أما سؤال الخلود فلا جواب عليه منذ ملحمة غلغامش حتى اليوم. هناك جواب ديني ولكن كشاعر لا أحب أن أدخل في الجدال الديني. الانسان يؤمن بما يعرف وبما لا يعرف. بل هو مشدود الى الإيمان بما لا يعرف، وأهم أمر في الصراع بين الحياة والموت أن ننحاز الى الحياة. > ما دمنا نتكلم عن الدين نلاحظ أن في شعرك أثراً توراتياً ولا سيما من «نشيد الأناشيد»، يتمثل في غنائيتك العالية في ديوان «سرير الغريبة» وسواه! ما الذي يجذبك كشاعر في النص التوراتي وكيف أثر فيك؟ - في البداية، درست في الأرض المحتلة، وكانت بعض أسفار التوراة مقررة في البرنامج باللغة العبرية، ودرستها حينذاك. لكنني لا أنظر الى التوراة نظرة دينية، أقرأها كعمل أدبي وليس دينياً ولا تاريخياً. حتى المؤرخون اليهود الجادون لا يقبلون أن تكون التوراة مرجعاً تاريخياً. أو لأقل انني انظر الى الجانب الأدبي في التوراة. وهناك ثلاثة أسفار مملوءة بالشعر، وتعبر عن خبرة انسانية عالية وهي: سفر أيوب، سفر الجامعة الذي يطرح سؤال الموت، ونشيد الأناشيد. > والمزامير؟ - بعض المزامير، فهي أقل أدبية من الأسفار التي ذكرتها. إذاً التوراة هي كتاب أدبي بالنسبة إليّ، وفيها فصول أدبية راقية وشعرية عالية. > هل التوراة مصدر من مصادرك؟ - لا شك في أنها أحد مصادري الأدبية. |
هل أعدت قراءة التوراة بالعربية؟
- أجل، قرأت ترجمات عربية عدة ومنها الحديثة. وأحب فيها بعض الركاكة. فمثل هذه الكتب يجب أن يترجم في طريقة خاصة. و«نشيد الأناشيد» يعتبره كبار الشعراء في العالم من أهم الأناشيد الرعوية في تاريخ الشعر، مع غض النظر عن مصادر هذا النشيد الفرعونية أو الآشورية. > هل يمكن الكلام برأيك عن حداثة محمود درويش، هذه الحداثة الممكن وصفها بـ «الحداثة الاستخلاصية» التي تتآلف فيها مدارس عدة ولكنها تبدو كأنها بلا مدرسة أو كأنها مدرسة بنفسها؟ حداثة خاصة خارج حداثة مجلة «شعر» وسائر الحداثات الأخرى؟ - يبدو لي انك تفهم حداثتي أكثر مني. سؤال الحداثة سؤال محيّر. وأن تُحصر الحداثة في الحداثة الشعرية، فهذا يعني ان لا حداثة أخرى في المجتمع العربي. ومن مآزق الحداثة العربية انها متحققة في الشعر وربما في مراكز الشرطة أو الأمن. حاولت الحداثة الشعرية ان تقوم مقام الحداثة الفكرية والفلسفية والعلمية والاجتماعية، أي انها حمّلت نفسها مهمات لا تستطيع فعلاً أن تتحملها. اطلعت طبعاً على مفاهيم الحداثة بعدما جئت الى العالم العربي هاجراً فلسطين. قبل ذلك لم أكن قد اطلعت على تلك المفاهيم. ففي فلسطين المحتلة كنت أعيش في ظروف صعبة وكنت أطلع على الشعر العربي والعالمي من دون أن يكون سؤال الحداثة ملحاً عليّ مثلما كان ملحاً على الشعراء العرب. كان لدينا حينذاك سؤال المقاومة الثقافية، سؤال الهوية، وكان علينا أن نصونها من الذوبان. كيف ندافع عن حقنا في الوجود؟ كيف نزيل الاشكالية بين الجنسية والهوية؟ كيف يقوم الشعر في تغيير ما، أو هل يستطيع الشعر أن يغيّر؟ كانت الأسئلة بعيدة الى حد ما عن انشغال الساحة بأسئلة الحداثة. وأنا نشأت في هذا الجو وكتبت فيه. وعندما خرجت الى العالم العربي كنت الى حد ما معروفاً، وكنت أسمّى شاعر المقاومة وشاعر الأرض المحتلة... لكن اصطدامي بسؤال الحداثة والتجارب الشعرية الحديثة جاء متأخراً. ولا أعرف ان كنت وضعت داخل الحداثة العربية أم ما زلت خارجها. لا أعرف. > وما رأيك بما يقوله بعضهم عن «حداثة» محمود درويش؟ - أنا لست جزءاً من مدرسة، ولست طالباً لمعلم معين وهذا عيــب. كنت أتمنى أن يكون لي معلم شعـــري، فهو كـان ليوفر عليّ ربما أعباء تعليمية كثيرة. كنت شديد الاصغاء والتأمل والتأثـر حيال سؤال الحداثـة الشعـريـــة العربية. لكنني لم أتخلّ عن ربط الحداثة بمشروع تحرري، أي ان نتمكن من تحرير المجتمع بالقصيدة الحديثة. أو ان على الحداثة الحقيقية أن تكون منظومة أفكار تشمل كل مستويات المجتمع وليس الشعر وحده. ولكن بما أن الشعر هو حقل عملنا ولا إمكان آخر لنا، فليكن ذلك. ولنعش هذا الوهم الجميل. وما زلت أرى أن لا حداثة شعرية عربية حقيقية خارج جماليات الشعر العربي. فهذه الجماليات يجب على الحداثة العربية أن ترتكز اليها لتتميز عالمياً. لم أدخل في أفق التنظير ولم أسع الى أن أكون حديثاً أم غير حديث، ولكن أعتقد ان قصيدتي حديثة. و في أي معنى هي حديثة؟ أي أنها تصغي الى ايقاع الزمن الجديد وتجري تحولات في العلاقة بين الكلمات والأشياء وتحاول أن تبقي اللغة حية وتعيد الى هذه اللغة حياتها باستمرار، وأن تطوّر أدواتها من خلال علاقة هذه الأدوات بما كنا نسميه الدور الذي تلعبه القصيدة الحديثة في الذائقة الشعرية وفي مشروع التحرر. > نشرت في مجلة «شعر» بضع قصائد... - أنا لم أنشر، المجلة أخذت القصائد من صحافة الداخل الفلسطيني. ولعلها المرة الوحيدة التي نشرت لي قصائد في «شعر». > كيف تنظر الى مجلة «شعر»؟ - لا شك في أن مجلة «شعر» كان لها دورها وكانت لها أوهامها أيضاً. ومن أوهامها انها احتكرت مفهوم الحداثة الشعرية وحاولت ان تقصي التجارب الأخرى خارج «جنة» الحداثة، إذا جاز التعبير. وأعتقد بأن مجلة «شعر» مثلت تياراً من تيارات الشعر العربي الحديث وليس كل الشعر العربي الحديث. ومن عيوب التعامل مع هذه الظاهرة ان هناك دراسات جامعية تدرس الشعر الحديث من خلال مجلة «شعر» فقط. ويجب ألا ننسى أنّ كان هناك مجلة «الآداب» وكان هناك الشعر العراقي والشعر المصري... وهذه تيارات أساسية في الشعر العربي الجديد. ليس كل شعراء مجلة «شعر» استطاعوا أن يُكرِّسوا أو أن يحققوا مكانة شعرية كبيرة. هناك بضعة شعراء فقط. > كانت مجلة شعراء أكثر مما كانت مجلة منفردة بذاتها أو مجلة تيار واحد! - حاولت أن تكون مجلة تيار وانشغل بعض شعرائها بالتنظير الزائد عن اللزوم أحياناً. إنها مثل أي حركة شعرية، خرج منها في نهاية الأمر بضعة شعراء مهمّين. > والمعركة الفكرية الحداثية التي خاضتها هذه المجلة هل عنت لك شيئاً؟ - إنني اطلعت على المجلة متأخراً أي بعدما خرجت من فلسطين وكانت قد توقفت عن الصدور. وكانت المعركة التي أعلنتها قد انتهت، خصوصاً بينها وبين مجلة «الآداب». إلا أن المعركة الشعرية الحداثية مستمرة حتى الآن ولكن عبر أدوات أخرى: هل الشعر يعرّف بما يقوله أي بموضوعه أم في كيفية ما يقول؟ هل للشعر دور ما؟ هل يجب أن يكون على علاقة بالقارئ أم لا؟ وما هي العلاقة بين المتلقي والشاعر؟ هل الذات الكاتبة هي وحدها في العملية الشعرية أم ان ثمة ما يشاركها، كاللغة مثلاً؟ مثل هذه الأسئلة ما زال مستمراً حتى الآن. هل عزلة الشعر هي مقياس من مقاييس جودة الشعر؟ ذيول المعركة ما زالت قائمة حتى يومنا. وأعتقد ان من الجميل أن يكون هناك تيارات، عوض أن يكون هناك تيار واحد متسلّط على الساحة الشعرية. > لكن «شعر» لعبت الدور الرئيس في ترسيخ القصيدة الحديثة! - لمَ لا؟ لكن «الآداب» لعبت مثل هذا الدور أيضاً. > لكن «شعر» حصرت مشروعها في الشعر بينما «الآداب» كان مشروعها أدبياً ورفضت قصيدة النثر؟ - أنا لم أطلع على المشهد عندما كان قائماً. جئت متأخراً، ذلك انني خرجت في العام 1971. وكانت وقعت هزيمة 1967 التي غيّرت مفاهيم مجلة «شعر» نفسها. مع الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي > «مواقف» مجلة الشاعر أدونيس هل تابعتها حينذاك؟ - صدرت «مواقف» عندما كنت في بيروت وكنت في مرحلة من أسرة تحريرها. > كيف ترى الى «مواقف» لا سيما في تلك الفترة؟ - مجلة «مواقف» أضافت بدورها. وحاولت أن تقيم علاقة بين الابداع والفكر والثورة والتغيير، بين الابداع والحرية. كانت «مواقف» تمثل حالاً من القطيعة مع مجلة «شعر»، لكنها قطيعة تطويرية. واتجهت نحو السؤال الفكري ولم تكن مجلة ابداعية فقط. |
> لماذا انسحبت من أسرة تحريرها؟
- لم أنسحب لخلاف أو سواه، ولكن كان عندي مجلة «شؤون فلسطينية» ثم أصدرت «الكرمل» في العام 1981. > الإشكال الذي أثاره تصريحك قبل فترة حول شعر الحداثة كيف توضحه، خصوصاً بعدما ترك التباساً أو سوء فهم؟ - أولاً لم أتعرّض للشعر الجديد وشعر الحداثة. سئلت في تونس في لقاء صحافي كبير جداً، عن أزمة العلاقة بين المتلقي والشعر الجديد. وقلت إن هناك أزمة فعلاً لأن بعض الشعراء يستمرئون عزلتهم ويضعونها هدفاً، من غير أن تكون نتيجة طبيعية لتطور ما في نص شعري جديد على الذائقة. هناك شعراء يقيسون جمالية شعرهم بمدى عزلتهم عن القارئ. وهناك سبب آخر وهو أن القارئ لا يريد أن يقترب من شعر يرفضه كمتلقٍ. وأنت تعرف أن الشاعر ليس وحيداً في الكتابة، إنه طرف في المعادلة الشعرية، هناك الشاعر، هناك اللغة التي تفرض نفسها على الشاعر، وهناك طرف ثالث لا يتم الفعل الابداعي من دونه وهو القارئ. هذا الثلاثي هو الذي يساهم في تطوير الفعل الشعري وفي تحقق القصيدة. وهذا التحقق لا يتم إلا من خلال تفاعل ما، بين القارئ والشاعر. لم أتعرّض لأحد ولا أحب أصلاً التعرض لأحد. كل شاعر حر. وأردد دوماً أن على السجال الشعري اللامجدي أن ينتهي. قصيدة النثر هي خيار شعري مكرّس وفيها أعمال ابداعية جميلة جداً. ويجب أن ننظر الى الشعر في كل خياراته، العمودي والتفعيلي والنثري، والى مدى تحقق الشعرية في القصيدة. هذه نظرتي العامة ولا يمكنني أن أكون تقليدياً أو رجعياً، الى حد أن أرفض أي اضافة أو أي اقتراح شعري جديد. > هل تقرأ الشعراء الجدد والشباب؟ - أقرأهم دوماً وأتعلّم منهم وأراقب دوماً التوجهات الجديدة في علاقة الشعراء باللغة والنص والبناء والايقاع، لكي أستوعب ايقاع العصر الجديد. قد أكون هرمت من دون أن أدري. قد أكون تحولت الى تقليدي من دون أن أعلم. تجارب الشعراء الجدد ولو لم تكن ناضجة، تلفت نظري الى مسارات جديدة عليّ أن أنتبه لها وأن استفيد منها إذا كانت قادرة على امداد النص الشعري بدم جديد وحياة جديدة. ولكن لنعترف، هناك فوضى، سواء في الشعر العمودي أم التفعيلي أو النثري، هناك فوضى. وهذا طبيعي، لأن لا رقابة على النشر، وأقصد بالرقابة الرقابة الأدبية والابداعية التي تضع معايير وتحدد للقارئ، مفاتيح ما هو شعري وما ليس شعرياً. سهولة النشر كبيرة جداً وكل الصحف العربية فيها صفحات ثقافية يجب أن تمتلئ بما توافر، والمحررون يكونون أحياناً في مستوى لا يؤهلهم لتقويم الشعر. لذلك تعمّ الفوضى، وهي ليست من سمات عصرنا، ففي كل العصور كان هنا فوضى. لكنّ صعوبة النظم كانت تحول الى حد ما دون استتباب الفوضى. فالنظم يتطلب أدوات عروضية ولغوية قوية وقد يكون مجرد نظم خالٍ من الشعر. > مَن يتحمل مسؤولية هذا الفلتان الشعري؟ - الفوضى النظرية التي عرّفت الحداثة بها، كل شيء غير منضبط في شكل، يستطيع أن يدّعي شاعره أنه ينتمي الى الحداثة. والآن عندنا تسمية جديدة هي ما بعد الحداثة. ونحن ما زلنا نعيش في عصر ما قبل الحداثة. > لكن الشاعر الفرنسي لو تريامون يقول إن على الشعر ان يكتبه الجميع! - أعتقد أن كل كائن بشري يحاول أن يكتب شعراً. والفرق ان هذا الشعر لم تُتح له فرصة النشر، أو ربما فرصة التكوّن. وكما تعرف في فترة المراهقة يكتب المرء ما يشبه الخواطر ويقلّد بعض الأدباء. وهذه الكتابات غالباً ما تكون شخصية. يجب أن يكتب كل الناس، كما قال لوتريامون، لكي يخرج من هؤلاء شعراء وروائيون وكتّاب... > لا تزال تصرّ على «صدمة» جمهورك، وما زال هذا الجمهور يتابعك في أمسياتك الشعرية. كيف تنظر الى هذا الجمهور والى «الصدمة» التي تحدثها فيه عندما تقرأ له قصائدك الجديدة التي تختلف عن القصائد الأولى التي يميل اليها عادة؟ - لا أعرف ان كان الجمهور يميل الى القصائد الأولى حقاً. لم يعد الجمهور يطالبني كما في السابق بأن أقرأ ما في ذاكرته من شعري. وهذا حسن. واستطعت أن أجد ما يشبه الثقة المتبادلة بيني وبين القراء. إنني لا أحب كلمة جمهور. لنقل المتلقي أو القارئ. فالجمهور ليس كتلة واحدة متجانسة. وأنا لا أستطيع أن أتكلم عن الجمهور بطلاقة، لأنني سأرتكب أخطاء كثيرة. ثم من هو الجمهور؟ قد يكون مجموعة من الشعراء والمثقفين، قد يكون من سائقي التاكسي أو ربات البيوت أو الطلاب، وقد يكون لكل مجموعة الحق في أن تقيم علاقة مع الشعر. المشكلة عندنا ان القارئ العربي يشعر بأن من حقه أن يتدخل في تحديد مفهوم الشعر. وكل قضية من هذا النوع تتحول قضية عامة قد يهددها خطر التبسيط، لئلا أقول الابتذال. إنني أواكب قرائي مثلما هم يواكبونني وهم يتطورون ويتغيرون. وأكثر ما يسعدني في هذا الوقت، انني أفاجأ أينما ذهبت بأن الذين يحضرون الأمسيات الشعرية هم في ما يقارب التسعين في المئة من الجيل الجديد ومن الشباب في العشرينات. وهذا يعني أن قرائي الذين يحبون قصيدة «سجل أنا عربي» رحلوا وتركوني أو أنهم اكتفوا بذلك. إذاً اقتراحي الشعري هو أن من حق الشاعر أن يواصل تطوير لغته وأن يحميها من التكرار والارهاق. حتى اللغة الشعرية تصاب بالارهاق، وعلى الشاعر أن يجدد صورها واستعاراتها. هناك إذاً علاقة تتجدد مع تجدد الذائقة والعصر والزمن. هناك ثقة متبادلة، وإذا حقق الشاعر الثقة مع قرائه فقراؤه يعطونه الحرية في أن يطور نفسه كما يشاء. وإذا لم يكن هناك من ثقة أو إن كان ثمة جدار بين الشاعر والقراء، فالأمر يصبح قيداً ثقيلاً. بعض الشعراء يستهزئون بهذا القارئ وبعضهم يقدمون له تنازلات ويسمعونه ما يريد أن يسمع، ويكتبون له ما يريد أن يقرأ. |
أي شعراء تركوا فيك أثراً شعرياً منذ البدايات؟
- أوه... > مَن كنت تقرأ عندما كنت في فلسطين؟ - لم يكن عندي شاعر واحد أتعلّم عليه. كانت الكتب المتوافرة عندنا في الداخل هي ما تبقى من مرحلة الانتداب البريطاني. كنا في حالة حصار ثقافي حقيقي. كنت أعرف السياب جيداً والبياتي وكنت أقرأ نزار قباني أيضاً، وهو كان حاضراً في مراهقتي الشعرية. قرأت في تلك الفترة «الداخلية» غارثيا لوركا وبابلو نيرودا وتأثرت بهما وخصوصاً لوركا. كان المتاح لنا من الشعر العربي الحديث قليلاً. فيما الشعر الكلاسيكي العربي متوافر وكذلك الشعر المهجري، وكنت أميل الى غنائية هذا الشعر والى بساطته. وفي الشعر المصري اطلعت على بعض أعمال صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي. أدونيس لم يكن معروفاً في الداخل ولم يكن شعره وصل إلينا. القصيدة الأولى التي قرأتها لأدونيس كانت في العام 1968 على ما أعتقد، وكانت فدوى طوقان تزورنا في حيفا ومعها مجلة فيها قصيدة لأدونيس، لم أعد أذكر ان كانت «هذا هو إسمي» وأعجبتني كثيراً. ولكن لم يكن لأدونيس حضور في فلسطين، في تلك المرحلة كما الآن. مصادرنا الأخرى كنا نقتبسها من الصحافة مثل «الاتحاد» و«الجديد» في حيفا. > كتبت أنت في الصحافة حينذاك! - كنت رئيس تحرير مجلة «الجديد» ومحرراً في جريدة «الاتحاد» وكنت أكتب افتتاحيات ومقالات سياسية. دخلت عالم الصحافة باكراً، في العشرين من عمري وأقل. وكانت خياراتنا الأدبية خاضعة لاعتبارات يسارية. > كنت في الحزب الشيوعي الاسرائيلي! - نعم. > من هم الشعراء الذين تفضلهم الآن وتقرأهم؟ - هناك شعراء أجانب كثيرون أقرأهم. والأكثر قرباً هو ديريك والكت. في السنوات الأخيرة كان والكت شاعري المفضل في اللغة الانكليزية. وربما هو أفضل من يكتب في هذه اللغة الآن. وهناك شيموس هيني. أعجبت كثيراً بالشاعر البولندي ميلوش وبالشاعرة تشمبرسكا. وكذلك أنا شديد الاعجاب بالشاعر اليوناني ريتسوس، وكنت على صداقة معه. فرنسياً إنني شديد الإعجاب بسان جون بيرس ولويس أراغون ورينه شار... وهؤلاء أقرأهم مترجمين الى الانكليزية أو العربية، ففرنسيتي لا تسمح لي بأن أحتك بنصوصهم في اللغة الأم. وفي الشعر الأميركي اللاتيني شاعري المفضل هو بابلو نيرودا. وفي الشعر الإيطالي أحب أوجينيو مونتالي شاعراً وناقداً. المشهد الشعري عالمياً في النصف الثاني من القرن العشرين، أو في القرن العشرين كله، كان من أغنى المشاهد الشعرية في التاريخ. أحب أيضاً الشاعر اليوناني جورج سيفيريس وكذلك الشاعر اليوناني إيليتس. > وما قصتك مع المتنبي؟ - المتنبي، على الاختلاف الكبير معه حول نزعته الى السلطة ومدائحه وهجاءاته، أعتبر انه يلخص الشعر العربي الكلاسيكي. واذا أردنا أن نقرأ الشعر العربي كله مجازاً في شاعر واحد نقرأه في المتنبي. ثم إذا أردنا أن نقرأ الشعر المختلف عن شعر المتنبي نقرأ أبا العلاء المعري. > وأبو تمام أين تضعه؟ - أبو تمام، مشروعه التحديثي (بين موسين) هو الذي سمح للحركة الشعرية العربية أن تتجدد. طبعاً هو من الشعراء الكبار، لكنه شديد التقعّر ومشغول بنحت الكلمات وخلق الصور الغامضة. > وأبو نواس أليس هو من أوائل الشعراء «المدنيين»؟ - طبعاً طبعاً، أبو نواس نقل الشعر من البداوة الى المدنية. العصر العباسي هو العصر الذهبي للشعر العربي الكلاسيكي، ولكن في موازاة الشعر الجاهلي. > ألا تعتقد ان المتنبي في «الأنا» المتضخمة عنده والنرجسية ترك أثراً سلبياً في الشعر العربي؟ كأن يقول: «أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...». من هو هذا الشاعر الذي يجرؤ أن يقول إن الأعمى قرأ أدبه؟ ما هذه المغالاة؟ ما هذا الاعتداد؟ - قد تصلح شخصية المتنبي وتناقضاته لكتابة مسرحية عنه. ربما هذه الجوانب سلبية لديه ولكن ما يعنيني في المتنبي هو شعره. لا شك في أن شعره يتمتع بجزالة رهيبة وفيه تختلط الحكمة مع العاطفة المتأججة. وهو يضع علامات لا يمكن أن تخطئها العين ولا الأذن. أنت تعرف المتنبي من غير أن يوقع قصيدته. وقدرته على أن يخلق سلطاناً شعرياً في هذا المستوى، لا نستطيع أن نمرّ بها مروراً محايداً. > لكنّ هذا لا ينطبق على كل شعره. - ليس من شاعر كل شعره جميل. وعندما أقرأ مدائحه وهجائياته أنسى الممدوح والمهجو وتطربني الجزالة الشعرية والبلاغة. القوة الداخلية لدى المتنبي حجبت عني أخلاقيته. أما انه ورّث «الأنا» المتضخمة الى غيره فإن «الأنا» لا تورّث. هناك شعراء آخرون متضخمون وفي كل العصور. > ومشروع «التنبؤ» لديه! - هذا المشروع ليس مشروع المتنبي وحده. العصر الرومانسي شهد مثل هذا المشروع، بل ان الرومانسية نفسها تقوم على هذا المشروع الرؤيوي ولا سيما الرومانسية الألمانية. > ولكن هناك فرق بين الرؤيا والادعاء؟ - هذه الظاهرة موجودة عبر العصور حتى في عصرنا الحديث. وعلى الشاعر في عصرنا أنني خفف من دلالات فهمه لدوره. الشعر الآن يهتم بالهامشي أكثر مما يهتم بالقضايا الكبيرة. فكرة البطولة أو الفرادة ألغتها الحداثة الشعرية أصلاً. وأكرر ان هذا المشروع لا أعتقد انه من ميراث المتنبي. هذه خصائص بشرية. عندما تريد وصف وضع ما، في شكل تلقائي تلجأ الى الاستشهاد ببيت للمتنبي. وإن قلت ان المتنبي أكثر حداثة وحياة منا جميعاً فإنما قلت هذا من قبيل المجاز. وقامت عليّ القيامة لأن البعض أخرج كلامي من سياقه. |
عود الى مسألة الريادة في الشعر العربي الحديث! ماذا تعني لك مقولة الرواد؟ هل ما زالت هذه المقولة مستمرة أم انها باتت مرتبطة بزمن معين؟
- أعترف بأني لا أستطيع أن أقرأ شعر معظم الرواد. وشعر هؤلاء يحتاج الى قراءة نقدية جديدة والى غربلة. وأهمية الرواد هي أهمية تاريخية، فهم شكلوا بشعرهم أو بأسمائهم نقطة انعطاف أو تمرد على القصيدة الكلاسيكية عبر خلق كلاسيكية تفعيلية جديدة. أي انهم تمردوا على التقليدية بما يمكن أن أسميه تقليدية أخرى. أنا لا أستطيع أن أقرأهم. انهم يحتاجون الى اعادة نظر، ولكن هذا لا يعني انني أخفف من أهمية دورهم التاريخي. الجامعات العربية وللأسف الشديد، لا تعرف مرحلة ما بعد الرواد. وكل جيل ما بعد الرواد غير مقروء جيداً، نقدياً وأكاديمياً. فجيل الرواد احتل مفهوم حداثة الشعر العربية، وأغلق الباب في وجه من أتى بعده. كل هذه المسألة تحتاج الى قراءة جديدة وإعادة نظر. أين تضع سعدي يوسف هذا الشاعر الكبير؟ فلا هو مع الرواد ولا مع جيل الستينات أو السبعينات؟ أين تضعه؟ > وأنت أليس أمرك هو نفسه؟ - إذا كنت أنا شاعراً مهماً فأين تضعني؟ إذاً الريادة يجب ألا تقف عند مرحلة تاريخية وتتجمد. الريادة يجب ان تكون أشبه بالصيرورة المستمرة والمتواصلة. وهناك انقلابات في الشعر العربي في السبعينات والثمانينات والتسعينات، وكل جيل يقدم ريادة من نوع مختلف. فعلى النقد العربي أو على الاكاديميات العربية ان تجري تحقيقاً جديداً في شأن الريادة ويجب أن يظهر الخط المستمر من جيل الرواد الى الآن. وهكذا يصبح في الإمكان النظر الى الشعر العربي كحركة حيوية متقدمة باستمرار وتنقلب على نفسها وتجدد نفسها بنفسها. ويجب عدم وضع حواجز حديد بين جيل وجيل. > من الذي ينفّرك من الشعراء الرواد مثلاً إذا عدت الى قراءة آثاره؟ - لم أعد قادراً على قراءة شعر خليل حاوي مثلاً. والبياتي كذلك. لكنني أحترمهما. فهما غير قريبين الى ذائقتي. ومن المعروف أن الذائقة الشعرية مسألة ذاتية جداً، وأود ألا أذكر أسماء... > هل عدت مرة الى كتب كنت تحبها ثم وجدت نفسك لا تحبها؟ - طبعاً، إننا نتعرض لخدع شعرية وفنية وثقافية. فما كان يبدو لنا جميلاً في زمن معين وعمر معين أو مرحلة معينة لم يعد يحمل حياة جديدة في ذاته تجعله قابلاً للقراءة في زمننا. لذلك فإن الأدب الباقي هو الأدب الذي يستطيع أن يخترق الأزمنة والأجيال ويحافظ على حداثته ومعاصرته، وعلى قابليته لأن يقرأ في زمن غير الزمن الذي كتب فيه. > أحياناً نحس أن بعض القصائد تشيخ مثل الانسان! - هذا إحساس مؤلم ولكنه مطمئن، فالخديعة لا تعمّر طويلاً. > كيف تقرأ الآن شاعراً مثل نزار قباني؟ - لا أقرأه الآن بالبهجة التي كنت أقرأه بها من قبل، لكن هذا لا يعني أنني لا أحبه. > نلاحظ أنك لم تكتب أي نص نظري في الشعر، علماً أن قصيدتك تحمل ما يشبه «البيان» الشعري بصمت! هل كتبت نقداً عندما عملت في الصحافة الفلسطينية في الداخل؟ - كنت أكتب مراجعات كتب، ولكن إذا قلت ان نظرتي الشعرية أو بياني الشعر موجودان في قصيدتي نفسها، فهذا يكفي. لماذا أضع نفسي في إطار نظري يصعب عليّ التخلص منه. وهذا لا يعني انني لا أحترم المنظرين، بل على العكس. لكن الملاحظ أن معظم الشعراء الذين ينظرون فإنما ينظرون لشعرهم، ويدافعون عن خيارهم الشعري، ولا يكونون منفتحين على تجارب الشعراء الآخرين ومستعدين لاستيعابها. ثم ليس لدي ميل الى التنظير، لأنني أخاف أن أخطئ. > لكنك في الاحاديث الصحافية تنم عن ناقد يملك ذائقة ووعياً نقدياً! - اكتفي بوضع ملاحظات، وهي ليست ناجمة عن مقولات أو نظريات متماسكة. ربما ليس لدي مؤهلات لهذا الأمر. ليس لدي هذا الميل. > ألا تحس أحياناً انك في حاجة الى أن توضح أمراً ما في شعرك أو قصيدتك؟ - بين حين وآخر أكتب بعض النصوص عن الشعر وعن التجربة الشعرية، وأحاول أن أجيب على اسئلة تتعلق بهذه التجربة، ساعياً الى توضيح سوء فهم بريء أو مقصود حول تجربتي. عندما وقعت ديواني الجديد «كزهر اللوز...» في رام الله أخيراً كنت مضطراً على أن أرد على حملة قام بها شعراء فلسطينيون تحديداً، يريدون أن يتدرّبوا على الملاكمة وهم يرون ان شعري لم يعد شعر مقاومة، فقدمت بعض الملاحظات المكتوبة حول فهمي للشعر الوطني وشعر المقاومة، وأن علينا أن نفهم المقاومة في معناها الواسع وليس الضيق. وقلت أيضاً إن الحداثة لا تعرّف فقط بقصيدة النثر... أحياناً في بعض الحوارات الصحافية أو اللقاءات والمداخلات أعبّر عن مفهومي للشعر. > هل تقرأ ما يكتب الشعراء من تنظير شعري؟ - ليس كل الشعراء. |
أعود الى مسألة الريادة في الشعر العربي الحديث! ماذا تعني لك مقولة الرواد؟ هل ما زالت هذه المقولة مستمرة أم انها باتت مرتبطة بزمن معين؟
- أعترف بأني لا أستطيع أن أقرأ شعر معظم الرواد. وشعر هؤلاء يحتاج الى قراءة نقدية جديدة والى غربلة. وأهمية الرواد هي أهمية تاريخية، فهم شكلوا بشعرهم أو بأسمائهم نقطة انعطاف أو تمرد على القصيدة الكلاسيكية عبر خلق كلاسيكية تفعيلية جديدة. أي انهم تمردوا على التقليدية بما يمكن أن أسميه تقليدية أخرى. أنا لا أستطيع أن أقرأهم. انهم يحتاجون الى اعادة نظر، ولكن هذا لا يعني انني أخفف من أهمية دورهم التاريخي. الجامعات العربية وللأسف الشديد، لا تعرف مرحلة ما بعد الرواد. وكل جيل ما بعد الرواد غير مقروء جيداً، نقدياً وأكاديمياً. فجيل الرواد احتل مفهوم حداثة الشعر العربية، وأغلق الباب في وجه من أتى بعده. كل هذه المسألة تحتاج الى قراءة جديدة وإعادة نظر. أين تضع سعدي يوسف هذا الشاعر الكبير؟ فلا هو مع الرواد ولا مع جيل الستينات أو السبعينات؟ أين تضعه؟ > وأنت أليس أمرك هو نفسه؟ - إذا كنت أنا شاعراً مهماً فأين تضعني؟ إذاً الريادة يجب ألا تقف عند مرحلة تاريخية وتتجمد. الريادة يجب ان تكون أشبه بالصيرورة المستمرة والمتواصلة. وهناك انقلابات في الشعر العربي في السبعينات والثمانينات والتسعينات، وكل جيل يقدم ريادة من نوع مختلف. فعلى النقد العربي أو على الاكاديميات العربية ان تجري تحقيقاً جديداً في شأن الريادة ويجب أن يظهر الخط المستمر من جيل الرواد الى الآن. وهكذا يصبح في الإمكان النظر الى الشعر العربي كحركة حيوية متقدمة باستمرار وتنقلب على نفسها وتجدد نفسها بنفسها. ويجب عدم وضع حواجز حديد بين جيل وجيل. > من الذي ينفّرك من الشعراء الرواد مثلاً إذا عدت الى قراءة آثاره؟ - لم أعد قادراً على قراءة شعر خليل حاوي مثلاً. والبياتي كذلك. لكنني أحترمهما. فهما غير قريبين الى ذائقتي. ومن المعروف أن الذائقة الشعرية مسألة ذاتية جداً، وأود ألا أذكر أسماء... > هل عدت مرة الى كتب كنت تحبها ثم وجدت نفسك لا تحبها؟ - طبعاً، إننا نتعرض لخدع شعرية وفنية وثقافية. فما كان يبدو لنا جميلاً في زمن معين وعمر معين أو مرحلة معينة لم يعد يحمل حياة جديدة في ذاته تجعله قابلاً للقراءة في زمننا. لذلك فإن الأدب الباقي هو الأدب الذي يستطيع أن يخترق الأزمنة والأجيال ويحافظ على حداثته ومعاصرته، وعلى قابليته لأن يقرأ في زمن غير الزمن الذي كتب فيه. > أحياناً نحس أن بعض القصائد تشيخ مثل الانسان! - هذا إحساس مؤلم ولكنه مطمئن، فالخديعة لا تعمّر طويلاً. > كيف تقرأ الآن شاعراً مثل نزار قباني؟ - لا أقرأه الآن بالبهجة التي كنت أقرأه بها من قبل، لكن هذا لا يعني أنني لا أحبه. > نلاحظ أنك لم تكتب أي نص نظري في الشعر، علماً أن قصيدتك تحمل ما يشبه «البيان» الشعري بصمت! هل كتبت نقداً عندما عملت في الصحافة الفلسطينية في الداخل؟ - كنت أكتب مراجعات كتب، ولكن إذا قلت ان نظرتي الشعرية أو بياني الشعر موجودان في قصيدتي نفسها، فهذا يكفي. لماذا أضع نفسي في إطار نظري يصعب عليّ التخلص منه. وهذا لا يعني انني لا أحترم المنظرين، بل على العكس. لكن الملاحظ أن معظم الشعراء الذين ينظرون فإنما ينظرون لشعرهم، ويدافعون عن خيارهم الشعري، ولا يكونون منفتحين على تجارب الشعراء الآخرين ومستعدين لاستيعابها. ثم ليس لدي ميل الى التنظير، لأنني أخاف أن أخطئ. > لكنك في الاحاديث الصحافية تنم عن ناقد يملك ذائقة ووعياً نقدياً! - اكتفي بوضع ملاحظات، وهي ليست ناجمة عن مقولات أو نظريات متماسكة. ربما ليس لدي مؤهلات لهذا الأمر. ليس لدي هذا الميل. > ألا تحس أحياناً انك في حاجة الى أن توضح أمراً ما في شعرك أو قصيدتك؟ - بين حين وآخر أكتب بعض النصوص عن الشعر وعن التجربة الشعرية، وأحاول أن أجيب على اسئلة تتعلق بهذه التجربة، ساعياً الى توضيح سوء فهم بريء أو مقصود حول تجربتي. عندما وقعت ديواني الجديد «كزهر اللوز...» في رام الله أخيراً كنت مضطراً على أن أرد على حملة قام بها شعراء فلسطينيون تحديداً، يريدون أن يتدرّبوا على الملاكمة وهم يرون ان شعري لم يعد شعر مقاومة، فقدمت بعض الملاحظات المكتوبة حول فهمي للشعر الوطني وشعر المقاومة، وأن علينا أن نفهم المقاومة في معناها الواسع وليس الضيق. وقلت أيضاً إن الحداثة لا تعرّف فقط بقصيدة النثر... أحياناً في بعض الحوارات الصحافية أو اللقاءات والمداخلات أعبّر عن مفهومي للشعر. |
> هل تقرأ ما يكتب الشعراء من تنظير شعري؟
- ليس كل الشعراء. > يبدو أن سيرتك الشعرية لا تظهر إلا في شعرك وخصوصاً في ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» وفي «جدارية»، وكأن لا سيرة لك مع أنك تحب قراءة السيَر! ما سر غياب سيرة محمود درويش وطغيان الشعر عليها؟ - أولاً ما يعني القارئ في سيرتي مكتوب في القصائد. وهناك قول مفاده ان كل قصيدة غنائية هي قصيدة أوتو – بيوغرافية أو سير – ذاتية، علماً بأن هناك نظرية تقول ان القارئ لا يحتاج الى معرفة سيرة الشاعر كي يفهم شعره ويتواصل معه. ثانياً يجب أن أشعر بأن في سيرتي الذاتية ما يفيد، أو ما يقدم فائدة. ولا أخفيك ان سيرتي الذاتية عادية جداً. > على العكس، أجد انها سيرة مثيرة جداً وصاخبة... فماذا عن طفولتك؟ ماذا عن أمك وأبيك؟ ماذا عن المنفى؟... - لم أفكر حتى الآن في كتابة سيرتي. > هل تخاف هذه السيرة؟ - لا. لا. لكنني لا أحب الإفراط في الشكوى من الحياة الشخصية ومشكلاتها. ولا أريد بالتالي أن أتبجّح بنفسي، فالسيرة الذاتية تدفع أحياناً الى التبجح بالنفس، فيصوّر الكاتب نفسه وكأنه شخص مختلف. وقد كتبت ملامح من سيرتي في كتب نثرية مثل «يوميات الحزن العادي» أو «ذاكرة للنسيان» ولا سيما الطفولة والنكبة... لا أريد أن أكرر هذا الموضوع وربما عندما أشعر بأن من الضروري أن أكتب سيرتي فسأكتبها. ربما عندما انقطع عن كتابة الشعر. > والدتك التي غنيتها في قصيدة «أمي» ماذا تمثل لك الآن؟ - انها أمي. وهي ما زالت على قيد الحياة. أما الوالد فتوفي منذ عشر سنوات وقد أصيب بضربة شمس في الحج. > وكيف علاقتك الآن بوالدتك؟ - أنا ابنها المفضل، والسبب بسيط لأنني الابن الغائب. غبت عنها سنوات طويلة ولكن كنا نلتقي قبل «الاغلاقات» من حين الى آخر. ماذا تعني لك مقولة «عرب 1948» ولماذا يُسمى الفلسطينيون بـ «عرب 48»؟ وأنت كنت منهم؟ - أنا منهم أجل. انني ولدت في قرية تدعى البروة ثم انتقلنا كعائلة الى لبنان خلال حرب 1948. شُرّدنا وهُجّرنا. اضطررنا على الهروب مع أهل القرية الى شمال فلسطين ثم الى لبنان وأول قرية لبنانية أتذكرها هي رميش ثم سكنا في جزين في البداية، الى أن هبط الثلج في الشتاء. وفي جزين شاهدت للمرة الأولى في حياتي شلالاً عظيماً. وقبل سنتين زرت جزين ولم أجد الشلال. ثم انتقلنا الى الناعمة قرب الدامور. وأتذكر الدامور في تلك الفترة جيداً: البحر وحقول الموز... كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد. كنا نتصرّف وكأننا سياح... فنحن خرجنا من القرى كي يتمكّن جيش الانقاذ العربي من مواصلة الحرب وتحرير الأراضي. وكنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود الى قرانا. لكن جدي وأبي عرفا ان المسألة انتهت فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية الى شمال الجليل. وقد بقينا لدى أصدقاء الى ان اكتشفنا ان قريتنا البروة لم تعد موجودة. فالعودة الى مكان الولادة لم يتحقق. عشنا لاجئين في قرية أخرى اسمها دير الأسد في الشمال. كنا نسمى لاجئين ووجدنا صعوبة بالغة في الحصول على بطاقات إقامة، لأننا دخلنا في طريقة غير شرعية، فعندما أجري تسجيل السكان كنا غائبين. وكانت صفتنا في القانون الاسرائيلي: «الحاضرون – الغائبون»، أي اننا حاضرون جسدياً ولكن بلا أوراق. صودرت أراضينا وعشنا لاجئين. > ولكن أين كانت نشأتك؟ - أنا نشأت في حيفا بعدما انتقلت العائلة الى قرية أخرى اسمها الجديدة بنى أبي فيها بيتاً. وفي حيفا عشت عشر سنين وأنهيت فيها دراستي الثانوية ثم عملت محرراً في جريدة «الاتحاد» وكنت ممنوعاً من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات. كانت إقامتي في حيفا إقامة جبرية. ثم استرجعنا هويتنا، هوية حمراء في البداية ثم زرقاء لاحقاً وكانت أشبه ببطاقة إقامة. كان ممنوعاً عليّ طوال السنوات العشر أن أغادر مدينة حيفا. ومن العام 1967 لغاية العام 1970 كنت ممنوعاً من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلاً لتتحقق من وجودي. وكنت أعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة. ثم اضطررت على الخروج. > الى أين خرجت حينذاك؟ - الى موسكو. > سنعود الى الكلام عن مدن محمود درويش. ولكن أسألك مرة أخرى: لماذا كنتم تسمّون عرباً وليس فلسطينيين؟ ولماذا ما زالت هذه التسمية قائمة حتى الآن؟ - الاسرائيليون سمّونا عرباً والعرب سمّونا فلسطينيين. لماذا عرب؟ للتمييز بيننا وبين اليهود ولمحو هديتنا الحقيقية. فهذه الدولة الاسرائيلية الجديدة تضمّ عرباً. والفلسطينيون للأسف لهم أسماء عدة: عرب 1948، فلسطينيو 1948، فلسطينيو 1967، فلسطينيو 1993 أو فلسطينيو أوسلو... أي ان عندنا أرقاماً وأننا «محقّبون» جيداً. > هل ما زلت على تواصل مع ثقافة الداخل؟ - بمقدار ما يتاح لي من اتصال بالانتاج الثقافي والابداعي. > لماذا نحسّ أن ثقافة الداخل يشوبها بعض «الفوات» عربياً وبعض الاغتراب؟ - هذه قضية تحتاج الى قراءة خاصة. |
ما رأيك بالأدب العربي المكتوب باللغة العبرية، خصوصاً أن ثمة أسماء ولو قليلة لمعت في هذه اللغة؟
- لم أقرأ من هذا الأدب إلا رواية مهمة هي «أرابيسك» للكاتب انطون شماس. الآن هناك ما يشبه «الموضة» وهناك أيضاً روائيون وشعراء شباب وجدد اختاروا العبرية للكتابة. ربما تسعى هذه البادرة الى الاندماج الثقافي في المجتمع الاسرائيلي. هذا لدى بعضهم. ولدى البعض الآخر قد يكون هذا الخيار نوعاً من المقاومة ضد الاسرائيليين في لغتهم نفسها. هكذا يقول هؤلاء. وقد يحسن البعض، بسبب تكوينهم ونشأتهم عبرياً، التعبير باللغة العبرية أفضل من العربية. هناك تفسيرات عدة. ولكن هذا خيار لدى أقلية محدودة. > هناك أصوات شعرية وروائية اسرائيلية مهمة كما يظهر لنا من خلال الترجمات الأجنبية والعربية، وكيف ترى الى هذا الأدب؟ هل يجب علينا أن نقرأه كأدب عدوّ من خلال موقف سلبي مسبق؟ - بصراحة لم أعد أطلع في السنوات الأخيرة على الأدب العبري مثلما كنت أطلع عليها في السابق، عندما كنت أعيش هناك. انقطعت صلتي بهذا الأدب. ولكن هناك اسماء مكرّسة في أوروبا وأميركا، وهي تترجم في الوقت الذي تكتب فيه. ففي وزارة الخارجية الاسرائيلية مكتب لترجمة الأدب العبري الى اللغات الأجنبية. والدولة الاسرائيلية تشرف بنفسها على تسويق الأدب العبري عالمياً. وهذا يدل على الصلة بين المؤسسة والأدب. أمّا ان نقرأه أو لا نقرأه فهذا أمر آخر. وأود أن أشير الى أن سيدة اسرائيلية أسست داراً لنشر الأدب العربي مترجماً الى العبرية وترجمت حنان الشيخ وإلياس خوري ومحمد شكري وقصائد لي وآخرين. بعض الكتاب العرب رفضوا ان يُترجموا الى العبرية، بينما الاسرائيليون لا يحتاجون الى إذن خطي لكي يترجموا. فأنا تُرجم الكثير من شعري الى العبرية من دون ان أُستأذن. وفي المحصلة تبيّن أن الكتاب العرب لا يريدون أن يقرأهم الاسرائيليون وأن الاسرائيليين غير معنيين بقراءة الأدب العربي. فالفجوة في العلاقة بين الطرفين ما زالت قائمة وما زال كل طرف يقرأ الآخر من باب: اعرف عدوك. لم نصل بعد الى قراءة بعضنا بعضاً قراءة أدبية صرفاً أو للمتعة الأدبية، والشروط التاريخية لا تسمح لنا بذلك. انهم لا يجدون متعة في قراءتنا ولا نجد نحن بدورنا متعة في قراءتهم. وهذا الأمر يندرج في سياق الصراع المستمر بيننا وبينهم. > ولكن لك قرار اسرائيليون كثيرون! - لا أعرف إن كانوا كثيرين. لكنني أُقرأ من باب الاطلاع على المفهوم السوسيولوجي الفلسطيني وعلى سيكولوجية الشعب الفلسطيني. وأكاد أقول انني أُقرأ أيضاً قراءة أمنية من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك اليساريون الذين يقرأونني كنوع من التعبير عن التعاطف مع حقوق الفلسطينيين. اما ان أقرأ قراءة أدبية محضة فلا أعرف، بل قد أشك في ذلك. شارون والوجدان الفلسطيني > هناك بعض المسؤولين يقرأون شعرك! - مثل من؟ > شارون! وذلك الوزير الذي سبب مشكلة كبيرة انطلاقاً من قصيدتك «عابرون في كلام عابر». - الضجة الكبرى أثارها الوزير الاسرائيلي سريد وهو من حزب «ميريتس»، عندما أدرج بعض قصائدي في المدارس. لم تكن القراءة الزامية بل اختيارية وكما ان من حق الطالب ان يطلع على الشعر البولندي والهولندي والفرنسي يحق له أن يطلع على الشعر الفلسطيني أو العربي. والأمر يتوقف على رغبة المعلم والطالب معاً. والمسألة من أولها الى آخرها لم تكن تستحق تلك الضجة، وكادت الحكومة الاسرائيلية ان تسقط والفرق كان في ثلاثة أصوات. حينذاك سألتني احدى الصحف الاسرائيلية فقلت لها: كنت أعتقد انكم دولة تحترمون أنفسكم الى حد انكم تسقطون الحكومة لأسباب داخلية سياسية ولكن ليس لأسباب شعرية، كنت أعتبر انكم أقوى من ذلك. الوزيرة الجديدة وهي من حزب «ليكود» ألغت للتو قصائدي من البرنامج. أما ما قاله شارون عن شعري فقاله بعدما خرج كلامه عن سياقه. سئل شارون في مقابلة صحافية عما يقرأ، فقال انه يقرأ رواية لكاتب اسرائيلي. فقال له الصحافي ان هذا الكاتب يساري ويكرهك، فقال له شارون: إنني أميز بين الابداع والسياسة، صحيح انني ضد أفكاره وهو ضد أفكاري، لكنني مستمتع بروايته. وأضاف: أنا أقرأ حتى محمود درويش وأنا معجب بديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» لأن هذا الاعجاب قادني الى الاعجاب بتعلق الشعب الفلسطيني بقضيته وأرضه. في هذا السياق جاء كلام شارون. |
> هل تجوز المقارنة برأيك بين الشعر الاسرائيلي الحديث والشعر الفلسطيني الحديث مثلما فعل أحد الباحثين الفلسطينيين في «الداخل»؟
- من حيث المبدأ، أكاديمياً أو ثقافياً، قد يكون من الممكن المقارنة بين شعرين مكتوبين بلغتين مختلفتين، ومن وجهتي نظر متضادتين، على أرض واحدة. وقد تغري المقارنة هنا بالدراسة. ولكن لا أعرف أي منهج يمكن أن يعتمد وأي موضوع يمكن تناوله: الصراع على الهوية، الصراع على الذاكرة...؟ يمكن اجراء مقارنة بين علاقتين مختلفتين مع الأرض. وثمة بين الشعر الفلسطيني والشعر الاسرائيلي حال من الصراع، صراع في اللغة حول من يمتلك المكان واللغة وحول مَن يسيطر على موضوع المكان أفضل من الآخر. الصراع قائم. > عندما تقرأ شاعراً اسرائيلياً يتغنى بأرض فلسطين، ماذا يكون شعورك؟ - يأخذني شعوري الى أن الصراع بيننا ليس عسكرياً فقط واننا نحن مدفوعون الى صراع ثقافي عميق. مثلاً هناك شاعر اسرائيلي كبير أحب شعره هو يهودا عميحاي، لم يدع مكاناً في فلسطين، وهو يسميها أرض اسرائيل، إلا وكتب فيه قصائد وبعضها جميل جداً وتحرج الشاعر الفلسطيني حقاً. تحرجه في أي معنى؟ الشاعر الفلسطيني لم يشعر يوماً بأنه محتاج الى تقديم براهين على حقه بالمكان، وعلاقته بالأرض تلقائية وعفوية ولا تحتاج الى أي ايديولوجيا أو تبرير. الشاعر الاسرائيلي الذي يعرف كيف تمّ مشروعه وماذا كان قبل اسرائيل، والذي يعرف أيضاً ان هذا المكان له اسم آخر وسابق هو فلسطين، يبدو هذا الشاعر في حاجة الى شحذ كل طاقته الابداعية من أجل امتلاك المكان باللغة كجزء مكمل للمشروع الاستيطاني. وبالتالي فهذه المسألة مخيفة فعلاً: من يكتب المكان في شكل أجمل يستحق المكان أكثر من الآخر؟ قد يكون هناك شعب لا شعراء له، فهل يكون من حق الآخر ان يحتله؟ الجدارة الأدبية لا تعطي حقاً للسلاح في أن يملك شرعيته. هناك مسائل صعبة. كأن تقول ان صاحب الحق الأكبر هو صاحب التعبير الأجمل. طبعاً يحاولون في اسرائيل دائماً تجريد الشعب الفلسطيني من قدراته الابداعية لكي يقولوا انهم جاؤوا الى أرض شعبها غير متحضر وغير متمدن، وانهم يحملون رسالة تحضير وتحديث أي رسالة كولونيالية. كيف يكون ردّي على شارون مثلاً: عوض أن يحسد الفلسطينيين على العلاقة بأرضهم يستطيع أن يشفي نفسه من هذا الحسد بأن ينسحب من أرضهم. ولكن من جهة أخرى، ان الشعر الفلسطيني بحسب مقولة شارون، استطاع أن يخترق الحصار السياسي والتاريخي. > كيف تصف نفسك الآن، كمواطن فلسطيني؟ - أنا الآن في فلسطين، مواطن فلسطيني، محاصر بكل شروط الاحتلال والحصار والعزلة التي تفرضها اسرائيل. وأدافع عن حقنا في امتلاك مستقبل أفضل على أرض أوسع، مع الاحتفاظ بحريتنا في أن نحلم بشيء يبدو مستحيلاً مثل العدل والسلام والتحرر. لا استطيع ان أتكلم عن فلسطين في هذه اللحظة إلا بكثير من الاحباط. ففلسطين تتناقص جغرافياً، مع انها لا تزال في مكانها، لكن الواقع الاسرائيلي يقضمها كل يوم، ويحيط ما يريده أن يكون لنا وطناً نهائياً، بالاسوار والجدران. فلسطين تتناقص أيضاً في مدى مشاركة العالم في الدفاع عن حقها بالضغط على دولة ينظر اليها العالم بأنها فوق القانون، ويعاملها كقيمة أخلاقية غير قابلة للمحاسبة. والعالم العربي المحيط بفلسطين يتعرّض أيضاً للمزيد من الاحتلال أي انه «يُفلسطن» في شكل أو في آخر. صورة المستقبل القريب غير مشعّة إذا نظرنا اليها من منظور الحاضر. وللأسف المستقبل القريب أكثر وضوحاً مما ينبغي، لأن معالم الحل الاسرائيلي محددة ومعروفة: ان نعيش في كانتونات تثبت ان الأبارتايد أو التمييز العنصري ينتهي في بلد ويبدأ في بلد آخر. والبعد العربي للقضية الفلسطينية معرّض أيضاً للاحتلال والتهديد. فكل ما حولنا وما فينا يشير الى الحزن والغضب معاً. والاسرائيليون يعطون للنكبة عمراً جديداً، انهم يريدون للنكبة ان تستمر وان تتناسل. وكأن حرب 1948 ما زالت، كما يقول الاسرائيليون، مستمرة. واستمرارها يعني انهم يشعرون بأنهم لم ينتصروا تماماً، أي انهم في حاجة الى انتصار جديد. لكنّ هذا لا يعني أن الفلسطينيين تخلّوا عن حقهم، بل على العكس. لكن تجربة الشعب الفلسطيني في علاقته بأرضه تعني انه شعب غير قابل للخروج من التاريخ ولا من الجغرافيا كما يحاول الاسرائيليون أن يفعلوا. ضاقت الخيارات على الشعب الفلسطيني ولم يبق أمامه سوى خيارين، إما الحياة وإما الحياة. ومن حقه ان يدافع عن نفسه وأول سلاح هو أن حافظ على ذاته وحقه وهويته، وثانياً أن يلجأ الى الوسائل التي تحفظ صورته الانسانية والوطنية ولا تمدّ المحتل بما يريد لها من تشويش واضمحلال. مقاومة الاحتلال ليست حقاً فلسطينياً فقط بل هي واجب، والمقاومة تتخذ أشكالاً متعددة منها الصمود وعدم القبول بالمقترحات الاسرائيلية التي تعني الغاء الذات الفلسطينية، والبحث عن وسائل نضالية تخدم المصلحة الوطنية العليا. > هل من علاقة لك بالسلطة الفلسطينية؟ - رسمياً أنا لا علاقة لي بأي سلطة، ولكن على المستوى الشخصي علاقتي ممتازة مع رئيس السلطة ورئيس الحكومة ومعظم الوزراء. ومهما كان هناك من مشكلات داخلية فما يجمع الفلسطينيين الآن هو السؤال الوطني، أكثر من أي سؤال داخلي. لكن ذلك لا يعني أن نغضّ النظر عن المشكلات الداخلية. والقضية الأساسية هي كيف نحل المشكلة الوطنية وهي مشكلة الاحتلال. لا أمارس دوراً كبيراً سياسياً بل أمارس دوراً ثقافياً. وينتابني شعور بالغربة، إلا ان واجبي الوطني يناديني كي أكون هناك. وهذا أضعف الإيمان. أنا إذاً هنا وهناك وأشعر بحزن وإحباط. > عندما تكون في رام الله هل تشعر بأنك فعلاً في وطنك فلسطين أم ان وطنك استحال بقعة ما في ذاتك وشعرك وذاكرتك؟ - شعوري خجول جداً، ولغتي خجولة. لا أشعر كثيراً بأنني في الوطن. أشعر بأنني في سجن كبير مقام على أرض الوطن وكأنني لم أتحرر من منفاي. فمن كان يحمل الوطن في المنفى ما زال يحمل المنفى في الوطن. والحدود ملتبسة جداً، بين مفهومي الوطن والمنفى. الحرية شرسة جداً وجميلة جداً ويجب أن نبقى أسرى لها. وفي هذا الأسر، أسر الحرية نستطيع ان نتحرر. المجازات كثيرة هناك والاستعارات كثيرة والحدود بين الاشياء مختلطة. لا تعرف أحياناً حدود المعنى، وأحياناً تبحث عن المعنى ولا تجده. ولكن أهم أمر هو ألا نسقط الوطن من يدنا ولا من مخيلتنا. تعرضنا كثيراً لمحاولة الوقيعة بيننا وبين هذه البلاد. فالاسرائيليون يقيمون الجدران ليس بيننا وبينهم فحسب ولكن بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين ذواتنا، وهم محتاجون الى إقامة أسوار أخرى بين التاريخ والخرافة، بين الاسطورة والواقع، وهذا ما لا يفعلونه. إنهم متمترسون وراء أسطورة مسلحة برؤوس نووية. لم نسمع في التاريخ عن أساطير تتسلّح بهذا السلاح الفتاك. |
كيف ترى الى العمليات الاستشهادية أو الانتحارية التي تقوم بها بعض المجموعات الفلسطينية الأصولية؟
- هذا سؤال يتأرجح بين الاحساس بالمسؤولية والبعد الاخلاقي. من حق الفلسطينيين أن يقاوموا الاحتلال بوسائل تخدم قضيتهم. ولكن يجب أن يكون الفلسطينيون حريصين على التفوّق الأخلاقي للضحية، وأن يميزوا بين صورتهم وحقهم في العدالة وصورة المحتل. تحفظي الشديد هو على العمليات التي تمسّ المدنيين مما قد يقلّص الفارق بين الصورتين، فنصبح نحن والاسرائيليين كأننا جيشان في حرب. الاستشهادي يقدم حياته. ولا نستطيع أن نحاكم استشهادياً يهاجم موقعاً عسكرياً، ولكن نستطيع أن نقول له ان مهاجمة مطعم أو دار سينما لا تخدم قضيته ولا صورته. > كيف تستعيد صورة الرئيس ياسر عرفات بعد مضي سنة على رحيله؟ - أريد أن أرى ياسر عرفات وقد رفض الغياب. أريد أن أراه رمزاً، ونحن محتاجون الى الرموز، رمزاً لتاريخ شعب وتحولات هذا الشعب من الغياب الكامل الى لاجئين فإلى مقاتلين فإلى مؤسسي مشروع وطني ثقافي، ثم الى حضور كثيف في خريطة العالم. ياسر عرفات من الذين استطاعوا أن يعيدوا اسم فلسطين الى الوعي العالمي. قدّم كل حياته للقضية ولم يعش لنفسه أبداً. أريد أن أرى هذه الصورة باقية. نفتقد عرفات لكننا لا نريد عرفات آخر. وأنا من الذين يقولون اننا لا نحتاج الى عرفات آخر. لا نحتاج الى رمزية عالية، نحتاج الى مدراء جيدين. كان عرفات يتمتع بمزايا لا يمكن أن تُورث وأن تُورّث. ومن الصعب أن نستنسخ شخصية مثله، وهذه الشخصية أنهت دورها ولم تعد قابلة للاستعادة. لكن تاريخه هو القابل للاستعادة، وكذلك تضحياته. انه سجل مضيء في ذاكرة الفلسطينيين. لكننا لسنا في حاجة الى عرفات جديد. > يقول إدوارد سعيد انك لعبت دوراً سياسياً في منظمة التحرير مضيفاً عبارة «على مضض». ماذا تعني لك هذه العبارة، مع انك كنت شديد القرب من عرفات، مستشاراً وعضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة؟ - «على مضض» تعني انني لم أرغب، بيني وبين نفسي، في أن أكون عضواً في القيادة الفلسطينية. كنت أفضل أن أبقى في مجالي الحيوي فلا أحتل موقعاً يتعارض مع نزعات الشاعر الخاصة. كوني عضواً في اللجنة التنفيذية تسبّب في تأويلات مبالغ فيها لما أقول أو أكتب، وكأن هناك شعراً رسمياً أو مقالات رسمية. وهذا بعيد كثيراً من طبيعتي ومن حقيقة كتابتي الشعرية. ثم انني لا أصلح للعمل الرسمي والاداري والاجتماعات الطويلة والسهر الطويل والزيارات الرسمية والسفر المضني. لقد انتخبت وأنا غائب، سمعت الخبر في الراديو وكنت في النورماندي في فرنسا فبكيت. وأول مقال كتبته حينذاك عنوانه «قبل كتابة الاستقالة». لكن خضوعي لضغوط معنوية وأخلاقية عالية جعلني امتثل لهذه العضوية لفترة محددة، نحو خمس سنوات. وأقول مازحاً ان من حسنات أوسلو انها أتاحت لي الفرصة للاستقالة من اللجنة التنفيذية. > ماذا عنى لك خروجك من المنظمة عام 1993؟ - شعرت بسهولة التنفس مثل شخص أطلق سراحه. > سياسياً؟ - لا شخصياً. شخصياً شعرت انني بت أستطيع أن أنصرف الى همومي الخاصة، الى حياتي، الى شعري والى عشوائيتي أو فوضاي. صحيح أن في الانسان أكثر من شخصية، وأن فيّ السياسيّ والشاعر والكاتب، لكن طبيعة التعبير عن كل شخصية تختلف. طبيعة السياسي تختلف عن طبيعة الشاعر، ثم إن لهما لغتين مختلفتين، من دون أن يعني ذلك أن الشاعر متخلٍّ عن السياسة. فالسياسة فينا والسياسة تعني في وضعنا الفلسطيني أن نكون منتمين الى قضية وطنية. لا يستطيع الشاعر أن يتخلى عن السياسة التي فيه. لكن طبيعة التعبير عن العلاقة هي التي تختلف. أما على المستوى السياسي فكنت حائراً. قرأت نص اتفاق أوسلو قبل أن يذاع وعندما علمت بأنه وقّع بالحروف الأولية قدمت استقالتي وخضعت استقالتي لتأويلات كثيرة ومجحفة وظالمة، وبعضها غير أخلاقي. وكنت من الخلقية حتى انني لم أقل لماذا، كل ما قلته:إننا مقبلون على مغامرة لا أريد أن أكون جزءاً منها، وكانت هناك، للأسف، تفسيرات مزرية. مع ذلك، عندما قبلت المؤسسة الفلسطينية هذه الصيغة وأصبحت هي التي تمثل السياسة الرسمية الفلسطينية، قلت انني لا أستطيع أن أرفضها في المطلق، مرتاح الضمير، ولا أن أقبلها أيضاً، مرتاح الضمير. لذلك كان وضعي هو وضع المتحفظ والممتنع، وليس وضع الذي سيعارض. كان في قلبي نداء ما يقول انه قد ينتج عن ذلك شيء، خصوصاً ان هذا المشروع جاء بعد محاصرة سياسية خانقة لمنظمة التحرير في أعقاب حرب الخليج وانعدام الخيارات أمامها. كنت حائراً بين قلبي وعقلي، العقل كان يقول لي إن هذا الاتفاق لن يؤدي الى حل ولن يؤدي الى سلام حقيقي ولا الى دولة. فنص الاتفاق غامض والمرحلة الانتقالية معدومة الربط نهائياً، وليس لدى اسرائيل أي التزام بالانسحاب، وليس هناك من تسمية للأرض المحتلة بأنها محتلة. ولكن كنت أتمنى أن يكون فهمي مخطئاً، كنت أتمنى أن يكون الذين قبلوا على خطأ، ففي خطأي مصلحة للجميع. ولكن للأسف الشديد، كانت النتائج أسوا مما تصورت. لقد انتقلنا من منفى الى سجن كبير. وعرفات قضى سنوات في زنزانة، في غرفة. أين آفاق أوسلو؟ ما هي هذه الآفاق؟ ومع ذلك رضي القتيل ولم يرضَ القاتل. > هل كان من حل آخر في رأيك؟ - هذا ما يحير فعلاً. كان من الممكن الوصول الى اتفاق آخر. لو عرف عرفات والمنظمة مدى حاجة اسرائيل الى اتفاق ما مع اسرائيل لكي يفتحوا بوابتهم أمام العالم العربي، لكانت مكافأتنا كحراس للبوابة أفضل وأكبر. ليتنا صبرنا أكثر، لو طلبنا مثلاً فك الاستيطان من غزة كنا سنحصل عليه. لكن الاستعجال كان يحجب القراءة الدقيقة للنصوص. > ما أجمل خطاب كتبته لعرفات؟ - عرفات يقول ان أجمل نص كتبته له هو نص إعلان الدولة. وأعتقد شخصياً انه أجمل نص كتبته في هذا القبيل. والمفارقة انني كتبته بعد أوسلو. كنت حينذاك في باريس وجاء عرفات وطلب مني أن أكتب النص وكان موضوعه فكرياً، حول مشكلات العالم... وفي الاجتماع كان رؤساء العالم موجودين، وأستشهد أكثر من رئيس بالنص الذي قرأه عرفات، فقال لي «أرأيت كم ان خطابك جيد»، فقلت له: هذا أصبح خطابك أنت. > كتبت النص على رغم اعتراضك على اتفاق أوسلو! - اختلافي مع عرفات حول موضوع أوسلو لم يمسّ العلاقة الشخصية التي جمعتني به. والدليل انني ذهبت أو عدت الى الوطن في شروط أوسلو. > والخطاب الشهير في السبعينات: «لا تسقطوا غصن الزيتون»؟ - لا لم أكتبه وحدي. كنا مجموعة وكتبناه معاً. لكن الصحافة ركّزت عليّ وكأنني أنا الذي كتبته. |
![]() حياة خاصة > قلت لي انك لم تخرج من البيت منذ ثلاثة! - وأحياناً أبقى أكثر. > ماذا يعني لك البيت؟ ألا تشعر أحياناً بسأم ما، بوحدة ما...؟ - البيت يعني لي الجلوس مع النفس ومع الكتب ومع الموسيقى ومع الورق الأبيض. البيت هو أشبه بغرفة إصغاء الى الداخل ومحاولة لتوظيف الوقت في شكل أفضل. ففي الستين يشعر المرء بأنه لم يبق لديه وقت طويل. وشخصياً اعترف بأنني أهدرت وقتاً طويلاً في ما لا يجدي، في السفر، في العلاقات وغير ذلك. انني حريص الآن على ان أوظف وقتي لمصلحة ما اعتقد بأنه افضل وهو الكتابة والقراءة. يشكو كثير من الناس من العزلة، أما أنا فإنني أدمنت العزلة، ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها. العزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك. وطرد الضجر هو أيضاً قوة روحية عالية جداً. وأشعر بأنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي. أنا حريص على البقاء في هذه العزلة، وهذا لا يعني انه انقطاع عن الحياة والواقع والناس... انني انظم وقتي في شكل لا يسمح لي بأن انغمر في علاقات اجتماعية قد لا تكون كلها مفيدة. > لم تعد حياتك صاخبة سياسياً مثلما كانت من قبل؟ - الصخب لا أستطيع ان أتحرر منه. مصيرنا الوطني والإنساني يعذب النفس ويعذب الفكر. ونحن الآن في لحظة تاريخية يسود فيها، لا أريد ان أقول، قانون الغاب، ولكن استبداد كوني لا يصيبنا وحدنا، لكننا نشعر به اكثر من سوانا، لأننا نحن الأضعف الآن في العالم. ولدينا أزمة حضور وأزمة علاقة بتاريخنا ومستقبلنا. والأخطر هو أزمة العلاقة بالمستقبل. من هنا، فهذا الصخب قوي جداً ولكن يجب ألا نرد عليه بصخب كتابي. فأنت لا تستطيع ان تصارع الصخب بصخب لغوي، فالصخب المادي أقوى من الصوت الذاتي. عليك ان تقاوم هذا الصخب بنقيضه، بل بلغة أهدأ وبالتأمل وبارتباط أعلى بالحياة، وبتمجيد جماليات الحياة وبالبحث عن الطاقة الكامنة في النفس البشرية... هكذا تستطيع ان تسمع صوتك. فالصخب الخارجي العالي يستطيع ان يبتلع صوتك. انني أقاوم الصخب بالسكينة. . > قلت مرة ان «البيت اجمل من الطريق الى البيت»؟ هل يذكرك هذا القول بكلام الشاعر الألماني هولدرلن عن «العودة الى البيت»؟ - كثيرون من الشعراء منذ هوميروس كتبوا عن ثنائية الطريق والبيت. كنت دائماً أميل الى تمجيد الطريق، والطريق بؤرة أساسية في الرؤيا الشعرية والصوفية. هذه الثنائية تتناوبها أوليات مختلفة. عندما كنت خارج الوطن، كنت اعتقد ان الطريق سيؤدي الى البيت وان البيت اجمل من الطريق الى البيت. ولكن عندما عدت الى ما يُسمى البيت وهو ليس بيتاً حقيقياً غيّرت هذا القول وقلت: ما زال الطريق الى البيت اجمل من البيت لأن الحلم ما زال اكثر جمالاً وصفاء من الواقع الذي أسفر عنه هذا الحلم. الحلم يتيم الآن. لقد عدت الى القول بأولية الطريق على البيت. > إنها حالة عوليس إذاً؟ أجل، حالة عوليس الذي لم يجد نفسه ولا ما كان يتوقع، ولم يجد كذلك بينيلوب. وبحسب الحالة الراهنة عدت شعرياً الى التأمل أكثر في الدرب والسبب بسيط لأنني لم أجد البيت. > متى توطدت علاقتك القوية بالبيت؟ في أي مرحلة من حياتك؟ - علاقتي القوية بالبيت نمت في المنفى أو في الشتات. عندما تكون في بيتك لا تمجد البيت ولا تشعر بأهميته وحميميته، ولكن عندما تحرم من البيت يتحوّل الى صبابة والى مشتهى، وكأنه هو الغاية القصوى من الرحلة كلها. المنفى هو الذي عمّق مفهوم البيت والوطن، كون المنفى نقيضاً لهما. أما الآن فلا أستطيع أن أعرّف المنفى بنقيضه ولا الوطن بنقيضه، الآن اختلف الأمر وأصبح الوطن والمنفى أمرين ملتبسين. > أي بيت أحببت خلال منفاك؟ وهل من علاقة بين البيت والمدينة التي تكون فيها؟ - لا شك في هذه العلاقة. فالبيت لا ينفصل عن محيطه. بيت في حيفا يختلف عن بيت في باريس أو القاهرة أو بيروت. نوافذ البيت مفتوحة على أصوات الخارج. أما البيت المجازي الذي يخلقه الشاعر لنفسه فإنما هو بيت داخلي يخترعه الشاعر نفسه. إنه عبارة عن بيت شعري. هكذا يتحول البيت الى بيت شعر وبيت الشعر يصبح مسكناً أو مأوى. لذلك أحب كثيراً عثور العرب على كلمة واحدة ذات معنيين البيت أي المنزل والبيت الشعري، وهذا تطابق جميل. > أول بيت سكنته بعد خروجك من فلسطين أين كان؟ - أول رحلة لي خارج فلسطين كانت الى موسكو. وكنت طالباً في معهد العلوم الاجتماعية، ولكن لم يكن لي هناك بيت في المعنى الحقيقي. كان غرفة في مبنى جامعي. > كم أقمت في موسكو؟ - سنة. وكانت موسكو أول لقاء لي بالعالم الخارجي. حاولت السفر قبلاً الى باريس لكن السلطات الفرنسية رفضت دخولي الى أرضها. كان هذا في العام 1968. كان لدي وثيقة اسرائيلية لكنّ الجنسية غير محددة فيها. الأمن الفرنسي لم يكن مطلوباً منه أن يفهم تعقيدات القضية الفلسطينية. كيف أحمل وثيقة اسرائيلية وجنسيتي غير محددة فيها وأقول له بإصرار انني فلسطيني. أبقوني ساعات في المطار ثم سفّروني الى الوطن المحتل. > هل أحببت موسكو؟ - كانت أول مدينة أوروبية وأول مدينة كبيرة أعيش فيها. طبعاً اكتشفت معالمها الضخمة ونهرها ومتاحفها ومسارحها... تصور ما يكون رد فعل طالب فتيّ ينتقل من إقامة محاصرة الى عاصمة ضخمة! تعلمت الروسية قليلاً لأتدبر أمور الشخصية. لكن اصطدامي بمشكلات الروس يومياً جعل فكرة «فردوس» الفقراء التي هي موسكو، تتبخر من ذهني وتتضاءل. لم أجدها أبداً جنة الفقراء، كما كانوا يعلّموننا. |
> هل فقدت فكرتك المثالية عن الشيوعية في تلك اللحظة؟
- فقدت الفكرة المثالية لكنني لم أفقد ثقتي بالماركسية أو بالشيوعية. كان هناك تناقض كبير بين تصوّرنا أو ما يقوله الإعلام السوفياتي عن موسكو والواقع الذي يعيشه الناس، وهو مملوء بالحرمان والفقر والخوف. وأكثر ما هزّني لدى الناس هو الخوف. عندما كنت أتكلم معهم أشعر بأنهم يتكلمون بسرية تامة. وإضافة الى هذا الخوف كنت أشعر بأن الدولة موجودة في كل مكان بكثافة. وهذا ما حوّل مدينة موسكو من مثال الى مدينة عادية. > الى أين سافرت بعد موسكو؟ - الى القاهرة. > كم بقيت في القاهرة؟ - سنتين هما 1971 و1972. > كيف كانت حياتك في القاهرة؟ - الدخول الى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية. في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي اليها. ولم يكن هذا القرار سهلاً. كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي. افتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة. خامرتني هواجس ووساوس كثيرة، لكنني فتنت بكوني في مدينة عربية، اسماء شوارعها عربية والناس فيها يتكلمون بالعربية. وأكثر من ذلك،وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها. فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريباً والأدب المصري. التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين. > هل التقيت طه حسين قبيل وفاته؟ - من سوء حظي أنني لم ألتقِ طه حسين، كان في وسعي أن ألتقي به، ولم يحصل اللقاء. وكذلك أم كلثوم لم ألتقِ بها. وحسرتي الكبرى انني لم ألتقِ هذه المطربة الكبيرة. كنت أقول انني ما دمت في القاهرة فلديّ متسع من الوقت لألتقي مثل هذه الشخصيات. التقيت محمد عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ وسواهما والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم. > هل عملت في القاهرة؟ - عيّنني محمد حسنين هيكل مشكوراً في نادي كتّاب «الأهرام»، وكان مكتبي في الطابق السادس، وهناك كان مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ. وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي ونحن البقية في مكتب واحد. وعقدت صداقة عميقة مع محفوظ وادريس، الشخصيتين المتناقضتين: محفوظ شخص دقيق في مواعيده، ومنضبط، يأتي في ساعة محددة ويذهب في ساعة محددة. وكنت عندما أسأله: هل تريد فنجان قهوة استاذ نجيب؟ كان ينظر الى ساعته قبل أن يجيب، ليعرف إن كان حان وقت القهوة أم لا. أما يوسف ادريس فكان يعيش حياة فوضوية وبوهيمية، وكان رجلاً مشرقاً. وفي القاهرة صادقت أيضاً الشعراء الذين كنت أحبهم: صلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل. كان هؤلاء من الأصدقاء القريبين جداً. وكذلك الابنودي. كل الشعراء والكتاب الذين أحببتهم توطدت علاقتي بهم. والقاهرة كانت من أهم المحطات في حياتي. > هل كانت القاهرة منطلقك الشعري الثاني بعد انطلاقتك الاولى في الأرض المحتلة؟ - نعم. ولكنني سأروي لك هذه الوقيعة: عندما كنت في القاهرة راحت الصحافة العربية وخصوصاً بعض الصحافة اللبنانية تهاجمني. وخصّت مجلة «الحوادث» غلافها مرة لي قائلة: ليته يعود الى اسرائيل. وراحوا يؤبنونني شعرياً معلنين انني انتهيت كشاعر. قبل أن أكتب، حكموا على ما سأكتب. في القاهرة تمّت ملامح تحوّل في تجربتي الشعرية وكأن منعطفاً جديداً يبدأ. > ولماذا قامت هذه الحملة عليك؟ - كان يُنظر إليّ عندما كنت في الأرض المحتلة كوني شاعر المقاومة. وبعد هزيمة 1967 كان العالم العربي يصفق لكل الشعر أو الأدب الذي يخرج من فلسطين، سواء كان رديئاً أم جيداً. اكتشف العرب أنّ في فلسطين المحتلة عرباً صامدين ويدافعون عن حقهم وعن هويتهم. اكتسبت إذاً النظرة الى هؤلاء طابع التقديس، وخلت من أي ذائقة أدبية عامة. هكذا أُسقطت المعايير الأدبية عن نظرة العرب الى هذه الأصوات المقاومة بالشعر والأدب في الداخل. ومن القصائد المهمة التي كتبتها في القاهرة هي قصيدة «سرحان سرحان يشرب القهوة في الكافيتاريا» ونشرت في صحيفة «الأهرام» وصدرت في كتاب «أحبك أو لا أحبك». > ما هي المحطة الثانية عربياً في مسارك الشعري؟ - انها بيروت، بلا شك. فبعد القاهرة انتقلت الى بيروت مباشرة. وأمضيت فيها نحو اثنتي عشرة سنة الى حين الخروج. عشت فيها من العام 1970 الى العام 1982. حنيني الى بيروت ما زلت أحمله حتى الآن. وعندي مرض جميل اسمه الحنين الدائم الى بيروت. ولا أعرف ما هي أسبابه. وأعرف أن اللبنانيين لا يحبون مديح مدينتهم في هذا الشكل. ولكن لبيروت في قلبي مكانة خاصة جداً. ولسوء حظي انني بعد سنوات قليلة من سكني في بيروت، وهي كانت ورشة أفكار ومختبراً لتيارات أدبية وفكرية وسياسية، متصارعة ومتعايشة في وقت واحد، لسوء حظي أن الحرب اندلعت. واعتقد ان عملي الشعري تعثر حينذاك. > لكنك كتبت قصائد جميلة في بيروت؟ - أعتقد أن أجمل ما كتبت ديوان «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق». ولكن بعد اندلاع الحرب صار الدم والقصف والموت والكراهية والقتل... كل هذه صارت تهيمن على أفق بيروت وتعكره. وبعض اصدقائي هناك ماتوا وكان عليّ أن أرثيهم. وأول من فقدت هناك غسان كنفاني. وأعتقد ان الحرب الأهلية في لبنان عطلت الكثير من المشاريع الثقافية والفكرية التي كانت تجتاح بيروت. وانتقل الناس الى جبهات مختلفة ومتناقضة ومتحاربة. > هل شعرت يوماً انك طرف في الحرب اللبنانية؟ - لا، أبداً. أنا منذ البداية كنت أعبّر لأصدقائي ومعارفي عن تشاؤمي من نتائج هذه الحرب. وكنت أطرح السؤال الآتي: هل كان في وسعنا ألا نُستدرج كفلسطينيين الى هذه الحرب؟ كانت هناك أجوبة رسمية تقول أن دور الفلسطينيين في الحرب هو الدفاع عن النفس ومواجهة محاولة إقصائنا. ولكننا أخطأنا في بيروت عندما أنشأنا ما يشبه الدولة داخل الدولة. > هل أزعجك هذا الأمر؟ - كثيراً. وكنت أخجل من اللبنانيين إزاء الحواجز التي كان يقيمها الفلسطينيون في الأرض اللبنانية ويسألون اللبناني عن هويته. طبعاً لكل هذه الأمور تفسيرات وتبريرات. ولكن كنت أشعر دوماً بالخجل. وكنت أطرح على نفسي أسئلة عدة حول هذه الأمور، حتى أمام أصدقائي المتحمسين للقضية الفلسطينية والحركة الوطنية. ومن هذه الأسئلة: ماذا يعني أن ننتصر في لبنان؟ هذا سؤال كان يلح عليّ دوماً. ولنفترض أننا انهينا الحرب وانتصرنا، فماذا يعني الانتصار هنا؟ أن نحتل لبنان ونتسلّم الحكم في لبنان؟ كنت متشائماً جداً. ولم أكتب عن الحرب اللبنانية إلا كتابة شبه نقدية. > لكنك أسست مجلة «الكرمل» في بيروت وكأن لديك مشروعاً ثقافياً! - هنا المفارقة. > الوجود الفلسطيني في بيروت كان له بعد ثقافي وساهم في منح بيروت دلالة ثقافية عربية. - تستطيع أن تقول هذا الآن، بعدما وضعت الحروب أوزارها، الحروب الفلسطينية – اللبنانية أو الحروب الأهلية... تستطيع من خلال رؤية محايدة أن تنظر الى الآثار الايجابية للتفاعل الفلسطيني مع الحياة الثقافية اللبنانية أو التفاعل اللبناني مع القضية الفلسطينية. هناك جوانب ايجابية فعلاً. هناك مركز الأبحاث الفلسطينية، مجلة «شؤون فلسطينية» ومجلة «الكرمل» وسواها... كنت أشعر بأن وجودي في بيروت سيطول ولم أكن أشعر بالحرج وكأنني مقيم في شكل شرعي. ولكن أن أكون مقيماً في شكل اجباري ومضاد لرغبة اللبنانيين عبر تعايشهم القسري معنا، فهذا كان يزعجني. وعندما خرجت القيادة الفلسطينية والمقاتلون الفلسطينيون من بيروت لم أخرج. بقيت في بيروت أشهراً عدة. لم أتوقع أن الاسرائيليين سيحتلون بيروت. ولم أجد معنى لخروجي في السفن مع المقاتلين. ولكن في صباح ذات يوم وكنت أسكن في منطقة الحمراء، خرجت لأشتري خبزاً وإذا بي أشاهد دبابة اسرائيلية ضخمة. دخلت اسرائيل قبل الإعلان عن الدخول. حينذاك وجدت نفسي وحيداً أتجوّل في الشوارع ولا أرى سوى الدبابات والجنود الاسرائيليين ورجالاً ملثمين. قضيت فعلاً أياماً صعبة جداً ولم أكن أعرف أين أنام. > هل بقيت في الحمراء؟ - لا. قمت بحيلة. كنت أنام خارج البيت في مطعم، واتصل بجيراني لأسألهم ان كان الاسرائيليون سألوا عني. إذا قالوا: نعم جاؤوا، فكنت أدرك انهم لن يأتوا مرة أخرى، فأذهب الى بيتي، أتجمّم وأرتاح ثم أعود الى المطعم. الى أن حصلت الكارثة الكبرى وهي مجزرة صبرا وشاتيلا. عندذاك تيقنت من أن بقائي هناك ضرب من العبث والطيش. عندما احتل الاسرائيليون بيروت عام 1982. > وكيف خرجت؟ - رتّبت الأمر مع السفير الليبي في بيروت حينذاك، فهو كان في مقدوره أن يأخذني من منطقة الأشرفية التي كانت «الكتائب» تسيطر عليها، الى سورية. ولكن كان عليه أن يجد طريقاً ليأخذني من بيتي الى مدخل الأشرفية. اتفقنا مع ضابط لبناني أوجد لنا شارعاً كان سيمر به الرئيس الراحل شفيق الوزان، وكان هناك اتفاق بين الاسرائيليين والحكومة على ألا يتعرضوا لهذا الشارع. وفعلاً سلكنا هذا الطريق وخرجنا من بيروت. وعندما وصلنا الى طرابلس، ذهبنا الى مطعم لنأكل السمك بعدما مللنا أكل المعلبات. وبعدما دخلت الحمام لأغسل يديّ نظرت الى المرآة فرأيت أنفاً عليه نظارتان. لم أعرف صاحب هذا الوجه لثوانٍ. كأنني كنت أنظر الى وجه آخر. وعندما وصلت الى دمشق أقمت هناك أسبوعاً. وكان حصل حادث طريف جداً على الحدود السورية – اللبنانية. فالضابط اللبناني على الحدود الذي طلب أوراقي، وكنت أحمل جواز سفر تونسياً ديبلوماسياً، وجد ان اقامتي قد انتهت وهذه مخالفة قانونية. قلت له: صحيح، ولكن ألا تسمع الأخبار؟ ألا تعرف ان ما من سفارات أو دوائر تعمل؟ > الى أين سافرت من دمشق؟ - الى تونس. وكانت زيارة ورأيت خلالها الرئيس عرفات والأخوان في مشهد تراجيدي. رأيت كل الثورة الفلسطينية تقيم في فندق على شاطئ بحر. كان المشهد مؤلماً جداً ويستدعي كتابة رواية عن هذا المصير. لكن عرفات سرعان ما أعاد بناء مؤسسته. وقال لي للحين: واصل إصدار «الكرمل». كان مهتماً حتى بالجانب الثقافي. فقلت له أين أصدرها؟ قال لي: حيث تشاء، في لندن، في باريس، في قبرص... ذهبت من ثم الى قبرص كي أرتب شؤون الرخصة. وصدرت «الكرمل» من قبرص فيما كنت أنا أحررها في باريس وأطبعها في نيقوسيا وكان معاوني الكبير هو الشاعر سليم بركات. > كم دامت إقامتك في باريس؟ - نحو عشر سنوات ولكن في شكل متقطع، إذ كنت أسافر باستمرار. وكنت هكذا قريباً من منظمة التحرير في تونس. > كيف كان انطباعك عن باريس؟ - كانت باريس عبارة عن محطة أكثر منها إقامة أو سكناً. > هل ساهمت باريس في انطلاقك عالمياً وفتحت لك الآفاق الرحبة؟ - لا أعرف. لكنني أعرف بأن في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية. وإذا أردت أن أميّز شعري فأنا أتمسك كثيراً بشعري الذي كتبته في باريس في مرحلة الثمانينات وما بعدها. هناك اتيحت لي فرصة التأمل والنظر الى الوطن والعالم والأشياء من خلال مسافة، هي مسافة ضوء. فأنت عندما ترى من بُعد، ترى أفضل، وترى المشهد في شمولتيه. علاوة على أن باريس جمالياً تحرّضك على الشعر والابداع. كل ما فيها جميل. حتى مناخها جميل. في باريس كتب وفي وصف يوم خريفي: «أفي مثل هذا اليوم يموت أحد؟». ومدينة باريس أيضاً هي مدينة الكتّاب المنفيين الآتين من كل أنحاء العالم. تجد العالم كله ملخصاً في هذه المدينة. وكانت لي صداقات مع كتّاب أجانب كثيرين. وأتاحت باريس لي فرصة التفرّغ أكثر للقراءة والكتابة. ولا أعرف فعلاً ان كانت باريس هي التي أصابتني أم ان مرحلة نضج ما تمت في باريس، أم انه تطابق العنصرين بعضهما مع بعض؟ في باريس كتبت ديوان «ورد أقل» وديوان «هي اغنية» و«أحد عشر كوكباً» و«أرى ما أريد» وكذلك ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» ونصف قصائد «سرير الغريبة». وكتبت نصوص «ذاكرة للنسيان» وغاية هذا الكتاب النثري التحرر من أثر بيروت، وفيه وصفت يوماً من أيام الحصار. معظم أعمالي الجديدة كتبتها في باريس. كنت هناك متفرّغاً للكتابة على رغم انتخابي عضواً في اللجنة التنفيذية. وفي باريس كتبت نص إعلان الدولة الفلسطينية. مثلما كتبت نصوصاً كثيرة ومقالاً اسبوعياً في مجلة «اليوم السابع». كأنني أردت أن أعوّض عن الصخب الذي كان يلاحقني في مدن أخرى. |
> عندما تركت بيروت حصل نوع من سوء الفهم بينك وبين بيروت... ماذا عن سوء الفهم هذا؟
- لم يحصل سوء فهم أبداً، بل كان لديّ حب عميق لهذه المدينة. لكنّ العلاقة بين المحبين ينتابها عتاب أحياناً. فعلاقتي ببيروت كانت علاقة حب. وقد شعرت في تلك اللحظة المأسوية بأن بيروت ستنسانا. هذا كل ما قلته وهو لا يجرح أحداً. وفعلاً مرّت بيروت لبضعة أيام في حال تراجع تجاه نفسها وتجاه الآخرين. أنت لبناني وتعرف اكثر مني. كانت بيروت محتاجة الى وقت أطول كي تتوازن. لكنها ما لبثت أن مرّت بحروب أهلية أخرى في غياب الفلسطينيين. وهذا دليل على أن الفلسطينيين لم يكونوا السبب الوحيد لهذه الحرب التي استحالت حروباً. لا. أنا لم أكتب عن بيروت سوى الحب. وكتبت بشجاعة العاشق المطمئن الى استعداد الحبيبة للاستماع إليه. > مدينة عمان، هل هي لك بمثابة المستقر، اضافة الى رام الله؟ - بعدما أصبح في إمكاني أن أعود الى «جزء» من فلسطين وليس الى «جزء» شخصي بل الى «جزء» من وطن عام، وقفت طويلاً أمام خيار العودة. وشعرت بأن من واجبي الوطني والأخلاقي ألا أبقى في المنفى. فأنا أولاً لن أكون مرتاحاً، ثم سأتعرض الى سهام من التجريح لا نهاية لها، ثم سيقال انني أفضل باريس على رام الله أو على غزة. وبالتالي اتخذت الخطوة الشجاعة الثانية بعد الخروج وهي خطوة العودة. وهاتان الخطوتان من أصعب الأمور التي واجهتها في حياتي: الخروج والعودة. اخترت عمان لأنها قريبة من فلسطين ثم لأنها مدينة هادئة وشعبها طيب. وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان. > أليس من هدوء في بيتك في رام الله؟ - لا. التوتر عالٍ جداً في رام الله. ومشاغل الحياة الوطنية واليومية تسرق وقت الكتابة. انني أمضي نصف وقتي في رام الله والنصف الآخر في عمان وفي بعض الأسفار. في رام الله اشرف على إصدار مجلة «الكرمل». > أين أصبحت «الكرمل» الآن؟ هل أكملت مشروعها؟ - كل مجلة يجب أن يكون لها تاريخ انتهاء. لا أعرف إن كانت «الكرمل» وصلت الى هذا التاريخ أم لا. لكنني أبحث فعلاً منذ سنوات عن طريقة لتجديد المجلة طابعاً وروحاً، من خلال تجديد محرريها. أي انني أبحث عن وسيلة للخروج لكي أعطي للجيل الجديد فرصة الاضافة والتطوير. لكنني أشعر حتى الآن بأن المجلة ضرورية ومطلوبة وتقوم بدورها الإبداعي والثقافي إضافة الى الترجمة. > هل حاولتم التحاور مع المثقفين الاسرائيليين مثل بعض المجلات الفلسطينية في الداخل؟ - ليس كثيراً. هذه مسألة فردية. أنا لا أعترض على أي كاتب فلسطيني يحاور كاتباً اسرائيلياً معتدلاً ويجمعهما الحد الأدنى المشترك وهو القبول بالدولة الفلسطينية والحق الفلسطيني. ولكنني لا أقترح هذا الحوار كمقترح عام. وقد حقق زميلنا حسن خضر مساجلات مهمة مع بعض الكتاب الاسرائيليين وهي ليست حواراً مقدار ما هي مواجهة فكرية. > هل تتدخل كثيراً في محتويات المجلة؟ - أقرأها حرفاً حرفاً. وأمارس دوري كرئيس تحرير. لأنني لم أقرر حتى الآن من هو رئيس التحرير المقبل. وهذا لا يتعلق بي وحدي بل بمجلس الأمناء وبمتطلبات الثقافة الفلسطينية في الداخل. فتوقيف مجلة مثل «الكرمل» يشكل تراجعاً كبيراً في الحياة الثقافية الفلسطينية. إننا في حاجة إليها. ولكن يجب أن يتسلّمها شخص سواي. > هل ضجرت منها؟ - لا. لكنني أحررها منذ العام 1981 أي منذ أربع وعشرين سنة. وطبيعة الأشياء أن يتغيّر الأشخاص. المرأة والمرأة – الأرض > «سرير الغريبة» هو من كتب الحب الجميلة جداً وأعتقد انه استطاع ان يضع حداً لمقولة المرأة – الأرض أو الحبيبة – الوطن التي طالما تكلم عنها النقد إزاء شِعرك. كيف ترى الى هذه المقولة وهل من علاقة لها بـ «سرير الغريبة»؟ هل سئمت هذه المقولة؟ - لا لم أسأمها، ولكن هناك خطر من استمرار التمسك بالترمز. المرأة كائن بشري وليست وسيلة للتعبير عن أشياء أخرى. الوردة كائن جمالي من دون أن يرمز الى جرح أو دم. هذه محاولة لتطبيع علاقتي مع اللغة أو الكلمات والأشياء، ولتطبيع علاقتي أيضاً بالنظر الى الفلسطيني ككائن بشري أولاً، قبل أن يكون قضية. فالهوية الانسانية للفلسطيني سابقة للهوية الوطنية. صحيح اننا في صراع طويل يستلزم أن يقوم الشاعر خلاله بدور في بلورة الهوية الثقافية وفي حماية الروح من الانكسار، ولكن يجب ألا يلغي هذا الأمر حقنا الانساني في التأمل في طبيعتنا البشرية. فالفلسطيني إنسان يحب ويكره ويتمتع بمنظر الربيع ويتزوج... إذاً المرأة تحمل معاني أخرى غير الأرض. جميل أن تكون المرأة وعاء للوجود كله. ولكن يجب أن تكون لها شخصيتها كامرأة. عندما تعرضت في ديواني «سرير الغريبة» للنقد واتهمت بالتخلي عن ارتباطي بالقضية، قلت ان هذا تعميق للتجربة. ثم ان شعر الحب يمثل البعد الذاتي من أبعاد المقاومة الثقافية، فأن نكون قادرين على الكتابة عن الحب والوجود والموت والماوراء، فهذا يعمق من قيمتنا الوطنية وهويتنا. نحن لسنا خطاباً، نحن لسنا بياناً. وكما قلت أكثر من مرة وأكرر: الفلسطيني ليس مهنة بل كائن بشري يناضل ويدافع عن أرضه وحقه. > هل يضيرك أن تُسمى مثلاً شاعر حب وليس شاعر غزل طبعاً؟ - أتمنى أن أكون شاعر حب أو أتمنى أن تسمح لي ظروفي التاريخية في أن أكون شاعر حب، لأن شعر الحب هو أجمل ما يمكن أن يكتب من شعر. والحب لا ينتهي. شعر النضال ابن مرحلة ما وهو ضروري، ولكنه لا يقدر على الاستمرار. الصراع عملية مستمرة، الصراع في معناه الايجابي، وهو يأخذ أشكالاً متعددة، منها صراع الانسان مع قلبه، الصراع بين العقل والقلب، نداء الغريزة، حق الرغبة في التعبير عن نفسها. > هل عشت قصص حب وخيبات حقيقية؟ وهل كتبت انطلاقاً من تجارب عشق حية؟ - كل ما أكتبه في الحب أم في سواه، ناجم عن تجارب حية. > هل هناك امرأة معينة كتبت عنها أو لها؟ - ربما. ولكن ليس كما يعبر عنها شعري. لماذا؟ لأنك إذا بدأت في كتابة قصيدة حب لا يمكنك ان تكتب عن المطلق في الحب، أنت تكتب عن امرأة معينة. لكن الكتابة تأخذ مجرى يخرج من سياق حادثة الحب. حينذاك تختلط ملامح المرأة التي تكتب عنها بملامح امرأة أخرى أو نسوة أخريات، وكذلك، بملامح الشجر والماء والتراب. النص يبدأ دائماً من المحدد ثم ينتقل الى الكلي. أما أن يكون لدي امرأة مثل «إلسا» حبيبة الشاعر أراغون فهذا صعب. ليس لدي «إلسا». هذا مع اعتقادي بأن «إلسا» كانت ذريعة للشاعر أراغون. > سأنتقل الى الكلام عن «نوبل». ففي كل سنة يتجدد الكلام عربياً عن «نوبل» وتطرح دائماً أسماء عربية، وكان اسمك بارزاً هذه السنة من خلال الاحصاء الذي قامت به صحيفة «النهار» البيروتية وقد احتللت فيه المرتبة الأولى بحسب ترشيح بعض المثقفين العرب اسمك للجائزة! كيف ترى الى هذه القضية الاشكالية؟ هل فكرت بالجائزة يوماً؟ - لم أفكر بجائزة نوبل ولم أحلم بها وأشعر في داخلي بأن على الانسان أن يحلم بما هو ممكن وألا يتحول هذا الموضوع الى «وسواس». القضية غير شخصية وأشكر المثقفين الذين اختاروني للجائزة. ولكن كنت أتمنى ألا يكون اسمي مطروحاً بين الأسماء، لأنني لا أحب دخول هذه «البورصة». كل سنة ترتفع أسهم وتسقط أخرى. وعموماً هناك مشكلة في نظرة العرب الى صورتهم. الأدب العربي لا يحتل مكانته في العالم كما يظن الأدباء العرب. وجائزة نوبل ليست جائزة للأدب العربي. العرب فازوا بها بعد 87 سنة من تأسيسها وحازها نجيب محفوظ باستحقاق عالٍ. ومكانة العرب الأدبية ترتبط أيضاً بمكانتهم العالمية والسياسية وبحضورهم في العالم. ولا يمكن أن يستبعد هذا الشرط. يقيم العرب كل سنة زفة مما جعل القضية هذه محرجة حقاً. ومن حسن حظ العرب ان اعضاء اللجنة السويدية لا يقرأون العربية ولا يضحكون من إصرار العرب على انتزاع الجائزة. وإن فاز بها أي عربي فستكون الفرحة عربية. ولكن علينا أن نتصرف بلياقة أفضل وألا نصاب بمرض أو بهوس اسمه «نوبل». والمشكلة أن بعض الكتاب العرب إذا ترجم لهم كتاب يضعون نفسهم رأساً في قائمة المرشحين للجائزة هذه. وأنا أعتقد ان المرشحين لهذه الجائزة هم بالآلاف. وأي كاتب يمكن أن يُرشحّ الى هذه الجائزة. لكن هذا لا يعني شيئاً. فلماذا يقف العرب كل سنة في «طابور» الانتظار؟ إذا جاءت تكون جاءت وإذا لا فلا.. وعلى الذين يفكرون فيها يجب أن ينسوها، لعلها تتذكرهم. > ماذا يعني أن يقول شاعر في حجمك ومرتبتك: «أنا لست لي أنا لست لي...»؟ هل هي الغربة التي يحياها الشاعر الذي فيك؟ - في آخر الأمر لا يبقى من الشاعر إلا بعض شعره، إذا كان استحق أن يصمد في غربال الزمن. أما هو فليس لنفسه، إنه منذور للغة ولتقديم مسوّغ وجوده على هذه الأرض. انه، في ختام الأمر زائل واللغة هي الباقية. «أنا لست لي» على المستوى الشخصي، ولكن ربما «أكون لي» على المستوى الشعري، وإذا كانت لي قيمة ما، فهي لن تكون لي، بل للغة وللآخرين. > هل تخاف الموت؟ - لم أعد أخشاه كما كنت من قبل. لكنني أخشى موت قدرتي على الكتابة وعلى تذوّق الحياة. لكنني لن أخفيك أن الطريقة التي مات فيها الشاعر معين بسيسو في الفندق، وكانت غرفته مغلقة وعلى الباب إشارة «الرجاء عدم الازعاج» جعلتني أخشى هذه الاشارة أو اللافتة. فجثته اكتشفت بعد يومين. الآن كلما نزلت في فندق لا أضع هذه الاشارة على الباب. ولا أخفيك أيضاً انني لا أضع مفتاح باب البيت في القفل عندما أنام. > أليست الفنون قادرة على هزم الموت كما قلت في قصيدتك «جدارية»؟ - هذا وهم نختلقه كي نبرر وجودنا على الأرض، لكنه وهم جميل . |
احمد فؤاد نجم وتميم البرغوتى فى حوار مفتوح
على اليوتيوب - ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا - |
حوار مع تميم البرغوتى منفرد
- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا - |
حوار مع الشاعر العراقى عدنان الصائغ :D
|
حوار مع الشاعر عدنان الصائغ حاوره د.إسماعيل نوري الربيعي - عمان - بإزميل من فضة وقلب من بلّور يعكف هذا الصائغ على صياغة الصور والتراتيل والنشيج،في بوح يعزّ على تحديد نقطة الابتداء،مفتوحاً على النهاية التي لا تعرف الوصول الى الانتهاء.إنه الكوفيّ الذي ضمرته المراثي وأذى القصائد التي تعشعش في حشاشةٍ تسع الدنيا من دون الخضوع لتراتب عدد أو توزيع مكان،ينسج كوفيته من خيوط الكلام المنتقى مجمل الأوجاع الشفيف. هو الخارج من الموت والحرب سهواً،متأبطاً معجم الأوجاع المغمّس بتراب الأولياء وصلوات القديسين، المذبوحين على باحة ورد الفجر.من أقصى الضياء يطالع سرب طيور حلقت نحو جنوب، علّها تنتظره هناك تحت نصب الحرية.لكنه واثق أنها ما أن تبدأ هجرتها حتى تبدأ بتلاوة نشيد أوروك،عند مستوى الرصيف الذي توارثه المحبون،وهم يدلفون زقورة الارتقاء نحو الشمس التي تلملم الاتساع في حركات عيونهم. على القلق الذي تفرده سنابك خيل الطغاة،يثبّت عدنان بصيرته صوب أشجار الصنوبر الناحل،يغمد بشارة تنّز أذى وارتحالات، ومرورا يتعقبّه المخلصون الذين هالوا التراب على رؤوسهم، من فرط أصقاع الظلال التي خيّمت على دعاء المرمّلات والنائحات،المصطليات بنار الخفاء الذي يتغوّل العقول يروم تمزيق أوصالها. حميم هذا النزف المشتهى،راعف كأنه بشارة المخلّص جاءت تستبيح جسد الخطيئة الذي ألف الرطوبة وتفسّخ الخطوات.من على أهداب ترنيمة الولوج الهادئ الشفيف،يستمطر عدنان حروفاً يُفردها على مساحة الكلام،يستنشق فيها عبير العطور التي توشحها نحاة الكوفة،وطلاب مرحلة السطوح في الحوزة وهم يستذكرون ألفية ابن مالك وأبيات الشنفرى والمتنبي ودعبل الخزاعي.مكوّن من حوار يقوده الشعر الى بواّبات الحفاوة وخزائن يقود إليها المسير الحثيث للنمل المجتهد والمقتصد.يدلفون جميعاً في الأقصى من نار التباريح واستباقات المعاني،حيث زهور النارنج تزدهي بها البساتين،تؤثل لحقول تكتوي بنار الشقاء وإشارات المستحيل،تصبوا من دون أن ينفطر قلبها لأسى الارتحال أو فراق العيون. خرجت من الموت سهوا، أين الشاعر من الإنسان والإنسان من الشاعر؟ - في جدلية الحياة والموت، الجمال والقبح، الحب والحرب، الحرية والقمع، يكمن فن الشعر القادر على مزج الواقعي بالحلمي، والإنسان بالشاعر، تدويناً نصياً له قوة السحر (أن من البيان لسحرا)، ووهجاً عصياً على التدجين، وصرخة احتجاج أبدية، لا توقفها مقصات الرقيب، عابرة الأزمنة والكتب والذائقات والمدارس النقدية باتجاه ربيع الانسان وروحه المغمورة بالينابيع، وفي هذا الإلتحام الجدلي: فنياً، وروحياً، وفلسفياً وتاريخياً يمكننا أن نتلمس هذا التماهي بين النص والحياة على مرِّ تأريخ الإبداع الإنساني، فليس بالمكان الفصل بين أصابع الشاعر وقصيدته، و بين احساس الفنان ولوحته، وبين روح الثائر وصرخته. وكلما ازداد هذا التماهي بينهما ازداد المنتج شفافية روحية وتوهجاً تعبيرياً وصلابة مبدئية في آن... ولك ان تأخذ من تشكك ناقة المتنبي مثلاً يغنيك عن الكثير في شرح هذا التماهي بين الفضاء وروح الشاعر. لنسمعه يقول: "شيم الليالي أن تشكك ناقتي صدري بها أفضى أم البيداءُ" واستبدل الفضاء بالورقة والناقة بالقلم، أو استبدل الورقة بالمخميلة والقلم بالحلم، أو استبدل المخيلة بالدهشة والحلم بالكلمات، تجد أن التماهي يصل إلى أقصاه وإنْ باشكال شتى، من نظرية الحلول الصوفي عند الحلاج، إلى اختلاط الحواس عند رامبو، إلى حمل الكلمة خشبة للصلب عند دعبل، والخ، والخ.. ومن هذه الثيمة، خرجتُ من الحرب سهواً، جندياً أمضى أكثر من 13 عاماً راكضاً بين السواتر والقنابل والاسلاك.. وشاعراً تسلل من بين مقصات الرقيب وتقارير بعض المخبرين بـ ستة دواوين حاولت أن تؤرخ لتلك السنوات المرة بصراخها الملتاع. كأنك تمارس الحياة من خلال الشعر، تصطف هكذا مع حزمة الضوء من دون كلل، تحث الروح نحو الاستغراق في الشعر. - لم يكن لي خيار سوى هذا، ففي أزمنة الموت والطغيان والطوفان، لابد لك من طوق نجاة.. وهكذا وجدتُ في الشعر نجاتي، وملاذي وسلواي.. البعض اتجه إلى الابديولوجيا أو الدين أو الصمت.. غير أني وجدتُ في الشعر تسامياً روحياً يرقى إلى أكثر الطقوس والمثل الانسانية شفافيةً وصفاءً، كما وجدتُ فيه تحدياً يوازي أكثر أسلحة الرفض قوةً وتأثيراً، فتلبسني وتلبستهُ - على الكفاف - أعيش حياتي به سلوكاً ووعياً، ويعيش بي تعبيراً وتذوقاً وتمرداً وتمايزاً.. فمنذ أن تفتح قلبي ووعيي على الدنيا، كنتُ أراه ملاصقاً لي، يسندني ويمدنّي بالكثير.. في طفولتي كان هو الحقل السرمدي، أركضُ فيه بلا كلل، خلف فراشاته الضوئية.. وفي صباي كان ملعبي وحلمي وسامري في الطريق... وفي شبابي كان مرآتي وصرختي وصلاتي في معركة الوجود.. وأجده الآن – في بدايات كهولتي - المصباح الأبهى في تلك الحلكة.. تنشد بحرقة، هكذا أنت في ((نشيد أوروك))، تستحضر كل شيء الأماكن والتواريخ والأسماء والتراب، إلى أين يسعى عدنان ((الشاعر)) الصائغ؟ - حاولت في النشيد أن أؤرخ كل ما مرّ في وطني من حروب وطغاة وحضارات وأغانٍ وأحلام وملوك وشهداء وصعاليك، لوّنوا تاريخنا بأغانيهم وخطبهم وطبولهم وأنينهم فكانت حياتنا - وكان الوطن - مسرحاً كبيراً لهم.. ونحن - المتفرجين - لا نملك غير التصفيق أو الصفير أو الصراخ أو الإنفجار أو النواح. كنتُ أريد أن أقرأ في وجه "عبود" بطل النشيد كل هذه التلاوين وأفجّر في مساماته، مسامات الورقة، ذلك الغضب الخفي، والحكايات المسكوت عنها.. بدأتُ في كتابة النشيد عام 1984 في اسطبل مهجور للحيوانات في قرية شيخ اوصال في السليمانية، عندما كنتُ جندياً.. بقيتُ فيه قرابة العام والنصف مع رائحة البول والبارود والعناكب، وانتهيتُ منه عام 1996 في بيروت.. وكان يعيش معي، تحت جلدي، خلال تلك السنوات الاثنتي عشرة، في حلي وترحالي وخيباتي وأحلامي وأندفاعاتي وانكساراتي.. أدوّنُ وأدوّنُ في كل يوم بعضاً من صفحاته، دون أن أدري أنه سيكون على شكل قصيدة طويلة واحدة تربو على حوالي 500 صفحة.. وكان لتشجيع الناقد جبرا ابراهيم جبرا وخالي الشاعر والناقد د. عبد الاله الصائغ والشاعر عبد الرزاق الربيعي وبعض الأصدقاء، أثر كبير في مواصلة هذا المشروع المجنون... ترى هل وصلتُ إلى ما كنتُ أسعى إليه؟ ولكن إلى أين أردت أن أصل!؟ وهل يبتغي الشعرُ الوصولَ!؟.. الوصول إلى أين!! كما ذهب الصديق الشاعر سركون بولص في عنوان إحدى مجموعاته الشعرية.. أنت من جيل عاش لوثة الخراب والحروب والانقطاعات، جيل عاش الحروب، حتى لتقترب من توصيف الشيخ محمد رضا الشبيبي: بكرت عليك تريك هول الموعد حرب تروح بنا وأخرى تغتدي - سلسلة حروب أو حلقات كوارث أو تقاسيم فواجع، لدكتاتور واحد، كان متوزعاً بصور وأشكال شتى.. ما أن فتحتُ عيني على الدنيا ذات يوم من عام 1955 حتى وجدتُ الفقر أمامي مكشّراً أنيابه، ثم تلتهُ الانقلابات السياسية الدموبة، وصولاً إلى مطحنة الحرب التي لم تبقِ لنا شيئاً ولم تذر.. انها إذن، سنوات طاعنة في الخيبات، ألقت بظلالها الكابية على جبيلنا وتجاربنا وحياتنا.. وحملتنا – ذات هروب شبه جماعي بعد حرب الخليج الثانية – إلى أصقاع المنافي البعيدة.. نعم، انها حروب وفواجع تروح بنا وتغتدي، ولذلك ما أن تفتح ديوان أي شاعر من جيلنا حتى تقفز عليك فئران الحرب وشظايا الروح وطفح الخيبات.. وهذه المفردات أصبحت السمة المميزة لجيلنا.. افترشت أغلب تفاصيل كتاباتنا حتى في الحب والمرأة والأصدقاء والذكريات والمدن والموضوعات الأخرى... وليس غريباً ذلك وقد عاشت معنا وفينا وحولنا أكثر من نصف أعمارنا.. تجليات الواقع، حيث الخروج من الوصف إلى الممارسة، أين بتقديرك تكمن قدرات الشاعر؟ - لم يعد الوصف من مهمات الشعر الرئيسة، كما كان في عصور الشعر القديمة، ولم يعد أيضاً مقياساً لقدرات الشاعر ومهارته. لقد تخطى الشعر في مسيرته الحداثوية تلك المساحات المكررة إلى طرقٍ أكثر عشباً وضوءاً.. قد حفل الشعر العربي طيلة عقوده المنصرمة بأطنان الوصف والمديح اللذين أثقلا كاهل القصيدة إلى حد كبير فلم تعد تقوى على السير إلى أبعد من لسان المنشد أو أذن السامع... كأن الوصف يشيد جدراناً أمام حقول القصيدة... كأنه يكممها، مختزلاً لسانها وصورها ورؤاها... كأنه يسعى أن يكون بديلاً.. لكن الشاعر الخلاق هو الذي يخترق هذه الجدران، ليدخل بنا في اللهب. والقصيدة الحية هي التي تكسر أو تقفز تلك الحواجز، وتحفر عميقاً في بواطن الأرض والتاريخ والانسان لتستكشف طرقاً بكراً غير مأهولة.. ولا يتآتي ذلك بالجاهزية والوصف، بل في تلبس الحالة، في الامتزاج بها، في تعريتها، في الإصغاء إلى هسيسها الخفي.. وهنا تكمن موهبة الشاعر المتفرد وقدرته على الإختراق.. |
عامرة بلادنا بالأحزان، كأنها النقيع الذي تستحم فيه الاحتدامات والاشكالات،الحزن والشعر، أم أن هناك معادلا آخر لهذه العلاقة؟
- لم يكن الحزن وحده سر هذا التفجر والثورات الذي عرفته أرض الرافدين على مختلف الأصعدة: الفنية، والأدبية، والسياسية، والإجتماعية، والإقتصادية، والخ، منذ فجر حظاراتها حتى اليوم.. فنهراها الخالدان اللذان اصطبغا بالدم والرماد والكتب، تلوّنا أيضاًُ بشموع النذورات وأغاني المحبين وطمي الحضارات. وسماؤها المشمسة التي حجبتها أدخنة الحرائق وذرق الطائرات، أضاءتها أيضاً ابتهالات الصوفيين وقباب الذهب وأعذاق النخيل. ربما بين طياتي هذه المفارقة أو بين طيات التاريخ والأرض، يكمن السر الذي توقف عنده المؤرخون ملياً، كالطبري في تاريخه، وابن خلدون في مقدمته والخ.. وشد إليه الملوك والفاتحون والغزاة رحالهم واطماعهم وجيوشهم. وندبته آله سومر، وفرشته أخيلة الشعراء والمغنين على مر تاريخه بأكاليل الغزل وأطواق الورود والأغنيات كما لم يغن ويندب لبلد. ودكته صواريخ التوماهوك كما لم يدك بلد في الأرض.. والخ. وهذه الإحتدامات والفيوضات التي جرت في عروق أبنائه، هي المعادل الموضوعي لكل ذلك الموروث الضخم والمذهل والفاجع الذي قرأناه في التاريخ وعاصرناه في الحاضر، والذي حمل في نفوس أهله - وشعرائه بالأخص - الكثير من التوتر والاحتدام من جانب والشفافية والطيبة من جانب آخر، فطفحت في أغانيه ومواويله نبرة الحزن والشجن منذ أغاني اينانا السومرية وحتى انشودة المطر لبدر شاكر السياب، وإلى آخر شاعر تسعيني يسطر – اليوم - نصه الجديد. لقد عبرتُ عن تلك المعادلة أو المفارقة، في قصيدة لي بعنوان "العراق" ضمها ديواني الأخير "تأبط منفى"، أقول فيها: "العراقُ الذي يبتعدْ كلما اتسعتْ في المنافي خطاهْ والعراقُ الذي يتئدْ كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ.. قلتُ: آهْ والعراقُ الذي يرتعدْ كلما مرَّ ظلٌّ تخيلّتُ فوّهةً تترصدني، أو متاهْ والعراقُ الذي نفتقدْ نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ.. ونصفٌ طغاهْ" ....... هل اكتفيت من تأبطك المنفى، هذا الجليد الاسكندنافي الكثيف، حدثنا كيف يطبق على الروح؟ - أفتح نافذتي على مدار أغلب شهور العام فلا أجد أمامي سوى قطوف الثلج تملأ شوارع الروح بالغياب والغربة.. الجليد بمد لي لسانه الأبيض، وكذلك الورقة البيضاء التي أمامي. ثم يطبقان علي.. كأنني مسجون أبدي بالبياض أو الغياب. "أيهذا الغريبُ الذي لمْ يجدْ لحظةً مبهجهْ كيف تغدو المنافي سجوناً بلا أسيجةْ" حين تأبطت منفاي صيف 1993، وألقى بي وبحقائبي في غرفة صغيرة قرب الساحة الهاشمية في عمان، لم أكن أفكر أو أحلم أن رحلتي هذه، ستعبر بي مدناً، وصحارى، وبحاراً، ومقاهٍ، وأصدقاء، وساحات، لم تكن تخطر لي على بال، وصولاً إلى جنوب القطب الشمالي. حيث تصل درجة الحرارة الى 36 تحت الصفر، ودرجة الحرية إلى أقصى مدى يتخيله المرء، أنا القادم من بلد الهجير والحروب والقمع حيث تصل درجة الحرارة إلى فوق 50 مؤوية، وتصل درجة قمعك إلى حد أنك لا تستطيع أن تفتح فمك من وقع سياطهم وجزماتهم لتصرخ: آه.. هنا وضعتني هذه المفارقة، صافناً، ومندهشاً، على ضفاف نص جديد مفتوح، أسميته "نرد النص" يبتعد إلى حد كبير، ايقاعاً وشكلاً ولغةً وجرأة، عن كل تجربتي الشعرية.. مسالة الأجيال تؤرق البعض من الشعراء والنقاد، حتى لترى المزيد منهم يسفحون الكثير من الجهد في التوزيعات والتقسيمات. - مصطلح "الجيل الشعري" وليد اصطراع أدبي، هو أقرب إلى لغة الصحافة وصراعاتها الهامشية منه إلى متن النقد الأدبي الجاد.. وقد وجد من يصفق ويهلل له، وخاصة ممن فاتهم قطار الإبداع، فتمسك بعربات هذا المصطلح المتوقفة على السكة منذ زمن، ظناً منه أنهم في قلب الحركة أو القطار.. وسايرهم أيضاً بعض النقاد ممن لم يستطع غور سبر التجربة، فتعكز على هذا المصطلح، يقلبه ذات اليمين وذات اليسار، مثيراً ما وجد تحته أو فوقه من غبار، ظاناً أنه يقود معركة في النقد بينما هو لم يتجاوز حدود عجاج المسطلح.. ولا أدري - لعمري - ما علاقة طالب عبد العزيز برعد بندر مثلاً وهما من جيل ثمانيني واحد. أو علاقة رعد عبد القادر بغزاي درع الطائي مثلاً وهما من جيل سبعيني واحد. أو علاقة فاضل العزاوي بحميد سعيد مثلاً وهما من جيل ستيني واحد. أو علاقة سعدي يوسف براضي مهدي السعيد... مثلاً وهما من جيل خمسيني واحد، والخ، والخ.. وصولاً إلى علاقة أبي تمام والبحتري بـ "الخمسمئة شاعر" الذين طووهما تحت إبطيهما، كما يروي أبن رشيق القيرواني، في كتابه "العمدة". وإلى علاقة شكسبير بشعراء جيله الذين لم يذكرهم أحد إلا لماماً في الوقت الذي يصدر عنه يومياً من الكتب ما معدله - وفقاً لما تقول إحدى الاحصائيات البريطانيبة - كتابٌ واحدٌ في كل يوم.. وتعال مرة أخرى وقل لي من أي جيل هو شكسبير والمتنبي. إنهما كل الأجيال وكل العصور وكل الثقافات وكل الأوطان، لا يحد إبداعهما حد، ولا يحصر تجربتهما جيل أو مذهب أدبي. لهذا لا أرى من ضرورة لسفح الحبر والجهد على توزيعات وتقسيمات آنية لن تصمد أمام رياح السنين . فلن يبقى من معمعة المصطلح الجيلي سوى النص المبدع المتوهج بتفرده. حالم بالحياة لافظ للموت، بطريقة لا تقبل الالتباس، هذا ما تقوله قصيدتك، هل يتمكن الشاعر من صنع الدهشة فقط؟ - الشاعر الرائي – كما تسميه ملحمة كلكامش – والصانع الأمهر - كما يصفه ت. س. اليوت - وسارق النار - كما يجسده بروميثيوس - والحلم المكتوب كما يذهب إليه باشلار، وسمير وادي عبقر - كما يراه نقاد العرب القدامى -.. وهو سيد الدهشة، بإمتياز، ماضياً بنا إلى تلك الأرخبيلات أو اليوتوبيا ليرينا عوالمها ويقف بنا على أسرارها وأطيافها، أو صاعداً بنا إلى الجلجلة، منشداً لربيع الإنسان القادم من مخاضات عذابه، إلى شواطيء الحرية والحب والجمال.. وتلك – برأيي – أولى رسالات الشاعر وأبهاها منذ أن سرق بروميثيوس النار حتى آخر شاعر يحمل كبريته في غابات اللغة. بارع في صنع المعادلات، لنتأمل قصيدة ((ثقب)) على سبيل المثال، من مجموعة ((تحت سماء غريبة))، تعمد إلى اختزال العالم في ثقب نوم، الإحالة إلى اقتطاع العلاقة بين القاتل والمقتول في تجريد ملفت. - القصيدة تقول: "طلقةٌ عابرةْ ثقبتْ نومَهُ فتدفقَ - فوق وسادتهِ - لزجاً دمُ أحلامهِ الخاسرةْ" حياتنا التي ظلت عرضة للرصاص على مدار تاريخ الوطن. وحين كنا نخبئها من عيون الرصاص والمخبرين في الخنادق أو الدواليب، تاركين أحلامنا، تتسكع لوحدها على الأرصفة مع المطر والحبيبة والكلمات والأمل، وكان في هذا زهونا وتحدينا ونصنا. ولم يكن يخطر على بالنا أن الجلاد سيطلق الرصاص على أحلامنا ليرديها، على أسرتنا، مسربلة بقطرات خساراتنا ودمائنا.. هكذا تذهب القصيدة في مدياتها إلى آخر المرارت. وهكذا تذهب معادلة الكلمة والرصاصة إلى آخر مديات إصطراعهما، لترينا أنه كلما تفتق القلم عن فنون الإبداع والجمال والحب والتفرد، كلما ازدادت الرصاصة تفنناً في شراسة القتل. وتلك - لعمري - معادلة أزلية أرقت الوجود الإنساني برمته منذ مقتل هابيل، وحتى تفجيرات الطف، تنويعاً وترويعاً في وسائل القتل وتلويناً في الأهداف الآيديولوجية |
حوار مع الشاعر العراقي عدنان الصائغ أجرى الحوار: مصطفى عبادة في قصائدك نزعة تشاؤمية عالية رغم ذلك تنهي أغلبها ببارقة أمل.. هل ما زال هذا الأمل لديك؟- القاهرة - - الحياة المرّة التي عشناها هناك، خلف أسوار أعتى دكتاتورية شهدها التاريخ المعاصر، وبين دخان الحروب، صبغت نصوصنا بلونها الكابي وثقبّت أحلامنا وأيامنا بشظاياها.. فكنتَ ترى اللوعة والشجن والاغتراب في نصوصنا داخل الوطن.. وترى الحنين والخيبات والغياب في نصوصنا الملتاعة خارج الوطن.. لكن بين هذا وذاك، كانت ثمة أعشاب ندية وزهور متفتحة وينابيع متفجرة تجدها هنا وهناك, في هذا النص أو ذاك, تتغذى بأنساغ الأمل المترقرة في أرواحنا الحالمة بالغد، والعاشقة الأبدية للحرية. ولولا ذاك لغدت حياتنا – بل ونصوصنا - يأساً ويباساً وموتاً.. وإلى ذلك أشار الطغرائي: "أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ".. هذه الفسحة التي وجد الأنسان ظالته فيها، منذ بدء عذاب البشرية حتى يومنا هذا، ربما تكون هي أمنية, أو يوتوبيا، أو هي رغبة وتحدٍ وسعيّ لتحقيق ما لم يتحقق.. أنت من جيل الثمانينيات الشعري في العراق, ما الذي بقي من هذا الجيل؟ - ظل من هذا الجيل الكثير: نصوصاً وأشخاصاً وشهادات وخيبات.. ظل منه هذا النسغ الملتاع الموصل بين الأرض والثمار الجديدة: تأثراً وتأثيراً، تستطيع أن تتلمسه في بعض ما يكتبه التسعينيون وغيرهم مثلاً.. إن جيلنا الثمانيني الذي عاش ثلاثة حروب طاحنة وحصارات طويلة وتهميش قاسٍ, كان أقوى في الانتصار على موته ويأسه.. لقد ظل الرائعون والأصيلون منهم يواصلوان مشوارهم الابداعي بمختلف الاتجاهات, مؤسسين ومرسخين مفاهيمهم الجمالية والفنية على خريطة القصيدة المعاصرة عراقياً وعربياً وعالمياً.. في عز معمعة القصائد التي تمجد الحرب في العراق كتبت ديواناً بعنوان: "العصافير لا تحب الرصاص.. ألم تخشَ على نفسك من العقاب سيما أنك كنت جندياً لفترة 12 عاماً متواصلة؟ - كنا نستخدم لغة الخطاب المستتر أثناء هيمنة الخطاب الاعلامي الرسمي وتصاعد دوي القنابل والشعارات الرنانة في تلك الحقبة الكالحة من سنوات الحرب والموت المجاني وقد ألقت بنا أقدارنا جنوداً أو أحطاباً على تلك السواتر البعيدة, أو أقلاماً بين حقول الألغام.. كنا نلوذ بنصوصنا المشاكسة إلى التاريخ والميثولوجيا والحب خوفاً من مقصات الرقيب والتأويلات القاتلة.. وكان البعض يميل إلى الرمز أو التورية أيضاً تجنباً لمتاعب قد لا تخطر على بال.... في احدى قصائدي التي نشرتها بعد خروجي من الوطن أقول فيها:- "في وطني.. يجمعني الخوف ويقسمني رجلاً يكتب والآخر خلف ستائر نافذتي يرقبني.." قصيدتك "نشيد أوروك" محاولة لكتابة سيرة شعرية للوطن هل قصدت ذلك.. أم أردت استحضار الوطن الغائب في الواقع، إلى القصيدة؟ - بدأتُ في كتابة نشيد أوروك عام 1984 في اسطبل مهجور للحيوانات عشتُ فيه قرابة عام ونصف جندياً معاقباً.. والحرب العراقية الايرانية في أشدها. وذات يوم ملأوا الاسطبل بصناديق العتاد المكدّسة لفوجنا, كنا نجلس وننام ونأكل ونستمني, على تلك الصناديق المرعبة.. أحسستُ وقتها أن مجرد صدفة أو طلقة أو شرارة نار يمكن أن تحيلنا إلى ذرات لامتناهية من الشظايا المتناثرة في فضاء هذا الكون الأجرد.. في تلك الأجواء الكابوسية المديدة جاء أحد الجنود، يوماً، يحمل بقايا صحيفة وجدها قرب حاوية النفايات، بسطها أمامي ليريني صورتي وسط مقال كتبه الناقد المرحوم عبد الجبار داود البصري محتفياً بديواني الأول.. "انتظريني تحت نصب الحرية". انهمكت في بكاء مرّ، وأنا أرثي حالي البائس هنا وثمة أناس وقراء ربما يقرؤونني الآن.. أمسكتُ قلمي، وعلى ضوء الفانوس الشاحب، المتراقص الضوء، بدأتُ أسطر أولى كلمات قصيدتي "هذيانات داخل جمجمة زرقاء" والتي أسميتها فيما بعد "نشيد أوروك".. كنت أحاول أن أسطر فيها كل ما مرّ ويمر بي من فصول وهواجس وفواجع وقراءات وأحاديث وأحلام وذكريات.. و.. و.. ومن خلال ذلك استحضر عذابات وطني المرمى هناك على سواتر الحرب منخوب الروح من الطلقات والشعارات.. ولم أكن أدري أنها ستمتد على أوراقي وحياتي وطوافي لتصل إلى مئات الصفحات ولتخرج بعد 12 عاماً من الكتابة بهذا الشكل وهذا العويل.. قصائدك تحتفي باللحظات الحميمية والأصدقاء بما يشكل ثيمة رئيسية من شعرك.. هل هو هروب من قتامة الواقع؟ - في التفاصيل الصغيرة يمكنك أن ترى العالم, وفي تلك اللحظات الخفية تتلمس سخونة الواقع, قتامته أو فتنته. وما الشعر إلا سابر أغوار تلك العوالم العصية, مستكشفاً ومدوناً ومستبصراً.. كنتُ أرى أن الثيمة الحقيقية للحياة والتاريخ تكمن في تلك التفاصيل المسكوت عنها, وفي خفايا الروح وفي قاع المدينة السحيق.. ومهارة الشاعر هنا تكمن في قدرته على التقاط تلك التفاصيل التي ربما لا ينتبه لها الآخرون على رصيف الحياة.. ما مصير هذا الشعر الذي كان يمجد الحرب.. ما الذي سيبقى منه؟ - هذه النصوص مصيرها الزوال – إن لم أقل شيئاً آخر - نعم ستزول هذه الأبواق والنصوص واللوحات والمسرحيات والروايات والقصص والأغاني التي زجّها النظام السابق – بالترهيب والترغيب - في أتون معركتهِ، أبواقاً ووسائل ايضاح لإيديولوجيته البائسة.. ما يتبقى من نصوص الحرب فقط هي تلك النصوص الصادقة المتفردة المعجونة بالدم والرماد, النصوص الحية التي كانت تعبر – بصدق وفنية عالية - عن معاناة الناس وحياتهم المفجوعة ومخاوفهم وأحلامهم وأفراحهم المبتسرة وخيباتهم داخل تلك الطاحونة التي دارت بنا لسنوات طويلة ومريرة.. يمكن للناقد النزيه وللقاريء الجاد أن يخرجا - من بين تلك الأطنان المكدسة من الروايات والدواوين ببضعة منها حافظت على صدقها وابداعها وهي تستحق منا الاحترام والاهتمام كنموذج حي على أن آلة الموت لم تستطع أن تقتل أو تفسده روح الابداع العراقي أبداً. ما الاضافة التي قدمها جيلك (الثمانينيات) للشعرية العربية من العراق؟ - تختلف الإضافة التي يقدمها جيل عن جيل باختلاف منسوبه الابداعي من جهة واختلافات الزمان والمكان والمتلقي- من جهة أخرى – هذا المتلقي سواء كان قارئاً أم شاعراً أم جيلاً.. وقد امتد جيلنا الثمانيني بتجاربه المتفاوتة والمتشعبة إلى التجارب الأخرى سواء كانت ذلك في العراق أو خارجه. ويمكنك أن ترى تلك الإضافة من منظورين: تاريخي وابداعي. الأول طبيعي يتأتى من تأثير السابق على اللاحق في كل تجربة جيل ومدرسة ومذهب وحضارة.. وهو دورة شاملة في تاريخ الانسانية عموماً. أما الثاني فهو ذلك التأثير الخلاق الذي يولد من ديمومة الابداع نفسه وقوة جذبه وتجاوبه مع الآخر.. أنت تنتمي شعرياً إلى مدرسة سعدي يوسف.. ألا ترى أن هذه الشعرية استهلكت تقنياتها.. ولم تعد تقدم الآن جديداً؟ - لا أنتمي إلاّ إلى مدرسة الشعر بحشد شعرائها من امرئ القيس إلى أحمد الصافي النجفي, ومن كافافي إلى سعدي يوسف, ومن ملحمة كلكامش إلى انشودة المطر, ومن المتنبي إلى شكسبير, ومن انخدوانا إلى سافو, ومن الحلاج إلى محمود درويش.. ومن ديك الجن الرومي إلى أدونيس, ومن لوركا إلى حسب الشيخ جعفر، والخ, الخ من دورة الأجيال والاتجاهات والمشارب.. ولك أن ترى في التأثر والتأثير سنة الحياة الشعرية, ولك ان ترى في التفرد سنة الابداع الذي لا يتكرر في كل عصر وجيل.. واخالفك الرأي بأن مدرسة سعدي قد استهلكت تقنياتها, فما زالت حية بجديدها. وما جديد الكواكب إلا ضوؤها المتجدد.. وليس بتغير أشكالها ومساراتها وفصولها.. هل تعتقد أن المنفى خلق جماليات جديدة في القصيدة العربية؟ - فتح المنفى أمام الشاعر العربي تجربة مهمة في النظر الحر إلى الوطن من شرفة الحرية.. والكتابة المفتوحة عنه بعيداً عن سلطة الرقيب الحكومي.. وتأتي قصيدة المنفى تنويعاً حاراً على ايقاع الشعر العربي على مستوى المضمون والشكل والرؤية والاتجاه.. ومثلما كان للموشحات الاندلسية تأثيرها على حركة الشعر وخلخلة نظامه الايقاعي.. ومثلما كان لتجربة شعراء المهجر (جبران خليل جبران, والياس أبو شبكة وغيرهم) تأثيرها المهم على المضامين الجديدة.. فأنني أرى أن قصيدة المنفى العربي استفادت من هذا التجارب العالمية وأشياء أخرى كثيرة.. وسيكون لها تأثير واضح على بنية الشعر العربي اليوم.. أنت تعيش في السويد بتراثك العربي, كيف كانت لحظة الالتقاء؟ - وجدتُ نفسي وشعري بين قطبين مختلفين لا يلتقيان, أنا القادم من بلد الحروب والدكتاتوريات والنفط والقمع إلى بلد الحرية والرفاهية والسلام والأمان, حيث تغدو الحرية لديهم أعلى قيمة في الوجود الانساني وأعلى من أي سلطة.. وحيث لم تعرف هذه الأرض حرباً منذ ما يقرب المئتي عامٍ.. كما وجدتني بين مناخين غاية في الافتراق.. من بلد تصل درجة حرارته إلى 50 أو 60 مئوية، إلى بلد تصل درجة انجماده إلى 36 أو 45 تحت الصفر.. وإلى آخر تناقضات هذين الواقعين المختلفين سلوكاً وثقافة وفكراً وديناً ومجتمعاً وعاداتٍ والخ.. والخ.. وقد انعكست هذه المتناقضات على نصي بالدرجة الأولى, فحملت صوري الشعرية الكثير من هذه المرايا المتعاكسة.. التي تريك الوجود الإنساني بصوره المختلفة, وثقافاته وأحلامه وانكساراته المتدرجة، صعوداً وهبوطاً، بين الحرية والقمع، بين الانسحاق والأمل, بين الاستشراف والخيبات والخ.. والخ.. هل المنفى بالنسبة لك هو استراحة المحارب أم أنه معركة أخرى.. وكيف تخوضها؟ - لم يكن المنفى محطة راحة أبداً, رغم قسوة المحطات والدروب الوعرة التي سلكتها طيلة ربع قرن من تاريخ الكتابة.. لكنها بالتأكيد كانت محطة مختلفة, بابتعادها إلى حدّ ما عن مصدر الخطر الرئيسي على حياتي وقلمي, لكن الهواجس والكوابيس ظلت تطاردني باستمرار, وتقظ عليّ مضجعي وهدوئي في هذه البقعة الحالمة المتكئة على كتف القطب.. وكان هذا بصورة أو بأخرى محفزاً دائماً لي.. يضاف إليه اصراري الأبدي على مواصلة مشروع الكتابة رغم كل الضروف.. وما الكتابة – على مدار تاريخها- إلا معركة مستمرة ضد قوى الظلام وأعداء الحياة والجمال والحرية.. كيف تعاملت مع فكرة المنفى في الواقع؟ وما مردودها على شعرك؟ - لم يكن المنفى وليد لحظة خروجي من الوطن, بل كان يعيش داخلي وأنا داخل الوطن بالمعنى الذي عناه أبو حيان التوحيدي وهو يصف الغريب في وطنه بأنه أغرب الغرباء.. وتلك لعمري محنة لم تواجهني لوحدي أو تواجه جيلي فحسب, بل امتدت على مختلف الأجيال الشعرية في العراق تحديداً وفي الوطن العربي والأوطان المقهورة في العالم بهذا الشكل أو ذاك,.. فأنت يمكنك أن تجد لوعة الغربة وعذابات النفى مبثوثة في الكثير من نصوصنا التي كتبناها في الداخل، فكان المنفى الداخلي رمزاً للاغتراب عن الواقع الكابوسي الذي عشناه طيلة تلك السنوات المرّة.. غير انه حمل في بلاد الغربة رمزاً ومعنىً آخرين أقرب إلى الصليب والصرخة منه إلى الحنين والتأوه والاستذكار.. لماذا – أصلاً - قررت الاغتراب والنفي منذ البداية؟ - في الأجواء الكابوسية والقمعية التي عشناها في بلادنا, كانت مساحة الحرية المتاحة للكتابة تضيق وتضيق يوماً بعد الآخر, حتى لم يعد ثمة مساحة لأي كلمة خارج قوس الرقيب.. ولهذا كان لا بد من الهجرة حفاظاً على عافية نصي وحياتي, بمعنى انه لم يعد أمام الكتابة من خيار غير الاختناق أو الصمت أو التلوث أو الانفجار.. وكل تلك الخيارات صعبة أو مميتة إلى حد أنه لم يكن بالامكان المحافظة على قلمك ورأسك في آن.. وكيف خرجت من العراق.. ما ظروف خروجك؟ بعد عرض مسرحيتي "الذي ظل في هذيانه يقظاً" وما جرّت من تأويلات وملابسات ووشايات.. وايقاف عرضها, أصبحت كأني أقف على كف عفريت.. وحين وصلتني دعوة مهرجان جرش التي رتبها بعض الأصدقاء، خرجت من العراق إلى عمان صيف 1993، ثم تسللت عائلتي بعد ذلك لتستقر معي في ضروف غاية في الصعوبة, وبعد أن أصدرت "تحت سماء غريبة" أخذت أجهزة السفارة العراقية تضيق الخناق على أنفاسي وحركاتي وعملي في الصحافة.. وظلت تلاحقني من مكان إلى مكان وأنا انتقل من عمان إلى صنعاء فالخرطوم فدمشق فبيروت، وبعد صدور "نشيد أوروك" هناك وجدت أن وجودي فيها أصبح مستحيلاً فقررت منظمة UN منحي حق اللجوء السياسي ورتبت سفري وعائلتي إلى أقصى الأرض, إلى السويد.. بعض المثقفين العرب الذين يعيشون في الغرب ينظرون إلى المقاومة العراقية الآن بأنها تخريبية.. كيف تراها أنت؟ - ليس هناك مثقف أو حزب أو شجرة أو موطن عاقل وشريف يقبل باحتلال وطنه.. مثلما ليس هناك عاقل وشريف يقبل بالدكتاتورية أيضاً.. لكن مقاومة الاحتلال لا تأتي عن طريق تفجير أنبوب غاز أو مجمع سكني أو تفخيخ مطعم أو قصف مرقد ديني أو مرقص.. يمكن للمقاومة الحقيقية أن تأخذ طرقاً آخرى غير هذا.. وتعتمد وسائل ناجعة تنظر بالدرجة الأولى إلى مصلحة الوطن والشعب قبل أي شيء.. |
حوار مع الشاعر المصرى محمد ابراهيم ابو سنة :D
|
![]() القاهرة - العرب اونلاين - سمير درويش: عندمااستقبلنى حسب الموعد الذى اتفقنا عليه، وجدت عنده طالبة دراسات عليا تعد رسالةماجستير عن شعره هى ليست الأولى. حاول أن يؤجل الحديث قليلاً لما بعد طقوس الضيافة،ولكننى فضلت ألا أنتظر، كنت أحاول أن أكسر دفاعاته، لذلك قلت له إننى لم آتيهبأسئلة مسبقة، فاندهش، لكنه وجدها فرصة ليقول كل ما يريده وليقودنى إلى حيث يشاء،وذلك هو ما أردته بالضبط! هذا هو الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة الذى أردتمواجهته لا حواره، فهو الذى قال: "الزمان اختلف"، فهل يؤمن بأن الزمان يختلف دائما؟من موقعك فى البرنامج الثقافى بالإذاعة المصرية، ومن خلال برنامجك ألوان منالشعر، استطعت أن تتابع الحركة الشعرية فى مصر بدقة. كيف ترى الواقع الشعرى الراهن؟الواقع الشعرى الراهن يتخذ صورة كرنفالية صارخة الألوان، ولكنها للأسف لا تنتمىللدلالة التى يعطيها الكرنفال، فهى صورة مأساوية إلى حد كبير، فبينما يتعاطفالروائيون والقصاصون بعضهم مع بعض كما نرى على صفحات الصحف الأدبية ، فإن الأجيالالشعرية تتناحر حول المساحات الضئيلة التى تركها الهامش الثقافى للشعر ، من الواضحأن ثمة موجة جديدة تتسلح بالقطيعة مع الواقع وتدعى التعالى عليه، وهذه الموجة فىالواقع لا يقتصر وجودها على الشعر النثري، بل هى ظاهرة واضحة فى كل الأقطارالعربية، وربما كان الشام مركزها وبؤرة إدارتها، وكذلك المغرب يعد جناحها الغربي،بينما تتناثر بقايا الموجة فى الجزيرة العربية والعراق وأطراف الأمة العربية، ويمكنأن نلاحظ أن بيروت والمغرب يستقبلان بصورة مباشرة انعكاسات التجارب الشعريةالفرنسية بشكل خاص، والأوروبية بشكل عام، ويعيدان تصديرها إلى العالم العربى ، هذابالإضافة إلى وجود صفحات ثقافية قوية فى الصحافة العربية التى تصدر فى العواصمالأوروبية، وهذه الصحف تتبنى شكلاً ربما يمكن أن نصفه بالتطرف فى الحداثة الشعرية،ويمكننا أن نتبين على ضوء المصادر والمراجع المتاحة أن ثمة منظمة لها فروعها ولهامركزها ولها سدنتها وكهنتها، هذه المنظمة تدير حركة الحداثة المعاصرة التى تتمثلتجلياتها فى أحدث الأصوات الشعرية التى تطالعنا الآن فى مصر والشام والعراق والمغرببما يسمى قصيدة النثر. ولا أظن أن المجال يتسع للخوض فى مرجعيات هذه الحداثةووثائقها، فهناك كتاب "سوزان برنار" وهناك نصوص "أدونيس" وكتابات "كمال أبو ديب" و"جابر عصفور" و"صلاح فضل" و"محمد بنيس"، هذه الموجة التى تشكل الآن الهامش الذىيحتل السياق الشعري، وشعراء هذا النموذج بعضهم يمتلك بكل تأكيد موهبة الخيال الخلاقوالدفقة الشعورية التى يمكن أن تصنع القصيدة، ولكن لا يوجد مبرر منطقى للغيابالمطلق للموسيقى فى هذه النماذج التى تتفجر بلون جديد من التعبير، ولكنها فى نفسالوقت لا تقنع الذوق العام بأنها تنتمى إلى الشعر، لأن الشعر فطرة موسيقية فى كلأبجديات العالم، ولست فى حاجة إلى تكرار الحجج التى سوف تضعنى فى صف الرجعيين الذينثرنا عليهم فى الستينيات، خاصة وأننى أنا نفسى كتبت قصيدة من قصائد النثر ، فالحركةالشعرية بإيجاز شديد تتمثل في: تراجع واضح لصوت الجيل الأول الذى ينتهى بالموت، فلميعد باقياً من الجيل الأول على قيد الحياة سوى عدد محدود من الشعراء الرواد، أماجيل الستينيات فيبدو أنه يضع اللمسات الأخيرة فوق تجربته التى نضجت، ولا أقول حتىاحترقت، بينما ينشط جيل السبعينيات، وربما أقول إن ما يمثل جسد الحركة الشعرية الآنهو عطاء جيل السبعينيات الذى يتدفق فى عدد من الدواوين المتميزة والتى أعتبرهاإضافة لحركة الشعر الحديث، إن هذا الجيل فى حاجة إلى الاهتمام لإعادة التوازن إلىالحركة الشعرية فى مواجهة هذا الاندياح النثرى ، إذن فنحن أمام ظاهرة تتمثل فىأربعة أشكال أو ألوان: ضمور إبداع الريادة، اكتمال شعر الستينيات، تدفق شعراءالسبعينيات، وصراخ التسعينيات بهدف الإعلان عن وجودهم? ثم هناك حيرة القارئ وحيرةالنقد وتعالى المنظمة الغامضة المريبة التى تقف وراء إدارة حركة الحداثة الشعرية. دواووين جديدة أنت الذى أطلقت أهم مقولة فى العقدين الأخيرين: الزمان اختلف، إلى أى مدى ـ إذن ـ ترى أن الزمان قد اختلف فعلا؟ إننى أبنىرؤيتى لعطاء شعراء السبعينيات الآن على أساس ما يصدر لهم من دواوين جديدة، وأرجومراجعة إصدارات حسن طلب وحلمى سالم وفريد أبو سعدة ووليد منير ومحمد سليمان وعبدالمنعم رمضان وجمال القصاص، واللبس قد حدث لأن النقاد الآن فى موقف لا يحسدون عليه،فهم إما أن يغامروا بالقطيعة مع الرأى العام كلياً ليدافعوا عن هذا الهلام النثرىالذى ينطلق بعيداً عن سياق القصيدة كما عرفها الشعر العربي، وإما أن يجازفوابالخروج من المرحلة، وكثير منهم يفضلون البقاء فى دائرة الاهتمام حتى ولو دافعوا عنالأوهام. إن الزمان قد اختلف، وهذا واضح فى كل شيء، فى شكل الشعر الذى يكتبهالشعراء الجدد، وفى خطابهم النقدى الذى يكاد يكون بلا محتوى اجتماعى أو فكرى أوسياسى وإنما له دلالاته الاجتماعية والسيكولوجية، كما أن شكل الخطاب النقدى أيضاًقد ابتعد عن الأيديولوجية، ولكنه أخفق فى تأسيس معيار يمكن أن يكون أساساً للحواربين أطراف العملية الشعرية ، الزمان اختلف أيضاً، فالبعض يقول نحن فى عصر الرواية،بينما أرى أننا فى عصر الصورة. إن عدد القراء ينحسر وتوزيع الكتب يتراجعوالاهتمام بالأدب يدخل الظلال المعتمة والثقافة بأكملها تتوارى فى الهامش الخلفىلهذا العصر الذى يضج بالمدهشات والمثيرات، إننى أدعو هؤلاء الذين يقتلهم الخيلاءوالزهو بأنفسهم أن يتأملوا قليلاً عدد قرائهم بعيداً عن أصدقائهم الذين ينافقونهم،وسيكتشفون أننا نعيش كارثة قرائية بالفعل، ولهذا فأنا أدعو إلى مراجعة الخطابالنقدي، وإلى مراجعة النموذج الشعري، وإلى التضامن بين المبدعين لمواجهة موقفهمالراهن خاصة وأننا أمام تدفق إبداعى وتراجع قرائى وجزر منفصلة لا تتداخل ولا تتحاورولا تتفاعل بين من يعتبرون أنفسهم ممثلين للعصر، وبين من يعتبرون أنفسهم واجهة. إننا يا سيدى نواجه كرنفالاً حزيناً، وسيركاً ثقافياً يخلو من البهجة!! |
تنوع ابداعي
الشعر العربى ـ خلافاً لما ذكرت ـ لم يكن له شكل ثابتحديدي، بل إن محاولات الخروج عن العمود قديمة ودائمة. وقلتَ أيضاً أنك كتبت قصيدةنثر: ألا ترى أن هناك تناقضاً فى أقوالك؟ أولاً: دعنى أؤكد أننى من أنصارالتنوع الإبداعي، ولكننى ضد الإرهاب الشعرى القائم حالياً، فهناك محاولات لنفىالأصوات الشعرية المغايرة، وتعميم نموذج قصيدة النثر بإطلاق الرصاص على قصيدةالتفعيلة، فضلاً عن القصيدة العمودية التى يتصور البعض أن أحداً لم يعد يقرأها،بينما هذا ليس صحيحاً، إننى أؤمن بأن النهضة الحقيقية تحمل فى ثناياها التنوع، وأنالزخم الإبداعى الشعرى يدفع إلى ابتكار أساليب جديدة ومتنوعة، بينما تدعو الحاجةأيضاً إلى الحفاظ على التراث الشعرى الذى يمتد إلى ألف وخمسمائة عام باعتبارهمحيطاً حيوياً لتنفس التجربة الشعرية ، إننا دائماً فى ثقافتنا العربية ندعو إلىوحدة الصوت، وإلى اختزال المجموع فى واحد، هذه روح القبيلة التى تؤمن بهيمنة البطلالفرد. إننى لا أريد أن أنفى قصيدة النثر، بل أرى فى بعض نماذجها نوعاً منالخيال الخلاق، ولا أدعو إلى نفى شعراء قصيدة النثر، بل أدعو بالعكس إلى منحهمالفرصة كاملة للتفتح والنمو والازدهار والنضج، لأننا سنرى قطافاً شعرياً مختلفاًبعد سنوات من الآن كما حدث بالضبط مع شعراء السبعينيات ، إن ما يزعجنى هو الإرهابالشعرى ونفى الآخرين وإخلاء الساحة لبعض المهرة من الحواة الذين يخرجون لنا القططالبيضاء من القبعات السوداء، أو القطط السوداء من القبعات البيضاء ، إن النقدالأدبى يتعالى على الواقع لأنه يريد أن يؤسس مجده الخاص بوحى من النرجسية النقدية،ولابد أن نسلم إذا كنا نؤمن بمقولة "الزمان اختلف" ـ أننا فى حاجة إلى خطاب جديد فىالشعر والقصة والرواية.. إلخ، ولكن أيضاً علينا أن نعلم أننا نتواصل بلغة بشرية هىأداة الكاتب، وإذا لم تكن هذه اللغة قادرة على القيام برسالتها وباعتبارها أداةاتصال فإننا نكون قد فشلنا فى المهمة الأدبية بأكملها أما أننى كتبت قصيدة النثرفلأننى حاولت دائماً أن أطور تجربتى والخروج بها من أفق الغنائية مرة إلى الدرامامرة ثانية، والكتابة بهذا الشكل تعنى طموحاً لملامسة آفاق جديدة فى التجربةالشعرية، ولكننى لم أعد منذ السبعينيات لكتابة قصيدة النثر مرة أخرى. ويثير دهشتىأن بعضاً من شعراء السبعينيات الذين استطاعوا الوصول إلى أصواتهم الخاصة وتأسيسبنية إيقاعية مختلفةقد خضعوا للإرهاب الشعرى وانفرطت تجربتهم فى كتابات نثريةهلامية، ومنذ أعوام قليلة قرأت ديواناً لشاعر سورى هو "نزيه أبو عفش" بعنوان "مايشبه كلاماً أخيراً" ووجدت هذا الشاعر يقدم نموذجاً متفجراً لما أسميه الخيالالخلاق والإيقاع التفعيلى وحداثة الرؤية، وتساءلت: ألا يعد هذا النموذج حلاً للمشكلالشعرى الآن؟إننى على ثقة بأن مقولة: "الزمان اختلف"، تعمل فى كل وقت، ولهذافإننى أقول للنقاد وللقراء وللشعراء: سوف ينتهى الكرنفال وستأتى القصيدة مشبعةبخبرة الأجيال كلها، قصيدة لا تنفى غيرها، بل تستوعب هذا الغير وتحمله فى أحشائها،وتقدمه لاختبار الزمن. |
منابر متعددة
قلتَ إن الأجيال الشعرية الجديدة تمارس إرهاباً شعرياً يحاولون به فرض نموذج ضعيف. وأنا أسألك: أى سلاح يمتلكونه ليفرضوا به رؤيتهم؟ ثم ألا تعتقد أنك شخصياً تمارس نوعاً من هذا الإرهاب حين تعارض بقسوة حصول إحدى قصائد هؤلاء الشعراء على جائزة من لجنة الشعر من المجلس الأعلى للثقافة وأنت أحد أعضائها؟ وألا ترى أن عدم إذاعتك لبعض هذه النماذج التى أصبحت طاغية نوع من الإرهاب والنفى أيضاً؟ الشعراء الجدد يمتلكون منابر متعددة على صفحات صحف المعارضة، وينعمون برعاية بعض المؤسسات الثقافية، وهم يمتلكون أسلحة الحوارات التى يجرونها على صفحات المجلات والصحف، وأسلحة الكلمة غير المسئولة، وحولهم أصدقاؤهم الذين يباركون أوهامهم ، أما أننى أمارس هذا الإرهاب بمعارضتى لحصول شعراء قصيدة النثر على جائزة الدولة التشجيعية فهذا مرتبط بقناعتى أن الإيقاع هو عصب الشعر فى كل لغات العالم وليس فى اللغة العربية وحدها، وأننا لو تخلينا عن هذا العنصر الفارق فستحل الفوضى، ولا معنى لأن تكون هناك أصلاً لجنة للشعر فى المجلس الأعلى للثقافة، وكثير مما قرأته من نماذج قصيدة النثر يلتقى مع ما قرأته لبعض القاصات والقاصين الذين يكتبون خواطر درامية حول تجارب ذاتية. إذن فأنا أتصور أننى أدافع عن المفاهيم التى أؤمن بها ولا أمارس أى لون من الإرهاب ، وفيما يتعلق بإذاعة هذا اللون فى برنامج "ألوان من الشعر" فإن ما يحكمنى ليس ذوقى فقط ولكن لوائح العمل، فهناك لائحة تقرر أن الشعر لابد أن يكون موزوناً، وكلمة موزون تعني: لابد أن تكون التفعيلة العروضية أساساً للنسيج اللغوى لبناء القصيدة. إننى لا أدافع عن نفسى إذا قلت إننى متفتح دائماً للأشياء الجميلة فى النثر والشعر ولا يمكن أن أقف ضد جيل جديد، ولكن من حقى أن أكون مخلصاً للمفاهيم التى آمنت بها وللخبرة التى اكتسبتها وللمبدأ الذى يلزمنى بقدر من الضوابط فى عملي، ولا يمكن أن يصح أن أمارس الإرهاب وأنا أدعو إلى مقاومته، بل إننى أؤمن بحرية المبدع شاعراً كان أو قصاصاً، ولا أقبل وصاية أحد على الإبداع. كل ما أطالب به أن نمتنع عن نفى الآخرين ومصادرتهم ومحاولة فرض أنفسنا بوسائل بعيدة عن النصوص الشعرية ذاتها. الوجدان العام فى حديثك ـ أيضا ـ ذكرت أن الشعر الحديث بلا جمهور حقيقي، قل لى ـ إذن ـ ماذا فعل الشعر الذى كان له جمهوره فى الواقع الثقافى العربى عامة؟ بمعنى أدق: ما الذى أوصلنا إلى هذا التردى الثقافى ـ إذا كان ثمة تردٍّ ـ الحالي؟ غير أننى أرى أن الشعر لم يكن له جمهور أصلاً، فى العصر الحديث على الأقل? لقد استطاع الشعر خلال الستينيات أن يصل إلى الوجدان العام وأن يثير فى هذا الوجدان الإحساس بالجمال والإيمان بالعدالة الاجتماعية والتطلع إلى المستقبل وتقديس الحرية، ولا تستطيع أن تنكر أن الشعر كان مقروءاً خلال الخمسينيات والستينيات على نطاق واسع، وأن حركة الانحسار بدأت مع محاولات القطيعة مع كل المصادر الشعرية السابقة التى بدأها شعراء السبعينيات. إن الغموض الذى كان سمة النموذج الشعرى فى مطلع الستينيات، والتباس الحركة النقدية مع الاندفاع ـ أو الهرولة ـ مع ما يسمى بـ"البنيوية" فى النقد وهدم الجسور مع شعراء الريادة والستينيات هو الذى أدى إلى التردى الشعرى وليس الثقافي، بمعنى هبوط حركة القراءة للشعر كما تشير بعض الإحصاءات ، أما ماذا فعل الشعر، فإن الشعر ليس مسئولاً وحده عن كل ما حل بالأمة العربية من كوارث، فهل كان الشعر مسئولاً عن نكسة 5 يونيو 1967؟ بل على العكس، كان الشعر يوحى بكارثة قادمة ويلمّح إلى أن الطغيان دائماً يمهد للهزائم. هل كان الشعر وراء حروب الخليج؟ إن الشعر كان ضحية فى كل الأحوال، والشعر الحقيقى يجد دائماً طريقه إلى قلب الأمة، ومازالت هناك قصائد، ومازال هناك شعراء يستطيعون أن يلمسوا الأوتار والأعصاب الداخلية للوجدان العربي. إننى لا أنحرف بالحوار إلى خطاب سياسى إذا قلت إن القصيدة التى لا يقرؤها أحد قصيدة لم تكتب ، مرة أخرى أحب أن أؤكد أننى لست ضد الأجيال الجديدة، بل أدعو إلى انتظارها على بعد عشر سنوات من الآن، فقط أدعو إلى وقف الحروب الشعرية وإلى أن يتخلص النقد من زهوه بنفسه، وأن تنفتح المنظومة الغامضة للحداثة على الواقع الشعرى بصورة موضوعية، لأننا فعلاً أمام محاولات أكاد أتهمها بالتخريب تسعى إلى اختزال الواقع الشعرى فى صوت أو صوتين وإعداد مقبرة هائلة للشعراء العرب جميعاً باستثناء أعضاء نادى الحداثة التى تحتاج إلى كثير من الحوار والجدل والتقصى للوقوف على الحقائق الشعرية من أجل هذا الفن العزيز على كل شاعر وقارئ ومحب للأدب. ذكرت أن هناك بعض النماذج الشعرية الحديثة التى تتفجر بالخيال الخلاق، هل تذكر لنا بعضاً منها؟ فاطمة قنديل وشريف رزق وعماد أبو صالح وعلى منصور وبعض نماذج حلمى سالم وبعض نماذج صلاح اللقانى وعبد المنعم رمضان وأسماء أخرى واعدة ، ودعنى أطلق نبوءة فى النهاية: إن الشعر سيعود ليعبّر من جديد عن جوهره الحقيقى من خلال الإيقاع والخيال الخلاق والبنية الدرامية والرؤية الجديدة مع انعكاف الثقافة العربية نحو النهضة ورؤية الواقع بطريقة يفرضها هذا التفجر العلمى والإعلامى الذى سيؤثر بكل تأكيد على الثقافة العربية ، ودعنى أطلق نبوءة أخرى: إن مصير الشعر مرتبط بمصير هذه الأمة التى يصعب أن أصدق أنها سوف تستمر فى هذا التمزق والغياب القومى والانكفاء الإقليمي. إن الشعر ـ هذا اللهب المقدس ـ يرفع ألوية كثيرة، ولكنه فى جوهره نشيد عميق للروح الإنسانية فى فرحها الغامر وحزنها العميق. |
![]() حوار مع الكاتبة الكندية أليس مونرو -أبطال قصصي يعيشون خارج النص- بمناسبة صدور كتابها «هروب» أجرى محرر ريدنغ غروب سنتر مع الكاتبة الكندية أليس مونرو حواراً حول تجربتها في كتابة القصة القصيرة (الطويلة) وتقنياتها الإبداعية ومحاولاتها التجديدية إضافة إلى الأسئلة التي تحوم حول أهمية ما تقدمه بالنسبة للقصة المعاصرة عموماً. ـ ما الذي يثير اهتمامك في القصة القصيرة ولا تجدينه بالمقابل في الرواية؟ ـ يبدو أنني أكتب قصصاً تخرق ما جرت عليه تقاليد كتابة القصة القصيرة كما لا تلتزم بما تنص عليه قوانين التطور بالنسبة للرواية. الواقع أنني لا أفكر في شكل معين، وإنما أفكر في الإبداع القصصي، ولنقل القليل من الإبداع. ما الذي أنوي القيام به؟ هل أسعى إلى سرد قصة، حسب المفهوم التقليدي السائد، هل أريد التحدث عما يجري لأحدهم، ولكنني أرغب في أن يسرد «ذلك الذي يحدث له» بنوع من التدخل، و الاختلاف، والغرابة. أرغب في أن يشعر القارئ بأن هنالك ما هو مثير للدهشة، غير أن ذلك لا يعني « ما يحدث» وإنما الطريقة التي يحدث بها أي شيء. إن هذه القصص القصيرة الطويلة هي التي تحقق لي ذلك، على نحو أفضل. ـ من أين تأتيك فكرة القصة أو فكرة الكتابة عن شخصية معينة؟ ـ على الرغم من أن فكرة القصة تبدأ أحياناً من الذاكرة، حكاية معينة في الذاكرة، إلا أن ذلك غالباً ما يتلاشى ويتحول إلى شيء لا يمكن إدراكه في النهاية. لنفترض أنك تختزل في ذاكرتك حكاية عن،امرأة شابة تهبط من أحد القطارات مرتدية فستان زفاف في منتهى الأناقة وأن عائلتها مكرهة على النزول بها إلى موقف مذل مثلما حدث لي ذات مرة، ثم تصبح هذه الحكاية بشكل أو بآخر حكاية زوجة تتعافى من انهيار عقلي، يستقبلها زوجها وأمه وممرضة الأم التي لا علم للزوج بعد أنه يحبها. كيف حدث ذلك؟ لا أدري؟ ـ ما هي طقوسك الكتابية، هل تستخدمين الكمبيوتر؟ هل تكتبين يوميا ؟ صباحاً أم مساءً؟ كم من الوقت تحتاجين لكي تكملي القصة؟ ـ رغم أنني استخدم الكمبيوتر منذ عام واحد فقط، الحقيقة أنني متعاملة بطيئة مع التكنولوجيا الحديثة، حتى أنه لا يوجد لدي ميكروويف في المنزل، إلا أنني أقوم بكتابة نسخة أو نسختين من أي عمل باليد قبل طباعته بالكمبيوتر. وعلى الرغم من أن كتابة القصة قد تستغرق شهرين، إلا أن هذا نادر الحدوث بالنسبة لي. إن كتابة القصة تستغرق ما بين ستة وثمانية أشهر، تحدث خلالها الكثير من التغييرات، و القلق واليأس. إنني اكتب يومياً إلا إذا كان هنالك ما تستحيل معه الكتابة كما أنني اكتب فور استيقاظي واحتسائي القهوة قبل انشغالي بأمور الحياة اليومية. ـ ما هي النصيحة التي تقدمينها للكتاب الشباب؟ ـ ليس من السهل أن تقدم النصيحة لكاتب شاب حيث كل واحد من هؤلاء يختلف عن غيره. أن تقول له «اقرأ» بإمكانه أن يقرأ كثيراً حتى يشل تفكيره. أو «لا تقرأ، لا تفكر، ما عليك إلا أن تكتب»، وتكون النتيجة المزيد من الهراء. لو أردت أن تكون كاتباً فإن من المحتمل أن تتعثر لكي تصل إلى غايتك في النهاية، وتستمر محاولاتك لتطوير نفسك لأنك تريد ذلك، حتى عندما تكبر وتقول لنفسك «لا بد من أن يتكون هنالك أشياء أخرى يسعى الناس إلى تحقيقها» لن تتوقف أبداً. ـ من هم الكتاب الذين تأثرت بهم ومن هم كتابك المفضلون؟ ـ في سن مبكرة كنت أقرأ لإيدورا ولتي، كاثرين آن بورتر، فلاني أوكونور. بعد ذلك قرأت لجون أبدايك، جويس كارول أوتيس، ثم استمرت قراءتي لوليم ماكسويل. قرأت كذلك أيدنا أوبراين، و ريتشارد فورد. أما اكتشافي الأخير فهو كاتب ألماني يدعى نوتبوم. الواقع أنني لا أميل إلى سرد قائمة من الأسماء خشية أن أكون قد نسيت واحداً من هؤلاء الكتاب الرائعين. ولهذا تجدني آتي على ذكر هؤلاء الذين تأثرت بهم وليس أولئك الذين أمتعتني قراءتهم. ـ لقد أطلقت عليك سنثيا أوزيك لقب «تشيخوفنا» كيف تشعرين تجاه هذه المقارنة؟ ـ لقد أعدت قراءة معظم ما كتبه تشيخوف مؤخراً وكانت تجربة متواضعة. غير أنني لا أقول حتى أنني تأثرت بتشيخوف لأنه أثر فينا كلنا. تماماً كما هو شكسبير الذي تصل كتابته إلى حد الكمال، حيث لا تكلف ولا ذاتية.حقيقة، وبكل تأكيد، ألا يسعدني أن افعل هذا الشيء! ـ لقد أشاد بك الكثير من النقاد نظراً لقدرتك على جعل الحياة تسري في كل ما تكتبينه. كيف تعملين على تحقيق مثل هذا الإنجاز الفذ؟ ـ الواقع أنني أعرف شخوصي معرفة عميقة باستمرار.. ما الذي يفضلون ارتداءه ما هي الصورة التي كانوا عليها في مرحلة الدراسة،الخ... كما أعرف ما حدث لهم من قبل وما سيحدث لهم لاحقاً، إنني لا أراهم محصورين فقط في تلك اللحظة التي أكتب فيها عنهم. بقلم: مريم جمعه فرج |
حوار مع الشاعر مريد البرغوثي
الشـاعـر مـريـد البـرغـوثـي يـقـول:
* كل قصيدة جديدة يكتبها الشاعر هي اقتراح بتعريف الشعر. * شعر المقاومة تسمية أطلقها أولئك النقاد الطيبون الذين أصفهم بـ " نقاد التضامن". * التمرد على أشكال التعبير السائدة المقولبة ليس خياراً للشاعر بل هو الطريق الأوحد لجعل ما نكتبه مؤثراً. * من مزالق الكتابة الشعرية اضطرارها للتعامل مع الحدث. * على الشاعر أن يجد حلولاً فنية تقنية (أي جمالية) تبرر اتخاذ القصيدة هذا الشكل أو ذاك. * أشتغل منذ فترة طويلة على ما أسميه "تبريد اللغة ". * الغضب عتبة من عتبات الفعل، بينما الحنين هو عتبة من عتبات العجز الرومانسي، ويا ليت الحياة تركت لنا الرومانسية. * المرأة ليست "موضوعاً" خارجياً للتعاطف أو الاحتقار، التكريم أو الإهانة. * البشرية الآن أحوج ما تكون إلى مثقفيها الأحرار وإلى تماسكهم في جبهة واحدة تقف في وجه ثقافة البنتاجون. الشاعر مريد البرغوثي لا يقفز عالياً فوق واقعنا المأساوي وظرفنا التاريخي الحاذق، ولا ينزه أحزاننا كمعظم الشعراء هواة البكائيات، إنما يسكن عمق لحظات واقعنا الحاسمة،ويدقق فيها بعين المتأمل الحكيم الثاقبة القادرة علي الرؤية وتخليق الرؤيا ويعود إلينا بملحمة شعرية تأسطر الواقع، أو بهمس حميم ، أو بنشيد غاضب يجعلنا نغضب علي أنفسنا أولاً قبل الآخر،أو بنصوص تصورها كاميرا ناطقة تتجاوز لغة الكاميرا المعروفة في نقل الواقع السالب كما هو عليه،لكنه يغوص في التفاصيل الإنسانية في كافة لحيطانها ،في ضعفها،قوتها ، لزوجة حيادها. الشاعر مريد البرغوثي أحد قلائل الشعراء الذين تقرأ لهم فتتجدد لديك الاستعدادات للحياة، ونصه الشعري يجعلك تحنو دائما علي ذاتك من عبء الماضي والحاضر والآتي ،وتنفض عنها غبار الأوجاع ، وتشعل كل شموعها المنطفئة وينمو الأمل فيها من جديد ويضخ العافية النفسية والجسدية في العروق والروح، نصه يعلمنا بدايات الرفيف ثم الطيران ثم التحليق بعيداً عن فخاخ الذين يريدون لنا أن ندمن الاجترار ونري في الغد فقط العتمات ، عندما يعود بنا من رحلات التحليق المجيدة يحط رحاله ورحالنا علي أشجار الإنسان فينا. |
1- تحقق المعادلة الصعبة للكتابة الشعرية وحدة المضمون، الجمالية، المتعة، إثارة أسئلة الوجود الكبرى، وأسئلة الإنسان في بحثه اللاهث عن إنسانيته قبل وطنه، كيف استطعت أن تنجو من فخ الشعر الفلسطيني المقاوم بصورته الكلاسيكية؟؟
***** شعر المقاومة تسمية أطلقها أولئك النقاد الطيبون الذين أصفهم بـ "نقاد التضامن" وذلك تعبيراً منهم عن تأييدهم للنضال الفلسطيني عموماً. تلك القراءة التضامنية خلطت كل ما يكتبه الشعراء الفلسطينيون في حقبة معينة ووضعته في خانة واحدة. شغل أولئك النقاد أنفسهم بتتبع "مواقف الشاعر" من القضية والمضمون الفكري المستخلص من القصائد. هذا، كما تعلم، أقرب إلى النقد السياسي الاجتماعي منه إلى النقد الأدبي. وإلا لما تم هذا الخلط الفاضح بين ما هو شعر من جهة وما هو خطبة تعبوية تحريضية يكتبها قسم التوجيه المعنوي أو الإرشاد القومي وما شابه ذلك. نحن الآن استرحنا ولله الحمد من هذا النقد (ومن غيره أيضاً!). معظم النقاد العرب للأسف لا يستطيعون قراءة قصيدة من الشعر. نحن الآن سعداء أكثر بأن النقد كله قد اختفى(!) وبرأيي هذا هو أفضل ما يمكن أن يحدث للشعر. أتمنى صمتاً طويلاً جداً لنقادنا. ما أهتدي به أنا هو أن بوسع الشاعر أن يكتب في كل جانب من جوانب الحياة في هذا الكون مهما صغر أو كبر، ليكتب الشاعر ما يريد، من زر القميص إلى ثقب الرصاصة تحت هذا الزر. المهم عندي أن يكون كل ما يكتب "متأصلاً في الوجدان الشخصي للشاعر". عندما نكتب "الخارج" علينا أن نجعله جزءاً من "داخلنا" وبأقصى درجة من الحميمية. إذا ظل الخارج خارجاً سقطنا في المقالة والخطبة، وخسرنا الشعر. *** 2- "الشهوات" النص الشعري معبود المثقفين السودانيين، إنشاد رهيف، صادق، معبر، موحي،بوح إنساني شفيف يحتشد بمختصرات تلخيصية تشريحية لهواجس الإنسان المعاصر في كل حالاته الوجودية، يبعث عنقاء الأمل، يخرجك من حيرة لولبية ليدخلك في دوامات شك أعمق ضد كل ما هو ثابت. ماذا يشكل لديك النص الشعري الذي تجده حقق استجابة أكثر من غيره ؟؟ ***** أشكر لك كلماتك المؤثرة بشأن "الشهوات" لكنى لا أستطيع الحديث "عنها" فهذا ليس دوري. سَرَّني أنها وصلتْ إلى القرّاء. كل ما يمكنني قوله إنني حاولت أن أكتب عبء الذات والجسد دون أن يغيب عن القصيدة عبء التاريخ. *** 3- في مجموعتك الشعرية الأخيرة "زهر الرمان"عدت بالأسطورة ي إلي إلى أرض الواقع عكس ما هو سائد في المنجز الشعري العربي؟؟ ***** رواد الحداثة الشعرية عندنا ذهبوا لاستخدام للأسطورة استخداماً ثقافياً "ذهنياً" لتذكيرنا بالواقع الأرضي الذي نعيشه، ما أحاوله هو العكس من ذلك: إنني أرى أن واقعنا الأرضي ذاته بما فيه من كوارث وبطولات، من تراجيديا ومسخرة، يكاد يكون أسطورياً كما هو. لو تأملت هذا الصبر واليأس والمكابرة والخطايا والفظائع والصمود والرجاء والخذلان في حياتنا العربية لأدركت أنه يفوق طاقة البشر المحدودة في الظروف العادية، وأنه يكاد يرتفع إلى ذرى الخيال والأسطورة. الأساطير الآن تمشي في الشوارع، الأساطير الآن اسمها يشبه أسماء أهالينا أنت وأنا. *** 4- في " زهر الرمان" حواريّة الند للند مع الموت؟؟ ***** في ديوان "زهر الرمان" ثلاث قصائد تشكل إذا قرأتها بالتتالي ثلاثية شعرية تحاول كتابة الموت. هذه القصائد هي "ليلة لا تشبه الليل" و "إلى أين تذهب في مثل ليلٍ كهذا؟" و "صلاة إلى زيوس". أما عن الندية ففي ظني أن كل امرئٍ ند لموته. فهناك ميتة الذليل وهناك ميتة الشهيد إلخ. لكن الإنسان هو الطرف الأضعف في هذه المقابلة بين الحياة وختامها المحتوم. في هذه الثلاثية صوَر تحاول أن ترسم الرغبة في زيادة جرعة الحياة وإرجاء الموت ولو قليلاً . أما وقد قلنا هذا، تظل هناك الحقيقة المتفق عليها وهي أن الشعر أرحب من تلخيصه في مواضيع القصائد. ولا أدري إن كنت في قصائدي هذه قد كتبت الموت أم كتبت الحياة. ,أزعم أن التناول الحسي الملموس والمفردات المادية الأرضية البعيدة عن آفة "الشاعرية" تجعل من موضوع الموت هنا عتبة للدخول إلى بهاء الحياة من ناحية، وفداحة خسرانها، من ناحية أخرى. *** |
5- تعود بنا بعض الجمل الشعرية في "زهر الرمان" إلي المناخات النفسية في مجموعتك الشعرية السابقة لها"الناس في ليلهم"؟ مثلاً:
يومنا شرفة رخوة غدنا معلق كإكليل الثوم علي مسمار مائل. وفي المجموعة السابقة"الناس في ليلهم" الأمل ذروة اليأس فيا صاحبي توجع قليلاً توجع كثيراً فإن الأمل ذاته موجع حين لا يتبقى سواه. إذا صدق هذا التحليل، هل يعني لقليل من النصوص امتدادات مستقبلية في نصوص أخرى؟؟ ***** نعم، هذا يحدث أحياناً خصوصاً عندما لا تتغير الضغوطات من حولنا ويظل الحال على ما هو عليه لجيلين أو ثلاثة أو عندما يتحرك التاريخ ببطء مذهل كما هو حاصل في بلاد العرب. وبما أن العالم الوجداني للشاعر لا يتجزأ فإنّ نصاً تنتهي منه قد يسلمك إلى اقتراح بنص آخر على الفور، وذلك نتيجة إلحاح شحنة شعورية شديدة الكثافة، واستحالة تصويرها دفعة واحدة، أو في صنيع شعري واحد. *** 6- قد عبرت حقل ألغام تجنبته طويلاً الكتابة للشهداء بالاسم المحدد أشير لنص"ليلة لا تشبه الليل" في" زهر الرمان"؟ ***** نعم هي محاولة لكتابة الشهيد ولكن بعيداً عن القالب الجاهز المتكرر الذي يهدم أي كتابة. *** 7- أنت متمرد على ما هو سائد، تعادل باستمرار بين المعرفي والجمالي في سياق مضموني ***** التمرد على أشكال التعبير السائدة المقولبة ليس خياراً للشاعر بل هو الطريق الأوحد لجعل ما نكتبه مؤثراً. أسوأ أنواع الكتابة هي تلك التي تريد أن تحدد لك كيف تشعر أو تقرر لك أسلوب تفكيرك بما تشاهده أو تسمعه. الكتابة الحقة، كما أراها، هي التي تترك للقارئ حرية التصرف بشعوره وحرية الوصول إلى خلاصات يهتدي إليها بنفسه ولهذا ألجأ إلى الكتابة بالكاميرا كما تلاحظ في كثير من دواويني. وعندما أغادر هذه الدنيا سأكون قد تركت فيها صوراً قابلة للتأمل. *** 8- تداعيات الحدث السياسي الآني وأثره علي نصك الشعري،أشير هنا إلي نص George W. Bush المنشور في صحيفة أخبار الأدب المصرية؟؟ ***** من مزالق الكتابة الشعرية اضطرارها للتعامل مع الحدث. وهذا ليس أمراً محرماً لكنه بالغ الصعوبة. ولا ينبغي أن تكون هذه الصعوبة سبباً كافياً للترفع عن كتابة الحدث. على الشاعر أن يجد حلولاً فنية تقنية (أي جمالية) تبرر اتخاذ القصيدة هذا الشكل أو ذاك. بالنسبة لي أشتغل منذ فترة طويلة على ما أسميه "تبريد اللغة" أي السعي للدقة عبر اختيار المفردات المحايدة واتخاذ النبرة الخافتة، نبرة الإشارة والإيحاء، والاعتماد على الحاسة البصرية لخلق صورة كتابية يمكن تحويلها إلى بديل مرئي. الصورة بحد ذاتها تغريك باتخاذ موقف منها دون إملاء من الشاعر. ودعوتي لتبريد اللغة ترجع إلى حقيقة أن الطغاة والحكام هم الذين يدمنون لغة الزخرف، اللغة البطولية الرنانة الحارة ليكذبوا بها على الناس وعلى التاريخ وعلى أنفسهم، وإذا شئت مفهوما للكتابة المقاوِمة فهي أن لا نكتب بلغة الطغيان، الطاغي يخاف من الدقة ويخاف من الاختصار والمحدد والملموس. "عقرب قرب الوسادة" صورة تبعث على القشعريرة لا لأنني "أهجو" جورج بوش ولكن لأنها في حد ذاتها صورة تصل إلى المتلقي بمفرداتها الثلاث البسيطة والمشتركة بيني وبين هذا المتلقي وتدعوه إلى تأملها حتى لو لم يكن المقصود بها شخصاً بعينه. *** 9- لديك مجموعات شعرية تنتقل فيها انتقالات نوعية علي مستوى منجزك الشعري مثل مجموعة "منطق الكائنات" يشكل علي سبيل المثال علامة مختلفة في تجربتك الشعرية، كيف تكون متلقياً لنصك الجديد أو المختلف؟؟ ***** ديوان "منطق الكائنات" يضم أكثر من مئة قصيدة قصيرة جداً أعتبرها قريبة من فن التوقيعات الذي عرفه الإغريق القدامى بالأفوجرام حسبما ترجمها الصديق الكبير الراحل إحسان عباس والإبيجرام في ترجمة أخرى وقد كتب اليابانيون قصائد الهايكو على هذا المنوال، وكلمة "منطق" في العنوان قادمة من "النطق" وكنت تخيلت الكائنات كلها وقد امتلكت القدرة على الكلام وتخيلت ما الذي يمكن أن يقوله المغناطيس والضفدعة والمرآة وحبل الغسيل والمزهرية والعاشقة والمبراة إلخ. الإغريق أكثروا من هذا الشكل في كتابات الموت (شواهد القبور) والعرب في الحكمة واليابانيون في الطبيعة وما حاولته في " منطق الكائنات" هو تناول كل الكائنات من نبات وجماد وحيوان وبشر وأحوالهم النفسية المختلفة والمشترك الجماعي الكوني. هنا يبدو وكأن الشاعر لا دور له إلا الإصغاء لأصوات الكون وصياغتها على الورق بأقصى ما هو ممكن من الإيجاز والتكثيف. فضلاً عن أن في بعض قصائد الديوان شيئاً من الفكاهة، وهو مقصود أيضاً لأنني لا أفهم على الإطلاق لماذا يرتبط الشعر عندنا بالنكد والعبوس والشكوى فقط! *** 10- في" رأيت رام الله " تمت قرأتك في سياق آخر مفعم بالشاعرية وتدفق الذكريات ويعود بقارئ نصك إلي جغرافيا المكان وارتباطك الحنيني الوثيق به، إلي أي مدي تشكل الذكريات نصك؟؟ ***** "رأيت رام الله" ليس كتاباً عن الحنين. بل إن مفهوم الحنين عندي يختلف تماماً عن المفهوم الشائع. أرى أن الحنين يتضمن مشاعر كسولة رخوة ولا تحث على عمل شيء لمواجهة الخسران. إنه جزء من الركون للهزيمة والتحسر على المفقود (مكاناً) والمنقضي (زماناً)، أنا لا أستسيغ رخاوة كهذه. أود أن ألفت الانتباه هنا على أن الكتاب نفسه يشير إلى موقفي من الحنين. إنه يندرج عندي في سياق ما أسميته "كسر الإرادة"، فعندما يفرض عدوك إرادته ويقصيك عن مكانك الأول وعن زمانك فيه وعن علاقاتك الأصلية عليك أن لا تسدل جفنيك بالحزن والأسى بل الطبيعي أن تغضب لذلك, الغضب عتبة من عتبات الفعل، بينما الحنين هو عتبة من عتبات العجز الرومانسي، ويا ليت الحياة تركت لنا الرومانسية، الحياة يا سيدي "ترنخنا بالواقعية" رغم أنوفنا. أما عن الذكريات في "رأيت رام الله" فأقول لك أن المرء لا يتذكر إلا ما لا يحتاج إلى التذكر، المرء لا يتذكر إلا ما يلح عليه في حاضره، كأنه لم يتحول بعد إلى نسيان. *** 11- عند زيارة وفد برلمان الكتاب العالمي لفلسطين في العام الماضي كنت في استقبالهم في "رام الله" حدثنا عن أصداء تلك الزيارة؟؟ ***** وفد البرلمان العالمي للكتاب الذي زار فلسطين قبل يومين من انفجار الوضع وقيام الجيش الإسرائيلي بإعادة احتلال الضفة الغربية بكل مدنها وقراها ومخيماتها ومحاصرة مقر الرئاسة كان مكوناً من كتاب مرموقين بينهم البرتغالي ساراماجو والنيجيري شوينكا (الحائزان على جائزة نوبل، والإسباني جواتيسولو والأمريكي راسل بانكس والصيني بي داو والفرنسي كريستيان سالمون والجنوب إفريقي برايتن برايتنباخ وآخرون. كنا، نحن الكتاب الفلسطينيين في استقبالهم في رام الله وزاروا برفقتنا المخيمات ومشوا سيراُ على الأقدام عبر الحواجز اللاإنسانية التي أقامها الاحتلال بين المدن والقرى الفلسطينية وزاروا جامعة بير زيت والتقوا بياسر عرفات في مقره في المقاطعة واشتركوا مع الشعراء الفلسطينيين في أمسية مذهلة في مسرح القصبة في رام الله امتلأ فيها المسرح الضخم عن آخره وعندما عادوا إلى بلدانهم كتبوا في كبريات الصحف هناك مقالات هامة ومؤثرة عبروا فيها عن إدانتهم للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه التي لمسوها بأنفسهم، ساراماجو في المؤتمر الصحفي في رام الله شبه إسرائيل بالنازية وقامت قيامة الأبواق الصهيونية ضده في إسرائيل وفي العالم كله ولم يتراجع أبداً عن موقفه. *** 12- هل تعني الزيارة دوراً جديداً للثقافة في زمن العولمة ؟؟ ***** في كل حقب التاريخ كان هناك ثقافتان: ثقافة الطغيان وثقافة الحرية. والبشرية الآن أحوج ما تكون إلى مثقفيها الأحرار وإلى تماسكهم في جبهة واحدة تقف في وجه ثقافة البنتاجون المبنية على استسهال القتل والظلم والاستعلاء العنصري وازدراء القانون الدولي واللغة الرسولية الإيمانية التي تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة،، ثقافة بناة الإمبراطورية الذين يجلسون في واشنطن يخططون للهيمنة على العالم ولو أدى ذلك للفتك بالإنسانية كلها. في مسرح القصبة احتشد مئات الفلسطينيين المتعطشين إلى فسحة من الجمال والفن وقف ساراماجو يقرأ فصلاً من روايته الأخيرة "العمى" باللغة البرتغالية وكان إصغاء الناس له مؤثراً ورائعاً لأنهم أرادوا به التعبير عن تقديرهم لزيارته لهم وتضامنه معهم، رغم عدم معرفتهم بالبرتغالية. بقي أن تعلم أن هذا المسرح نفسه كان بعد يومين اثنين يترنح تحت قذائف دبابات الاحتلال! *** |
***
13- "كل الشعارات المنادية بالحريات تسقط ما لم تكن ركيزتها المرأة " جملة قالها الشاعر السوداني الكبير "محجوب شريف" في أحد الحوارات معه في مجلة حضارة السودان، نلاحظ حساسيتك العالية تجاه المرأة وتشكل علامة مشرقة في نصك، إلي أي مدي تختلف أو تتفق مع هذه المقولة؟؟ ***** المرأة ليست "موضوعاً" خارجياً للتعاطف أو الاحتقار، التكريم أو الإهانة، أزعم أنه لا يوجد ما يمكن قوله عن المرأة ولا عن الرجل بالتعميم الذي تنطوي عليه هاتان المفردتان. هناك السيئ والجيد في بني البشر أياً كان جنسهم. ولا توجد مبايعة مسبقة لأي منهما. المجتمع بكل أفراده واقتصاده وسياسته وقوانينه وحاضره في محنة، ومستقبله يتكون تحت التهديد بكافة أشكال المخاطر بما فيها خطر المحو وفقدان الأرض والسيطرة على المصير وعلى الرجل والمرأة اقتسام هذه المحنة ومواجهتها بكل الطاقات. الذين يحلو لهم إخراج المرأة من المجتمع أو اختزالها إلى مجرد موضوع هم أعداء حقيقيون لأنفسهم ولأوطانهم ولفكرة الحرية ذاتها.بالمقابل أرى أن انتزاع المرأة من سياقها المجتمعي والحديث عنها كموضوع منفصل (احتقاراً أو تقديساً) والحديث عنها بشكل سطحي لا يساعد(ها) على التحرر بل إنه قد يؤدي إلى المزيد من عبوديتها وعبوديتنا كلنا كمجموع بشري ويبقي على هذا الواقع الكريه والمرفوض من قبل كل من يتمتع بحس سلم وضمير عادل. *** 14- في أكتوبر عام 2002 بمناسبة ذكري مرور عامين علي الانتفاضة الفلسطينية تمت استضافتك في منبر منتدى شموس الثقافي السوداني بالقاهرة، وأظنها المرة الأول التي تلتقي بجمهور سوداني، هل تبقي في الذاكرة أصداء لتلك الأمسية؟؟ ***** أنا مدين لك بتقديمي لهذا المنتدى الذي تواصلت من خلاله مع حشد طيب من أبناء وبنات السودان وآمل أن تكون تلك الأمسية قد تركت لديهم ثراً طيباً. أنا سررت بها كثيراً، فحساسية الحاضرين للشعر كانت عالية ومتميزة. *** 15- ماذا بعد " زهر الرمان" ؟؟ ***** أكتب ديواناً جديداً ** 16- كل تلك الرفقة المتواصلة مع الشعر، ما هو اقتراحك لتعريف الشعر؟ ***** كل قصيدة جديدة يكتبها الشاعر هي اقتراح بتعريف الشعر، والشاعر الذي نأخذه على محمل الجد تتعدد اقتراحاته وإلا وقع في آفة تكرار الذات وأصبح شاعراً مُتوَقَّعاً، والشاعر المتوقع هو شاعر سابق أي أنه بات ينتمي إلى لحظته السابقة لا التالية، كأن مستقبله وراءه لا أمامه. ليس هناك اقتراح وحيد ونهائي لكتابة القصيدة. دعك من النقاد التعساء الذين يضيعون وقتهم ووقتنا في إلصاق هذا الختم أو ذاك على تجارب الشعراء أو تقسيمهم السخيف للشعر حسب الأوزان أو المضامين أو المذاهب السياسية والحزبية أو حسب الأجيال وتواريخ الميلاد. هؤلاء النقاد يسببون لي مغصاً في المعدة والله ويساهمون في تضليل القارئ وإيذاء فكرة تطور الشعر العربي ولا يساعدون على الانشقاق الخلاق داخل تلك التقسيمات. إن كل قصيدة جديدة تطالب الشاعر بشكلٍ يخصها هي ولا تتم بغيره، وفي هذا يكمن سر تطور الشعر في العالم كله. عفيف إسماعيل أكتوبر 2003م |
شكرا سراب:D
|
هكذا تحدثت لوث غارثيا كاستنيون المستعربة الإسبانية تؤكد عشقها للشعر العربي ولبغداد والقاهرة -صحيفة الميثاق الوطني-الملحق الثقافي-المغرب 16/17 يونيو 1997- لوث غارثيا كاستنيون مستعربة إسبانية. درست الأدب العربي. وزارت وعملت في بعض المدن العربية. وفي كلّ مرة كانت تعود إلى بلادها إسبانيا وهي تحمل في جعبتها إنجازاً أو أكثر. درست القصة القصيرة في مصر ونالت عليها شهادة الدكتوراه. وعملت في بغداد وأنجزت كتابين أحدهما بعنوان"الخرجات في الموشحات الأندلسية" بالاشتراك مع الدكتور داود سلوم, صدر عن سلسلة الموسوعة الصغيرة العراقية. والثاني ترجمة مجموعة من القصص القصيرة العراقية إلى الإسبانية ونشرتها دار المأمون للترجمة في بغداد. وقد حضرت هذه الأيام إلى الرباط لمناقشة أطروحة دكتوراه الدولة في القصة القصيرة المغربية, في جامعة محمد الخامس-كلية الآداب بالرباط مساء2-6-1997 حيث حصلت المستعربة الإسبانية على دكتوراه الدولة. وعلى هامش هذا الحضور كان لنا معها هذه المصاحبة الأدبية: * الدكتورة كاستنيون: كيف بدأت علاقتك بالأدب العربي ؟ ـ كانت البداية في جامعة القاهرة التي رشحت إليها لدراسة الفلسفة العربية الإسلامية والتصوف الإسلامي انطلاقاً من تخصصي الفلسفي، حيث كنت قد حصلت على البكالوريوس من جامعة مدريد. والماجستير في السوربون في بحث مقارن بين الفلسفة الوجودية في فرنسا والفلسفة الكاثوليكية في أسبانيا. لكنّ الذي حصل في القاهرة بعد اجتيازي مرحلة تعلم اللغة العربية، والتي أمدها سنتان في مدرسة الطلبة المسلمين المغتربين, أنّي واجهت صعوبة في دراسة الفلسفة والتصوف الإسلاميين، لأنّني كنت أصطدم بحاجز اللغة, خاصة وأنّ اللغة الصوفية تشتغل على معنى المعنى وأنا لم ألاقِ صعوبة في فك المعنى، فالتجأت لدراسة الأدب العربي لأنّني كنت أستهويه، وكنت أحس بسهولة دراسته مقارنة بدراسة الفلسفة والتصوف. فقرأت الأدب الكلاسيكي والحديث. ثم استقر رأيي على دراسة القصة القصيرة في مصر. فذهبت إلى مدريد وسجلت الموضوع هناك. ثم عدت إلى مصر لأجمع المادة خلال ثلاث سنوات وأعود إلى أسبانيا لمناقشتها في قسم اللغة العربية والإسلام في الجامعة المستقلة في مدريد, تحت إشراف المستعرب الجليل البروفيسور بيدرو مارتينث مونتابيثPedro Martinez Montavez. * ما النماذج التي قمت بدراستها في القصة القصيرة المصرية ؟ ـ درست قصص صنع الله إبراهيم, جمال الغيطاني, ويوسف القعيد. * وهل عملت في مجال اختصاصك الجديد ؟ ـ حصلت على دكتوراه الدولة أواخر عام1985 وعندها اتصلت بي وزارة التعليم العالي، وعرضت عليّ العمل في ألمانيا أو في النمسا كأستاذة في إحدى الجامعات. لكنّني رفضت الاختيارين معاً. وطلبت من المسؤول أن يوفر لي فرصة عمل في أحد البلدان العربية. وبعد ذلك اتصل بي الشخص نفسه وأخبرني بأنّ جامعة بغداد بحاجة إلى أستاذة للّغة الأسبانية فطرت فرحاً.. وقال لي: لكنّ المرتب أكثر في ألمانيا والنمسا. فقلت له: لا يهمني المال بقدر ما يهمني العمل في البلاد التي أحب, ومن المصادفات الجميلة أن أصل إلى بغداد ليلة رأس السنة, وكانت ليلة مبهجة حقاً حيث كنت أطلّ على أضواء بغداد الصافية التي تعانق في خاطري أطياف ألف ليلة وليلة.. كان كرنفالاً جميلاً ذلك العرس البغدادي, في ليلة, حقاً, ليلة أعياد. * كتبت بعض الدراسات عن الشعر العربي الحديث. كيف كانت البداية ؟ وكيف وجدت هذا الشعر؟ ـ اكتشفت الشعر العربي الحديث عبر قراءاتي لجيل الرواد وبالذات السياب ونازك الملائكة. وكنت أحس بالرعب, ولكنّه الرعب الجميل جداً, ذلك الذي توحي به قصائد السياب الذي ينادي بلاده من خلالها وهو يقف, غريباً, على ضفاف الخليج.. الغريب في الأمر كانت اللغة تصلني دون عناء ولا أدري كيف! * هل عانيت من تعلم اللغة العربية ؟ ـ تعلم اللغة العربية, بالنسبة لي كان بمثابة الكابوس, إنّه إبحار صعب ومرير. ولو كنت أعرف صعوبة الإبحار في هذا الموج لما قبلت المغامرة, ولبقيت أعشق هذا البحر اللغوي الزاخر من بعيد. كنت أناجي نفسي: صبراً يا لوث. ستنتهي الصعوبة هذا العام. ولكن اكتشفت أنّ الأمر مازال صعباً, بل يزداد صعوبة كلما توغلت في الإبحار. بيد أنّ للمغامرة لذتها. |
* من عرفت من الشعراء العرب المعاصرين غير السياب ونازك الملائكة ؟ ـ عندما كنت أقرأ للسياب ولنازك كنت غير مكترثة بالبياتي, وهو من الرواد أيضاً, لأنّني ظننته سياسياً أكثر مما هو شاعر حيث عاش في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية, وعندما قادتني إليه الصدفة وجدتني مخطئة لأنّه شاعر بامتياز.. وفي مصر تعرفت على صلاح عبد الصبور؛ كان جميلاً في "الناس في بلادي", الشاعر يصبح شاعراً عندما يكتشف الوحدة النفسية التي يعيشها. فمعظم الشعراء يعيشون في عزلة نفسية، وعبد الصبور هو المكتشف الحقيقي لهذه العزلة. لكنّني لا أدري هل الشعر يوصل إلى العزلة أم أنّ العزلة توصل إلى الشعر. * ماذا تعتقدين ؟ ـ أعتقد أنّ الشعر يوصل إلى العزلة، لأنّ عين الشاعر الشعرية هي التي توصله إلى دواخل الناس.. * وهل يوجد غير هؤلاء الشعراء من أثّر فيك ؟ ـ نعم, كثيرون, مثلاً أمل دنقل, عبد المعطي حجازي, أدونيس, ولكن الذي أدهشني هو الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر, وللحديث عنه ينبغي أن أمتلك لغته الشعرية، وإلا فالكلام يضل قاصراً ولا يصل إلى حدود الوصف.. كما قرأت عدة دواوين لحسن توفيق وقرأت كتابه النقدي "شعر بدر شاكر السياب: دراسة فنية وفكرية".. * كيف بدأت فكرة مشروع كتاب "الخرجات في الموشحات الأندلسية" مع الدكتور داود سلوم ؟ ـ كنت أستاذة في شعبة اللغة والأدب الأسبانيين في كلية الآداب- بجامعة بغداد, وكنت أتردد على قسم اللغة العربية أكثر من اللغة الأسبانية. وتعرفت على أساتذة اللغة العربية، وذات يوم اقترح عليّ الدكتور سلوم إنجاز هذا المؤلف، فعملنا سوياً وتم إنجازه. وكنت أتردد كثيراً على اتحاد الأدباء العراقيين، فطرحت فكرة نشره على الأديب موسى كريدي ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة العراقية التي كان يشرف عليها، فرحّب بالفكرة ونشر الكتاب. * رحم الله موسى كريدي. ـ ماذا ؟! هل توفي موسى كريدي ؟!! * نعم. ـ يا للحزن - كيف يموت هذا الجميل.. كان يقول الفلاسفة الوجوديون: "أنا موجود، الموت غير موجود. الموت موجود، أنا غير موجود" . ولكن رغم الموت ورغم الفلاسفة موسى كريدي موجود. كيف ننسى طيبته, كرمه. يا عيني عليه كما يقول العراقيون. * ما الأثر الذي تركته المدن العربية في نفسك ؟ ـ أنا لا أستطيع أن أعيش أكثر من شهرين في أسبانيا. يحفّزني الحنين بداخلي إلى المدن العربية. فالقاهرة بأحيائها الشعبية، وبغداد بمؤتمراتها الأدبية، تأخذني إليها دائماً، وكذلك المدن المغربية بتقاليدها وطقوسها الجميلة. وهل أستطيع أن أنسى البصرة، أم أهوار الجنوب العراقي، حيث الطيبة والكرم. أم أنسى جمال شمال العراق وشلالاته الهادرة. كل هذه التفاصيل تعيش معي. حضرت مرة إلى بغداد في مهرجان المربد مع الوفد المصري واستقبلنا في المطار الروائي عبد الأمير معلة. وقال لي يا لوث: بهذه الشعبية وبهذه اللهجة المصرية كان عليك أن تكوني رئيسة للوفد.. بهذه الأجواء أعيش في المدن العربية، وأحياناً أقول: يا أبي ليتك كنت عربياً، لتخفف عني معاناة اللغة العربية على أقل تقدير. * لماذا اخترت المنهج الواقعي لدراسة القصة القصيرة المغربية دون سواه من المناهج الأدبية الحديثة ؟ أم كانت لديك غاية معينة لا يمكن البحث عنها إلا من خلال هذا المنهج ؟ ـ النّص هو الذي يفرض المنهج، ولم تكن لديّ غاية مبيتة سلفاً. فالنصوص التي درستها هي نصوص واقعية. من هنا جاء عنوان البحث :"الواقعية في القصة القصيرة المغربية". وبالمناسبة ولدت فكرة هذا البحث في بغداد حيث التقيت الدكتور عباس الجراري هناك في أحد المؤتمرات، وطرحت عليه الفكرة، فوافق، وعندما جئت إلى المغرب عام1988 سجّلت البحث الذي أخذ مني كل هذه السنوات. * باعتبارك أسبانية مهتمة بالأدب العربي والحديث منه على وجه الخصوص, بماذا تفسرين الاهتمام المتزايد للأديب العربي المعاصر بالأدب الأسباني، عامة وبفيديريكو غارثيا لوركا خاصة ؟ ـ علاقة الأدب الأسباني بالأدب العربي عميقة الجذور. وكتابة لوركا مغروسة جداً في هذه الجذور. أنا شخصياً أعتقد أنّ لوركا بشعره وبموته أصبح مثل المسيح المنتظر, كانت عنده رسالة وقتل قبل أن تكتمل رسالته، لذلك ظلّ خالداً حيث ينشد الناس اكتمال هذه الرسالة.. فمن يقرأ شعر لوركا يحس أنّ شعره حقيقي, غير مصطنع. شعره مثل الدم لا يبدو أنّه مخلوط بالماء.. لوركا فيه الروح الأسبانية الخالصة التي تنطوي على نوع من التراجيديا في نفسه، والتي تجعله يتحدى القدر. * بين الحين والآخر يعبّر الأدب الأسباني عن ذاته, ويحمل لواء هذا التعبير أديب يظلّ صدى أعماله يرن في الأعماق متحدياً كلّ الأزمنة وكلّ المذاهب والتيارات الأدبية فلا يمكن نسيان خوان رويث Juan Ruiz, لوبيه دي بيكا Lope de Vega, انطونيو ماجادو Antonio Machado,غارثيا لوركا Lorca Garcia, رفائيل ألبرتي Rafael Alberti, ترى من يحمل هذا اللواء الآن ؟ ـ الزمن الآن ليس زمن الشعر, العالم يعيش في سرعة مهولة، والإنسان منشغل بالآلة؛ بالكومبيوتر، وعند الفراغ يريد أن يستريح، والشعر ليس للراحة، وإنّما الشعر لقضية توقظ في الإنسان الهواجس والأحاسيس. الإنسان يريد أن يهرب من هذه اليقظة، ويرغب بالاسترسال في النوم حتى لا يشعره أحد بالقلق. وإذا ما أراد أن يتسلى فبإمكانه أن يجد ذلك في قصة بوليسية أو ما شاكل ذلك.. * لكنّ الرواية والشعر في أمريكا اللاتينية متقدمان. ومثلما تعلمين أنّ أدب أمريكا اللاتينية هو امتداد للأدب الأسباني ؟ ـ هذا صحيح. أدب أمريكا اللاتينية متقدم على كل الأدب الأوروبي - لأنّ الأوروبي يريد بعد العمل أن يخلد إلى الراحة, ليس لديه قضية ساخنة، أما في أمريكا اللاتينية فلا تزال قضاياهم ساخنة، ومن هنا تتقد جذوة الإبداع. * الأستاذة كاستنيون: إذا طلبت منك أن تحددي اسم شاعر عربي معاصر واحد فقط فمن تختارين ؟ ـ هذا اختيار صعب. ولكن إذا كان لابد منه أختار السياب. * وروائي عربي ؟ ـ أختار الروائية حنان الشيخ. * قصيدة عربية قديمة أو حديثة قرأتها وظلت كلماتها تتردد في خاطرك ؟ ـ خضراء, خضراء إنني أحبك خضراء للوركا ترد في قصيدة الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر "زيارة السيدة السومرية" التي ترجمتها إلى اللغة الأسبانية. أعجبتني كثيراً هذه المفردات اللوركية في صياغتها العربية. * ما أجمل كتاب قرأته في حياتك ؟ ـ مائة عام من العزلة. * هل تحبين العزلة ؟ ـ لابد منها للتأمل. * الوحدة ؟ ـ شيء رائع يخشاه الناس دون سبب. * الغربة ؟ ـ لم أحس بها أبداً. * الصحراء العربية ؟ ـ بحري المفضل، لكنّني لا أحتمل حرارتها. كم أتمنى لو كان العالم العربي في سيبيريا، لأنّني أحب المنطقة العربية، لكنّ حرارتها هي التي تطردني منها. لقد تحدثنا قبل قليل عن أدب أمريكا اللاتينية وقلنا أنّه امتداد للأدب الأسباني. أما أنا فامتدادي في الأرض العربية لذلك ستجدني, بعد شهور, هنا أو هناك في بلد عربي لا أستطيع أن أسميه لك الآن. :D |
الساعة بإيدك هلق يا سيدي 02:03 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3) |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون