![]() |
ويضبف: «خلال السنوات الأولى التي عملت فيها أستاذاً في جامعة كولومبيا، وقد عُيِّنت في منصبي هذا منذ 40 سنة، أي عام 1963، عاودت الاهتمام بالأدب الفرنسي. ووجدت فيه بديلاً للنظام الذي نشأت عليه ودرست فيه، أي التقليد الإنكليزي - الأميركي الوضعي، الذي يتسم بضيق الآفاق التاريخية. وبالنسبة إليّ، كان التقليد «الروماني» هو البديل، وعلى رأسه فرنسا وإيطاليا. ومن خلال مؤلفات تعود الى أشخاص من قبيل الجامعي إيريك أورباك وهاري لفين، استاذي السابق في هارفرد ومؤلف كتاب هو من أهم الكتب عن الرواية الفرنسية في القرن التاسع عشر، تمكنت من توسيع دائرة اهتمامي بالأدب الفرنسي من القرن الثامن عشر الى القرن العشرين، كما بالنقد الأدبي. وكنت الرجل الأميركي الأول الذي تناول مدرسة النقاد الفرنسيين الجديدة في كتبه، وذلك ضمن مقال مطوّل حول لوسيان غولدمان. وقد اهتممت بفكرة أن غولدمان كان تلميذ جورج لوكاش في الثلاثينات، وانه كان ينتمي في تلك الفترة الى أنصار «النقد الجديد»، وهي مجموعة تختلف عن النقد الأميركي بكل ما للكلمة من معنى. كانت مخالفة تماماً للفلسفة وتشدد على الجمالية على حساب البقية. وفي موازاة ذلك، لم أتوقف عن قراءة سارتر وميرلو بونتي والتقليد الفينومنولوجي، الناتج في معظم الوقت عن هوسرل وأحياناً أخرى عن هايدغر. ولعبت فرنسا دور الأرض الخصبة لهذا النمط من التفكير، ذلك أن الفرنسيين كانوا يلعبون دور الوسطاء بين الفلسفة الألمانية والتقليد الإنكليزي - الأميركي. وأخيراً، أتى العام 1966 وجلب معه حدثاً هائلاً يعيشه المرء مرة واحدة في العمر، إذ عُقد حينذاك المؤتمر المنتظر وعنوانه «لغات الانتقاد وعلوم الإنسان» في جامعة جون هوبكنس واستطاع للمرة الأولى استقطاب كبار المؤلفين الذين قرأت أعمال بعضهم أو سمعت عن البعض الآخر منهم، ولا سيما جان هيبوليت ورولان بارت وجاك دريدا وجاك لاكان وجورج بوليه وجان بيار فرنان وتزفيتان تودوروف وجيرار جينيت... ويعود الفضل في دعوتي الى المشاركة في هذا المؤتمر الى مقالاتي التي سمحت لي بالتواجد مع كل هؤلاء الكبار على مدى أسبوع. وفي الواقع، أدهشني أمران متناقضان. الأول هو بعد نظرهم ولا محدودية فكرهم، فقد كان في إمكانهم أن يتحدثوا في طريقة متكلفة عن الفلسفة اليونانية أو الألمانية أو عن أي موضوع آخر. والثاني قدرتهم على التحول أشخاصاً متعصبين لفرنسيتهم. حتى أن بقية المفكرين كانوا يشعرون باحتكار المفكرين الفرنسيين للموضوعات المطروحة للنقاش، علماً أنهم كانوا يطرحون جدليات تعني العالم بأسره، ويتحدثون عن نيتشه وفرويد وهايدغر. وخُيّل للمشاركين الآخرين في المؤتمر – أي الأجانب (بعض الإيطاليين والأميركيين) – أن المفكرين الفرنسيين يوجهون الكلام بعضهم الى بعض لنيل الإعجاب المتبادل بينهم، غير آبهين لبقية الموجودين! كان ذلك مذهلاً حقاً!
|
أستطيع أيضاً أن أعزز كلامي بقصة حدثت مع رولان بارت. نظراً الى بعد حرم جامعة جون هوبكنس عن بالتيمور، كنا ننزل جميعاً في الفندق نفسه، ونلتقي يومياً. وفي كل صبح تنقلنا المركبة نفسها الى الجامعة. وعلى الطريق، اعتدت الجلوس بالقرب من رولان بارت، لذلك كان من الطبيعي أن نتبادل الحديث. اهتممت كثيراً بالمحاضرة التي ألقاها خلال ذلك المؤتمر والتي دارت حول فعل «كتب»، الذي وصفه بالفعل غير المتعدي. وخلال أحد نقاشاتنا الصباحية، أخبرته أن أعماله تشبه، في كثير من نواحيها، أعمال أحد النقاد الأميركيين المشهورين والفريدين من نوعهم، كينيث بورك. بدا بارت مهتماً جداً بالموضوع، حتى انه دوّن اسم بورك وطلب مني أن أزوّده بلائحة تضم أهم كتبه. فاستجبت لطلبه قبل أن نعود الى حديثنا. وبعد سنتين، التقيت مجدداً برولان بارت، في مؤتمر كان يُعقد في شيكاغو. ألقينا التحية واحدنا على الآخر بحرارة وتكلّمنا عن أمور مختلفة، قبل أن أسأله إذا تسنّت له فرصة المقارنة بين أفكاره وأفكار بورك. وإذا به يجيب: «أفكار من؟».
لقد فاته كلياً الأمر واضطررت الى الإصرار على مطلبي أكثر من مرة، على رغم أهمية بورك ونقاط التشابه بينهما. وأظن انني كنت في صدد تناقض شكلي الى أقصى درجة. فمن ناحية، هناك التعصب الى الانتماء الفرنسي، الذي أصفه بالمتطرف والذي كان يمنع المفكرين الفرنسيين من النظر الى خارج حدود عالمهم الفكري أو الاهتمام بالكبار دون سواهم، ومن ناحية أخرى، هناك انفتاح فعلي على بقية العالم في بعض الأحيان. فعندما كان كلود ليفي شتراوس يتكلم عن الفكر مثلاً، كنت أشعر انني أستمع الى مفكر عالمي بكل ما للكلمة من معنى. وبالطبع، ذلك هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة السائدة وهي العصبية الفرنسية. وليفي شتراوس كان يدحض هذه الفكرة. فهو تأثر كثيراً بالإثنولوجيا الإنكليزية - الأميركية. وبيار بورديو كان أيضاً استثناء في هذا المجال، نظراً الى تتبعه لكل ما يجري خارج الفلك الفرنسي. لكن سواهما من المفكرين كانوا منغلقين على ذاتهم، ولا يهتمون إلا بشخصهم. ولا أدري كيف أفسّر هذه الشوائب، قد يكون السبب عقليتهم أو النظام التربوي والبرامج التي تتخطى حدود المقبول في صرامتها». ورداً على السؤال: نظراً الى المكانة الخاصة التي يحتلها المفكرون في المجتمع الفرنسي، هل ترى أنهم يستغلون مكانتهم تلك ويستثمرونها في المكان المناسب بغية الدفاع عن قضايا مهمة، أم أن المسألة تختصر في المظاهر؟ هل نشهد اليوم تراجعاً للنفوذ الفكري الذي تتمتع به فرنسا، لا سيما بالمقارنة مع الفترة التي تلت الحرب مباشرة؟ يجيب: «لم يستطع المفكرون الفرنسيون المعاصرون لي من لعب دور جوهري، واللغة هي أحد الأسباب التي أعاقتهم. فقلة قليلة منهم فقط متمكنة من لغة أخرى غير الفرنسية، كالإنكليزية على سبيل المثل. والمفكرون العرب يعانون أيضاً من عائق اللغة. فهم يعجزون عن التعبير بغير اللغة العربية ويكتفون بذلك، متسائلين، مثلهم مثل المفكرين الفرنسيين، «لمَ عسانا نعقّد حياتنا بتعلّم لغات أخرى؟» إن هذا النمط من التفكير مؤسف للغاية. ولكن هنا أيضاً، يمكنني أن أذكر أمثلة مضادة وأسماء لامعة مثل تودوروف. فأصول هذا الكاتب البلغارية لم تمنعه من أن يصبح مفكراً فرنسياً وهو من النادرين الذين يقرأون ويتكلمون ويفهمون اللغة الإنكليزية. إتيان باليبار يُعتبر أيضاً من الناطقين باللغة الإنكليزية. وهو يعطي دروساً، بين الحين والآخر، في الولايات المتحدة حيث تُرجمت كتبه وباتت موضع قراءة ودراسة. لكن أفكار الآخرين، حتى المفكرين اليمينيين الأكثر شهرة في فرنسا مثل فينكلكروت أو برنار هنري ليفي لا تتعدى حدود العالم الناطق باللغة الفرنسية ولا تلقى صدى واسعاً في العالم» |
لكن هؤلاء يحشدون جمهوراً واسعاً من خلال الشاشة الفرنسية الصغيرة. يقول سعيد في هذا الصدد: «نعم، هذا صحيح. فجمهورهم التلفزيوني – إذا جاز التعبير – أكبر من جمهورهم الأكاديمي والجامعي. في المقابل، خُيّل إليّ لوهلة أن رجلاً مثل ريجيس دوبري قد يلعب دوراً مهماً خارج فرنسا. فقد منحه عمله في أميركا اللاتينية ومؤلفاته حول دور المفكر، خلفية دولية. إلا أن كتبه لم تلق الصدى الذي يليق بها في الولايات المتحدة، وقد تكون اللغة السبب وراء ذلك. وأتذكر الآن قصة تتعلق بدوبري وباللغة. منذ سنوات، عندما صدر كتابي «عن المثقفين والسلطة» في باريس (دار سوي 1996)، التقينا في برنامج تلفزيوني أنا ودوبري وفينكلكورت. وفي المناسبة، شعرت ان الرجلين لا يستلطف واحدهما الآخر! وبالعودة الى صلب الموضوع، غمر الغضب دوبري عندما علم أنني وصفته في أحد مقالاتي بالكلمات الآتية: بـ «المفكر اللامع والمتعدد الآفاق». واستخدمت كلمة «المتعدد» بمعناها في اللغة الإنكليزية، أي الرجل المنفتح والقادر على تناول مواضيع مختلفة في كتاباته. لكنه اعتقد انني استخدمت الكلمة بمعناها الفرنسي، أي الشخص المزاجي والمتقلب في أفكاره...».
ويتحدث عن إميل زولا، الرواي والمفكر الملتزم قائلاً: «لم أعاود قراءة كتابات إميل زولا منذ فترة طويلة، لكنني قرأته من خلال أحد زملائي الذي يعمل أستاذاً في قسم الأدب الفرنسي في جامعة كولومبيا. إن سيرة زولا الذاتية التي وضعها هنري ميتران، ذلك الرجل المتضلّع في كل شاردة وواردة تتعلق بزولا، هائلة، وقد سمحت لي أعماله أن أتعرّف أكثر الى زولا. بالطبع، سبق أن قرأت رواياته مثل «جيرمينال» و «نانا» وسواهما خلال فترة دراستي، وأعرف أن زولا كاتب موهوب لكنه لا ينتمي الى الكتّاب الذين أعاود قراءتهم مراراً وتكراراً، على غرار مارسيل بروست وغوستاف فلوبير الذي يُعتبر نقيض زولا على مستويات عدة. وهنا تأتي المقارنة في غير محلها. دعني أعترف إذاً أن إعجابي بزولا، المفكر الملتزم، يفوق إعجابي بزولا الروائي. فالسياق الذي تجري فيه أحداث روايات زولا مغاير تماماً للسياق الذي نعيش فيه اليوم ما أحببته في زولا هو مداخلاته العامة، والدور الذي لعبه كأحد الوجوه التي تركت بصمات واضحة في الثقافة الفرنسية. والمثير للاهتمام في ذلك الرجل هو ناحيته الفرنسية البحتة، وقدرة قضية ما على التأثير فيه ومسّه من الداخل وذلك بشهادة من المجتمع برمته. إضافة الى قدرته على دفع الأمور نحو مزيد من العدالة، كما حصل مع نصه «أتهم». وستبقى كلمة «مفكر» مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بزولا. |
وعن ألبير كامو وعن رأيه بمقولته الشهيرة: «إذا خُيّرت بين العدالة وأمي، أختار أمي» التي تجسّد العلة التي يعاني منها العالم المعاصر، حيث يندرج الجميع تحت راية ذويه وجماعته ويغلّب النسب على الانتساب، ويفضل الولاءات القبلية والمجتمعية والشخصية على القيم والعدالة، يقول سعيد: «أنا أعارض هذا الانقسام وأعتقد أن التصنيف خاطئ أساساً. وأظن أن ذلك يُعزى أولاً الى غياب أي معارضة طبيعية بين العدالة والأم. لم يُفترض بنا أن نختار؟ ولم لا يمكننا اختيار العدالة والأم معاً؟ من جهة أخرى، نحن نرتكب خطأ باعتقادنا بأن الدفاع عن العدالة قد يدفعنا الى التخلي عن أمنا، فالعدالة بذاتها أمر طبيعي للغاية. وفي نهاية المطاف، وحدها العدالة تستطيع تخليص الأمهات من كل شٍر يتربّص بهن. إن الدفاع عن العدالة لا يعني بالضرورة مخالفة الولاءات والانتماءات الفطرية والأساسية. ومن خلال هذا السؤال تبرز بعض النقاط التي تقف عائقاً بيني وبين كامو».
في كتابه «الثقافة والامبريالية»، يقارب سعيد ألبير كاموا بطريقة مستحدثة، من خلال تحليل اللاوعي الاستيطاني. ويبيّن أن كامو خضع، إما بكل وعيه أو من دون وعي، لسيطرة العقلية الاستيطانية. ويشير أيضاً الى أن الرجل العربي الذي قتله مرسو في رواية «الغريب» كان شخصية مجردة، نجهل عنها الكثير... يقول سعيد عن كامو: «أعتقد أن كامو كان رجلاً موهوباً، إلا أنه بالغ – الى حد التصنع – في إظهار أخلاقياته. كامو كان واعياً أخلاقياً، لكنني حاولت إظهار كيف أن انعدام النزاهة وحال الهروب والنظرة المخالفة للتاريخ التي ألقاها على المكان الذي عاش فيه، كيف أن كل تلك الأمور شوّهت هذا الوعي الأخلاقي. وأعني بذلك أن كامو لم ينقل العلاقة الفعلية بين المستوطن والمستوطَن كما هي في الجزائر. وبالنسبة إليه، شكّل الاستيطان سياسة سيئة مارسها نظام سيئ وحكومة فرنسية سيئة، لكنه لم يكن يرى أن ذلك يندرج في عملية تاريخية طويلة، تستند الى التجريد المنظم والى بناء عقلية استيطانية. وأعتقد أن ذلك أشبه بالوضع الذي نشهده في إسرائيل، وفي سلوك بعض المفكرين تجاه هذه المسألة بالتحديد. وما لا أستطيع فهمه هو أن الكثيرين من الفرنسيين ما زالوا يرون في كامو مثالاً للكاتب الأخلاقي والمفكر التقدمي. وقد أدركت الأمر عندما درس إبني كامو في المدرسة. كان يقرأ رواية «الغريب» حينها. وسألته إذا ما كان الكتاب مدروساً بحسب سياقه، وإذا ما كانوا يتعرفون خلال الحصص المخصصة لدراسته الى الخلفية والكاتب والحياة في الجزائر... لكن الدروس لم تكن تجري على هذا النحو. ففي معظم الأحيان، يتم تجاهل كل هذه الأمور ويظهر كامو بالتالي كالكاتب الأخلاقي الفرنسي الكبير في القرن العشرين. لا شك في أن في وضع كامو قد يستغوينا التركيز على الأسلوب فقط. فنحن في وجه كتاب نثري رائع، في وجه «كتابة بيضاء» أو كما سمّاها بارت. ومن المؤكد أن كامو كان يعيش في بيئة صعبة جداً، في بيئة منغلقة على فرنسيي الجزائر. لكننا لا نجد في شخص كامو وعياً لجهة استغلال شمال القارة السمراء. فيما أن الكاتب الفرنسي أندريه جيد كان يعي تماماً وجود هذا الاستغلال. وأنا لست أستغيب كامو، لطالما قلت، ولا أزال، إنه كان كاتباً موهوباً جداً، لكنه يخفي أمراً ما وذلك لا يريحني. فمن الطبيعي أن نرى فيه، كما نرى في أندريه جيد، مثالاً يُحتذى به لجهة الثقافة الفرنسية. إلا أنني أعتقد أن وضع جيد يختلف تماماً. كامو كان يعتبر نفسه مؤلفاً أخلاقياً وكاتب مقالات. أما جيد فكان قبل كل شيء من أنصار المتعية، وكانت أعماله منفتحة جداً ومتأثرة بهذه المتعية على طريقة أوسكار وايلد». |
وعن سارتر الذي عاد فجأة الى الطليعة، بعدما كاد العالم أن ينساه وعن الإرث الذي تركه يقول سعيد: «مهما كثرت الإشاعات عنه، وعلى رغم كل سيئاته، يبقى سارتر بالنسبة إليّ أحد أهم الوجوه الفكرية التي عرفها العالم في القرن العشرين. وقبل الحديث عن سارتر الروائي، تجدر الإشارة الى أنه كان ناقداً أدبياً وفلسفياً فريداً. وفي هذا الإطار، تطاردني أعماله من كل ميل وطرف، أذكر منها كتابه الرائع عن فلوبير، «أبله العائلة»، وكتابه عن بودلير والمقالات الأخرى التي تناولت باقة متنوعة من المؤلفين. وأظن أن أعماله تأتي في صدارة التحقيقات النقدية. وعرفنا سارتر أيضاً كروائي وكاتب مسرحي رائع، فكيف ننسى رواية «الغثيان» وسواها من روائع المسرح التي تحمل توقيعه. ميزة سارتر انه كرّس معظم حياته ليطرح على نفسه كما على غيره أسئلة حيوية. وقد أثبت شجاعة كبيرة في تعاطيه مع الأمور، فتطرّق الى موضوعات شبه محرمة في المجتمع مثل فيتنام والجزائر. غير أن ذلك لا ينفي وجود بعض الشوائب والإبهام حول مسيرته الفكرية على بعض المستويات، ونذكر في هذا الإطار موقفه حيال القضية الفلسطينية».
تميل مواقف سارتر حيال الصراع العربي – الإسرائيلي الى بعض من الغموض والتناقض خصوصاً في التزامه المطلق تجاه القضيتين الفيتنامية والجزائرية، أو المديح الذي قام به في المقدمة اللاهبة لكتاب فرانتز فانون «محكومو الأرض». ويقول سعيد: «أو عندما نتذكر إعجابه الكبير بجان جينيه وبالعمل الرائع الذي أهداه إياه». وعن امتناع سارتر عن إظهار المزيد من الدعم للقضية الفلسطينية يقول: «أعتقد أن سارتر تأثر بالحرب العالمية الثانية، وذلك طبيعي جداً. لقد أدرك فظاعة المحرقة التي أتت بمثابة ضربة أعادته الى الواقع وعززت وعيه السياسي والفكري. والأمر سيان بالنسبة إلى ميشال فوكو، على رغم صغر سنّه. فكلاهما شعر بعد الحرب أن إنشاء دولة إسرائيل خطوة طبيعية ومحقة، تأتي بمثابة تعويض لمعاداة أوروبا للسامية وقد تسمح بالتخفيف من وطأة شعور الذنب الذي يعذبهما ويعذب غيرهما بسبب الفظائع التي ارتُكبت بحق اليهود الذين تعرضوا للإبادة الجماعية خلال الحرب، على اختلاف جنسياتهم، فرنسيين كانوا أم ألماناً أم بولنديين. ومن هنا، عجز سارتر عن استيعاب وجهة النظر العربية. ونادراً ما اهتم بالعالم العربي، وكان ذلك غريباً بعض الشيء. فكان يرى في عبدالناصر رجلاً اشتراكياً من جهة، وفاشياً يشبه الألمان من جهة أخرى. لم تنشأ يوماً علاقة فعلية بين سارتر والثقافة العربية ولطالما غلب الانزعاج عليها وهذا ما لا أفهمه، وهو أحد الأسباب التي دفعتني الى مقابلته عام 1979. أردت أن أفهم الحقيقة، فصلة سارتر بالفكر العربي كانت ضعيفة في الوقت الذي كان على علاقة متينة ببعض الإسرائيليين، على غرار إيلي بن غال وبيار فيكتور اللذين أخذاه في رحلة الى إسرائيل وأعطياه صورة إيجابية عنها... أما العالم العربي والثقافة العربية فلم يعرفهما البتة. كل ذلك كان غريباً بعض الشيء. لكننا بشر ولكلٍّ سيئاته. هناك أمور تمسّنا وتؤثر فينا أكثر من غيرها. لقد أخطأ سارتر في قضايا كثيرة ولم تؤثر فيه معاناة الشعب الفلسطيني. صحيح أن موقفاً كهذا مخيّب للآمال، ولكن لا يكفي لنفي موهبته ومواقفه الشجاعة إزاء قضايا أخرى». |
سارتر والعداء لاميركا:وعن عدائية سارتر وسيمون دو بوفوار المتطرفة للولايات المتحدة، وهو شعور ذا طبيعة جوهرية لا يستند الى انتقادات شرعية لسياسات أميركية معينة، يقول سعيد: «أزعجني ذلك، خصوصاً أن هذه العدائية لا تستند الى انتقادات شرعية، حتى انها لا تستند الى معرفة حقيقية للولايات المتحدة. ومن الواضح أن سارتر ودو بوفوار كانا يجهلان هذا البلد. والأمر سيان بالنسبة الى غيرهما من المفكرين الفرنسيين. فغالباً ما تنبع عداوتهم للولايات المتحدة من جهل فعلي لهذا البلد. وهذا ما دفعني في مرحلة ما الى كتابة مقالة تحت عنوان «أميركا الأخرى»، التي صدرت في صحف عالمية عدة ومنها صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية، في آذار (مارس) 2003. أعتقد ان من الضروري أن نتذكر دائماً أن بوش وإدارته لا يمثلان سوى أحد أوجه الولايات المتحدة الكثيرة والمختلفة. كنت أود لو أن سارتر ودو بوفوار أوليا أهمية أكبر للوجه الآخر من أميركا. جان جينيه مثلاً، الذي التقيته للمرة الأولى في جامعة كولومبيا اهتم كثيراً بهذا الوجه الآخر. فقد نظر عن كثب الى الحركة المضادة للحرب التي نشأت في نهاية الستينات، والى النشاطات التي قام بها طلاب اليسار والجذريون وحتى البلاك بانثرز. جان جينيه كان متميزاً من هذه الناحية، على خلاف الكثير من المفكرين الفرنسيين التقليديين والتافهين في عدائهم لأميركا، لأن شعورهم ذلك ما كان يستند الى معرفة كافية بهذا البلد أو الى انتقادات شرعية ومفصلة».
وعن تأثير مفكري ما بعد الحداثة في فرنسا على طلاب الجامعات الأميركية التي أبدت اهتماماً كبيراً بمفكرين مثل فوكو ودريدا وبودريار الذين يحظون بمحبة أكبر في الولايات المتحدة منها في فرنسا، يقول: «إنه لسؤال صعب. إذا أخذناهم كل واحد على حدة، سأقول إن فوكو لا يحظى بالتقدير الذي يليق به كباحث وجامعي. فالكثيرون من الأميركيين يعتقدون أن فوكو هو فقط هذا الرجل الذي أطلق العنان لموضوعات أثارت ضجة كبيرة كالرغبة المثلية والجنس والجنون. وهي موضوعات منحت فوكو مكانة كبيرة، وجعلت الناس ينسون أنه جامعي كبير وفيلسوف رائع في الدرجة الأولى، «فيلسوف جذري»، بحسب تصنيف نيتشه. هذا هو الوجه الذي أثار إعجاب جيل دولوز في فوكو والذي بقي مهمشاً بعض الشيء في أميركا، حيث يطغى الفكر المنظم والأنظمة الصغرى على البقية. عندما يتعلق الموضوع بمفكرين مثل دريدا وفوكو. فدريردا ومفهوم اللابناء يقعان اليوم في قلب نوع من البدعة الموجودة في الجامعات الأميركية. وقد ركّز الكثير على ذلك المفهوم من دون أن يفهموا أعمال دريدا الأولى. وأعتقد أن أعمال دريدا اللاحقة عكست، بطريقة أو بأخرى، التأثير الأميركي. فتحوّل كاتباً يتّسم بغموض أكبر ومنذ ذلك الحين فقدت أعماله رونقها لأنها كانت تفتقر الى الصراحة. إن مشكلة هؤلاء المفكرين لا تكمن بالمبالغة في تقديرهم، بقدر ما تكمن في أن بعض النواحي من أعمالهم، واشدد على «بعض النواحي»، تحوّلت مجرد آليات متحركة. وبالتالي، بات من السهل الحصول على كميات هائلة من نسخ دريدا وفوكو، بدلاً من إنشاء أشخاص يحاولون فهم دريدا وفوكو، وانتقاد أعمالهما بالأسلوب نفسه الذي نقلاه في تعاليمهما. على صعيد آخر، أُصبت بخيبة كبيرة عندما علمت أن جاك دريدا قبل دكتوراه فخرية من الجامعة العبرية في إسرائيل... ولعل توقيعه على بيان يدين بقسوة السياسات الإسرائيلية هو بالضبط ما خيّب أملي. وقّع على البيان وقبل بلقب فخري منحته إياه جامعة تابعة لبلد وصفه بنفسه أنه يقمع الفلسطينيين وينتهك حقوق الإنسان ويضرب القانون الدولي بعرض الحائط! بالنسبة الى دريدا وبودريار، لا وجود لحجم التاريخ وأهميته. عندما يعلن بودريار أن عهد الخطابات الكبرى وزمن التحرر وعصر الأنوار ولت، أنا لا أوافقه الرأي بتاتاً. فالكثير من الناس في العالم، وفي الولايات المتحدة، يتأثرون حتى اليوم بكل ما له صلة بالعدالة والحرية والأمل والقيم الأخرى. ونظراً الى ذلك، أعتقد أن ما يروّج له بعض مفكري ما بعد الحداثة لا يخلو من الازدراء والاستخفاف بكل من يؤمن بهذه القيم. وهذا هو السبب عينه الذي يمنعنــي مـــن الموافقة على مفهوم «نهايـــة التاريخ» لفوكوياما الذي يبسّط كـــل الأمــور الى حد التفاهة. أين الاعتراف بجهود الإنسان إذاً؟ أنا ألمس نوعاً من الكسل عندما أسمع أشخاصاً يأتون ليقولوا إنهم فقدوا كل اهتمام بتلك الأمور وبقضايا العالم الفعلية وبمعاناة البشر، وإنهم باتوا يهتمون بأفكار أخرى كالمسرح والمظاهر والروايات القصيرة والكفاءات التقنية...». ويتطرق إدوارد سعيد الى موقف بعض المفكرين من الصراع العربي – الإسرائيلي الذي يعيد الى مسألة «العدالة وأمي» بحسب مقولة كامو، خصوصاً أن في عالم اليوم يتقدم النسب على الانتساب، ويقول: «أعتقد بأن العلاقة التي يحاول البعض إيجادها بين قضية ما والسبب الذي يدفعهم الى الدفاع عنها هي في معظم الأحيان علاقة طبيعية تنبع من انتمائهم ونسبهم. كنت أتمنى أن ينبع خيارهم من قناعة شخصية. فالاختيار يفرض ألا يهرع المرء الى مساندة «مخيمه» في شكل تلقائي. عندما انتقدت القيادة الفلسطينية بشدة، أثنى ريجيس دوبري على موقفي النادر، ذلك أن معظم المفكرين يميلون الى الدفاع اللامشروط عن مخيمهم وهذا ليس مفهومي لدور المفكرين. فمهمتهم الأولى تبقى الاعتراف بالحقيقة مهما كانت صعبة، وإن دفعت شعبهم الى التشكيك بهم. وفي نهاية المطاف، يعجز المفكر عن إتمام مهمته على الوجه الصحيح عندما يكتفي بإخبار جمهوره أو جماعته ما ترغب في سماعه وما يطمئنها ويثبّت قناعاتها السابقة والمكتسبة. وأظن أن هذا الفرق يستحق أن نتوقف عنده. إنه مسعى وراء النقاوة وتحقيق إنجاز ما. ثانياً، كنا نجد عند بعض المفكرين، حتى الكبار منهم، ما عدا البعض طبعاً، حاجة ماسة الى الإيمان بشيء ما. حتى عندما كانوا يتكلمون عن العلمانية، استطعنا أن نستشف فيهم صورة خيالية غير علمانية. وغالباً ما رأينا دفعاً شبه ديني يحثهم على المضي قدماً. لربما كان هذا الدفع بديلاً عن الإيمان الكاثوليكي. ولكن أعتقد أن المشكلة تكمن على هذا المستوى، هناك حاجة الى الإيمان بنظام سماوي ودفع شبه ديني وسعي وراء تحقيق إنجاز تام، مهما كان الثمن. ثم ان صورة المفكر الذي يلعب دور المحقق ويهتم بمشكلات الدنيا وبتفاصيل خاصة ويكرّس نفسه للنظر في الظروف التي يعيش فيها الأقل حظوة، ويقوم بدراسة القضايا الاجتماعية على مر التاريخ، ويزور الأماكن المهملة عادة والأحياء الفقيرة حيث يعيش المهاجرون والطبقة العاملة، أي المفكر الذي يتسلح بالشجاعة لمواجهة البؤس الاجتماعي، إن هذه الصورة إذاً باتت عملة نادرة في فرنسا، على الأقل قبل وصول بورديو، لأن بورديو غيّر مجرى الأمور، ولربما كان الوحيد الذي عالج مسائل ترتبط بالثقافة الشعبية والحياة اليومية بكل ارتياح، على الأقل أنا لا أعرف سواه. فبورديو كان يتوجه الى الشعب ويسعى الى استقطاب جمهور واسع. وفي الوقت نفسه، كان يأخذ احتياطاته من وسائل الإعلام. إلا أن حذره هذا لم يمنعه من الذهاب للبحث عن جمهوره والتواصل مع الشعب». |
معاداة السامية والعنصرية:وعن بعض المظاهر المخلة في فرنسا مثل بروز الشعور بمعاداة السامية والرهبة المرضية أحياناً من الإسلام والعنصرية ضد العرب يقول هو الذي كتب في «الاستشراق» أن معاداة السامية والعنصرية ضد العرب ناجمتان عن الخلفية الفكرية نفسها والعقلية عينها: «لا يمكن الفصل بين معاداة السامية والعنصرية ضد العرب. هذا مؤكد. فجذور الاستشراق هي نفسها جذور معاداة السامية، أي النظريات العرقية والأفكار الخاطئة حول اللغات السامية ومفهوم العرق السامي والفكرة السائدة التي تقول إن اليهود شرقيون فقط. بقي اليهود في فرنسا وبريطانيا شرقيين لمدة طويلة من الزمن، وكان يُنظر اليهم كفئة غير قابلة للدمج تماماً كما يُنظر الى بقية الشرقيين اليوم: فئة غير قابلة للدمج في المجتمع. إن أشهر الشخصيات اليهودية في الأدب الإنكليزي وردت في كتاب «تاجر البندقية» وفي رواية «دانيال ديروندا» لجورج إليوت. وفي العملين، نحن أمام شرقيين لا يهود من السكان الأصليين، بل غرباء. ولطالما بقي الوضع على هذا الحال في فرنسا».
ويضيف: «إن مكافحة العنصرية تحت كل أشكالها بدأت لتوها، ولكن أعتقد أن من الممكن تخطي تلك الأفكار المسبقة ولا سيما في فرنسا. ففي الولايات المتحدة، عندما نحاول الاهتمام بتاريخ الانشقاق وتاريخ معارضة العقائد المشددة وتاريخ العنصرية المضادة ومكافحة الأفكار المسبقة، والصراع من أجل الشمولية والانفتاح على العالم، تبقى فرنسا الأنوار المرجع الأول الذي يخطر في بالنا. هذا لا يعني أن المشهد كان خالياً من أي تناقضات، بل على العكس. فهذه التناقضات تتبلور مثلاً من خلال فولتير، أحد رموز عصر الأنوار، على رغم معاداته للسامية، هو الذي كان يروّج للعلمانية ويقوم باتفاقات جانبية مع البابا في الوقت نفسه. ولكن، على رغم كل ذلك نقل لنا فولتير مبادئ الصراع من أجل الشمولية والعدالة وأعتقد أن هذا الصراع سيبقى خالداً مهما تغيّر الزمان. إنما، المذهل والغريب في فرنسا هو أنكم ستجدون دائماً، في وجه العنصرية والعصبية المحلية والعقول المحدودة، تياراً يتسم بالتسامح والعظمة وخطباً تدعو الى إرساء العدالة والحرية، ما يساعد على خلق إنسان مثل توسان لوفرتور. إن توسان لوفرتور كان في طريقة أو أخرى ثمرة الثقافة الفرنسية. فهذا الرجل الأسود قرأ إعلان حقوق الإنسان والمواطن على رغم ثقل العبودية ويديه المكبلتين، وقرأ أعمال ميرابو وتأثر بعصر الأنوار... فتحركت أحاسيسه وانكسرت الأصفاد لينتفض الإنسان الموجود في داخله من أجل محاربة العبودية في هايتي. هكذا كُتبت الأسطر الأولى من قصة تروي ثورة شعب أراد الحياة فاستجاب له القدر». |
1 ملف مرفق .
حوار صوتى مع الشاعر صلاح عبد الصبور :D
|
حوار الطيب صالح مع نزار قبانى :D
|
![]() ![]() هذا الحوار « الوثيقة» اجراه الاستاذ الروائي الطيب صالح مع الشاعر نزار قباني باذاعة الـ«بي.بي.سي» بلندن في ابريل 1973عندما كان الطيب صالح محررا ادبياً بالاذاعة اللندنية الـ« بي. بي.سي» ومسؤولاً عن القسم الادبي العربي وقتذاك.. والحوار نشرت مقتطفات منه مجلة « هنا لندن» التابعة للـ«بي.بي.سي» ونحن هنا ننشره بعد مضي 32 عاما من نشره واذاعته لاول مرة... اذ نعتبره وثيقة ادبية تؤرخ لذلك العصر الادبي العربي. اخ نزار ، انت تقول في موضع ما انك تريد ان تحول الشعر الى خبز يومي لجميع الناس، واعتقد انه اذا كان هناك شاعر معاصر فعل ذلك فهو انت.. وهذا واضح حينما تلقى الشعر، يهرع آلاف الناس لسماعك- تفتكر ليه حصل كدة بالنسبة لك؟ القضية بسيطة جداً.. انني انزلت الشعر من سماء النخبة الى ارض البشر.. فانا منذ بداياتي الشعرية، كنت اؤمن ايمانا مطلقا ان الشعر المكتوب للناس، وان الناس هم البداية والنهاية في كل عمل شعري ، ان اسطورة الشعر المكتوب للطبقات الخاصة، للامراء والنبلاء سقط. نحن في عصر يجب ان يكون المستفيدون من الشعر هم الناس.. قاتلت في الاصل لاصل هذ النتيجة. وقد تنبأت بذلك عام 1948 في ديواني « طفولة نهد» وتوصلت الى معادلة شعرية يكون فيها الناس جزءاً لا يتجزأ من الشعر. هل هذا الادراك حدث فجأة ام انه ادراك نما بمعايشتك لافكار، ويمكن لشعر انت رفضته.. شعر لشعراء عرب آخرين؟ منذ البداية شعرت ان هناك هوة كبيرة بين الشاعر والجمهور، كان هناك نوع من الجدار اللغوي المنيع الذي يحول دون ان يتذوق الناس الشعر، وشعرنا القديم الذي استمر من العصر الجاهلي وحتى مطلع القرن العشرين كان شعراً صعباً لانه كان يعتمد على التراكيب اللغوية، وعلى النقش وعلى الزخرفة فانا اردت من الشعر ان يخرج من جدران الاكاديميات وينطلق في الحدائق العامة، ويعايش الناس ويتكلم معهم.. متى أصدرت أول ديوان؟ اول ديوان لي « قالت لي السمراء» وقد صدر في دمشق عام 1944م . في هذا الديوان بالذات لك قصيدة عنوانها « ورقة الى القارئ» اعتقد انك تعلن فيها نوعا من الـ«ٍفَى نمُان» عن تجربتك وعما تريد ان تقدمه للقارئ «اما زلت متمسكا بهذا الـ«ٍفَى نمُرب» بينك وبين قارئك؟ انا لا اؤمن بالاشياء الثابتة، انا لا استطيع ان اقول ما قلته قبل ثلاثين سنة مثلاً ..« قانون» انا اتطور مع الحياة واسمح لي ان استعمل تعبير «اغير جلدي» في كل لحظة الا ان هناك عموميات اعتقد ان الانسان يظل مرتبطا بها مثلا نظريتي التي بدأنا بها الحديث عن تعميم الشعر او تأميمه هي نظرية لا تزال بالنسبة لي صحيحة وانا في كل يوم احاول ان اكسر جدرانا جديداً وادخل بيوت الناس من النوافذ ومن الابواب. تقصد ماذا- على وجه التحديد انك «تغير جلدك»؟ انا لا أومن بوجود اشياء مطلقة ولا اشكال مطلقة، ربما ازمة شعرنا العربي في عصور الانحطاط انه كانت القصائد عبارة عن قصيدة واحدة منسوخة على ورق كاربون، يعني ان الشاعر لم يكن ليفهم عصره او ليفهم قضية الانسان.. العملية كلها بالنسبة للشعر العربي خلال الالف سنة الاخيرة، كانت عبارة عن نوع من الاكتشاف .. اكتشاف ماهو مكتشف كانت عبارة عن كيمياء لغوية نحن الآن لانفكر بالشعر كلغة قاموس لا يستطيع ان ينظم قصيدة وانما الانسان هو الذي ينظم القصيدة لهذا فان القاموس سقط.. سقط بكل محدوديته القديمة.. كمجموعة من الالفاظ والتراكيب والقوانين الصارمة التي لا تحتمل المخالفة.. نحن اليوم نخالف لانه يجب ان نكون مع الحياة لا مع النصوص الميتة.. لكن يخيل لي اخ نزار انك اكثر الشعراء المعاصرين اهتماما باللغة انت « صحيح» تستعمل لغة حديثة بمفاهيم حديثة لكن واضح في شعرك اهتمامك بالمادة الخام التي هي اللغة التي تعبر بها عن احاسيسك؟ استاذ الطيب يجب ان نتفق اولاً على مفهوم اللغة... انا اعنى اللغة التي حاصرتنا زمنا طويلا في جامعاتنا وفي مدارسنا وفي دروس اللغة العربية وفي دروس الفقه . محاطة بقداسة؟ محاطة بنوع من القداسة.. وكانوا يقولون لنا ان هذه اللغة كصندوق سحري يجب الا تلمسها او لا تفتح الصندوق المخبأة فيه والا افترسنا المارد المخبوء في العلبة، اللغة التي افهمها انا هي اللغة التي يتنفس بها الناس اعود بك الى فكرة نزع الجلد.. اعود بك ايضا الى فكرة نزع الجلد.. هل يعني هذا ان القصيدة حين تكتمل تصبح بالنسبة لك لا تعني شيئا تصبح عالما خارجاً عنك تكتبها وتنساها؟ القصيدة تنتمي.. حين اكتبها الى مرحلة تاريخية واعتقد ان بقاء الشاعر في المرحلة التاريخية التي كتب عندها القصيدة تجمده وتوقفه عن الحركة، انا احب دائما ان اتجاوز قديمي طبعا هذا ليس نوعا من قلة الوفاء ولكنني شديد الوفاء الفني.. الوفاء للفن يكون دائما بالتجاوز والتخطي، هناك اناس كثيرون مثلا يستطيعون ان يستعيدوا قصائد كتبوها قبل عشرين سنة بدقة آلة التسجيل انا عاجز عن القيام بمثل هذه المغامرة. نشأت في منزل دمشقي قديم.. هي عبارة عن فراديس مختبئة خلف ابواب خشبية صغيرة قد تدخل في زقاق صغير قد لا يوحي لك بشئ الا انك فتحت بابا من الابواب الخشبية الواطئة فتحت امامك فراديس فاذا بك تدخل جنة من جنان الوهم فالشجر والورد والياسمين والمياه الجارية والاسماك والعصافير كلها تتابع امامك مرة واحدة، هذه الخلفية لعبت دورا مهما في حياتي وفي تكوين لغتي الشعرية.. في دواويني الاولى « قالت لي السمراء» طفولة نهد» «انت لي» تلاحظ ان ابجديتي التي اكتب بها ابجدية دمشقية واستعملت كثيرا من الالفاظ الفولكلورية السورية في قصيدة «خمس قصائد الى امي» استعملت اسماء نباتات سورية غير معروفة في بقية العالم العربي كالشمشير والنفشة.. الارتباط بالارض هو الاساس اشعر ان الارض هي مسرح الشاعر هذه الواقعية جعلتني حادا واقرب الى قضايا البشر من غيري من الشعراء. هذه الطفولة الجميلة كما رسمتها هل كانت توجد ارهاصات انك ستكون شاعراً؟ احب ان اشير الى ناحية مهمة، ان هذه اللوثة الفنية جاءتني عن طريق « جد» لي لعب لعبة خطيرة في تأريخ المسرح العربي هو ابو خليل القباني... كان فنانا من طراز رفيع واستطيع ان اشبهه بشارلي شابلن كان هذا في نهاية القرن التاسع عشر قاتل المستحيل في بيئة دمشقية محافظة ، كي يضيع لاول مرة في الشرق مسرحا طليعياً وقد جاوز في مسرحه كل الموروثات، وكان نصيب أبي خليل النفي الى خارج اسوار دمشق ذهب الى مصر وفي مصر استطاع ان يكون رائداً من رواد الحركة المسرحية التي عرفناها في مصر بعد ذلك. الا تحس برابطة زمالة تربطك بشعراء عاشوا قبلك بالف عام او اكثر؟ ارتبط بمن يلتقون معي في التفكير خذ مثلا شعر عمر بن ابي ربيعة انا ارتبط معه بخيوط الواقعية الارضية والبشرية انت تعرف ان عمر بن ابي ربيعة اخرج الحب كما اخرجته انا من سراديب الكتب والحرمان الى الهواء الطلق.. انا اؤمن بالحقيقة.. بشاعر يقول بما يريد الناس ان يقولوه، لو كنت شاعراً منافقاً لوفرت على نفسي كثيرا من الهجمات والمشاكل واللعنات الا انني اعتقد ان لهفة الشاعر هي وسام لان مهمة الشاعر هي ان يضع قنبلة موقوتة تحت عجلة القطار الخشبي المتهالك الذي لم يعد منسجما مع العصر. في علاقة الشاعر بالمرأة « في دواوينك» تدهشني الى حد ما هو ان الشاعر في مشاركة مستمرة مع المرأة، علاقة فيها نزاع وصراع يكاد يكون حميماً أكثر مما يجب؟ شوف يا استاذ الطيب.. لقد اثرت نقطة احب ان اوضحها. ان الخصومة مع المرأة هي المصادر الشعرية الحقيقية، نهايات الحب جعلتني اكتب شعراً احسن من بداياته. حينما ينقطع الخيط، وتثور العاصفة مع حبيبتك فانت تبدأ بكتابة الشعر هذا يدعوني لان اقول ان الدراما في الحب هي الشعر الحقيقي.. والفرح في الحب لا يعني شيئا ان الفرح عملية مسطحة جدا فحينما تكون سعيدا مع حبيبتك تكتفي بسعادتك.. ان الفرح والسعادة عملية انانية جدا، أما حينما يقطع الخيط او يدخل الحبيبان في منطقة الدراما.. فهنا يبدأ الشعر. من اكثر قصائدك دراما وعنفا. قصيدتك « الرسم بالكلمات»؟ هذه القصيدة تعبر تعبيرا عنيفا عن الازمة، الازمة التي يصل اليها الشاعر حينما يصل الى مكان مسدود، يعني طريق باتجاه واحد.. هذ القصيدة اسيئ فهمها جدا وانا آسف لذلك، اعتبرها البعض ممن يقرأون قراءة مسطحة او من يقرأ المكتوب من عنوانه .. اعتبروها قصيدة غير اخلاقية انا اؤمن بأن هذه القصيدة هي من احسن شعري: اولاً ومن اطهر شعري، لاني أحاول بهذه القصيدة ان اوجد التناقضات «كَُْف.قصيد» بين ما كان عليه الشاعر وما انتهى اليه، في هذه القصيدة خيبة امل رهيبة جداً وبهذه القصيدة نوع من السأم والعبثية كما يسمونها الآن. القصيدة مليئة بما يعرف بعنصر الـ«وىكفٌ » «ذفوٌُ »؟ وانا اتفق معك انها نقطة تحول في شعرك يا حبذا لو قلت منها شيئاً: لا تطلبي مني حساب حياتي ان الحديث يطول يا مولاتي كل العصور انا بها فكأنما عمري ملايين من السنوات تعبت من السفر الطويل حقائبي وتعبت من خيلي ومن غزواتي .. |
1 ملف مرفق .
حوار مع الست فيروز وزوجها عاصى الرحبانى :D
|
حوار مع المخرج العالمى يوسف شاهين :D
|
![]() حوار مع يوسف شاهين في ريو دي جانيرو حسين أحمد أمين الحياة 2003/10/10 يوسف شاهين في فيلم اليوم السادس التقيته مراراً خلال النصف الثاني من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1986، وذلك في مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل، حيث كنت أعمل قنصلاً عاماً، عندما أقيم مهرجان السينما الدولي الذي عُرض فيه أحدث أفلامه يومها "اليوم السادس". وقفنا نتحادث في الردهة الخارجية حتى دق الجرس ايذاناً ببدء عرض الفيلم، وظننت أنه سيدلف الى القاعة معي، غير انه بادرني بقوله: - أعصابي لا تحتمل مشاهدة أفلامي في المهرجانات، سأنتظرك عند حمام السباحة في الفندق فتحدثني عن رأيك وعن انطباعات الجمهور. وفي مساء يوم 29 تشرين الثاني كانت حفلة توزيع الجوائز، وقد راقبت يوسف شاهين قبل بدئها يروح ويجيء في الردهة في عصبية ظاهرة، يحادث هذا ثم ينتقل الى ذاك وهو يتحدث كما بدا لي في غضب وحدّة، ومحدثوه يحاولون تهدئته وجبر خاطره، وأخيراً جاء اليّ حيث كنت اجلس في المقصف، وصاح بي وقد احمر وجهه: - لن أتسلم الجائزة.. تسلمها انت نيابة عني. - ماذا حدث؟ - لم تر لجنة التحكيم أن تمنح الجائزة للفيلم، ولكنها قررت - ترضية لي - منحي جائزة "التوكانو" عن "المستوى الرفيع لمجموعة اعمالي، وخدماتي الجليلة للسينما الدولية". - وما يغضبك في هذا؟ - لا يا سيدي، لستُ ممن يقبلون جوائز الترضية، حينما ينادون عليّ قم أنت واستلم الجائزة من رئيس اللجنة نيابة عني، أما أنا فلن أفعل. دخلنا القاعة، وجلس إلى جواري في احد الصفوف الامامية، وإذ ظننته - لسذاجتي - جاداً في عزمه، فقد شرعت اعد في ذهني الكلمة التي سألقيها عند تسلمي جائزته. غير انه لما نودي على اسمه، وتحركت اهمّ بالنهوض، رأيته يهب من مقعده ويتجه إلى مكان رئيس اللجنة على المسرح مبتسماً وسط تصفيق الجمهور، ويتسلم الجائزة! (وفي ظني الآن أن المنظر نفسه تكرر عام 1997 في مهرجان "كان"، عندما حصل يوسف شاهين على جائزة اليوبيل الذهبي للمهرجان "عن مجموع انتاجه السينمائي" في حين لم يحصل فيلمه "المصير" على أي جائزة". داليدا/ صديقة دعوته الى الغداء في اليوم التالي في أحد مطاعم ريو الفاخرة المطلة على البحر، ودار بيننا حتى الخامسة عصراً الحديث التالي، اصوغه في صورة اسئلة مني واجاباته عنها: اعترض عدد من النقاد المصريين على اسنادك دور صِدّيقة في "اليوم السادس" إلى داليدا، فهي وإن كانت من مواليد مصر، فإن قضاءها معظم سني حياتها في فرنسا انساها اللغة العربية، وصارت في لسانها عجمة تجعل من أدائها لدور فلاحة مصرية صميمة أمراً مستغرباً. وفي رأيهم ان ثمة من الممثلات المصريات من كان في وسعها ان تقوم بهذا الدور على نحو مقنع ومستساغ، وبكفاية اكبر، مثل سعاد حسني، أو فاتن حمامة. - قبل ان افكر في اسناد الدور الى داليدا، عرضته فعلاً على كل من فاتن حمامة وسعاد حسني، فأما فاتن فقد أبت أن تقوم بدور جدة، وأرادت ان أجري بعض التعديلات على القصة، وهو ما لم أقبله. وأما سعاد فقد ظلت مترددة بين القبول والرفض - ربما للسبب نفسه - حتى استقر رأيها على الرفض، حينئذ فكرت في الاستعانة بداليدا، أولاً لجودة تمثيلها كما لا شك في أن تكون لاحظت، وثانياً لأن الفيلم انتاج مصري - فرنسي مشترك، وداليدا مصرية - فرنسية، واضطلاعها بدور البطولة من شأنه أن يضمن اقبالاً أكبر على مشاهدة الفيلم في كل من مصر وفرنسا، وقد فكرت في ان استخدم صوت ممثلة مصرية اخرى بديلاً من صوت داليدا، غير انه اتضح لي أن عملية الدوبلاج هذه ستكلفني من النفقات ما لا قِبل به لموازنة الفيلم. البعض يرى أن أفلامك عموماً فوق مستوى فهم المصري العادي، وأنها أصعب وأدق من ان تكون مستساغة ومقبولة لدى الجمهور العربي، وانك حتى مع اختيارك مواضيع مصرية صميمة، تبدو مخرجاً مصرياً يرتدي قبعة وذا نمط من التفكير اوروبي. - أينطبق هذا الاتهام على "باب الحديد" أم "الارض" أم "الناصر صلاح الدين" أم "اليوم السادس"؟ الجمهور هو الحكم في مثل هذا الاتهام. واقبال الجمهور المصري على مشاهدة أفلامي كافٍ لتفنيده وتكذيبه. كل ما هناك هو ان اي عمل فني جيد، سواء كان كتاباً أم فيلماً أم مسرحية أم سيمفونية، يقتضي العودة اليه اكثر من مرة للإلمام بكل ابعاده، وأفلامي من هذا الصنف من الاعمال الفنية، من اللازم مشاهدتها اكثر من مرة لفهمها على نحو اوضح. لقد تأثرت بالتأكيد بمدارس سينمائية أجنبية، وبالمخرجين البارزين في الشرق والغرب، شأن معظم المخرجين عندنا في مصر، غير ان هذا لا يعني انني أصبحت "خواجة"، أو مخرجاً مصرياً يرتدي قبعة. على العكس أنا أدرك تماماً ان ما من عمل فني مصري يمكن أن يكون عالمياً، وان يلقى حظوة لدى الجماهير في الخارج، ما لم يكن مصري المضمون والطابع والروح، شرط ان يكون انسانياً في الوقت ذاته، وان يصور من العواطف والاحاسيس والمواقف والعلاقات ما يشترك فيه البشر جميعاً على اختلاف اجناسهم وأوطانهم. عقبات هل يجد جمهور أفلامك في اوروبا، أو الاميركتين، أو الشرق الاقصى عقبات في سبيل فهمها نتيجة اختلاف القيم والمفاهيم والمستوى الحضاري والعلاقات الفردية والاجتماعية في مجتمعاته عن تلك السائدة في المجتمع المصري؟ - بالتأكيد هناك مثل هذه العقبات، فهم قد يعجبون أو يضحكون أو يذهلون ازاء تمسكنا الشديد بقيم لا يقيمون هم لها وزناً، أو اغفالنا قيمة لها وزنها الخطير عندهم. وهذا أمر طبيعي تلمسه ليس فقط في المجتمعات المتباينة، بل وفي المجتمع الواحد في ازمنة متباينة، فالاخلاقيات الجنسية السائدة اليوم في اوروبا، مثلاً. تحول دون التعاطف الحقيقي الكامل مع مأساة مرغريت في مسرحية "فاوست" لغوته، أو مشكلة "تِسْ" في رواية توماس هاردي، ولا بد للمخيلة والثقافة العامة من ان تلعبا دورهما هنا من اجل اعادة بناء قيم الماضي، أو قيم مجتمع غريب بعيد. كما ان لا شك في ان اشتراك مجتمعين معينين، كالهند ومصر مثلاً، في مشكلات حيوية، أو في مفاهيم وتقاليد معينة، يجعل كلاً من الشعبين الهندي والمصري اقدر على فهم فنون الشعب الآخر منه على فهم فنون بلد كالسويد أو بولندا أو تشيلي. لا شك في أن منافسة التلفزيون للسينما من الاسباب التي ادت بالسينما الى الإكثار من المشاهد الجنسية التي قد يعزف التلفزيون عن عرضها بحكم وجوده في كل بيت، وفي محيط العائلات، وذلك من أجل ضمان استمرار رواج الصناعة السينمائية، ولكن ألا ترى أن غالبية المشاهد الجنسية في الأفلام باتت مقصودة لذاتها، ولا يخدم موضوع الفيلم، أو تصوير نفسية ابطاله، أو تطور شخصياتهم؟ - منافسة التلفزيون هي بطبيعة الحال في الاسباب المهمة التي دفعت السينما في هذا الاتجاه. ولكنها ليست السبب الوحيد، وليست السبب الرئيس، السبب الرئيس في رأيي هو تزايد حرية السينما في بعض المجتمعات في مجال تناول هذا الموضوع الحيوي تناولاً صريحاً، ونمو الاعتقاد بأنه ما دام موضوعاً مهماً فلا بد من تناوله، ولا بد من ان يحتل في الفنون المكانة نفسها التي يحتلها في حياة الفرد، من دون خشية أو حرج، أو رياء أو حياء... غير أنني أوافقك على أن المشاهد الجنسية غالباً ما تدرج في الفيلم من دون ان تخدم موضوعه، فيكون رواج الفيلم هو الاعتبار الاول لا الجودة ومقتضيات الفن. وهذا هو بالضبط ما استقر عليه في الغرب تعريف "البورنوغرافيا" ومعيار التفرقة بينها وبين التعرض لموضوع الجنس لهدف فني خالص. تأثير الأزمة ما مدى تأثير الازمة الاقتصادية التي تمر بها مصر حالياً في صناعتها للسينما؟ - لا مفر من أن يكون لهذه الازمة تأثيرها الضار، بل والخطير، في الصناعة السينمائية المصرية، وقد انخفض عدد الأفلام المنتجة فعلاً من نحو مئة وعشرين عام 1985 الى ثمانين عام 1986، وأتوقع ان يكون العدد اقـل فأقـل في السنوات المقبلة، والازمة الاقتصادية ستتبع صعوبة في ضمان التمويل الكافي لانتاج الفيلم على نحو مشرف يرضي ضمير المخرج ومطامحه الفنية. وازاء هذه الازمة قد لا نرى بدّاً من الاستعانة بمصدر خارجي يشترك في التمويل اولاً، ويضيف سوقاً جديدة لتوزيع الفيلم. وهذه هي علة لجوئي في السنوات الاخيرة الى الانتاج المشترك مع دول اجنبية، ثم اننا نعلم جميعاً مدى سوء مستوى الصوت في الأفلام المصرية لعجزنا عن شراء الاجهزة الحديثة، وهو ضعف ادى في بعض مهرجانات الأفلام الدولية إلى رفض اشتراك أفلام مصرية ممتازة لهذا السبب. وهنا لا بد من الاستعانة باستوديوات دول متقدمة لتدارك هذا العيب. إن معظم، أو كل، ما تعاني منه السينما المصرية اليوم من مشكلات مستعصية راجع الى المشكلة الاقتصادية لا الى الافتقار الى المواهب، أو ضعف الامكانات الفنية. افكار لا تجد تمويلاً، وأفلام لا تجد آلات واجهزة حديثة، ومواهب لا تجد المكافأة المجزية. ونتيجة هذا كله حال من الاحباط والقنوط، وإهدار المواهب والكساد والتمزق والثورة. خذ مثلاً حال محسن محيي الدين بطل معظم أفلامي الاخيرة، ممثل رائع، وكفاية اعتز حقيقة باكتشافها والاسهام في انضاجها، وصلة روحية تربط بيننا كتلك التي تربط الأب بابنه، انه يبذل في أفلامي جهداً يعجز عن النهوض به اقوى الرجال، واحمله ما قد لا يطيق حتى يأتي اداؤه كاملاً من الوجوه كافة، لقد اقتضى دوره في فيلم "اليوم السادس" - وهو دور القرداتي - ان يقضي الاسابيع في التدريب مع القرد، والاشهر في تعلم الرقص الاستعراضي، وكنت اضطره احياناً إلى اعادة تمثيل اللقطة الواحدة اكثر من عشر مرات، فما هي مكافأته على كل هذا الجهد؟ ملاليم! قروش زهيدة لا تكاد تكفي لإعالته هو وأسرته، ثم اذا بالتلفزيون يعرض عليه اداء دور البطولة في مسلسلات تمثيلية تافهة لقاء أجر هو مئة ضعف ما يحصل عليه من اشتراكه في فيلم منهك وصعب كفيلم "اليوم السادس"، وكذلك يتلقى عرضاً من دبي للتمثيل مقابل مئة الف جنيه فما عسى هذا الشاب المسكين ان يصنع؟ انه ضنين بموهبته، حريص على ألا يضيعها بقبول دور إثر دور لا يرضَى ذوقُه الفني عنه، غير انه في الوقت نفسه بشر، يسعده كما يسعد اي فرد منا ان تأتي له موهبته بالمال، وله عائلة ترى من الحماقة ان يرفض مثل هذه العروض السخية، فالاغراء اقوى من أن يصده غير القديسين، وقد تعرضت أنا نفسي منذ زمن غير بعيد لمثل هذا الاغراء حينما ارسل اليّ رئيس احدى الدول العربية يعرض علي انتاج فيلم عن حياته مقابل مليوني جنيه! وعلى رغم انني رفضت العرض في النهاية، فقد ظللت مدة احاور نفسي واحاول اقناعها بأن المليونين كفيلان بأن يحلا ضائقتي المالية، ويمكناني في ما بعد من تمويل أفلام رفيعة المستوى. |
ألم يكن هذا بالضبط ما يفعله فيتوريو دوسيكا؟ كانت أفلامه الرائعة مثل "سارقو الدراجات" و"معجزة في ميلانو" و"امبرتو د" تصادف في ايطاليا فشلاً تجارياً ذريعاً، وكان عليه من أجل الاستمرار في انتاج مثلها ان ينتج من حين لآخر أفلاماً مقبولة لدى الجمهور تجلب له الربح. أما كان بوسعك ان تحذو حذوه؟
- لا يا سيدي، ربما لعجزي عن ان أنتج فيلماً انا غير مقتنع به، أو ربما لاعتقادي بأن التضحية مرة اثر مرة بالمثل العليا من شأنها ان تؤثر في مستوى الاداء، فيصعب بعد ذلك العودة الى هذه المُثل. عن المهرجانات اريدك ان تحدثني عن مهرجانات السينما الدولية التي نال بعض أفلامك فيها الجوائز، هل ثمة اعتبارات غير جودة الفيلم تؤثر في قرارات لجان التحكيم بمنح الجوائز؟ - بالتأكيد، وبالضبط كما في جائزة نوبل أو اي جوائز عالمية اخرى، ان اعضاء لجان التحكيم ليسوا ملائكة مجردين من الهوى والتحيز والمؤثرات الشخصية واعتبارات السياسة الدولية، فإن كان في اللجنة عضو بولندي مثلاً، فغالب الظن انه سيميل الى اعطاء صوته للفيلم المجري أو التشيخي، أو كان فيها حكم مصري فسيسره ان ينال الفيلم الهندي الجائزة، فإن اشتركت اسرائيل في المهرجان، فمن المؤكد أن يجد فيلمها اكثر من ناقد متعاطف لمجرد ان الفيلم اسرائيلي ومن دون اي اعتبار آخر، وكما ان مقرري جائزة نوبيل في بعض الاحيان يتنازلون ويلتفتون الى دول العالم الثالث، ويمنحونها لكاتب، كالكاتب النيجيري ول سوينكا، فإن المحكمين في مهرجانات الأفلام يمنحون الجوائز احياناً (وإن لم تكن احياناً كثيرة) لأفلام دول نامية، ربما رغبة في ابعاد شبهة التحيز أو الاستعلاء، أو الجهل بانجازات تلك الدول، أو على سبيل التشجيع. بصرف النظر عن الازمة الاقتصادية التي تهدد مستقبل الصناعة السينمائية المصرية، هل يمكنك القول انك راض عنها عموماً؟ - الحقيقة التي يتفق الكثير من المثقفين المصريين معي عليها هي ان الفن السينمائي اصبح في السنوات الاخيرة اهم الفنون في مصر وأرقاها، وأحفلها بالأعمال المتميزة، وذلك بفضل مخرجين مصريين افذاذ، مثل صلاح ابو سيف ومحمد خان وعاطف الطيب وشادي عبد السلام وتوفيق صالح وعلي بدرخان واشرف فهمي وغيرهم، غير ان الازمة الاقتصادية - كما ذكرت - تهدد هذا الفن اكثر مما تهدد الفنون الاخرى كالأدب والموسيقى والرسم والنحت، وهو ما يجعلني أميل الى التشاؤم بالنسبة إلى مستقبله، وترافق هذه الازمة الاقتصادية، للاسف الشديد، مشكلة رهيبة اخرى خاصة بتجارة الفيديو، فهناك اناس لا ضمائر لهم وجدوها تجارة مربحة. طبع الآلاف من النسخ من الأفلام المصرية من دون ترخيص أو إذْن على اشرطة الفيديو، وبيعها بأسعار زهيدة نسبياً من دون ان ينال المنتجون قرشاً واحداً في مقابل ذلك، والسلطات عاجزة تماماً عن وضع حد لهذا النشاط غير المشروع. ونتيجة هذا كله يكاد الحافز المادي يختفي من الصناعة السينمائية عندنا، لقد خسر فيلمي "وداعا بونابرت" نحو نصف مليون جنيه، واتوقع ان يخسر فيلم "اليوم السادس" نحو 400 الف جنيه، فمن ذا الذي لديه القوة والمثابرة والمال والحافز الفني الملح فيواصل انتاج أفلام رفيعة المستوى في مواجهة مثل هذه الصعوبات الاقتصادية الضخمة والمتزايدة؟ الكثيرون يهجرون الميدان، والكفايات تهاجر من مصر، واذا نحن نعاني من ازمة في الخبراء الموهوبين، كما في حال كُتاب السيناريو والحوار مثلاً. لقد أصبح كتاب السيناريو والحوار الممتازون عندنا عملة نادرة، ما يضطرني في معظم أفلامي الى ان اكتبها بنفسي، وثمة أيضاً مشكلة الرقابة والقيود التي تفرضها على السينما وتشل من حريتها، فهناك مواضيع لا ينبغي ان تمس، ومناظر لا ينبغي ان تُضَمّن، وألفاظ لا ينبغي ان ترِد، وشخصيات لا ينبغي ان تُصّور، وقد اعترضت الرقابة أخيراً على فكرة فيلم كنت انوي اخراجه عن قصة يوسف الصدّيق، بحجة ان الانبياء والصحابة لا يجوز تصويرهم على المسرح أو في السينما. وتخامرني الان فكرة ان اخرج فيلماً عن الشيخ محمد عبده، آمل ألا تعترض الرقابة عليه. أما عن مستوى التمثيل عندنا ففي اعتقادي انه عالٍ جداً، وانه ارتقى بشكل ملحوظ خلال السنوات العشرين الاخيرة بالابتعاد عن الميلودرامية والتمسك بواقعية الاداء، فإن سألتني عن اعظم الممثلين المصريين طراً أجبتُ بلا ادنى تردد: محمود المليجي، لقد كان الرجل من اجهل الناس بشؤون السياسة، ضئيل الحظ من الثقافة، وكثيراً ما كنا نضحك منه اثناء مناقشاتنا، غير انه كان في التمثيل لا يضاهى، ملكاً من السماء، وكنت احياناً لا املك نفسي من البكاء اثناء تصوير المشاهد التي يظهر فيها خصوصاً في فيلم "الارض" وفيلم "اسكندرية ليه؟" ونور الشريف ايضاً ممثل ممتاز، بدأ بداية طيبة، ثم اهدر موهبته بقبوله أدواراً هابطة المستوى، ثم تدارك نفسه واصبح اعظم مما كان في اي وقت مضى، محمود مرسي؟ لا بأس به، غير انه محدود القدرة على تنويع ادواره أو تصوير شخصيات شديدة التباين والاختلاف، واحترامي له كأستاذ في معهد السينما اكبر من احترامي له كممثل. واقربهم إلى قلبي جميعاً تلميذي محسن محيي الدين، ففيه اركز كل آمالي المحبطة، واحلامي التي لم يُكتب لها ان تتحقق. وانني أدعو الى الله له من صميم قلبي ألا تصرفه اغراءات الدنيا والمال والشهرة عن الطريق الجاد الذي قطع فيه شوطاً بعيداً. ... وعن النقاد وماذا عن النقاد السينمائيين في مصر؟ - صراحة، أنا لم استفد من النقاد في مصر الا بمقدار ما اسهموا به في ذيوع صيتي، اما عن نقدهم وبيانهم لأخطائي ونصائحهم فلا. ومستوى النقد عندنا باستثناء ناقدين أو ثلاثة، رديء هابط، وهو محكوم في معظم الحالات إما باعتبارات شخصية (كالصداقة أو العداوة بين الناقد والمخرج)، أو مفاهيم ساذجة فجة عن الفن السينمائي، أو الغيرة والحسد والرغبة في تحطيم كل موهبة حقيقية تبرز في الميدان، فإن شئت مثالاً على ما اذهب اليه قلت ان ليس من النادر ان تشكو احدى الممثلات إلى ناقد أو صحافي معين هي على علاقة صداقة وثيقة به، من مخرج رفض ان يسند اليها دور البطولة في فيلمه، أو جرّبها في الدور فوجدها غير صالحة له فاختار غيرها، فيعدُها صديقُها الصحافي بأن "يبهدله ويمسح به الارض" في نقده للفيلم، و"يبهدل" الممثلة التي اخذت الدور منها ويمسح بها الارض، وكل هذا قبل ان يرى الفيلم، وبصرف النظر عن مستوى أداء الممثلة! ما هو أفضل اعمالك السينمائية في رأيك انت؟ - البعض يرى أن "اليوم السادس" هو أفضل أفلامي على الاطلاق، ربما... والبعض ممن يعتقد ان أفلامي تزداد بمرور الايام صعوبة أو "حذلقة" كما يسميها، يصر على أن فيلم "باب الحديد" الذي اخرجته من نحو ثلاثين عاماً (1958)، هو أفضلها، غير انني اعتز بصفة خاصة بفيلم "اسكندرية ليه؟"، لأكثر من سبب. كنت قد أصبت قبله بأزمة قلبية كادت ان تودي بحياتي، واجريت لي في اوروبا عملية خطرة معقدة، وكنت خلال تلك الفترة العصيبة احاسب نفسي وأراجع حياتي لأرى ما قدمت يداي، وما اذا كنت تاركاً بموتي عملاً ذا شأن، فإذا بي غير راضٍ عما انتجت في ما سلف، معاهداً نفسي لو قدر لي ان أعيش أن أقدم في عملي التالي عصارة حياتي وتجاربي وخبراتي في قالب سينمائي فني من الدرجة الاولى. وكان فيلم "اسكندرية ليه؟" هو أول فيلم على الاطلاق - في مصر أو خارج مصر - يتحدث فيه المخرج عن نفسه وعن حياته بصورة مباشرة، وبصدق وصراحة كاملين، ربما كان فيلم فريدريكو فيلليني (8 ونصف) مستوحى من حياته، غير انه خلط الخيال بالحقيقة، والبطل فيه لا يحمل اسمه. اما "اسكندرية ليه؟" والفيلم المكمل له "حدوتة مصرية"، فهما يوسف شاهين من ألفه إلى يائه... أضف إلى ذلك انه من الأفلام المصرية النادرة للغاية التي تصور عائلة مسيحية مصرية بعاداتها واسلوب عيشها ومفاهيمها، وفي رأيي ان الفنون المصرية عموماً تفتقر بشدة الى صور لهذا القطاع من المجتمع المصري. وهو تقصير أنسب المسؤولية عنه إلى الفنانين المسيحيين المصريين. على كل حال، إن كل فيلم من أفلامي هو قطعة من نفسي، وثمرة فترة معينة من حياتي، أو على حد قول التعبير الشائع "كلهم أبنائي!". |
اقتباس:
|
حوار مع مفتى مصر ... الشيخ على جمعة :D
|
![]() التعريف بالمفتى الاسم: على جمعة محمد عبد الوهاب مكان الميــلاد: بني سويف ـ جمهورية مصر العربية تاريخ الميــلاد: 3/3/1952م المؤهلات: دكتوراه في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون ـ جامعة الأزهر 1988م مع مرتبة الشرف الأولى. ماجستير في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون ـ جامعة الأزهر 1985 بتقدير ممتاز. الإجازة العالية (ليسانس) من كلية الدراسات الإسلامية والعربية ـ جامعة الأزهر 1979. بكالوريوس التجارة من جامعة عين شمس 1973م. الإجازات العلمية: حاصل على أعلى الأسانيد في العلوم الشرعية وإجازات من أفاضل العلماء في العلوم الشرعية. الوظائف: مفتي جمهورية مصر العربية منذ عام 2003 وحتى الآن أستاذ أصول الفقه بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة ـ جامعة الأزهر. عضو مجمع البحوث الإسلامية منذ عام 2004 وحتى الآن مستشار معالي وزير الأوقاف المصرية منذ عام 1998 حتى 2003. المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي ومدير مكتب القاهرة منذ عام 1992م حتى 2003. عضو هيئة الرقابة الشرعية للمصرف الإسلامي الدولي للاستثمارات والتنمية بالقاهرة منذ عام0 199م. رئيس الرقابة الشرعية لمصرف مصر المتحدة منذ عام 1997م وحتى 2003. عضو الرقابة الشرعية لبنك التنمية الزراعي منذ عام 1997م وحتى 2003. عضو هيئة الرقابة الشرعية لبنك الشرق الأوسط للمعاملات الإسلامية منذ سنة 1997م ، وحتى 2003. المشرف العام على جامع الأزهر الشريف منذ سنة 2000. عضو مؤتمر الفقه الإسلامي بالهند. عضو مجلس الإفتاء لشمال أمريكا. عضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف منذ عام 1995م حتى عام 1997م. رئيس لجنة الفقه بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية منذ عام 1996 حتى الآن. المشرف الشرعي على مشروع إدخال السنة بالكمبيوتر التابع لجمعية المكنز الإسلامي منذ عام 1978 حتى الآن. تولى نائب مدير مركز صالح عبد الله كامل للاقتصاد الإسلامي للشئون العلمية - جامعة الأزهر منذ عام 1993 حتى 1996م. تولى رئيس مجلس إدارة الجمعية الخيرية للخدمات الثقافية والاجتماعية من سنة 1997م. |
![]() * فضيلة المفتي.. نبدأ الحوار مع فضيلتكم من كتابكم الأخير.. "الدين والحياة.. الفتاوى العصرية اليومية" والذي أثار الكثير من الاستفسارات حول ما ورد فيه.. مما دفع -حسب وسائل الإعلام وتحديدا جريدة المصري اليوم- بأحد الكتاب إلى التقدم بطلب لمجمع البحوث الإسلامية لفحص الكتاب ومناقشته.. فما تعقيبكم؟ - أولاهو ليس كتابا جديدا، وقد طبع منذ ست سنوات، وهو عبارة عن أسئلة وأجوبة، فيه جزء من بيان الأحكام الشرعية التي هي الفتاوى، وفيه جزء من الإجابة على بعض الأسئلة.. وهناك سؤال منها يتكلم عن حديث أم أيمن هل هو وارد أم لا.. فقلت بالطبع إنه وارد.. وحديث أم أيمن ليس وحده الحديث الوارد في هذا المجال.. بل إن هناك أحاديث كثيرة في المعنى نفسه.. فالقضية لها أصول؛ لكن للأسف عند النشر يحدث أن عقلية الخرافة تقف في مواجهة العقلية العلمية. فالعقلية العلمية دائما تنظر إلى أصول المسائل ولا تجتزئ، لا تأخذ "فويل للمصلين" وتترك "الذين هم عن صلاتهم ساهون" هذا ليس علما.. العقلية العلمية ليست عنيدة، وهي عقلية تنظر إلى المسائل في كليتها. والمسألة تخلص في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هيئ جسده الشريف للوحي، وهيئ للمعجزة وهيئ للإسراء والمعراج.. وذلك بأن نزل الملك وشق عن صدره وملأه إيمانا وحكمة، ونزع منه المضغة.. من أجل تهيئته لكل ما سوف يتلقاه في قابل حياته، فجسد النبي صلى الله عليه وسلم كان مختلفا، ولذلك تراه كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، وتراه صلى الله عليه وسلم يتحمل رحلة الإسراء والمعراج مع أنها تمت في دقائق معدودة؛ لأنه عندما رجع وجد فراشه ما يزال دافئا كما هو، وتراه يتحمل الوحي مع أن الإبل التي كان يركبها النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت تستطيع أن تتحمل الوحي حينما كان يأتيه وهو عليها؛ فكانت تبرك.. وكذلك كان الصحابة يقولون: "كنا إذا اشتد الوطيس ودارت رحى الحرب احتمينا برسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ وأيضا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يروى عنه أنه كان يواصل الصيام ويقول: "لست كهيئة أحدكم إنما أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني". فكيف هذا؟ فكر العلماء في كل هذا وقرروا أن جسده الشريف ليس ككل الأجساد، وكنا نتحدث -وهذا كلام الصحابة- أنه أوتي صلى الله عليه وسلم قوة أربعين رجلا.. كل هذه الأحاديث واردة.. وهناك منهجان للتعامل معها، هما: أولا: منهج قائم على التصديق بالوحي والتصديق بالمعجزات كلها، وأغلبها وارد في القرآن أو في البخاري والصحيح عموما. ثانيا: منهج الإنكار. وأنا أدعي أن منهج التصديق المنطقي الذي شرحته الآن هو المنهج العلمي، وأن منهج الإنكار هو المنهج الخرافي؛ لأنه ينكر شيئا وكأنه يقيس فيه على نفسه هو، فنحن لم يشق أحد صدورنا، ولم تخرج منه المضغة، ولم يهيأ جسدنا لوحي أو لمعجزة، ولا لإسراء ولا لمعراج ولا لكل هذا!!. ومن هنا حينما يأتي الصحابة رضوان الله عليهم والعلماء من بعدهم ويتفقون على أن جسد النبي صلى الله عليه وسلم طاهر في الظاهر والباطن، وينص على ذلك ابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيثمي، والسيوطي والقاضي عياض، والدار قطني ويصحح أحاديثه، والبيهقي والزركشي وسائر علماء الأمة يتفقون ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم طاهر في ظاهره وباطنه، وابن حجر يقول: "تكاثرت الأدلة على هذا الأمر، فليس شيء منه صلى الله عليه وسلم مستقذر". لذلك نرى أن مالك بن سنان رضي الله عنه لما مص دمه الشريف من الجرح الذي جرحه بموجب بشريته.. لأن هذا كله لا يخرجه عن كونه بشرا.. كل هذه الأشياء تجعله بشرا متميزا مؤهلا لتلقي الوحي، لكنه في النهاية بشر.. بل كان يمرض ويقول فإذا وعكت كان ذلك بقدر وعكة رجلين منكم. فالنبي صلى الله عليه وسلم طاهر في دمه، طاهر في بوله، طاهر في عرقه، وطاهر في دمعه، وطاهر في كله، والصحابة لم يكونوا يستقذرون منه شيئا أبدا.. نحن نستقذر اللعاب والعرق الإنساني.. لكننا لا نستقذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا. فهؤلاء الذين لا يفهمون معنى النبوة، ولا يفهمون معنى الوحي، ولا يفهمون معنى التهيئة الجسدية، ويريدون أن ننكر وأن ننكر وأن ننكر، من أجل ما يتوهمون أنه العقل، هذا ليس عقلا لأنه لا دليل عليه من العقل ولا من النقل. فهذا الذي ذكرته في كتابي وراءه منهج.. هذا الذي ذكرته في كتابي وراءه عقيدة عليها المسلمون؛ أبى من أبى، ورضي من رضي. * لكن مع هذا هناك يا فضيلة المفتي من يمكن أن يعترض على ذكرك رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة كما في كتابك صـ174، وكذلك إباحتكلتقبيل السور الحديدي الذي يحيط بضريح الإمام الحسين.. فبماذا ترد عليهم؟ - نحن نأخذ أحوالنا وأدلتنا من الكتاب والسنة ومن الواقع المحسوس، فالنبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم يقول: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" وهو حديث صحيح.. ثانيا: سألني أحدهم: هل هذا الحديث صحيح؟ قلت له: نعم.. حتى إنني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فما الذي يريدونه.. أن أكذب، أقول إنني لم أر النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة وقد رأيته.. لن أكذب.. ماذا أفعل إذا كان الحديث صحيحا في مسلم، وقد رأيته أنا أيضا، وسمعت الشيخ سيد سابق رحمه الله في مسجد عمر مكرم بالقاهرة، يُسأل عن هذا الحديث فيقول: "هو حديث صحيح وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة". فما هذا الذي هم فيه.. الرؤية أنا ألفت فيها كتابا اسمه "مدى حجية الرؤية" وبينت فيه أنها بشرى، وأن الرؤية حتى اليقظية كالمنامية، فهم لم يقرؤوا هذا الكتاب لأنهم أصحاب عقلية الخرافة.. ونحن لا نتبع الغوغاء، وإنما نتبع العلماء، والعلماء أقروا برؤية النبي يقظة، وقد بينت هذا في كتاب البيان ووسعت النقولات عن العلماء فيه؛ لكنهم لا يقرءون ولا يريدون أن يقرءوا. |
وأنا أقول إننا الآن أمام أزمة منهجية؛ لأن مثل هؤلاء يحولون المسائل إلى قضايا، حتى يشغلوا بال الناس، ولكننا نحن نحول كل محاولة منهم إلى المنهج العلمي وإلى العقلية العلمية حتى نخرج الناس من ضيق المادة والحس إلى حقيقة الإيمان الذي إذا ما دخل القلب وخالطت بشاشته القلوب فلا يخرج منه أبدا. * هذا ما كنت أريد أن أسأله لفضيلتكم.. فهل تعتقد أن طغيان المادة -بمعنى أنه لم يعد هناك نقاء روحي- هو السبب في التعامل بما أسميتموه عقلية الخرافة؟ - أنا أعتقد أن السبب هو أنهم قصروا العلم على الحس.. والعلم عندنا ليس قاصرا على الحس.. فهؤلاء في قرارة أنفسهم ينكرون الجن، وينكرون الملائكة، وقد ينكرون الجنة والنار، والبعض يغالي في ذلك فينكر الله عز وجل لأنه لم يره. لكننا نؤمن بالله عز وجل، وبالجن، وبالملائكة، وبالجنة والنار، ونؤمن أن هذا العالم المنظور وراءه عالم غير منظور.. فالإيمان بالغيب قد نص الله على أنه ركن من أركان الإيمان.. أما كونهم لا يصدقونني على المستوى الشخصي أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فهذا شأنهم! * القضيةيا فضيلة المفتي ليست قضية تصديق شخصي، لكن البعض يتحدث عن أن تلك الرؤية لو كانت من البشرى لكان السلف تحدثوا عنها.. فهم أقرب الناس لذلك؟ - هكذا فعلوا.. وقد نقلت عنهم ذلك؛ فالمرسي أبو العباس كان يقول: "لو غاب عني طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين"... * يقظةأم مناما؟ يقظة.. نعم.. فهؤلاء -يعني المنكرين- أنا أعتبرهم جهلة غوغاء. * إذاكان هذا عن الرؤية.. فماذا إذن عن تقبيل السور الحديدي المحيط بضريح الإمام الحسين؟ - سئلت: هل هذا شرك؟ فقلت: لا ليس بشرك.. هذا فعله العرب ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.. فقد قبلوا الرواحل وقبلوا دار الحبيب.. * تقصد الشعراء - نعم.. الشعراء.. أمام النبي صلى الله عليه وسلم، أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار فعلوا ذلك ولم يكفرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشركهم، وحينما جاءه كعب بن زهير وألقى بين يديه البردة، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشد كعب قصيدته: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول. إذن فرسول الله رأى هؤلاء، ورأى من فعلهم أنهم يقبلون ما يحبون، ولم ينههم عن ذلك، وأنا لم أدعُ الناس إلى هذا.. لأن المعلوم أن عقلية الخرافة تغير النقول، ولا تفهم المراد.. فالذي قلته: إن هذا ليس بشرك.. هم يقولون: إنه شرك فيكونون مع المتطرفين الإرهابيين الذين ملئوا الأرض دما. وأنا أقول هذا ليس بشرك.. ودليلي أن تقبيل الأشياء ليس بشرك.. فقد قبلوا اليد وقبلوا الرجل، ودخل عليه صلى الله عليه وسلم وفد عبد قيس وقبل يديه ورجليه، وهو قبل رأس جعفر، وقبل فاطمة، وقبل الحسين، وكان عطاء بن أبي رباح إمام أهل المدينة كما يقول الإمام مالك كان يقبل المنبر.. التقبيل من الحب.. حب الأشياء لا شيء فيه، ليس فيه شرك أو كفر مما يدعيه التيار المتشدد. أناأعلم الناس كيف يعيشون في حب ووسطية واعتدال، وهذه أدلتنا وهذا رأينا، وهذا وضع السلف الصالح، فمن أراد بعد ذلك أن يفعل هذه الضجة المفتعلة فمع غيري. * فضيلةالمفتي.. ليست ضجة وإنما هي محاولة من البعض للفهم؛ لأنهم ربما فهموا أن كلام فضيلتكم ينسحب بالضرورة على كل المقبلين حتى من كانت نيته اعتقاد النفع والضر فيما يقبل؟ - أنا حينما أسأل عن هذه التفاصيل أجيب عنها.. لكن عندما يجعل أحدهم تقبيل المقصورة شركا فهذا ردنا.. وتلك التفاصيل المخترعة أيضا أنا أعدها من عقلية الخرافة.. لأنها تسمى عند العلماء بالتداعي.. يعني حينما يأتي واحد مثل "أحمد رجب" ويكتب قائلا: "هل الصحابة كانوا يقفون أمام النبي صلى الله عليه وسلم ليتبول لهم من أجل أن يتبركوا"، هذا من التداعي الذهني.. كمن نقول له: إن العلماء يقولون إن التماثيل حرام، فيرد: "يعني نكسرها" هذا من التداعي الذهني لعقلية الخرافة، هذا ليس تفكيرا منطقيا، وأنا أحذر الناس من السطحية في التفكير، لأنها أحد العناصر المكونة لعقلية الخرافة، ومنها التجزئة والتداعي والعناد وهي عناصر تصل إلى عشرة وتئول إلى عشرة أيضا، ومنها تحطيم المصادر وتحطيم شروط البحث والتجزئة والعناد وغيرها. |
* اشتمل الكتاب أيضا فضيلة المفتي على بعض الفتاوى التي ظنها كثيرون مناقضة لمواقفك الأخيرة.. مثل حديثك عن ختان البنات على أنه مكرمة كما في صـ99 من الكتاب، وحديثك عن نقل الأعضاء وتحريمه، فهل تكشفت لفضيلتكم خلفيات أخرى تغيرت على أساسها الفتوى أم ماذا؟
- فتاواي لم تتغير من الأصل.. فهذا سؤال عن موقف الفقه الإسلامي من الختان.. والفقه فيه من قال بالوجوب كالشافعية، وفيه من قال بأنه مكرمة كالحنابلة، وفيه من قال بأنه تبع لمناخ البلاد كابن الحاج، وفيه من قال بأنه ليس من الشريعة في شيء كشارح عون المعبود العظيم آبادي.. وهناك رأي لي.. * وما هو رأي فضيلتكم؟ - رأيي أنه ليس من الشريعة في شيء.. لكن هناك فرق بين رأيي وبين ما هو موجود في الكتب، أنا أمين على نقل التراث بالمنهج العلمي.. ولذلك عندما يأتيني شخص ويسأل عن النقاب أقول له إن الشافعية يوجبونه، ومالك يقول إنه ليس من الدين في شيء، ويكرهه.. فيقول: وما رأيك أنت؟ أقول: إنه تابع لعادات البلاد.. لا أستطيع في بلد كالسعودية أن أقول للنساء اكشفن.. لقد صارت عادة.. لكنني في مصر مثلا أنصح بناتي من الجمهور بالحجاب العادي لا النقاب.. وهذا رأيي الشخصي.. لكن ما هو موجود في الكتب أنا أمين على نقله. وقد قال لي أحدهم: لماذا تنقل الآراء، لماذا لم تقل إن النقاب بدعة في الدين؟ قلت له لا.. هذا لا يجوز في بناء العقلية العلمية.. وهذا من آثار عقلية الخرافة التي تتحكم في عقول المهاجمين. * وماذا عن نقل الأعضاء؟ - قضية نقل الأعضاء تختلط كثيرا على الناس مع بيع الأعضاء.. وهناك فرق كبير بينهما، وعملية النقل لها تفاصيل صدرت بها فتاوى من المجامع الفقهية، وصدرت مني الفتاوى نفسها التي أفتت بها المجامع الفقهية.. أما بيع الأعضاء فمعناه أن يصير الفقراء قطع غيار، وهذا ضد الكرامة الإنسانية التي حفظها الإسلام.. وهو ما لا نرضاه ولا نقبله، والمشكلة أنهم دائما يخلطون ويخلطون، ويكذبون في النقل. * لكن البعض يتخوف أساسا مما ستحدثه الفتوى بإباحة النقل.. مع التشديد بالطبع في تحريم البيع.. يتخوف من فتح باب خلفي لهذه العملية.. فقط من باب سد الذرائع؟ - أنا أعتقد أن هذا التخوف رأي جدير بأن يسمع، وأن يأخذ في الاعتبار.. * إذن هل لفضيلتكم رأي قاطع في هذه العملية؟ - تفاصيل كثيرة.. فيما إذا كان من حي إلى حي، أو من ميت إلى حي، متى الضرورة، قضية الضرر، قضية موت جذع الدماغ.. إلى آخره. وأنا قلت مرات إن المسألة مركبة، وليس فيها رأي بسيط.. قلت هذا في المؤتمرات، وقلت هذا في التليفزيون، لكن لا فائدة.. يختزلون الأمور.. وهذا جزء من العقلية الخرافية.. الاختزال.. المركب يجعلونه بسيطا، فيؤدي هذا إلى تسطيح العقل.. وأنا أخاف على أمتي من تسطيح العقل. |
حوار مع عبد الوهاب المسيرى :D
|
![]() ![]() من برنامج ( زيارة خاصة ) _ قناة الجزيرة سامي كليب: في شعر الدكتور عبد الوهاب المسيري فلسفة وفكر وصوفية وتساؤلات، وفيه أيضا يقين وطمأنينة وإيمان. رحلة طويلة يختصرها هذا المفكر العربي الفذ في بعض الشعر وكثير من المؤلفات، وحين وصلت لعنده كان السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهني يدور حول صحته فهو وبعد أن حارب طويلا على جبهة السرطانات الملمة بأمته العربية ها هو يحارب اليوم على جبهتي الفكر وصحته الخاصة. عبد الوهاب المسيري: أنا الحمد لله يعني أحارب، يعني كما يقول أصدقائي أنا من المحاربين وعادة في أميركا في الواقع وهم لا يؤمنون بالله يقولون بعد إجراء عملية أو إعطاء دواء يقولون إن 80% مسألة إرادة لأن السرطان الذي مصاب به يعني غير معروفة أسبابه وتلاقي مثلا تجد بعض الأدوية تنجح مع بعض الأشخاص وتفشل مع آخرين. سامي كليب: وحاولت أيضا أن تتخصص في القراءة يعني قرأت كل شيء حسب ما فهمت عن مرضك؟ عبد الوهاب المسيري: نعم، هو عندي بعض التلاميذ من الأطباء يرسلون لي بكل ما هو جديد، ويحضرني هنا حادثة طريفة جدا، وهي أن أستاذا في جامعة كامبريدج وهو مثلي تماما أستاذ في الشعر الرومانتيكي الإنجليزي وأصيب بنفس المرض، فحينما ذهب إلى الطب التقليدي أخبروه إن عنده ستة شهور وأنه لو تم علاجه بالكيماوي سيموت بعد ثلاثة أشهر، فكما يقول مارك توين كذب نبأ وفاته واستمر، وحاول بقى مع أدوية وعلاجات مختلفة من أهمها علاج اسمه (غيرسون تريتمنت) في ألمانيا وبعد عشر سنين كتب كتابا بيقول فيه إن ده تحدي لهم.. سامي كليب: على كل حال واضح التأثير النفسي على المريض وإن شاء الله يعني يشفيك الله وتعيش سنوات طويلة بعد، واضح أن العامل النفسي ضروري ومهم وصار مع حضرتك يعني أنت لما رحت عملت الصور في المرة الأولى تبين أن الوضع كارثي ولكن قررت وصمدت ورجعت إلى الطب أيضا التقليدي الطبيعي في بعض المرات ويعني كان المفترض أنه لا سمح الله تتوفى من سنة وأكثر. عبد الوهاب المسيري: لا أنا كمان كذبت نبأ وفاتي. بس تكلفة العلاج باهظة ولولا مساعدة سمو الأمير عبد العزيز بن فهد والأمير سلطان بن عبد العزيز كان من غير الممكن أستمر يعني أنا تكلفت الملايين وطيلة فترة علاجي وأنا أفكر في الفقراء. سامي كليب: الفقراء كانوا ولا يزالون في صلب اهتمامات الدكتور عبد الوهاب المسيري فهذا المفكر والفيلسوف والسياسي العربي لا يزال وهو في أوج مرضه ومحاربته للسرطان يرفع الصوت عاليا دفاعا عن الطبقات الفقيرة في بلاده لا بل وينزل إلى التظاهرات أيضا متقدما حركة كفاية التي تولى قيادتها في مرحلة اقتصادية وسياسية صعبة في مصر، وهو اليوم يدق ناقوس الخطر. عبد الوهاب المسيري: كلنا في حركة كفاية وفي كل حركات المعارضة يعني نشعر أن مصر وصلت مع الأسف إلى نقطة النهاية، فقدت أشياء كثيرة. سامي كليب: كيف يعني نقطة النهاية؟ عبد الوهاب المسيري: أنه خلاص هذا النظام لم يعد قادرا على اكتساب أي شكل من أشكال الشرعية فهو مستمر في نهب مصر مستمر في البطش بكل أشكال المعارضة، حتى ده حتى لما يجي الجهاز المركزي للمحاسبة وهو جهاز حكومي ويطرح تساؤلات بخصوص ملايين اختفت وملايين كذا، يهاجمونه في البرلمان، تمديد قانون الطوارئ لم يناقش ووفق عليه مباشرة، يعني توشكا حتى الآن لا نعرف.. سامي كليب: كيف تبرر دكتور مسيري هذا التناقض، ما تصفه بالبطش وبين قدرتك مثلا اليوم على التعبير بحرية والإدلاء بتصريح ولم يأتك أحد ويقبض عليك مثلا؟ أنه في هامش من الحرية معطى للكلام إذا صح التعبير؟ عبد الوهاب المسيري: نعم، نعم، وده شيء تعلموه من إسرائيل ومن الولايات المتحدة، ديمقراطيات عنصرية، القرار السياسي فيها بيد النخبة الحاكمة لكن الصحافة حرة تماما، حرة تماما تقول ما تقول، أو كما قال أحدهم إن الديمقراطية في مصر تعني أن تقول ما تريد أن تقول ونحن نفعل ما نريد أن نفعل. سامي كليب: طيب خلينا نحكي شوي عنك وعن تاريخك ولنبدأ بالعائلة، حسب ما فهمت أن امتدادات عائلة المسيري قد تصل إلى المغرب العربي ولها تواصل مع السودان أيضا، هل صحيح أنه في بعض أصول العائلة أو ربما أصل العائلة من المغرب؟ عبد الوهاب المسيري: دي إشكالية في علم الـ anthropology هل قبيلة المسيرية اللي هي بتذكر في الأخبار اللي عن دارفور وكردفان هل جاءت مع تغريبة بني هلال من الجزيرة إلى تونس أم أنهم كانوا أصلا في المغرب واستقروا في السودان؟ دي إشكالية. سامي كليب: ما عرفت جواب عن الموضوع؟ عبد الوهاب المسيري: لا أنا قرأت بس مقالا بيطرح السؤال. سامي كليب: خصوصا أنك تهتم بالسيرة الهلالية يعني بشكل دقيق.. عبد الوهاب المسيري: نعم، نعم. سامي كليب: وأصدقاؤك من منشدي السيرة الهلالية. " عبد الوهاب المسيري: يا سلام، أعشقها، أنا أعشق كل الأعمال الفنية والأدبية التي تعبر عن نبل الإنسان ومقدرته على تجاوز الحدود المادية، يعني من المفضلين لدي المخرج السينمائي أكيرا كيروساوا. |
سامي كليب: في الحديث عن طبعا تحدثت منذ قليل عن التبكير في كل شيء يعني باكرا دخلت إلى الأحزاب وباكرا ناهضت الإنجليز يعني حسب ما فهمت أنك قذفت الإنجليز بالحجارة وأنت في سن السابعة وأنك أصدرت مجلة وأنت في الحادية عشرة من العمر طبعا كمجلات الحائط والمجلة حتى المكتوبة وشاركت في التظاهرات ضد الملك فاروق وكان عمرك 12 سنة، واتُهمت بالشيوعية وأنت في سن الثالثة عشرة كنت بعد ما انتميت للحزب، وصحح لي بعض التواريخ يعني أنا أنصح القارئ إذا كان يود أن يعرف في الواقع الأهم في سيرتك أن يقرأ هذه السيرة الجميلة "عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية" وتذيلها طبعا بعبارة تقول سيرة غير ذاتية وغير موضوعية. الجميل بهذه السيرة في الواقع والتي قرأتها بمتعة كبيرة أنه ليس هذا المفكر الذي يصب قوالب فكرية جامدة لا يفهمها، أي قارئ ممكن يقرأ هذا الكتاب بمتعة كبيرة وفيه العديد من القصص والروايات في رحلاتك إلى أميركا في عودتك إلى مصر وما إلى ذلك، ولكن صحح لي بعض التواريخ إن كانت خطأ، مواليد عام 1938 يعني اليوم سبعين سنة تقريبا. عبد الوهاب المسيري: نعم، إن شاء الله يعني بعد شهرين. سامي كليب: دخلت كلية الآداب بالإسكندرية طبعا قسم الأدب الإنجليزي ذهبت إلى أميركا حصلت على دكتوراه عدت إلى مصر للتدريس في كلية البنات في جامعة عين شمس، سنة 1970 مستشار لوزير الإرشاد كان وزير الإرشاد الأستاذ محمد حسنين هيكل وعلى ما يبدو شجعك أيضا للموسوعة الهامة جدا في الواقع في تاريخنا العربي "اليهود واليهودية والصهيونية" وخبير الشؤون الصهيونية منذ عام 1971 يعني تقريبا منذ 36 سنة بمركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام الذي أسسه أيضا الأستاذ هيكل. عبد الوهاب المسيري: ولكن أنا استمريت فيه حتى عام 1975 ولما بدأت رياح التطبيع تهب لم أعد إلى منصبي. سامي كليب: على ذكر رياح التطبيع المضحك المبكي إذا صح التعبير أنك كنت في فترة معينة بعد دراستك بأميركا وعودتك إلى مصر كنت تلاقي شهرة كبيرة كل التلفزات يعني تتقاطر عليك وتود أن تستضيفك، لما عدت بالـ 1979 كانت مرحلة التطبيع أخذت أوجها، عزلوك، صح هذا الكلام؟ عبد الوهاب المسيري: نعم. وهنا أتحدث عن الذئاب الثلاثة التي هاجمتني حينما عدت.. سامي كليب (مقاطعا): الشهرة.. عبد الوهاب المسيري (متابعا): الأول الثروة، آه أنه من أسرة ثرية لكن الثراء بيأتي من التجارة وليس من دراسة الفلسفة وتدريس الشعر الرومانتيكي الإنجليزي. سامي كليب: يعني تحدثت عن ثلاثة ذئاب، فقط لنعددهم، الشهرة والثروة والهيغلية المعلوماتية. عبد الوهاب المسيري: الثروة وثم الشهرة. الثروة كانت أضعف الذئاب لأني اكتشفت أن أسلوب حياتي جميل كأستاذ أقرأ وأجلس مع أسرتي وأصدقائي وأجتمع بالشباب وعندي فسحة من الوقت كي أنمو.. سامي كليب (مقاطعا): في على ما يبدو تقشف بعاداتك يعني أنا فهمت أنك كنت ترتدي القميص حتى الشحاذ ما بيحب يأخذه. عبد الوهاب المسيري: دي بقى حتى الأثرياء مننا عندهم مسألة التقشف دي يعني، يعني بمعنى أن والدي رحمه الله كان رأسماليا. سامي كليب: كان عنده مصنع. عبد الوهاب المسيري: عنده مصنع من أكبر المصانع لكنه كان لا يسرف لا يضيع أمواله في شراء شاليهات وما شابه، إنما كان مثلا عندنا سيارة خاصة.. سامي كليب (مقاطعا): بخل أو تقليد يعني كان؟ عبد الوهاب المسيري: لا، لا، هو تراكم رأسمالي حقيقي كما حدث في الغرب هؤلاء هم الذين أسسوا الصناعة في الغرب، والدي كان ينتمي إلى هذا النمط. سامي كليب: الذي يجمع المال ولا يصرف كثيرا يعني. عبد الوهاب المسيري: نعم. وبعدين ما كانش بخيلا كان حصيفا يعني مثلا كان عندنا سيارة خاصة يقودها سائق كان من الممنوع علينا أن إحنا نركبها قال لأنه تركبوا التروماي شأنكم شأن أولاد الموظفين وقد أفادني هذا لأني حين ذهبت إلى الولايات المتحدة وكان راتبي الشهري هناك مائتي دولار وأقطن في شقة بـ 180 دولار عملت كغفير في مصنع ودبرت أموال كثيرة وكده. سامي كليب: مش غفير فقط كنت صرت أصبحت رئيس فرقة الإطفائيين. عبد الوهاب المسيري: نعم. كنا طبعا إحنا نتهمه بالبخل ولكن لم ندرك حكمته في هذا. سامي كليب: وفهمت أنه انتقل هذا الشيء لك. يعني حتى ثيابك ترتديها لسنوات طويلة لا تغير القمصان لا تغير الثياب إلا حتى فعلا تصل إلى مرحلة صعبة يعني. عبد الوهاب المسيري: نعم أنا هذا الرجل نعم. سامي كليب: هذا التقليد الشيوعي كمان كان ولا لا، يعني المؤثرات الشيوعية؟ عبد الوهاب المسيري: لا، أعتقد أنه موقف من الاستهلاكية، أنا أرى أن الاستهلاكية ستهلك الإنسان، تجعله يجري وراء الأشياء بدل أن يستخدمها وده ما يحدث الآن يعني مسألة الموضة، الموضة الهدف منها القذف في الإنسان في دوامة بحيث أنه يغير ملابسه أربع مرات كل سنة.. سامي كليب (مقاطعا): بس اسمح لي بسؤال يعني ربما سيفاجأ المشاهد أن أسألك هذه الأسئلة ونحن أمام مفكر كبير ولكن هل فعلا تصمم القمصان يعني تهتم بالأزياء؟ عبد الوهاب المسيري: نعم وبأدرس الأزياء يعني بأشوف قنوات الـ Fashion لأرى أبعاد الجريمة. أما القميص الذي صممته والله كانت توقفني بعض السيدات في الشارع ويقلن من أين اشتريته؟ فكنت أقول لهن إن هو عبارة عن الجلابية نصف والياقة التي لا لزوم لها على الإطلاق. سامي كليب: على الطريقة الصينية يعني. عبد الوهاب المسيري: نعم.. سامي كليب: لسه موجود عندك القميص؟ عبد الوهاب المسيري: نعم، نعم. سامي كليب: طيب ممكن نشوفه سوا. في متابعة التواريخ عام 1972 أولى المؤلفات التي تصفها بالحقيقية "نهاية التاريخ، مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني" في الواقع حتى استخدام كلمة نهاية التاريخ حين كُتب عنه في الولايات المتحدة الأميركية ضج العالم أن نهاية التاريخ، حضرتك كاتب عنه يعني من أكثر من 34 سنة من 36 سنة تقريبا. عبد الوهاب المسيري: قبل أن يولد فوكو ياما يمكن. سامي كليب: بالضبط. عبد الوهاب المسيري: ولذلك حينما جرى حوار بيني وبينه عبر الإنترنت أهرام ويكلي، دُهش. طبعا أنا رؤيتي لنهاية التاريخ مختلفة عنه هو بيرى أن نهاية التاريخ هي انتصار الليبرالية، أنا بأرى أن نهاية التاريخ هي انتصار للفاشية، من يعلن نهاية التاريخ يعلن نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي أي أن الإنسان يتحول إلى كائن بيولوجي خاضع للحتميات المادية. سامي كليب: هنا تتحدث عن التناقض بين المادة والروح طبعا. عبد الوهاب المسيري: نعم نعم. |
الرحلة الفكرية بين الماركسية والإسلام سامي كليب: من دمنهور التي ولد فيها عام 1938 إلى كلية الآداب إلى إتقان الأدب الإنجليزي والتخصص به في الولايات المتحدة الأميركية إلى التعمق في الفكرة اليهودية والصهيونية إلى التبحر في الفكر الإسلامي حيث درّسه في أعرق الجامعات الأميركية كان الدكتور عبد الوهاب المسيري دائما في رحلة البحث عن سر الكون، سعى لمعرفة ذاك السر في الماركسية والفكر المادي ثم عاد إلى مسالك الروح ولكن عبر العقل فنقض الماركسية دون أن يرمي في بحرها حجرا. عبد الوهاب المسيري: لا، لا، الماركسية تعاني من انقسام، هناك المادية الجدلية وهناك الإنسانية الماركسية، الإنسانية الماركسية تحوي كل عناصر التجاوز الممكنة ولذلك.. سامي كليب (مقاطعا): ولذلك كتب بالزمان كمال جنبلاط في لبنان قائد الحركة الوطنية "نحو اشتراكية أكثر إنسانية". عبد الوهاب المسيري: آه، يعني لما تؤمن بالإنسان والإنسان غير خاضع للمادة أنت تجعل الإنسان يشير إلى الما وراء إلى الله سبحانه وتعالى. سامي كليب: في التجربة الشيوعية حضرتك تروي هذا الأمر يعني في الواقع تقول إنه كانت قصيدة مغمورة على ما يبدو لكامل الشناوي مش متأكد منها تماما في مجلة الرسالة الجديدة هي التي تركت أثرا كبيرا في نفسك، تقول القصيدة "يا رب فيم خلقتنا أو تركتنا.. عبد الوهاب المسيري (مقاطعا): لا، "فيم خلقتنا وتركتنا". سامي كليب: "يا رب فيم خلقتنا وتركتنا نهب الظلام فلا ضياء ولا سنا وندب فوق الأرض لا ندري بها وندب فوق الأرض فلا تدري بنا أنا من أنا، أنا من أكون؟ وسيلة أم غاية أنا لست أعرف من أنا وهم يساور ملحدا فيروعه ويخافه من كان مثلي مؤمنا" عبد الوهاب المسيري: آه، دي فعلا أنا في اللحظة دي كانت بأتساءل وبأقف بين الإلحاد والإيمان ولم أجد كما أقول أحدا يجيب على أسئلتي فتوجهت نحو الإلحاد وإن كان بعض.. وأنا نفسي الآن أتساءل هل هو كان إلحادا، طيب أمّال لم كنت أؤمن بالقيم الأخلاقية المطلقة؟ القيم الأخلاقية المطلقة لا علاقة لها بالمادية متجاوزة للمادية ولذلك حتى كنت أقول مازحا لأصدقائي من الماركسيين أنني ماركسي على سنة الله ورسوله يعني أريد خلطة تميزني عنهم. سامي كليب: ولكنك جُندت في الحزب الشيوعي عام 1955 دخلت رسميا يعني حصلت على بطاقة عضوية. عبد الوهاب المسيري: آه. وصُعّدت لأني كنت أعرف الإنجليزية وكنت أترجم، ترجمت أول من ترجم كتاب ماوتسي تونغ "في التناقض" وهو كتاب في غاية الأهمية فتعلمت منه كثير. سامي كليب: كان على الأرجح أول ترجمة فعلية عربية لهذا الكتاب. عبد الوهاب المسيري: نعم في الخمسينيات، تقول كده. سامي كليب: المضحك بالترقية داخل صفوف الحزب أنهم كانوا يريدون أن يرقوك وأنت ترفض تقول أنا برجوازي يعني ما لازم. عبد الوهاب المسيري: لا، يعني كنت أحذرهم مني من حدودي حتى كنت أقول لهم إن أحيانا إنه يجب ألا يذكر لي أحد أي أسرار لأنه لو ضربني البوليس سأعترف يعني بمعنى أعرف مواطن قوتي ومواطن ضعفي ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه. سامي كليب: وقدت تظاهرات عمالية أيام عملك الشيوعي؟ عبد الوهاب المسيري: لا، رتبت مظاهرة في مصنع شربيت في الحضرة، إضراب.. سامي كليب: لتجفيف البصل كان. عبد الوهاب المسيري: نعم. إضراب هناك لمدة 15 يوما وبعدها.. سامي كليب: اعتُقلت. عبد الوهاب المسيري: لا، بعدها حصلنا على مكاسب. لا، أنا اعتُقلت أثناء توزيع منشورات يوم ثورة العراق بتؤيد.. سامي كليب (مقاطعا): تعاطفا مع طبعا عبد الكريم قاسم. عبد الوهاب المسيري (متابعا): آه، بس الإمضاء باسم الحزب الشيوعي المصري. سامي كليب: طيب بس حسب ما فهمت أنه حين اعتقلت بعدها مباشرة غادرت الحزب. تعرضت للإهانة للضرب في الاعتقال؟ عبد الوهاب المسيري: لا لا، أنا تركت الحزب بناء على أسس، لأن قواعد السرية لم تكن متبعة فقلت لهم إنه سيحدث مواجهة بيننا وبين نظام عبد الناصر فمثلا كنت مسؤولا عن خلية وكنا مجتمعين في الشلالات وكنت بأدي محاضرة عن حزب البعث ممثل للبرجوازية الصغيرة وأشياء من هذا القبيل، وفوجئت بأحد الرفاق يأتي فقلت له كيف عرفت؟ قال يا أخي أنت من كبار المثقفين ونود أن نستفيد. سامي كليب: كان جاسوسا؟ عبد الوهاب المسيري: وظهر فيما بعد أنه جاسوس أعرف اسمه لكن لا داعي لذكره. فعند هذه اللحظة قررت أن أبتعد أن يعني الاستشهاد ليس فريضة وإنما واجب حتمي يعني عندما أضطر للاستشهاد أستشهد لكن طالما أني يمكن أن أنقذ روحي لا بد أن أنقذ روحي حتى تستمر الثورة والمقاومة. سامي كليب: طيب شو سبب استقالتك من الحزب خصوصا أنه حتى اليوم يعني حين يسألك البعض عن سبب انتمائك للحزب الشيوعي وهل ندمت على الانتماء، تقول لا بالنتيجة كان له فضل بتوجهك الإنساني الفلسفي إذا صح التعبير في لحظة معينة، شو الاستقالة كانت؟ عبد الوهاب المسيري: هي دي أنهم كانوا غير مدركين لأهمية السرية. سامي كليب: فقط يعني مسألة السرية؟ عبد الوهاب المسيري: آه. سامي كليب: ولا كان في أسباب أخرى الخوف مثلا من الاعتقال ضغط الأهل؟ عبد الوهاب المسيري: لا. مش الخوف من الاعتقال وإنما الرغبة في الاستمرار، وبالفعل بعد عدة شهور تم القبض على معظمهم والطريف.. سامي كليب (مقاطعا): كم كان عمرك تقريبا آنذاك؟ عبد الوهاب المسيري: أنا كنت حوالي الثامنة أو التاسعة عشر. سامي كليب: لأنه حسب ما فهمت أن والدك كان له نفوذ وأخرجك من السجن يعني سريعا. عبد الوهاب المسيري: نعم. سامي كليب: وممكن يتخيل الإنسان أنه بهذا العمر الشاب في مقتبل العمر طبعا قناعاته الأيديولوجية ليست راسخة تماما فممكن يغير رأيه بسهولة يعني نتيجة خوف أو نتيجة اعتقال.. عبد الوهاب المسيري: لا لا، قناعاتي الأيديولوجية تغيرت من خلال التساؤلات الفلسفية والحوار بيني وبين نفسي كما قلت. |
سامي كليب: ما لم تجده في الشيوعية وجدته في دين الله مثلا في القرآن..؟ عبد الوهاب المسيري: نعم. يعني مسألة التجاوز أصبحت أساسية، التجاوز هو الإنسان أما المادية هي الخضوع للحتميات البيولوجية والمادية. سامي كليب: فهمت أن اللقاء مع مالكوم إكس الداعية الإسلامي الذي بدأ حياته طبعا جانحا ومخدرات وتجارة وبعدين اعتنق الإسلام كان اللقاء معه مفصليا. عبد الوهاب المسيري: إحنا كنا تعلمنا الدين أفيون الشعوب ولكن في حالة مالكوم إكس الدين حرره من عنصريته، يعني تجربته في الكعبة آه السود واقفين مع بعض والبيض واقفين مع بعض لكن بسبب أنهم يعرفوا بعض مش بسبب أي عنصرية خاصة وأن عزام باشا وهو أبيض هو الذي تبناه وقدمه. حاجة ثانية أحس أنا وفي الولايات المتحدة أن أصدقائي معظمهم إما كاثوليك أو يهود من شرقي أوروبا أي من مجتمعات تقليدية، فوجدت أن مفهوم الجماعة أساسي عندهم وهو مفهوم مترسخ في العقيدة الكاثوليكية في المجتمعات التقليدية وتستمر تيجي مثلا إيه ميلاد ابنتي، يعني أنظر إلى هذا الشيء وأقول هل يعقل أن دي مسألة أنزيمات وهرمونات وبويضات بس يعني كده؟! وكتبت قصيدة برضه قصيدة مفصلية وفاجأتني لأنها وجدت أنها قصيدة دينية وأنا المفروض مادي. سامي كليب: شو هي؟ عبد الوهاب المسيري: بأقول فيها يا سيدي وبينما محمد في غاره حزين يا لجة الضياء قد أرجفت قلبه وبعدين أهم ثلاثة أسطر بقى جايين: يا إصبع الإله قد أقلقت مضجعي أولدتُها حواء ثم مريما كأنه كما لو كان من الله سبحانه وتعالى أيقظني في ليلة حتى أضاجع زوجتي لتلد، وفي هذه اللحظة كنت أدرس اللاهوت المسيحي وفي اللاهوت المسيحي نموت في حواء ونولد في مريم، حواء هي الشر ومريم هي الخير، أولدتها حواء ثم مريما، إنسان كامل {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها}[الشمس:7-8] حواء ومريم. سامي كليب: للمفكر العربي الدكتور عبد الوهاب المسيري مؤلفات بالفكر لا تحصى ولكن له أيضا رحلات ولو قصيرة في عالم الشعر وحين قرأت بعض ما كتب وجدته نازعا دون أن يدري ربما صوب شيء من الانعتاق المادي والانغماس فيما انغمس فيه قبله بعض الصوفيين، واللافت أن شعره قد يُحدد بما قبل وما بعد الإيمان. عبد الوهاب المسيري: والله في واحدة قبل الدخول للإيمان. سامي كليب: تفضل. عبد الوهاب المسيري: حال لم تحن حينما صعد الشيخ المنبر وقف ثابتا كالتمثال مهيبا كالمئذنة فركزت كل حواسي ومشاعري لكنك يا طائر الفردوس الذهبي لِم لَم تحط على كتفي؟ يعني كنت على عتبة الإيمان ولكن.. سامي كليب (مقاطعا): لم تكن مقتنعا تماما. عبد الوهاب المسيري: تماما. سامي كليب: لم تتأخر غربة الدكتور عبد الوهاب المسيري عن الله والدين والإيمان وهو إذ تعمق في مختلف الكتب السماوية إلا أن انتماءه الإسلامي ترسخ مع السنين ترسخا روحيا وفكريا فهو كان مستشارا أكاديميا للمعهد العلمي للفكر الإسلامي بواشنطن وكان هناك أيضا عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية. ترسخ انتماؤه الإسلامي إلى درجة بات يتراءى له معه الرسول الكريم كمن يمد بحور الشعر في بحور الشدة. عبد الوهاب المسيري: "جاءني في حلمي لابسا عباءته ملتفا بالسحب فشكوت إليه بؤسي وحزني وأخبرته عن جرحي وعن قلبي الذي لا يسأم الطيران والتحليق فابتسم ولم يقل شيئا وحينما جاء النبي صلوات الله وسلامي عليه مرة أخرى انفجرتُ باكيا فابتسم ثم سمعت هذه الكلمات ابن آدم في مركز العالم فلتقف ثابتا لا تتزحزح فقد استخلفك الله في الأرض، فانفرجت أساريري ولم أخرج من الحلم" يعني هنا تأكيد لمسألة أن العودة كانت مؤسسة على الإنسانية الإسلامية. سامي كليب: بس واضح أنك كنت في مرحلة ضعف أيضا يعني كنت بحاجة إلى مساعدة ما إلى يد تمتد إليك. عبد الوهاب المسيري: في حاجة إلى تفسير، أنا كما قلت عودتي للإسلام كانت عقلية كنت في حاجة إلى تفسير فحينما جاءني الرسول في الحلم وأخبرني عن مركزية الإنسان في الكون وأن الله استخلفني هنا أدركت الإجابة على السؤال ووجدت أن هذا هو المخرج. سامي كليب: فعلا جاءك في الحلم؟ عبد الوهاب المسيري: نعم. ورغم أني أنا أقول إني لست متصوفا ولكن هذا ما حدث. |
التخصص في الصهيونية وإنجاز الموسوعة سامي كليب: حين ظهر كتاب "نهاية التاريخ" في الولايات المتحدة الأميركية قبل سنوات قليلة ضج العالم به وجعل كاتبه فرانسيس فوكوياما من أشهر الكتاب، ولكن من يقرأ مؤلفات المفكر العربي الدكتور عبد الوهاب المسيري سيجد أنه سبق فوكوياما بأكثر من ربع قرن في الكتابة عن الموضوع نفسه، هو اعتبر أن النموذج الأميركي آيل للسقوط وراح يقارع الأميركيين في عقر دارهم لتفنيد آرائهم حين كان مدرسا في الولايات المتحدة أو مستشارا لوفد الجامعة العربية هناك. عبد الوهاب المسيري: شوف هو كل عقيدة دينية فيها جزء غيبي و {..فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ..}[الكهف:29]. المشكلة في اليهودية بقى أنه منذ البداية هناك صراع بين التوحيد والحلول، في التوحيد الشعب اليهودي لا يختلف عن الشعوب الأخرى وده موجود في كتب الأنبياء بالذات، كتب الأنبياء كتب إنسانية إلى أقصى حد وتوحيدية. سامي كليب: الأنبياء اليهود. عبد الوهاب المسيري: آه في الكتاب المقدس العهد القديم. يعني مثلا صورة آخر الأيام سيكون هناك طريق من مصر إلى فلسطين ومن آشور إلى كذا، يعني العالم في وئام ولا يوجد شعب مختار، بقى بالعكس في كتب الأنبياء في تعنيف للشعب لارتكابه الكذا، ده الجانب التوحيدي. الجانب الحلولي الذي ساد في نهاية الأمر يرى أن الله قد حل أي نزل وتماهى مع الأرض والشعب بحيث أصبحا مقدسين. وحينما.. سامي كليب (مقاطعا): الطريف لو سمحت لي بالمقاطعة أنه حين تتحدث لا أدري إذا كان في الموسوعة أو في كتاب آخر تقول إن اليهود أو الصهاينة بشكل عام يتحدثون عن الأرض المقدسة وأن هذه الأرض سكنتها شعوب وحضارات غير مقدسة أساسا يعني. عبد الوهاب المسيري: آه. ما هو ده شكّل الخريطة الإدراكية الصهيونية، ولكن المعادين لإسرائيل يسمونه عبادة العجل الذهبي، الانحراف عن اليهودية لكن الحلولية اليهودية هذه هي التي سادت وهي جوهر الفكر الصهيوني. سامي كليب: فقط سأطلب منك ولو سؤال تبسيطي يعني ربما المشاهد الآن ليس كل المشاهدين يعرفون أو يدركون جوهر الحلولية لو اختصرتها يعني ولو بعبارات بسيطة ليفهمها أي مشاهد يعني ما هو جوهرها ولماذا ركزت عليها في الكثير مما كتبت؟ عبد الوهاب المسيري: أنا أرى كلمة حل أي نزل وهبط وسكن في الأرض أو في الشعب أو في الزعيم أو كذا ثم يتماهى معه، بحيث أن يصبح الإله لا وجود له خارج هذه الأشياء ولكن هذا يعني غياب الله. سامي كليب: طيب بهذا المعنى ولذلك سؤالي أن مثلا عند المسيحيين يقال إن الله أو ابن الله هو يسوع المسيح وأن الله حل به، عند البوذيين أن الكارما أو الله في الداخل وليس في الخارج وكأنه في داخلك وحل بك، يعني شو الفرق؟ أين أخطأ اليهود في هذا المعنى إذا صح التعبير؟ عبد الوهاب المسيري: هو في نزعة نحو الحلول عند الإنسان، أنا بأميز بين لحظتين لحظة أسميها اللحظة الرحمية وهي الجنين في رحم أمه يظن أنه جزء لا يتجزأ منها وتستمر هذه العلاقة بعد الولادة مدة ثلاثة أربعة أشهر بحيث أنه حينما يطلب الثدي يأتيه فورا فلا يوجد أي مسافة بين المثير والاستجابة وهذه طبيعة الحيوانات بالمناسبة، لأنه بالنسبة للإنسان المثير يفصله ذكريات وأوهام وكذا عن الاستجابة. فالنزعة الرحمية هذه بتعني أن الإنسان غير مسؤول لأنه جزء من كل، هي دي نزعة وحدة الوجود التي تعبر عن نفسها في كل الأديان بشكل مختلف يعني مثلا الإيمان بالأولياء وأن الوساطة الشفاعة وهكذا هي الإنسان العادي يود أن يشعر بالإله من خلال حواسه الخمس وهذا لأنه غير قادر على التجاوز فهو.. النزعة الربانية بقى هي العكس الإنسان يعرف أنه جزء من كل ولكنه جزء متفرد وأن المثير منفصل عن الاستجابة وأن المسافة هذه مسألة مهمة. سامي كليب: ولكن بهذا المعنى قد تلغي الكثير من المفاهيم القائمة، يعني مثلا الإمام المغيّب مثلا.. الصالحين.. عبد الوهاب المسيري (مقاطعا): آه كل هذه مفاهيم حلولية أنا أعتقد أنها تهدد كل الأديان وهذا الخطر الأكبر أن علينا أن نتنبه كل المؤمنين سنة شيعة أقباط دروز علينا أن نتبنه إلى هذا. سامي كليب: صاحب المؤلفات الكثيرة وفي مقدمها "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" يستكمل حديث الذكريات ابتداء من مغامرة هذه الموسوعة التي شجعه عليها الدكتور أسامة الباز المستشار السياسي لرئيس الجمهورية. عبد الوهاب المسيري: هو أنا تعرفت على الدكتور أسامة ونشأت صداقة قوية مستمرة حتى الآن في الستينيات في الولايات المتحدة وكان أيامها التوجه الناصري ثم حينما عدت قدمني للأستاذ هيكل بعد أن أنبأني أو أخبرني أن لا بد أن أتخصص في الصهيونية، فهو بشكل من الأشكال كان مسؤولا ليس عن الموسوعة وإنما توجهي للتخصص، وحينما قابلت الأستاذ هيكل أنا كنت أرغب أن أكون ناقدا أدبيا قدمت له مشروع كتاب "نهاية التاريخ" وطلبت منه أنه لو يعين مساعدي باحث أنا ممكن أشرف عليه. سامي كليب: اقترحَ أن تكون أنت. عبد الوهاب المسيري: آه، قال لا يمكن أن يكتب مثل هذا الكلام غيرك ثم أعطاني كمية هائلة من المال وأرسلني إلى الولايات المتحدة اشتريت كل ما أريد من مراجع التي تشكل نواة لمكتبة مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية وبدأ الغرق في المسار الصهيوني. سامي كليب: طبعا كان الوقت آنذاك منتصف السبعينات يعني 1974- 1975. عبد الوهاب المسيري: لحد 1975. سامي كليب: وكان بدأ يعني الدخول في بعض الصراعات الداخلية في مصر في الدول العربية وما إلى ذلك وحسب ما فهمت أنه حين بدأت جديا بكتابة الموسوعة ووصلت إلى درجة متقدمة حاول البعض مسحها وأن القول لك نصحك بأن اذهب وسافر ونحن سنتابع الأمر وكأنه كان هناك نية لعدم صدور هذه الموسوعة. عبد الوهاب المسيري: في الواقع عرفت فيما بعد أن في البنود السرية في اتفاقية الفصل بين القوات كان المطلوب التخلص من الموسوعة، وبالفعل حينما عدت من الولايات المتحدة عام 1979 كنت كي أشتري نسخة أو نسختين من الموسوعة من مكتبة.. من الأهرام تأخذ أياما طويلة ثم تقرر أنها تفرم لكن بائع كتب سعودي برضه مرة أخرى ذكي اشترى المجموعة كلها ولذلك هذه الموسوعة معروفة في السعودية جدا وغير معروفة خارجها. سامي كليب: خليني أرجع فقط لنقطة لأنها مهمة كان بالاتفاق الإسرائيلي المصري أنه أن تلغى هذه الموسوعة أن تحذف؟ عبد الوهاب المسيري: نعم. سامي كليب: كيف عرفت يعني ولا قرأت البند ولا؟ عبد الوهاب المسيري: أحد المتمكنين جدا أخبرني بالبنود السرية وكانت هذه أحداها. سامي كليب: شو في بنود أخرى خطيرة؟ عبد الوهاب المسيري: في الوقت ده اللي بقي في ذاكرتي أنه يخصني، لكن يعني اتكشفت الأمور في كامب ديفد نزع السلاح سيناء التصريح للإسرائيليين بكذا. سامي كليب: بعض المسلسلات التلفزيونية الخطاب الإعلامي على ما يبدو أيضا. عبد الوهاب المسيري: آه. ولو أنه طبعا هناك إخفاق إسرائيلي كامل في رغم التطبيع مع الحكومات تظل الجماهير والحمد لله بفطرتها السليمة معادية للصهيونية. سامي كليب: تعرف حين مرضت يعني صدرت شائعات وسرت شائعات كثيرة تقول إن هناك مؤامرة أيضا صهيونية إمبريالية لقتلك وأنه دس لك شيء معين في الجسم، طبعا حضرتك سخرت من كل ذلك وكتبت ضده ولكن هل تعرضت مثلا لمضايقات لمحاولات اغتيال بعد خصوصا توجهك في تشريح هذا المجتمع الإسرائيلي الصهيوني؟ عبد الوهاب المسيري: عام 1982 أرسل لي مايير كاهانا 13 خطابات تهديد بالقتل، ستة في القاهرة وكنت أثناء ذلك أدرّس في جامعة الملك سعود فأرسل لي ستة هناك، الثالث عشر وصلني في القاهرة بعد وصولي بيوم يقولون نعرف إنك وصلت ولذا نحن نحفر لك قبرا، وأرسلوا لمساعدي الدكتور محمد هشام خطابات مماثلة يعني. سامي كليب: من الصعب الإحاطة بكل ما ألف الدكتور عبد الوهاب المسيري من كتب وموسوعة ومقالات وهو إذ اشتهر في موسوعته عن اليهود واليهودية والصهيونية والتي سنفصلها في الحلقة المقبلة فإنه كتب أيضا في الكثير الكثير من القضايا التي كان همه فيها نصرة أمته العربية ضد مشاريع الهيمنة. وقبل أن أودعه على أمل اللقاء به وبكم في الأسبوع المقبل مع حلقة ثانية وأخيرة م ![]() |
حوار مع عبد الوهاب المسيرى ج2
|
![]() ![]() اجرى الحوار مالك التريكى رغم التباعد الظاهري بين التكوين الأكاديمي لعبد الوهاب المسيري وبين اهتماماته الفكرية فإن انتقاله من دراسة الأدب الإنجليزي والأميركي إلى التخصص في دراسة الصهيونية والجماعات اليهودية في العالم لم يمثل تحولا جذريا في مساره الفكري، ذلك أن ميزة مشروعه الأدبي تكمن في أنه ذو طبيعة فكرية بالأساس ولهذا فإن دراسته للأدب لم تكن دراسة فنية للنصوص بقدر ما كانت دراسة إشكاليات فكرية كما تكمن أو تتجلَّى في النصوص. التحول من دراسة الأدب إلى دراسة الصهيونية عبد الوهاب المسيري – كاتب ومفكر مصري : أنا حينما كنت أدرس الشعر الإنجليزي والأميركي كنت متخصص أساسا في شعر القرن التاسع عشر وبالتالي كنت أقرأ تاريخ الأفكار أو تاريخ الفكر في ذلك الوقت، هيغل، ماركس، الأفكار العنصرية، الإمبريالية، الفلسفة النفعية، العلمانية، الاحتجاج على التصنيع كل هذه الأمور التي تحوَّلت إلى مقولات تحليلية فيما بعد ولذلك نجد إنه المقولات التحليلية التي استخدمتها في رسالتي للدكتوراه عن أثر وردس ورث على ويتمان لكن كان عنوانها الفرعي هو دراسة في الوجدان التاريخي والمُعادي للتاريخ نجد أن نفس المقولات التحليلية هي التي استخدمتها فيما بعد في دراسة الصهيونية حتى أثناء مناقشة رسالتي للدكتوراه قلت للأساتذة مازحا في الولايات المتحدة إن رسالتي ليست عن الشاعر الإنجليزي وردس ورث ولا عن الشاعر الأميركي ويتمان وإنما هي عن الصراع العربي الإسرائيلي، أنه وردس ورث بيمثل المجتمعات التاريخية التي عندها إحساس بالتاريخ أما ويتمان فهو نتاج مجتمع استيطاني والمجتمع الأميركي المبني على إنكار التاريخ ومن ثم كانت أول دراسة لي عن الصهيونية تُسمى نهاية التاريخ وهذا يعني ما يقرب من.. مالك التريكي [مقاطعاً]: عام 1972 أصدرت الكتاب. عبد الوهاب المسيري: عام 1972 يعني. مالك التريكي: وفوكوياما أصدر مقاله عام 1989 ثم كتابه عام 1992. "عبد الوهاب المسيري: نعم حتى هو في حوار بيني وبينه من خلال البريد الإلكتروني نُشر في الأهرام فوجئ بهذا وطلب أن يتعرف علي وهكذا لأنه طبعا أنا فكرتي في نهاية التاريخ مختلفة، هو نهاية التاريخ عنده هي انتصار الليبرالية الديمقراطية أما بالنسبة لي أن فكرة نهاية التاريخ هي فكرة فاشية في جوهرها وأن كل الأيدلوجيات الفاشية مبنية على فكرة نهاية التاريخ لأن نهاية التاريخ بتعني نهاية الإنسان وكما قلت لفوكوياما في الحوار أنها بتعني نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي أي تحول الإنسان إلى ظاهرة طبيعية. مالك التريكي: بالنسبة لدراسة الأدب في.. من منتصف الخمسينيات حتى نهاية التسعينيات.. نهاية الستينيات بالأحرى تلك كانت المرحلة التي درست فيها الأدب الإنجليزي والأميركي، في تلك الفترة كانت النزعة الهيومانية الإنسانية هي السائدة لم تكن النزعة الشكلانية قد ظهرت بعد هل تتصور أن تطورك الفكري كان سيكون مغايرا لو كانت الشكلانية هي السائدة آنذاك؟ عبد الوهاب المسيري: نعم لأنه الفلسفة الهيومانية التي تعلمتها أولا هنا في مصر من خلال أساتذتي في الإسكندرية ثم حين ذهبت إلى الولايات المتحدة لكن كان بدأ الصراع بين الشكلانيين والإنسانيين في القسم الذي ذهبت إليه لكن لحسن حظي كان المُشرف على رسالتي من الإنسانيين البروفيسور وايمان هو دافع عني أثناء الحوار ولولاه لا أعتقد أن أنا كنت حصلت رسالة درجة الدكتوراه. لي طالبة الآن في الولايات المتحدة تتحدث عن الاتجاه الشكلاني، دلوقتي تطوروا وبدءوا يبقى هناك اتجاه أيديولوجي يؤكد الجندر النوع والجنس (sex) بتخبرني أنها حينما تأخذ قصيدة من القصائد التي تعلمتها هنا واللي كان متفق على معناها المباشر مع اختلافات في التفاسير تقول لي إنهم يرفضون هذا تماما ويا إما تفسر في إطار الجندر وال (sex) والجنس وإلا تعتبر قراءة زائفة ومنافقة وهكذا. مالك التريكي: ما هو تفسيرك لهذا التناقض الصارخ بين المحافظة السمة المحافظة التي تطبع المجتمع الأميركي في ثقافته العامة وبين هذه الثورية الزائفة الـ (Political Correctness) هذه التي تحتمي بالقواعد أكاديمية أو غير أكاديمية أيديولوجية تُسقَط على الأكاديمي لكنها تحتمي بصورة الجامعة، ما هو تفسير هذا التناقض؟ عبد الوهاب المسيري: هو أولا من الواضح كما قال علي عزت بيجوفيتش إن الإنسان كائن ميتافيزيقي يعني لا يمكنه أن يدور في إطار النموذج المادي وحسب المنفعة المادية اللذة لا كائن ميتافيزيقي فلابد أن يؤمن الإنسان بميتافيزيقا ما فإن لم يؤمن بالله فسيؤمن بالآيس كريم يؤمن بالجنس يؤمن بأي شيء وهذا ما حدث. مالك التريكي: الأطباق الطائرة. عبد الوهاب المسيري: نعم الأطباق الطائرة مثلا وإن كنت أسميها أنها ميتافيزيقا بلا أعباء أخلاقية بمعنى الإيمان بالأطباق الطائرة أو بالجنس.. مالك التريكي [مقاطعاً]: ليس فيه حساب أو ثواب أو عقاب. عبد الوهاب المسيري: ما فيهوش تكليف لا يوجد فيه.. مالك التريكي: تكليف أخلاقي. عبد الوهاب المسيري: فنفس الشيء بأعتقد أنه هذا الفراغ الأخلاقي الذي يُملأ بفكرة القوى على المستوى السياسي بيُملأ بأشياء مثل الجنس مثل الجندر، أشياء أحيانا إيجابية الحرب ضد الاستعمار، الحرب ضد إسرائيل لكن أشياء برضه غير إنسانية زي الدفاع عن الشذوذ الجنسي وهكذا يعني فهذا هو ما يحدث أنه الفراغ بيُملأ لكن حيث إنها ميتافيزيقا بلا أعباء أخلاقية بنجد أنها بتظل تدور في الإطار المادي لا تُحاول تجاوز الواقع ومَن لا يحاول أن يتجاوز الواقع هو الرجعية في حد ذاتها ولا تنسى أن الفلسفة المسيطرة على أميركا هي الفلسفة البرجماتية وهي فلسفة في ظاهرها ثورية لكن في جوهرها رجعية بل داروينية، إنه البرجماتية بترى أن المعيار الأساسي في الحكم على الأمور هو ما ينجح معنى ذلك أنه لا توجد معايير أخلاقية أو معايير إنسانية حتى ومن ثم يملأ هذا الفراغ الفلسفة الداروينية لكن الفلسفة الداروينية هذه فلسفة ناجحة بالنسبة للأقوياء ماذا يفعل الضعفاء؟ فبنجد أنه بتنقسم إلى قسمين الأقوياء الذين يسيطرون والضعفاء الذين عليهم التكيُّف وبالمناسبة هذا واضح في الخطاب الغربي تجاه القضية الفلسطينية يعني هم مُعجبون للغاية بالصهاينة لأنهم عادوا بعد ثلاثة آلاف عام نتيجة لإيمانهم بالأساطير مثل أرض العودة، أرض الميعاد وهكذا لكن حينما يتوجهون للعرب يقولون هناك حقائق جديدة عليهم التكيُّف معها. فما بين ما أسميه السوبرمان الإنسان الأعلى و الـ (Sub-Man) الإنسان ما دون الإنسان، الفلسفة البرجماتية بتعبر عن نفسها وفي تلك الحالتين بنجد أن الحالة الإنسانية يتم إنكاره. |
مالك التريكي: وهذه البرجماتية الذرائعية والداروينية تظهر أيضا في الخطاب الاقتصادي العالمي الآن العولمة الاقتصادية لأنها في مصلحة الأقوياء ولذلك حتى كيسنغر يقول العولمة هي اسم آخر للأمركة لأن أميركا هي الأقوى فمن صالحها أن تنتشر العولمة ويُطلب من الضعفاء اقتصاديا الدول الضعيفة أن تتكيف يعني أن تفتح أسواقها مثلا للمنافسة بينما صناعاتها ضعيفة ولا تستطيع أن تنافس مثلا فهذا يبدو أن الذرائعية بهذا الشكل صارت الأيديولوجيا العامة يعني في العالم. عبد الوهاب المسيري: نعم ولذلك نفتح أبوابنا لرأس المال الأجنبي والبضائع لكن هم لا يفتحون أبوابهم للمهاجرين مثلا، يعني هي حرية انتقال للأشياء وليس حرية انتقال للأشخاص وبالمناسبة كيسنغر أيضا قال أن (Power is an Aphrodisiac) أن القوة منشط جنسيK يعني عملية اقتحام هنا بتأخد شكل صورة مجازية أيضا. مالك التريكي: عودا إلى هيغل دكتور بما أننا ذكرنا رسالتك للدكتوراه التي أصدرتها بعد في كتاب بعنوان نهاية التاريخ وبما أن فكرة نهاية التاريخ هي فكرة هيغيلة ولو أن ما كان يقصده هيغل لا علاقة له بما يقصده فوكوياما ولذلك يوصف فوكوياما يصفه بعض المعلقين الصحفيين بأنه هيغل (Light) يعني نسخة مُخففة أو مُبسطة جدا عن هيغل طبعا ما كان يقصده هيغل هو أن العقل المطلق سيتحقق في التاريخ والتاريخ عنده كان آنذاك الدولة البروسية المحافظة الرجعية الإقطاعية في ذلك الوقت هذا ما كان يقصده، هيغل له جانب آخر كان يهمك أيضا هو الجانب المعلوماتي الرغبة في الإحاطة الشاملة بكل الظواهر وبكل المعلومات في إطار نسقي نظري، هذا الجانب سميته بالذئب الهيغلي وإضافة إلى ذئب الثروة وذئب الشهرة وقلت أإك جاهدت لكي تتخلص من هذه الذئاب الثلاثة كيف جاهدت للتخلص من الذئب الهيغلي؟ عبد الوهاب المسيري: أنا في الواقع أقول في رحلتي الفكرية لم أتخلص منه روضته فقط لأنه لا يزال رابض داخلي، في الواقع أنا نجحت في ترويضه لأن هناك في حياتي ثلاثة عباقرة لم يخطوا حرفا لأن الذئب قد التهمهم، كانوا يرون علاقة كل شيء بكل شيء آخر، يعني كان لي صديق رحمه الله الأستاذ علي زيد كنت مثلا نبدأ أطلب منه يكتب مقال عن البرجماتية والداروينية فينتهي به الأمر أنه يقرأ كتب عن القبائل العرب وعنده كان مكتبة وكان يعرف كل شيء وليس بطريقة معلوماتية وإنما بطريقة مترابطة، أستاذي الحقيقي الأستاذ محمد سعيد البسيوني رحمه الله أيضا كان نفس الشيء يعني يربط كل شيء بكل شيء آخر بذكاء غير عادي لكنه يظل في ربط الأمور، فكان لابد من ترويض هذا الذئب ومن ثم نجحت، يعني أنا كان طموحي إن أنا أكتب نظرية عامة على طريقة هيغل لكنها في ذات الوقت تضم كل المعلومات وهذا مستحيل إنسانيا، عام 1984 شعرت أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُرغمني على كتابة الموسوعة فرضخت قلت فلأنسى مشروعي المعرفي الأكبر ولأنخرط وانتهيت كتابة الموسوعة، لكن أعتقد أن مكافأة الله سبحانه وتعالى لكي كانت أنه هذه الموسوعة تحولت إلى دراسة حالة وقدمت ما أتصور أن هو إطار معرفي عام لتحليل كثير من الظواهر سواء كان مفهوم الحلولية أو مفهوم العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وأخيرا مفهوم الجماعة الوظيفية، هذه ثلاثة مفاهيم يمكن استخدامها في تفسير كثير من الظواهر الإنسانية لكني أعرف أن فوق كل ذي علم عليم. ![]() دراسة الصهيونية من منطلق فكري بحت مالك التريكي: من الطريف دكتور وأنت تُلامس هذا الموضوع بالضبط الآن أنك تناولت تاريخ اليهودية وتاريخ الصهيونية والجماعات الوظيفية.. الجماعات اليهودية الوظيفية في العالم من منطلق فكري بحت وفي هذا تتميز عن بقية المفكرين العرب لأن المفكرين العرب والآخرين حتى المُختصين في الفلسفة كحقل عندما يتناولون مسألة الصهيونية ومسألة إسرائيل لا يكادون يخرجون عن سياق التناول الصحفي المعهود بينما أنت في تناولك للظاهرة الصهيونية تستعمل مفاهيم تحليلية مثل إشكالية الإنسان وعلاقاته بالطبيعة والتاريخ، الغنوسية الواحدية المادية، الأسطورة منفصلة عن التاريخ؟ عبد الوهاب المسيري: أنا شأني شأن كثير من المفكرين كنت أنظر إلى الصهيونية النظرة السياسية التحليلية العادية لكن قرأت بعض الكتب من بينها كتب الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي رحمه الله كتب كتيبين كتابين صغيرين عن اليهودية وعن الصهيونية وكتابات جمال حمدان إلى جانب بداية اهتمامي بالبُعد المعرفي أي البُعد الكُلي والنهائي، كل هذه الأمور تلاحمت وأنا من طبيعتي لا أفصل بين مثلا الفكر والشعر وحتى أثاث منزلي وحياتي الخاصة بمعنى أنني دائما أحاول أن أعيش فكري وهذه لها مزايا ولها عيوب أيضا يعني، بمعنى إني أحيانا يفوتني ملاحظة بعض التفاصيل نتيجة لانشغالي بالنماذج. مالك التريكي: بالصورة التي تتعامل معها. " عبد الوهاب المسيري: أه وفكرة النموذج التحليلي فكرة أساسية عندي والنموذج بطبيعته يتجاوز الموضوع، يربط بين المواضيع المختلفة، يعني دائما أضرب مثل بالنموذج بالحديثين الشريفين الحديث الذي عن القطة التي عذبتها المرأة حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النار والحديث الآخر عن الكلب الذي كان يعض الثرى من العطش فنزل رجل بئر وسقاه فدخل فيه الجنة، يعني هنا على مستوى الموضوع سنجد إنه ثمة تضاد رجل امرأة كلب قطة جوع عطش وهكذا لكن على مستوى النموذج سنجد إنه الرؤية واحدة إنه هو الإنسان فاعل والحيوان مفعول به وإن الإنسان هو خليفة الله بمعنى أنه استُخلف وإنه مسؤول عن هذه الحياة وهكذا أربط هذا بالمفهوم الإسلامي للإنسان وللطبيعة، أربط هذا بمفهوم الذبح الشرعي في الإسلام وهكذا مهمة إحدى مزايا النموذج إنها تُسهل الانتقال من مجال تحليلي إلى آخر من مثلا شكل في الشعر إلى ظاهرة تاريخية إلى قضية فلسفية، فالنموذج يربط بينها جميعا وهذا ما حدث في حالتي، أنا درست الشعر لكن درست فكر القرن التاسع عشر وحاولت الوصول إلى نماذج تحليلية تصلح لدراسة الشعر وتصلح لدراسة الظاهرة الصهيونية ولذلك دائما أقول إن اليهودية والصهيونية في الموسوعة هي دراسات حالة (Case Studies) ولذلك بأجد إن المجلد الأول هو أهم المجلدات لأنه يعبر عن الرؤية وما الصهيونية واليهودية إلا تطبيقات حالة. حدث نفس الشيء في قصص الأطفال التي أكتبها يعني يتساءل الناس يعني كيف يمكن لكاتب جاد.. مالك التريكي [مقاطعاً]: أن يجمع بينهما. عبد الوهاب المسيري: يعني لا ده شيء جزء من رؤيتي إنه مثلا في قصة نور والذئب الشهير بالمكَّار الذئب سقط في النموذج الهيغيلي المعلوماتي بمعنى إنه بيقرأ القصة القديمة وحسب القصة القديمة إن هو سيسبق ذات الرداء الأحمر اللي هي نور في هذه القصة وسيلتهم الجدة ثم يلتهمها هي لكن نور تعيش في العصر الحديث ولذلك سلسلة القصص اسمها حكايات هذا الزمان فتسبقه وتصل إلى منزل الجدة وتخبرها أن الذئب.. الذئب يضيع وقته في محاولة التنكر ويسقط في الأرض وهكذا وحينما يطرق الباب يُفتح الباب ويأخذ علقة ساخنة وفي أثناء العلقة يقول يعني هذا مخالف. مالك التريكي: للنظرية يعني. عبد الوهاب المسيري: أه لأنه غير مدرك لا يحاول تفسير الواقع وهو يعيش داخل هذا النموذج الهيغيلي المعلوماتي. نفس الشيء في منزلي يعني أثاث منزلي هو تعبير عن هذه الرؤية إنه لابد أن تكون هناك لنا خصوصيتنا تحيزاتنا العربية الإسلامية. في الواقع أنا بأعتقد إنه الطريقة الوحيدة لتجاوز التحيز هي التنبه له لأنه لا يمكن إن الإنسان يرصد الواقع كأنه آلة يعني إن رأيت حجر يسقط من الدور الثاني وطفل يسقط السلوك في كلتا الحالتين مختلف يعني فحينما أرى الجيش الإسرائيلي بيضرب أطفال ورجال ونساء ويهدم بيوت لا يمكن أن أرصد هذه المسألة بطريقة مُحايدة باردة ولذلك أنا أسقطت كلمة موضوعية وذاتية وبأتحدث عن التفسيرية، الجيش الإسرائيلي بيهدم المنازل فأقدم وجهة نظري المُتحيزة لكنها ذاتها مقدرة تفسيرية، فمثلا نأخذ تعريف الصهيونية يقولون في المراجع الغربية إن الصهيونية هي القومية اليهودية وهي عودة اليهود إلى وطنهم طيب سآخذ هذا التعريف وأقول لن أقول إنه متحيز أو غير متحيز وأحاول أن اختبر مقدرته التفسيرية، إن كان الأمر كذلك نفسر إذاً وجود مخيمات اللاجئين فلسطينيين والحروب المستمرة والدعم الأميركي والغربي لهذه الدولة في هذه الحالة يُفتح باب الاجتهاد وسأطرح تصوري وتعريفي وهي أن الصهيونية حركة استيطانية استعمارية إحلالية لا تختلف في جوهرها عن الجيوب الاستيطانية في أفريقيا والجزائر وأن نقطة الاختلاف الوحيدة هي أنها تقدم اعتذارايات ودباجات يهودية لتبرير الفعل الاستيطاني ولتأخذوا هذا ولتختبروا ولا تسألوني هل أنت أتيت بهذا لأنك عربي أو مسلم لا اختبر مقدرته التفسيرية سنجد أن هذا التعريف يُفسر مخيمات اللاجئين، يُفسر المقاومة الفلسطينية، يفسر الدعم الغربي لهذا الجانب الاستيطاني. |
مالك التريكي: ولهذا تقول إنك واجبك الأخلاقي هو مُناهضة الصهيونية حتى لو كانت أقامت دولة في موزمبيق أو في أي بلد آخر فالوقوف ضدها لا يتعلق بكونها في فلسطين فقط بل أنها ظاهرة استعمارية يجب مناهضتها. هنا السؤال دكتور لأن هنالك حالة خاصة أيضا وأنت تعرف هي ظاهرة استعمارية مثل بقية الظواهر الاستعمارية لكنها أكثر شراسة ولأن مصير إسرائيل نوعا ما يتداخل مع تصور الغرب لمصير العالم بصفة عامة، الجوانب الأسطورية هي المسيطرة على الموقف في أميركا أليس هنالك أيضا تناقض صارخ مثل الذي ذكرناه قبلا عن أميركا بين الثقافة العامة وبين الثقافة الأكاديمية؟ أليس هنالك تناقض صارخ بين القول بالعلمانية ولك أيضا مفاهيم تحليلية في العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية بين القول بالعلمانية بصفة عامة في الغرب عامة وفي أميركا خاصة وبين تصديق هذه الخرافات عن إسرائيل وعن الشعب الإسرائيلي وعن هذه الأرض؟ عبد الوهاب المسيري: هو الخريطة الإدراكية مقولات قبلية بتحدد رؤية الإنسان للواقع يعني أنا دائما بأضرب مثل بقصة شهيرة قصة ماري أنطوانيت حين أتوا لها بفلاح جائع وأُغمى عليه من الجوع فلا الجوع ولا الفقر جزء من خريطته الإدراكية فقالت له يعني الرجيم قاسي لا داعي أو في رواية أخرى.. مالك التريكي: فليأكل.. عبد الوهاب المسيري: يأكل جاتوه يعني. مالك التريكي: طبعا ماري أنطوانيت هي زوجة الملك لويس السادس عشر ملكة فرنسا الأخيرة يعني بس للتوضيح. "عبد الوهاب المسيري: فالخريطة الإداركية الغربية من البداية بترى أن العالم العربي والعالم الإسلامي هو مادة استعمالية مجال للبضائع للاستثمارات ولذلك كما قلنا من قبل إنهم يريدون فتح الحدود للرأسمال وللبضائع لكن لا يفتحون حدودهم للهجرة الإنسانية من بلادنا إلى بلادهم، فنفس الشيء هم يرون إن إحنا مادة استعمالية وإن من ثم الحقوق المطلقة هي حقوق للإنسان الغربي والإنسان اليهودي جزء من هذا، يعني تماما مثل الاستعمار الغربي يعني كان يتحدث عن نقل الحضارة عن عبء الرجل الأبيض هكذا. مالك التريكي: طبعا المهمة التمدينية هذه قال بها الاستعمار الفرنسي ومهمة عبء الرجل الأبيض هذه قولة كيتنيك الشهيرة قال بها الاستعمار البريطاني وهذا يندرج في إطار هذه النظرة المادية وما سميته بالواحدية المادية التي تقول إنها باطلة وإن ما يصلح أساسا لنظرة متكاملة ومتوازنة للعالم هي الثنائية. عبد الوهاب المسيري: الثنائية هي إن العالم دائما مُكون من عنصرين يتفاعلان لكنهما لا يمتزجان وبداية هذه الثنائية هي ثنائية الخالق والمخلوق التي لُخصت في الإسلام في كلمة قاب قوسين أو أدنى إن أشرف المخلوقات في أشرف اللحظات لم يمتزج بالإله والإله هو أقرب إلينا من حبل الوريد لكنه لا يجري في عروقنا. |
حوار مع المفكر على اليوتيوب :D
- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا - |
حوار مع الشاعر محمود درويش :D
|
الآن مع صدور مجموعتك الكاملة للمرة الثامنة عشرة كيف ترى إليها؟ ما الذي تحبه فيها وما الذي تكرهه؟ كيف تنظر الى البدايات التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الفلسطينية؟
- حين اضطر الى قراءة أعمالي الأولى من أجل تصحيح الأخطاء الطباعية استعداداً لطبعة جديدة، وليس من قبيل مراقبة تطوّري أو مراقبة ماضيّ الشعري، أشعر بكثير من الحرج. أي انني لا أنظر الى ماضيّ برضا، وأتمنى عندما أقرأ هذه الأعمال، ألا أكون قد نشرتها كلها، أو ألا أكون نشرت جزءاً كبيراً منها. لكنّ هذه مسألة لم تعد منوطة بي، انها جزء من تراثي. لكن تطوري الشعري تم من خلال هذا التراكم وليس من خلال القفز في الفراغ. لذلك عليّ أن أقبل بطاقة الهوية هذه كما هي، وليس من حقي اجراء تعديلات إلا بقدر المستطاع، أي تعديلات على بعض الجمل وعلى بعض الفقرات أو حذف بعض الأسطر، من منظور الاعتبار الجمالي وليس من أي منظور آخر. ولو أتيح لي لكنت دائم التنقيح في أعمالي. ولكن لو أتيح لي أيضاً أن أحذف لكنت ربما حذفت أكثر من نصف أعمالي. لكن هذا الأمر ليس في يدي وليس من حقي على ما يبدو. هذا أنا في مراهقتي الشعرية وفي صباي وفي شيخوختي، أنا كما أنا. وأعتقد أن كل شاعر لديه حاسة نقد ذاتية، ينظر النظرة نفسها الى أعماله. وأريد أن أقول هنا إن الشعراء يولدون في طريقتين: بعضهم يولد دفعة واحدة، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك. ففي التراث العربي مثلاً عندنا طرفة بن العبد وفي التراث العالمي هناك رامبو. ثم هناك شعراء يولدون «بالتقسيط» وأنا من هؤلاء الشعراء. ولادتي لم تتم مرة واحدة. وأرى أن مشكلة الولادة في دفعة واحدة عمرها قصير. > هناك ظاهرة عجائبية في مثل هذه الولادات! - هناك عبقرية خاصة وربما مأسوية. فالشاعر الذي يولد دفعة واحدة لا يستطيع أن يواصل عمره الشعري. أما الشعراء الذين يولدون على مهل فتتاح لهم فرصة من التجربة والكتابة لا تتاح لمن يصبّون تجربتهم في دفعة واحدة، ويصمتون مثلما فعل رامبو. هذا السؤال صعب أصلاً على كل شاعر يستطيع أن يكتب شعراً في العشرينات، ولكن هل يستطيع كل شاعر أن يكتب بعد الستين؟ هذا هو السؤال الصعب. > ولكن هناك أمثلة متضاربة في هذه القضية! - كل شاعر يملك جواباً خاصاً أو ربما هو يملك حظاً خاصاً. وأعتقد ان الحظ في آخر الأمر هو الذي يلعب دوراً في نشأة الشاعر، وفي قدرته على التطور. ولكن قبل الحظ هناك انتباه الشاعر الى عيوبه الشعرية، انتباه الشاعر الى مأزقه الشعري. وكل شاعر يحل مأزقه في طريقته الخاصة، ولكن ليس التكرار هو أفضل الطرق، أي تكرار ما قاله الشاعر أو كتابة تنويعات على ما كان كتب من شعر. > ما رأيك بالمبادرة التي يقوم بها شعراء بحذف شعرهم الأول وانكاره؟ وهذا ما قام به مثلاً الفرنسي رينه شار أو الشاعر أدونيس؟ هل أخفيت أنت قصائد أولى، لك وخصوصاً عندما كنت في فلسطين؟ - أنا لم أنشر في كتب كل ما كتبت من شعر. بعضه نشر في الصحافة، وبعضه لم ينشر. مجموعتي الشعرية الأولى حذفتها كلياً ولا أعترف بها البتة وكانت صدرت في فلسطين أيام الفتوّة. وهي عبارة عن قصائد مراهقة شخصية وشعرية. وأنا أتمنى أن أواصل الحذف. هذه هي المسألة الشائكة. حتى في مرحلتي الراهنة، كتبت قصائد عدة لم أدرجها في مجموعاتي الشعرية. نشرتها في الصحف ولكنني لم أضمّنها كتبي. من حق الشاعر أن يحذف ما يشاء من شعره. لكن السؤال هو: هل رأيه هو الصواب أم لا؟ هناك رأي القارئ أيضاً. > بودلير يتحدّث دوماً عن الناقد الكامن في الشاعر والذي يوجهه! - صحيح. ولكن قد يؤثر الشاعر نصاً له على آخر، وقد لا يشاركه القارئ هذا الإيثار بل قد يخالفه فيه. > ما كان عنوان مجموعتك الأولى التي أسقطتها من أعمالك؟ - كان عنوانها «عصافير بلا أجنحة». > ماذا تعني لك اليوم قصائد راسخة في ذاكرة الجمهور مثل «سجّل أنا عربي» و «جواز السفر» بعدما اجتزت ما اجتزت من مراحل شعرية؟ - هذا النوع من الشعر كتبته تلبية للنداءات الداخلية والخارجية. كان سؤال الهوية هو السؤال الملح في شبابي الشعري أو صباي. وهو ما زال مطروحاً حتى الآن، ولكن في طرق مختلفة، وفي أشكال تعبير مختلفة. كانت ظروف الحياة هناك تقتضي ربما مثل هذه المخاطبة المباشرة. هذا أولاً. ثانياً أصبحت هذه القصائد جزءاً من ذاكرة جماعية لا أستطيع أن أتحكم بها أو أتصرف في شأنها. إنها لم تعد ملكي أبداً. وهي ساهمت أيضاً في انتشاري شعرياً. ويجب ألا أكون مجحفاً أو ناكراً للجميل في حق هذا النوع من الشعر. هذا إذاً ساهم في شق الطريق أمامي، وفي تمهيدها لكي أضيف تجارب شعرية جديدة ومختلفة عما سبقها، من حيث التناول الشعري واللغة الشعرية والاسلوبية. لكن التأسيس الذي تم في العلاقة بين القارئ وبيني أذن لي في أن أتتطور، وأتاح للقارئ أن يقبل هذا التطور. فنحن نكبر معاً، أنا وقارئي. |
ماذا باتت تعني لك القصيدة السياسية؟
- القصيدة السياسية اليوم لا تعني لي أكثر من خطبة، قد تكون جميلة أو غير جميلة. إنها تخلو من الشعرية أكثر من القصيدة التي تحرص على أن تنتبه لدورها الإبداعي ودورها الاجتماعي. أي على الشاعر أن ينتبه الى مهنته وليس فقط الى دوره. القصيدة السياسية استنفدت أغراضها في رأيي، إلا في حالات الطوارئ الكبرى. ربما أصرخ غداً غضباً، تعبيراً عن أمر ما، ولكن لم تعد القصيدة السياسية جزءاً من فهمي المختلف للشعر. أعتقد إنني الآن في مرحلة، أحاول فيها أن أنظف القصيدة مما ليس شعراً إذا أمكن التعبير. ولكن وما هو الشعري وما هو غير الشعري؟ هذه مسألة أيضاً. السياسة لا يمكنها أن تغيب تماماً من هوامش القصيدة أو خلاياها. لكن السؤال هو كيف نعبر عن هذه السياسة. كل انسان فينا مسكون بهاجس سياسي، ولا يستطيع أي كاتب في أي منطقة من العالم أن يقول: أنا نظيف من السياسة. فالسياسة هي شكل من أشكال الصراع، صراع البقاء وصراع الحياة. ومن طبيعة الأمور أن يكون هناك سياسة. والسؤال هو: هل تكون القصيدة سياسية أم ان عليها أن تحمل في كينونتها بعداً سياسياً؟ أو هل هناك إمكان لتأويل سياسي للنص الشعري أم لا؟ اما أن تكون القصيدة عبارة عن خطاب مباشر بتعابير مستهلكة ومستنفدة وعادية فهذا لم يعد يعني لي شيئاً. > ما رأيك بظاهرة الشعر السياسي الجديد الذي يكتبه شعراء جدد عرب أو في العالم أو الذي كتبه شعراء مثل ريتسوس وغينسبرغ وجيل «البيت» جنريشين وقد أعادوا النظر في القصيدة السياسية وفي الواقعية؟ - ريتسوس يجب أن نميزه عن الآخرين. > لكنه كتب قصائد سياسية عبر لغة مختلفة. - حاول ريتسوس أن يكتب اليومي، لكنّ هذا اليومي الذي يبدو لنا عادياً يخبّئ بعداً اسطورياً ما. ولعل القصيدة التي تسمى يومية لدى ريتسوس ليست قصيدة يومية، ففي هذا «اليومي» بُعد أسطوري وميتافيزيقي. أما في شأن ألن غينسبرغ وبعض الشعراء الأميركيين فهم يكتبون شعراً سياسياً في المعنى المباشر للكلمة. لكن الشعر الغربي والأميركي مشبع بالجماليات، وقد انتهى البحث في هذا الموضوع، الموضوع الجمالي. وحاول الشعراء أن يعودوا الى ما هو مختلف، محاولين أن يجعلوا الشعر يمارس دوراً سياسياً واجتماعياً، على خلافنا نحن. فنحن خارجون من تراث شعري سياسي مباشر في محاولة لتطوير هذا الشعر ورفعه الى مستوى جمالي أفضل. والطريقان متعاكسان ومختلفان. ربما عندما تبلغ الجمالية العربية مستوى أرقى بكثير، قد نحنّ الى أن نهجو الواقع، في المعنى السياسي، في معنى الاحتجاج والرفض. وشعر الاحتجاج أصلاً لم ينته في العالم، ولكن هل يحتج الشعر بكونه شعراً أم بكونه كلاماً أو موقفاً؟ > ماذا بات يعني لك وصفك بشاعر القضية أو شاعر المقاومة وفلسطين؟ - المسألة لا تتعلّق بي ولا أستطيع أن احتج إلا على محاولة محاصرتي في نمطية معينة. هذه التسميات بعضها بريء، وينطلق من حب القضية الفلسطينية وحب الشعب الفلسطيني، وبعضها نوع من اضفاء الاحترام والتشريف على القول الشعري المتعلق بالقضية. لكن الرأي النقدي هو أخبث من ذلك. الرأي النقدي يحاول أن يجرّد الشاعر الفلسطيني من شعريته ليبقيه معبّراً عما يسمى مدونات القضية الفلسطينية. هناك طبعاً اختلاف جوهري كبير بين النظرتين: نظرة بريئة ونظرة خبيثة. طبعاً أنا فلسطيني وشاعر فلسطيني، ولكن لا أستطيع أن أقبل بأن أعرّف بأنني شاعر القضية الفلسطينية فقط، وبأن يدرج شعري في سياق الكلام عن القضية فقط وكأنني مؤرّخ بالشعر لهذه القضية. > ولكن شئت أم أبيت أنت الشاعر - الرمز! - كل شاعر يتمنى أن يكون صوته الخاص معبّراً عن صوت عام أو جماعي. قلائل هم الشعراء الذين يلتقي داخلهم بخارجهم في طريقة تخلق التباساً بين رمزية الشاعر وشعريته. لكنني لم أسع شخصياً الى ذلك. ربما هو الحظ الذي وفّر لي هذه المكانة. اما ان أسعى الى أن أكون رمزاً وأحرص على أن أكون رمزاً، فأنا لا أريد ذلك، أريد أن ينظر إليّ من دون أن أُحمّل أعباء رمزية مبالغاً فيها، ولكن يشرّفني أن ينظر الى صوتي الشخصي وكأنه أكثر من صوت، أو أن «أناي» الشعري لا تمثل ذاتي فقط وإنما الذات الجماعية أيضاً. كل شاعر يتمنى أن يصل شعره الى مدى أوسع. وأنا لا أصدّق الشعراء الذين يحددون القيمة الشعرية من خلال عزلتهم عن القراء. أنا لا أقيس أهمية الشعر بمدى انتشاره ولا بمدى انعزاله. ولكن أن تتحقق المسألتان أي الانتشار مع الجودة الشعرية، فهذا ما يتمناه أي شاعر، وإلا لماذا يقرأ الشعراء شعرهم في الأمسيات؟ لماذا يطبعون دواوينهم إذا كان القارئ لا يهمهم؟ > تجاوزت الستين لكنك تزداد نضارة شعرية. - سرّي بسيط جداً. |
لا أشعر بأنه بسيط.
- بسيط في كلامي العام عنه وليس في المعنى الشعري. أولاً أنا لا أصدق شعري. وأشعر بأنني في حاجة الى لغة شعرية تعبيرية تحقق الشعرية في القصيدة في شكل يجعلها أكثر شعرية إذا أمكن. أي انني أحاول أن أخفف من ضغط اللحظة التاريخية على جمالية الشعر، من دون أن أتخلّى عن الشرط التاريخي. السر الثاني انني لا أصدق التصفيق. فأنا أعرف انه عابر أو آني، وقابل للتغيير والتعديل وللاعتذار أيضاً وللتمرّد على الشعر. انني مسكون بهاجس هو عدو كتابتي حتى الآن ما أريد أن أكتبه. تسألني: ما الذي تودّ أن تكتبه؟ فأقول لك: لا أعرف. إن رحلتي هي الى المجهول الشعري بحثاً عن قصيدة ذات قدرة على أن تخترق زمنها التاريخي وتحقق شرط حياتها في زمن آخر. هذا ما أسعى إليه، ولكن كيف أعرّف بهذه المسألة؟ هنا أيضاً لا جواب نظرياً ولا فكرياً. الجواب هو جواب ابداعي. كل الاسئلة حول الشعر لا تقنعنا إلا اذا تحققت شعرياً أو في الكتابة الشعرية. فأنا دائم القلق وهذا سرّي، ومتمرّد على نفسي. وأقول لك إنني لا أقرأ شعري بيني وبين نفسي، لا أقرأه البتة، فلا أعرف ما كتبت. لكن كل ديوان لي أعيد قراءته قبل طباعته عشرات المرات وأنقحه عشرات المرات، الى أن أشعر بأنه أصبح قابلاً للنشر. وعندما يصدر الديوان أتحرر منه كلياً ويصبح ملك غيري، ملك النقد وملك القارئ. وهنا يكون السؤال الصعب: ماذا بعد؟ الآن أشعر بأنني خالي الوفاض كما يقال، ومسكون بقلق ربما يكون وجودياً. هل أستطيع أن أكتب من جديد، أم لا؟ دائماً عندما أصدر كتاباً أشعر بأنه الكتاب الأخير. > لكنني أشعر أن كل كتاب لديك يحمل معه بداية ما... - إذا كان رأيك هذا مصيباً فهو يفرحني. > أنت شاعر مراحل، وإذا عدنا الى أعمالك الكاملة نشعر بأن هناك محطات وأن كل محطة بداية... - أجل هناك مراحل ومحطات. > وأعتقد ان ثمة خيطاً داخلياً يربط بينها. - أجل، انها مراحل متصلة، ومن خلال مراقبتي لعملي الشعري ألاحظ أن في كل كتاب جديد تستطيع أن تجد بذرة كانت في كتاب سابق أو كتب سابقة. لكن البذرة هذه تجد إمكان تفتح، ورعايتها في طريقة جديدة تحوّلها نصاً جديداً. الشاعر يتوالد من تلقاء نفسه، من تلقاء تجربته ومن علاقته بالعالم وعلاقته بالوجود وبثقافته ومن وعيه الشعري، وكذلك لا وعيه الإبداعي. أما كيف يولد الشعر؟ أو ما هو الشعر؟ مثل هذه الأسئلة أشبه بالأسرار. فالشعر سر، والسر هو ما يجعل الشعر مستمراً. ليس هناك من اكتشاف شعري نهائي وكل كتابة هي محاولة إجراء تعديل على مفهوم عام للشعر. ولكن كل كتابة جديدة تملك اضافات ما، هي عبارة عن إعادة التعريف بالشعر. > صفتك شاعراً مكرّساً وصاحب سلطة شعرية، هل أثرت عليك؟ ماذا تعني لك هذه الصفة؟ - إذا كنت شاعراً مكرّساً، فأنا مكرّس في الحياة الثقافية أو لدى القارئ. ولكن في العلاقة بيني وبين نفسي لست مكرّساً. أنا لم أكرّس نفسي حتى الآن. وقد يبدو هذا الكلام ادعاء للتواضع، ولكن هذه حقيقة ما أشعر به. أنا لم أكرّس نفسي في معنى إنني لم أطمئن الى تجربتي الشعرية، لم أطمئن اليها أبداً، وما زلت أعتقد بأنها في حاجة الى تجربة وتجريب جديدين، والى تطوير دائم والى التمرد على ما نسميه الانجاز الراهن. أنا لست راضياً عن نفسي أو لست أشارك الآخرين في المكانة التي احتلها في الذائقة العامة أو الوعي العام. > هل تخشى أن تتوقف ذات يوم عن الكتابة؟ - نعم. > هل أحسست هذه الخشية فعلاً؟ - هذه خشية دائمة خصوصاً عندما أنهي عملاً جديداً. إنني دائم الخوف من هذه القضية. إنها بمثابة هاجس. وأعزّي نفسي بأنني عندما أشعر، أو عندما اعترف بجفاف الماء في تجربتي الشعرية أو في لغتي، أجد المناسبة حسنة لأكتب النثر. فأنا أحب النثر كثيراً. > لكنك لم تكتب قصيدة نثر مع انك كتبت الكثير من النثر؟ - كتبت الكثير من النثر لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع. أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسميه نثراً. ولكن لم أُولِ النثر الأهمية التي يستحقها،. علماً انني من الشديدي الانحياز الى الكتابة النثرية. والنثر لا يقل أهمية عن الشعر. بل على العكس، قد يكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من النثر. فإذا جفّ نصّي الشعري فقد ألجأ الى النثر وأمنحه وقتاً أكثر وأولية جدية أكثر. عندما كنت أكتب نثراً كنت أشعر أن النثر يسرق مني الشعر. فالنثر جذاب وسريع الانتشار، ويتحمّل أجناساً أدبية أكثر من الشعر. ويستطيع أن يهضم الشعر ويعطيه مساحة وحركة أكبر. وكنت عندما أكتب النثر انتبه الى انني نسيت القصيدة وأن عليّ أن أعود اليها. هكذا أكون بين النثر والشعر، لكنني معروف بأنني شاعر ولا أسمّى ناثراً. |
> لكنك لم تكتب قصيدة النثر، لماذا؟
- ما دمت أكتب نثراً فأنا أكتب النثر، من دون أن أسميه قصيدة. لماذا ننظر الى النثر نظرة دونية ونقول انه أقل من الشعر؟ صحيح أن النثر يطمح الى الشعر والشعر يطمح الى النثر... يعجبني قول للشاعر باسترناك: "أجمل ما في القصيدة ذلك السطر الذي يبدو نثرياً". انني لا أريد أن أفرّق كثيراً بين الشعر والنثر، ولكن انطلاقاً من التجنيس الأدبي ما زلت أعطي للنثر اسمه وللشعر اسمه. لكن السؤال هو: كيف تتحقق الشعرية في قوام قصيدة؟ وأعتقد أن علينا أن نوقف النقاش حول الفارق أو الاختلاف أو الائتلاف أو الابتعاد أو الاقتراب بين قصيدة النثر والقصيدة. هذا السجال تجاوزه العالم. أما إذا سألتني عن رغبتي في كتابة قصيدة نثر فأرجو أن أكتب نصاً نثرياً من دون أن أسميه قصيدة نثر. > ولكن من الملاحظ في شعرك ولا سيما في المرحلة الأخيرة أن ثمة حواراً بين النثر والشعر، وقد عرفت تماماً كيف تستفيد من قصيدة النثر، لا سيما أنك شاعر تفعيلة، وقد استشهدت بجملة بديعة لأبي حيان التوحيدي في ديوانك الأخير "كزهر اللوز أو أبعد"! وما يميز القصيدة لديك هو هذا الفضاء الرحب، الفضاء النثري والموسيقى الداخلية القائمة على تناغم الحروف! - أولاً، أود أن أقول ان ليس لدي أي تحفظ على قصيدة النثر. والتهمة التي لاحقتني في انني ضد قصيدة النثر زمناً هي باطلة. قلت وأقول دائماً ان من الانجازات الشعرية المهمة في العالم العربي بروز قصيدة النثر، أي تأسيس طريقة كتابة مغايرة للشعر التقليدي والحداثة التقليدية. قصيدة النثر تريد أن تميز نفسها وتريد أن تطور أو أن تضيف نصاً مختلفاً عن القصيدة الكلاسيكية وعن القصيدة الحديثة التي صنعها جيل الرواد. هذا أولاً. ثانياً، أنا من المعجبين جداً بشعراء كثيرين يكتبون قصيدة النثر. وأقول دائماً إن هناك أزمة في ما يسمى قصيدة التفعيلة، وأنا أكره هذه التسمية، ولكن لا بديل لها. والأزمة أصلاً تكمن في الكتابتين. > الشعر العمودي أيضاً شهد أزمة. - لا بل انها الأزمة التي تشهدها الثقافة العربية في كل أبعادها. ولكن إذا أجرينا احصاء، اذا أردنا ان نختار عشر مجموعات شعرية صدرت في هذا العام أو عشرين، سنرى ان الكمية الكبرى أفضل هي لقصيدة النثر التي تحمل النوعية الفضلى. ولكن هذا يعني أن دور قصيدة التفعيلة انتهى أو انتهت قدرتها على استيعاب ايقاع الزمن الحديث! أو انها لم تعد قادرة على تطوير اللغة في طريقتها الخاصة! أنا من آخر المدافعين عن قدرة قصيدة التفعيلة على أن تستفيد من اقتراحات أو من تصورات قصيدة النثر ومشروعها، وأن تكتب الرؤيا الجديدة لقصيدة النثر كتابة موزونة. أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. انني أحب الموسيقى في الشعر. انني مشبع بجماليات الايقاع في الشعر العربي. ولا أستطيع أن أعبّر عن نفسي شعرياً إلا في الكتابة الشعرية الموزونة، ولكنها ليست موزونة في المعنى التقليدي. لا. ففي داخل الوزن نستطيع ان نشتق ايقاعات جديدة وطريقة تنفس شعرية جديدة تخرج الشعر من الرتابة ومن القرقعة الخارجية. لذلك فإن أحد أسباب خلافي مع بعض الأصدقاء من شعراء قصيدة النثر هو مصدر الايقاع الشعري، الموسيقى الداخلية. فهم يرون أن الموسيقى الداخلية لا تتأتى إلا من النثر، أما انا فأرى ان الموسيقى الداخلية تأتي من النثر ومن الايقاع أيضاً. وعلى العكس، فإن وضوح الايقاع الآتي من الوزن يطغى على الايقاع المنبثق من النثر. وأصلاً كل كتابة فيها ايقاع. في النثر إيقاع وفي الشعر إيقاع وفي الكلام اليومي والعادي ايقاع. إذاً الايقاع موجود. لكن الأمر هو: كيف نضبط هذا الايقاع وكيف نجعله مسموعاً أو حتى بصرياً. أعتقد أن ما زال في قدرة الوزن الشعري، إذا نظر اليه الشاعر في طريقة مختلفة وإذا عرف كيف يمزج بين السردية والغنائية والملحمية وكيف يستفيد حتى من النثرية العادية، ما زال في قدرته أن يحل بعض الصعوبات في البحث عن ايقاع شعري جديد. هذا هو عملي الشعري، أي ان أكتب الوزن كأنه يسرد وأكتب النثر كأنه يغني. هذه هي المعادلة، بل هذا هو الحوار بين الشعر والنثر. > الموسيقى داخل القصيدة أقوى من الوزن الخارجي... ألا توافقني أن قصيدة التفعيلة تعاني أزمة؟ - هناك مشكلة فعلاً. لكن المشكلة هذه تتعلق بالشعر نفسه وبالموهبة الشعرية والخبرة الشعرية. قصيدة التفعيلة تستمد شرعيتها الايقاعية من كونها كسراً للنظام التقليدي، ولكن عندما تقع في نظام تقليدي آخر تفقد شرعيتها. لذلك تستطيع هذه القصيدة أن تطور ايقاعاتها وبنيتها. مثلاً: أنا ليس لديّ سطر شعري، القصيدة لديّ تتحرك كلها مثل كتلة دائرية، إنها تتدوّر. القافية عندي أخفيها في أول الجملة أو في وسطها. إذاً هناك طريقة إصغاء الى اللغة، يجب أن تحرر الشاعر من الرتابة، وعلى الشاعر أن يعرف كيف يتمرّد على الرتابة الموسيقية. وأحياناً يكون هناك ايقاع عالٍ لا يُجمّل إلا برتابة ما. هناك تبادل إذاً، بين البعد الايقاعي والنثر. > لماذا قلت انك اذا واجهت أزمة شعرية ستخرج الى النثر. لماذا لم تقل انك ستخرج الى قصيدة النثر؟ لماذا ترفض مصطلح قصيدة النثر؟ - لأنني عندها سأكتب شعراً. وقصيدة النثر هي شعر. صحيح أن هناك تزاوجاً أو لقاحاً بين النثر والشعر، وأن هناك جنساً أدبياً اسمه نثر وجنساً آخر اسمه شعر. وفي هذا الجنس هناك القصيدة الموزونة وهناك أيضاً قصيدة النثر. والنثر كجنس أمر آخر. إذا خرجت من الشعر سأخرج من الشعر كله. ربما جوابي هذا خطأ. لا أستطيع أن أعرف ما هو مستقبلي الشعري. لماذا أتجادل معك حول هذه النقطة؟ وأعترف ان ما أعمل عليه الآن هو نص نثري. بين يديّ الآن – فعلاً – نص نثري. وهذا ما اعترف به للمرة الأولى. اما أن أضع على مستقبلي قيداً يمنعني من كتابة قصيدة النثر فهذا جواب خاطئ أرجو أن تصححه. لكن النقاش الدائر حول أن مستقبل الشعر والحداثة الشعرية العربية لا يعرّفان إلا في قصيدة النثر فهذا كما أعتقد إجحاف حقاً. هذا استبداد فكري، وكذلك أن الموسيقى الداخلية لا تأتي إلا من النثر... أعتقد أن علينا أن نرفع الحدود بين كل هذه الخيارات الشعرية، لأن المشهد الشعري العربي الحقيقي لا يمكن النظر اليه إلا من زاوية المصالحة بين كل الخيارات الشعرية. ليس من حل نهائي لمسألة الشعر. الشعر غامض ولا محدود، وتبلغ لا محدوديته حداً اننا لا نعرف إزاءه أي كتابة هي الأصح. الكتابة الصحيحة في رأيي هي أن نجرّب وأن نسعى الى أن نخطئ. لأننا من دون أن نرتكب أخطاء لا نستطيع أن نتطور. لذلك أفضل دائماً التجريب غير المضمون النتائج على تقليد مضمون النتائج. وفي رأيي أيضاً أن لا شعر من دون مغامرة. > لماذا يصرّ الكثيرون على الكلام على ثنائية القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر، علماً أن هذا السجال انتهى في الغرب منذ القرن التاسع عشر؟ - صحيح، هذا السجال انتهى في الغرب. الطرف التقليدي هو الذي حارب مشروع الشعر الحر أو الشعر التفعيلي. كان شعر التفعيلة يحتاج الى شرعية والى دفاع فكري وإبداعي عن خياره. جيل قصيدة النثر خاض معركة أظن انها من أشرس المعارك لتثبيت شرعيته. وكانت ثمة عدوانية ما لدى بعض المنظرين لقصيدة النثر. ولكن علينا أن نفهم الدوافع وفي مقدمها البحث عن شرعية هذه القصيدة. اليوم أصبحت شرعيتها قائمة، وعلى شعراء هذه القصيدة أو منظريها ان يعترفوا بالشرعيات الأخرى. علينا أن ننهي لغة الخصومة بين الخيارات الشعرية والاقتراحات الشعرية. حتى الشاعر الواحد يمكنه ان يكتب قصيدة تفعيلة وقصيدة نثر. الشاعر الاسباني لوركا كتب قصيدة نثر وكذلك بودلير ورامبو. لم تعد قصيدة النثر موضوعاً مطروحاً على جدول الشعر أو الأدب. أصبحت قضية مسلّماً بها، ولم يعد القارئ ينظر الآن الى الاختلاف بين الشعريات. وأود أن أقول ان كثيرين من الشعراء والقراء يقرأون كتبي الأخيرة باعتبارها تضم قصائد نثر. > هذا أمر جميل! - ويفرحني أيضاً، فهم يحسّون ان أطروحات قصيدة النثر تمّ استيعابها في شعري. |
تصر على ما تسميه المعنى في الشعر وهو يختلف عن الجدلية؟ هل اللحظة الشعرية لديك هي لحظة فكرية أم حدسية؟
- أولاً أود أن أقول ان مفهوم المعنى لا متناه. الكلمات بحد ذاتها لا تحمل معنى. علاقة الكلمات بعضها ببعض هي التي تمنح المعنى الشعري. وبما أن هذه العلاقات غير متناهية، فإن المعنى بالتالي غير متناهٍ. أما في شأن المعرفة الشعرية، فإنني أعتقد ان هناك ثلاثة أنواع من هذه المعرفة. هناك المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية والمعرفة التحليلية. الشعر ميال الى المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية، وقد يستفيد من المعرفة التحليلية، لكن أساس العملية الشعرية أو المنطقة التي يعمل الشعر فيها هي المعرفة الحدسية والرؤيوية. لكن هاتين المعرفتين لا تتحرران كلياً من المعرفة التحليلية. القصيدة تبدأ وفق طرق مختلفة ترتبط بالشعراء أنفسهم. تبدأ القصيدة عندي من الحدس، الحدس يأخذ شكل الصورة أي يصير الغامض والحلمي مجموعة صور. لكن هذا حتى الآن لا يفتتح مجرى القصيدة، يجب ان تتحول الصور الى ايقاعات. وعندما تحمل الصور ايقاعاتها أحس ان القصيدة بدأت تحفر مجرى لها داخل أجناس أدبية غير محددة. هنا تكمن صعوبة الكتابة الشعرية. القصيدة تحفر مجراها في كتابات لا تنتهي. وصعوبة تحقق القصيدة هي كيف تكشف عن نفسها وتنجز هويتها الشعرية داخل كل هذه الأجناس والنصوص. إذاً، الايقاع هو الذي يقودني الى الكتابة. وإذا لم يكن هناك من ايقاع، ومهما كانت عندي أفكار أو حدوس وصور، فهي ما لم تتحول ذبذبات موسيقية لا أستطيع أن أكتب. إنني أبدأ من اللحظة الموسيقية إذاً. ولكن في كل كتابة هناك فكر ما. فالشاعر ليس آتياً من اللغة فقط، بل من التاريخ والمعرفة والواقع. والذات الكاتبة لدى الشاعر ليست ذاتاً واحدة، انها مجموعة ذوات. إذاً هناك فكر ما يقود عمل القصيدة. أحياناً تتمرد الكتابة على الفكرة التي تقودها وتصبح الكتابة هي التي تقود الفكرة. وهنا يجوز لنا أن نقول ان الغد يأتي الى الماضي، وليس العكس. كل تخطيط لقصيدة هو عمل فكري واعٍ، وإذا ظهرت ملامحه تتحول القصيدة مجموعة مقولات وتتحول أيضاً فلسفة وتصبح العلاقة بين الفلسفة والشعر علاقة إطراد متبادل. على الفكر والفلسفة والمعارف كلها أن تعبّر عن نفسها في الشعر عبر الحواس، عليها ان تنصهر في الحواس وإلا تحولت مقولات كما أشرت. > ولكن من الملاحظ ان معظم قصائدك، ولا سيما القصائد ذات النفس الملحمي، تحمل بنية قائمة على الايقاع وعلى اللوازم الايقاعية والغنائية. كيف تتم مرحلة بناء القصيدة لديك؟ - تكلّمنا قبل قليل عن اللحظة التي تدفع الشاعر الى كتابة القصيدة. إن مفتاحي كما قلت هو الايقاع. هذا بالنسبة الى الحافز الشعري. ولكن لدي إصرار على أن أبني القصيدة بناء هندسياً، وهذا ينطبق على القصائد الطويلة والقصيرة في آن واحد. وأعتقد ان قصيدة بلا بنية قد تهددها النزعة الهلامية. أحب أن يكون للقصيدة قوام. وهذا ليس قانوناً أحذوه بل هو خياري الشعري. لماذا أتحدث عن القوام؟ لأعرف العلاقة بين السطوح والأعماق، العلاقة بين الايقاع والصورة والمجاز والاستعارة. يجب أن تكون هناك علاقات دقيقة جداً بين كمية الملح وكمية الورد والدم والطين... يجب أن يكون هناك تصور لهندسة معمارية تقوم القصيدة على أساسها. قد تقود القصيدة الى مبنى آخر، حينذاك على المهندس أن يغيّر خرائطه. ولكن في المحصّلة لا أنشر قصيدة إلا إذا كان لها شكل أو بنية أو ما سمّيته قواماً. > يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري ان الالهام يأتي الشاعر بأول بيت ثم عليه أن يواصل كتابة القصيدة. أنت تكتب القصيدة في مراحل عدة ثم تصوغها مرة تلو مرة، كيف تولد القصيدة لديك وكيف تنتهي؟ - تولد عبر الايقاع. أكتب سطراً أولاً ثم تتدفق القصيدة. هكذا أكتبها ولكن عندما أجري عليها تعديلات أو تجري هي تعديلات على نفسها، تصبح قصيدة أخرى. كثيرون من أصدقائي النقاد يحاولون الحصول على مسوّداتي الشعرية. وأقول لهم انني أتلفها فوراً لأن هناك فضائح وأسراراً، فما من علاقة بتاتاً بين النص الأول والنص الأخير في أحيان. ولعل تغيير سطر شعري قد يغير كل بناء القصيدة فيخضع بناؤها لمحاولة ترميم وبناء جديدين. إنني معجب جداً ببول فاليري ناقداً وقارئاً وكاتباً ذا إرهاف عالٍ وذكاء ولا أستطيع أن أقول انني معجب به كشاعر. تماماً كما انني معجب بأوكتافيو باث كناقد ومنظر للشعر أكثر مما أنا معجب به كشاعر. > وماذا عن الإلهام إذاً؟ - أعتقد ان هناك إلهاماً ما! ولكن ما هو هذا الإلهام؟ مرة حاولت أن أعرّف به فقلت انه عثور اللاوعي على كلامه. ولكن هذا تعريف غير دقيق وغير ملموس. الإلهام هو أحياناً توافق عناصر خارجية مع عناصر داخلية، انفتاح الذهن على الصفاء وعلى طريقة يحوّل بها المرئي الى لا مرئي واللامرئي الى مرئي من خلال عملية كيميائية لا يمكن تحديد عناصرها. أعتقد ان هناك سراً ما للحافز الشعري. لماذا ينهض الشاعر ويكتب؟ لماذا يأتي بالورق الأبيض ويعذب نفسه ولا يعرف الى أين هو ذاهب؟ خطورة العمل الشعري تكمن في أن لا ضمانات أكيدة للنجاح. الكتابة مغامرة دائمة وخطرة ولا تأمين لها، بل ليس هناك «شركة» تأمين توافق على المغامرة الشعرية بتاتاً و«حوادث المرور» في الشعر كثيرة جداً (يضحك). أحياناً تشعر بأن لديك رغبة طافحة في الكتابة. تجلس الى الطاولة فلا تكتب شيئاً. أحياناً تذهب متكاسلاً الى الطاولة فتفاجأ بأن الإلهام موجود فيك فتنكب على الكتابة. بعض الكتاب كانوا يترددون حيال الإلهام، إن كان موجوداً أم لا. ولكن إذا كان هناك إلهام فعلينا أن نعرف كيف ننتظره فهو لا يأتي وحده. علينا أن نتعاون معه مثلما نتعاون مع الغامض والمجهول ليتضح شيء ما. > وماذا عن البيت الأول الذي يتحدث عنه فاليري! - البيت الأول، من خلال تجربتي يكون أقل أهمية من السطور الأخرى. الشعر يبدأ من اللاشعر. والطريق الى القصيدة تكون متعثرة في البداية. وشخصياً ليس لدي بيت أول مهم لأن لا أبيات شعرية لدي أصلاً. القصيدة تتوالد وتتصاعد تدريجاً. وأحياناً قد يكون الإلهام الشعري سيئاً لكنه يعطيك نتيجة حسنة. ليس من مشكلة. وأسأل من جديد ما معنى الإلهام: الإلهام يقول لك: اجلس واعمل، اشتغل ويذهب. انه يحضّرك شعرياً، يغسلك داخلياً أو يوترك داخلياً أو يقيم توازناً بين الحرارة والبرودة، والبقية عليك، كشاعر، فأنت تعتمد على نفسك وعلى خبرتك وعلى طريقة العثور على نصك الخاص بك الذي يحمل ذاكرة كتاباتك كلها. فالورقة البيضاء أمامك هي مملوءة بالكتابات السابقة، كتاباتك. وأتذكر قولاً لإليوت مفاده أن النضج الأدبي هو أن نتذكر أسلافنا وأن نشعر بأن وراء هذا النص الشعري أسلافاً. |
حتى في القصائد التي تنطلق من موضوع معين أو واقعة معينة؟ مثلاً قصيدتك في ذكرى السياب أو قصيدتك عن محمد الدرّة أو عن ادوارد سعيد! كان هناك موضوع هو حافزك على الكتابة؟ هل هي الطريقة نفسها في الكتابة؟ أي ان الموضوع سابق للقصيدة؟
- هناك شعر يخلق موضوعه. ولكن عندما تكتب تذهب وفي ذهنك شيء غير محدد تماماً ولكنه مسمّى. هناك اسم لما تريد ان تكتبه، فأنت ستكتب شعراً في النهاية. وما تكتبه من مواقف وأفكار لا يعرّف بموضوعك بل بطريقة تعبيرك عن هذا الموضوع. هناك قصائد لا موضوع لها، أو ان موضوعها قائم في ذاتها وهي حافلة بالتوتر اللغوي، باللعب اللغوي أو بتمرّد اللغة عليك، أو محاولة سيطرتك على اللغة. المشكلة أن الشاعر يظن انه يقود اللغة. ليس هذا صحيحاً. اللغة أشدّ سيطرة على الشاعر لأن لها ذاكرتها ومنظومتها ونسقها وتاريخها وتراثها. ما يقدر أن يفعله الشاعر هو أن يعيد الحياة الى لغة أصبحت مألوفة وعادية. وكما يقول هيدغر الشاعر هو وسيلة اللغة وليست اللغة هي وسيلة الشاعر. > هل تعاني من مأزق الورقة البيضاء، هذا المأزق الذي يتحدث عنه كثيرون من الشعراء؟ - عندما تكتب تذهب الى مصيرك وحدك، من دون معاونة أحد. وإذا وجدت من يعاونك فهو يلغيك من شدة حضوره. في كل شاعر آلاف من الشعراء. ليس هناك من شاعر يبدأ من الفراغ أو البياض، قد ينتهي الشاعر في البياض. فالبياض لون غير موجود في الكتابة. في كل شاعر تاريخ الشعر منذ الرعويات الشفهية الى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسيكي الى الشعر الحديث. ثم ان الشاعر يخاف من قراءاته، أن يقفز منها شيء الى نصه في طريقة لا واعية، شيء ملتبس يكون في ذهنه. وأعتقد ان ليس من نص خاص لشاعر معين. الشاعر يحمل خصائص أو ملامح جميع الشعراء الذين قرأهم ولكن من دون أن يخفي ملامحه، أي مثل الحفيد الذي يحمل ملامح جدّه من دون أن تختفي ملامحه الخاصة. السؤال الصعب المطروح على كل شاعر هو: في أي جهة من الورقة البيضاء تستطيع أن تضيف جديداً؟ هذه هي الصعوبة. ولذلك الشعر الحقيقي قليل ونادر. > عندما أقرأ قصائدك لا أشعر بأن لديك أزمة في الكتابة أو في التعبير! فمعجمك الشعري واسع جداً مما يدل على انك تتخطى أزمة «الورقة البيضاء». شعرك سيّال ومتدفق! من أين يأتي هذا الاتساع الشعري أو الرحابة وهذا السطوع؟ هل من المراس الشعري أم من التجربة الداخلية؟ - أولاً أشكرك على هذا الرأي وهو رأي نقدي أعتز به كثيراً. لماذا؟ لأن أزمتي لا تظهر في قصيدتي، بل في ما قبل القصيدة. أزمتي هي مع ماضي القصيدة. في القصيدة يجب ألا تظهر معاناتك كشاعر، ولا عذابك الذي يسبقها. القارئ يرى المولود ولا يعرف ما هو المخاض. يرى الشيء في هيئته الناضجة. أما ما وراء ذلك فلا. ولو كان الشعر في هذه السهولة لما كان الورق الأبيض يتسع للقصائد. لا. على الشاعر أن يخفي معاناته وأن يبدو وكأن قصيدته كتبت نفسها. يجب ألا يظهر الجهد. أتذكّر ما يقول الشاعر الألماني ريلكه في هذا الصدد: إذا أردت أن تكتب سطراً شعرياً واحداً يجب أن تكون قد زرت مدناً كثيرة ورأيت أشياء كثيرة وقطفت زهوراً كثيرة. فالقصيدة هي خلاصة كل هذه المعاناة والتجربة. > ولكن من أن تأتي رحابة معجمك الشعري؟ ثمة شعراء كبار في العالم معجمهم ضيق؟ - كان خوفي أن يكون معجمي الشعري أخطر من ذلك. كنت أخاف فعلاً. فأنا ألاحظ مثلاً أن بعض الشعراء العرب المهمين لديهم معجم شعري فقير. ولا أريد أن أسمي أحداً هنا. > أنا أسمي سعيد عقل مثلاً، هو الشاعر الكبير معجمه محدود. - لن أسمي أحداً. ربما عوالمي المتناقضة التي أشعر بها من حولي، لكل منها معجم مختلف عن الآخر. يعني انني أضع السماوي الى جانب الأرضي، الميتافيزيقي الى جانب المادي... > والأروسي مع الصوفي...! - أحب هذه العلاقات القائمة بين المتناقضات وهي تحتاج الى لغة تحمل هذا التوتر. ولا أخفيك انني أقرأ كثيراً. وربما للمرة الأولى أفصح عن أمر في حياتي: لديّ رياضة يومية، أفتح «لسان العرب» كل صباح في طريقة عشوائية وأقرأ عن كلمة ما وعن تاريخها وأصلها وعن الاشتقاقات التي خرجت منها. واكتشف دائماً انني لا أكتب العربية جيداً. > وربما هنا قوتك. - الاعتراف بالجهل يعلّم. أحسن معلّم أو أحسن حافز على التعلّم هو أن تعرف انك جاهل. > شعرك لا يعبّر عن كونك شاعر فصاحة وبلاغة وشاعر معاجم...! - أحاول أن أبسّط لغتي وأطرد منها المفردات الميتة، ولكن لديّ تمارين دائمة على فهم اللغة في طريقة أفضل. > هل تقرأ الروايات مثلاً؟ - طبعاً. |
هل تقرأ الشعر، أنت الذي تدعو الشاعر الى عدم الإكثار من قراءة الشعر؟
- أعتقد أنها نصيحة جيدة في عمر معيّن. لأن الشعر مثل أي شيء جميل يصيب بما يشبه الاشباع أو التخمة. لا أحد يقدر على أن يأكل كيلو عسل. يقع في الاشمئزاز. الشعر مكثف كثيراً حتى إن الذائقة المتلقية لا تستطيع أن تستوعبه. وبالتالي فإن القليل منه هو الذي يجعله يأخذ مكانه أو وظيفته الحقيقية. ولكن في البداية، على الشاعر أن يقرأ الكثير من الشعر كي يسلس له الإيقاع وتسلس له اللغة ويربّي السليقة لديه فالسليقة إذا صقلت تساعد الشاعر على التخلص من النكد الشعري. فالشعر، مهما كان يحمل من أفكار وأبعاد فلسفية، يجب أن يبدو كأنه عفوي، وهذا يعود الى فعل السليقة المهذبة. إنني أقرأ كتب التاريخ كثيراً، أقرأ الكتب الفكرية والفلسفية وبعض الكتب التي لا علاقة لها بالشعر مثل «تاريخ القراصنة» أو «تاريخ الملح». أحب أن أنوّع قراءاتي خصوصاً في حقل الجغرافيا والبحار والبلدان. > هل تشاهد السينما والمسرح؟ - نعم، طبعاً. > هل هما من مصادرك الشعرية؟ - السينما من مصادري البصرية نعم. لكنها مصدر غير واضح كثيراً. لكنني أعترف إنني عاشق كبير للرواية. > هل فكرت يوماً في أن تكتب رواية مثل الكثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية على هامش شعرهم؟ - مع حبي غير المحدود للرواية لم أفكر يوماً في كتابتها. لكنني أغبط الروائيين لأن عالمهم أوسع. والرواية تستطيع أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية. وتستطيع أن تمتصّ الشعر وسائر الأجناس الأدبية وتستفيد منها الى أقصى الحدود. والجميل في الرواية انها غير عرضة للأزمات، ذلك ان في كل كائن بشري رواية. وهذا ما يكفي لملايين السنين، وليس على الروائي إلا أن يستوحي التجارب. لم أفكر في كتابة الرواية لأنني لا أستطيع أن أضمن النتائج. والرواية تحتاج الى جهد وصبر هما غير متوافرين فيّ. هناك شعراء كثيرون أتقنوا الشعر والرواية. وبعضهم سطت روايتهم على شعرهم وبعضهم سطا شعرهم على روايتهم فغدت رواية متشعرنة، فيما يجب أن تتوافر في الرواية لغة السرد ومنطق الشخصيات وسواهما. إنني أحب الرواية – الحكاية. رواية اللارواية لا أحبها كثيراً وأعدّها عبارة عن ثرثرة لغوية. قد تكون جميلة لكنها ليست من النوع الروائي الذي أحبه. قرأت أخيراً رواية أدهشتني هي «عمارة يعقوبيان» للكاتب المصري علاء الاسواني، وما أدهشني في هذه الرواية انها لا تحتاج الى كتابة ولا الى لغة أدبية، وقوة التجربة الانسانية فيها أغنتها عن اللغة. > ما رأيك بمقولة ان المستقبل هو للرواية وليس للشعر؟ وأن الزمن الآن هو زمن الرواية؟ - أود أن أذكرك انه كان ذات مرة زمن للقصة القصيرة. والقصة هذه لها مواسم. أحياناً تزدهر وأحياناً تنطفئ وتغيب. الرواية هي كتابة جديدة في معنى ما، فالشعر سبقها بآلاف السنين. وقد تغري بالقول ان الزمن الآن هو زمنها وانها أصبحت «ديوان العرب» كما يقال. شخصياً لا أحب هذا الاشتباك بين الكتابتين. الرواية لها عالمها والشعر عالمه. وفي بعض المجتمعات الرواية متطورة أكثر من الشعر وفي مجتمعات أخرى الشعر متطور أكثر من الرواية. لا أحد يستطيع أن يرسم صورة المستقبل أو أن يحتكرها. وأعتقد ان المستقبل هو للشعر كما هو للرواية. > ولكن هل تعتقد ان الشعر قادر على ان يعبّر عن كل ما يجيش في نفسك وما يدور في رأسك من أفكار؟ - هناك شعراء يقولون ان اللغة لا تتسع لهم وانهم أكبر من اللغة. وجموح الشعراء الى إصدار مقولات كبيرة قد يكون مقبولاً. هل سمح لي الشعر أن أقول كل ما أريد أن أقول؟ ليس هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي. بل هو: هل أستطيع أن أقول أكثر مما قلت؟ هذا ما يؤرقني. ولكن لا أحد يستطيع أن يكتب كل ما في داخله. هناك أدباء كتبوا أكثر مما في قدرتهم، أي انّ كلماتهم أكبر من عالمهم الداخلي ومن تجربتهم الحياتية والانسانية. شخصياً لا أشكو من هذا الأمر. وأعتقد انني قادر على قول ما أشعر به وما أحلم به وما هو غامض في أشكاله المختلفة. ولكن في نهاية الأمر قد يكون من الصحيح ان الشاعر يقول شيئاً واحداً وأن الروائي يقول شيئاً واحداً. ولكن ما هو هذا الشيء؟ يكتب الشاعر ليصل الى هذا الشيء، ليكتشف ما يريد أن يقوله. |
الساعة بإيدك هلق يا سيدي 08:31 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3) |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون