![]() |
من ديوان عاشق من فلسطين
خواطر في شارع يا شارع الأضواء! ما لون السماء وعلام يرقص هؤلاء؟ من أين أعبر، والصدور على الصدور والساق فوق الساق. ما جدوى بكائي أي عاصفة يفتنها البكاء؟ فتيممي يا مقلتي حتى يصير الماء ماء وتحجّري يا خطوتي! هذا المساء... قدرٌ أسلّمه سعير الكبرياء! من أي عام... أمشي بلا لون، فلا أصحو ولا أغفو وأبحث عن كلام؟ أتسلق الأشجار أحياناً وأحياناً أجدّف في الرغام والشمس تشرق ثم تغرب... والظلام يعلو ويهبط. والحمام ما زال يرمز للسلام! يا شارع الأضواء، ما لون الظلام وعلام يرقص هؤلاء؟ ومتى تكفّ صديقتي بالأمس، قاتلتي تكفّ عن الخيانة والغناء؟ الجاز يدعوها؟ ولكني أناديها... أناديها... أناديها. وصوت الجاز مصنوع وصوتي ذوب قلب تحت طاحون المساء لو مرة في العمر أبكي، يا هدوء الأنبياء لكن زهر النار يأبى أن يعرّض للشتاء يا وجه جدي يا نبياً ما ابتسم من أي قبر جئتني، ولبست قمبازاً بلون دم عتيق فوق صخره وعباءة في لون حفره يا وجه جدي يا نبياً ما ابتسم من أي قبر جئتني لتحيلني تمثال سم. الدين أكبر لم أبع شبراً، ولم أخضع لضيم لكنهم رقصوا وغنوا فوق قبرك... فلتنم صاحٍ أنا... صاحٍ أنا... صاحٍ أنا حتى العدم |
مرحلة المنفى والحصار والخروج من بيروت مع بداية السبعينيات اشتد الخناق على محمود درويش، فالسلطة لم تكف عن مضايقته وملاحقته وتوقيفه واحتجازه في البيت وعن سجنه ايضا، حتى ضاقت به السبل فقرر ان يهجر هذا الوضع. ترك محمود الوطن الى منفاه الاختياري، وهناك بدأت مأساته الحقيقية، مأساة اللامكان، مأساة الرحيل، والموانئ، ومحطات القطار، والمطارات. (وطني حقيبة) كما يقول، حتى استقر في بيروت. في بيروت راح الجرح يتعمق والمعاناة راحت تتضاعف وتتثلث، والتجربة انفتحت واغتنت وتوسعت فكرا وثقافة، هناك رأى المأساة الفلسطينية عارية على حقيقتها. رأى الفقر في المخيمات، رأى حياة القهر والذل، كما شاهد المذابح والحرائق في تل الزعتر في صبرا وفي شاتيلا، ولكنه شاهد ايضا صمود الفلسطيني ونضاله وكفاحه وصبره وإصراره وايمانه بانتصار قضيته التي حمل السلاح لأجلها ولأجل عودة شعبها وتحريرها. ومثلما رأى الصمود والمذابح رأى الانكسار وعايش حالة الحصار الوحشية في بيروت، ثم شاهد خروج الفلسطينيين الفاجع منها، من منفى الى منفى والتجربة تتسع وتتعمق والهم يكبر. من هنا صارت القصيدة العادية التي الِفها محمود وبرع في نظمها في المرحلة الاولى ضيقة، وعاؤها الاستعاري ضاق عن تفاصيلها، وبنيتها صارت اكثر تعقيدا وصورها اكثر تركيبا، لذلك نراه في هذه المرحلة يميل الى المطولات ذات النفس الملحمي وتكفي الاشارة الى ثلاث مطولات من روائعه في هذه المرحلة هي: احمد الزعتر/ وقصيدة بيروت/ ومديح الظل العالي.في هذه المرحلة تميل قصائد محمود درويش الى المسرحة والى الدرامية القصصية فالمبنى صار قصصيا، كما مالت القصائد الى كثير من التجريد والى توالد الصور بحيث صارت قراءة القصيدة هي متابعة للصور التي فيها وتفكر بعلاقات الصورة ورمزيتها (كما يقول "الياس خوري" في كتابه "دراسات في نقد الشعر" الصادر عن مؤسسة الابحاث العربية، بيروت طـ 3، 1986). فكثرت الاستعارات الطريفة والتشبيهات المولدة والايقاع المتقافز النابع من التكرار ومن الترادف والاختلاف والتضاد. في هذه القصائد يجنح نحو التجريب غير هياب، أي الى اللحظة المتوترة دراميا داخل بنية شعرية مركبة. القصيدة في هذه المرحلة هي كثافة الشعر في تجربة كلية متماسكة والصورة تصبح هنا جزءا من كل توتري أي انها تتحول من لحظة توقف تأملية مفاجئة الى سياق بحيث تصير شبكة من السياقات تضمها وحدة بنائية تتداعى داخل حركة لولبية. القصيدة هنا هي محاولة اختصار الحركة بالصورة المتوالدة والبناء الشعري يكتفي بالتلميح والاشارات مرتكزا على عاملَي التداعي الصوري والجملة الشحنة الممتدة لتشمل بناء عالم من اللحظات المتتابعة والتي تشكل بينها وحدة داخلية. تتميز القصيدة في هذه المرحلة بأصواتها المتعددة الجوانب والمختلفة، بحيث تختلط هذه الاصوات داخل البناء لتلح على توترها وعلى مبناها الدرامي الشعري في محاولة للوصول الى القصيدة الشبكية المعقدة التي تتجاوز الانفعال المباشر والصراخ الواضح في محاولة ايضا للابتعاد عن الموضوع كمقدمة والنظر اليه ككل متكامل. وهذا المبنى يركز في قصائد محمود درويش على شخصية واحدة هي البطل ويقيم حوارين المباشر وغير المباشر، كما ويجلد السلطة المسيطرة ويدينها دائما وهذه السلطة هي التي تشكل الاطار الثابت في القصيدة. كما وتتميز القصائد بحالة من النبوءة، حالة يمتزج فيها الحلم بالوعي، فتصبح القصيدة سيالة دافقة لا شيء يعثرها في مسراها الحريري. كما ان اللغة ايضا في هذا البناء الجديد تتغير وتتوالد وتتآلف وتتخالف وتبارح مرجعياتها السابقة فكلمة الارض مثلا كمفردة وكإيحاء لا تعود معطى كما المرحلة السابقة ولا اطارا للحنين وللتواصل انما هنا هي تتفجر في علاقة جدلية مع عنصر ايديولوجي بحيث تصير هنا يدا ورصاصة وتفارق ثبوتها. وعنصر الزمن ايضا لا يعود مجرد اطار ساكن انما يصير قاعدة للمسار العام وجزءا اساسيا من البنية الداخلية للقصيدة. فلنستمع الآن الى بعض المقاطع من شعر هذه المرحلة، وأبدأ بملحمة "احمد الزعتر" يقول محمود: ليدين من حجر وزعتر هذا النشيد.. لأحمد المنسي بين فراشتين مضت الغيوم وشردتني ورمت معاطفها الجبال وخبأتني نازلا من نحلة الجرح القديم الى تفاصيل البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد وكنت وحدي ثم وحدي آه يا وحدي! وأحمد كان اغتراب البحر بين رصاصتين مخيما ينمو وينجب زعترا ومقاتلين وساعدا يشتد في النسيان ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين.. .... في كل شيء كان احمد يلتقي بنقيضه عشرين عاما كان يسأل عشرين عاما كان يرحل عشرين عاما لم تلده امه الا دقائق في اناء الموز وانسحبت يريد هوية فيصاب بالبركان سافرت الغيوم وشردتني ورمت معاطفها الجبال وخبأتني هذا المقطع الذي قبسناه يشي بما تقدم يشي بالتجريد "نازلا من نحلة الجرح" "لم تلده امه الا دقائق في اناء الموز" ويشي ايضا بالبناء الدرامي المتلاحم وبالصور المتوالدة المركبة وبالترميز وما ينتج عنه. كما ان المقطع والذي بعده يزخران بالتوتر – يريد هوية فيصاب بالبركان. |
يستمر محمود قائلا، لا بل راويا:
"راح احمد يلتقي بضلوعه ويديه كان الخطوة – النجمة/ ومن المحيط الى الخليج- من الخليج الى المحيط/ كانوا يعدون الرماح/ واحمد العربي يصعد كي يرى حيفا ويقفز/ احمد الآن الرهينة/ تركت شوارعها المدينة، أتت اليه/ لتقتله/من الخليج الى المحيط، من المحيط الى الخليج/ كانوا يعدون الجنازة/ وانتخاب المقصلة. انا احمد العربي – فليأت الحصار/ جدي هو الاسوار – فليأت الحصار/ وانا حدود النار – فليأت الحصار/ وأنا احاصركم/ احاصركم/ وصدري باب كل الناس فليأت الحصار. ما يجعل هذه المطولة جميلة تهز قارئها او متلقيها هو تعدد الاصوات فيها وثنائية الخطاب القصصي كما في المقطع التالي: يا ايها الولد المكرس للندى/ قاوم!/ يا ايها البلد – المسدس في دمي/ قاوم/ الآن اكمل فيك اغنيتي/ وأذهب في حصارك/ والآن اكمل فيك اسئلتي/ واولد من غبارك/ فاذهب الى قلبي تجد شعبي/ شعوبا في انفجارك. ويختتم محمود درويش هذه الملحمة بصوت يصرخ ألما وحلما وبنبرة "واثقة" حيث يقول: كتبتْ مراثيها الطيور وشردتني/ورمت معاطفها الحقول وجمعتني/ فاذهب بعيدا في دمي! واذهب بعيدا في الطحين/ لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين. يا احمد اليومي!/ يا اسم الباحثين عن الندى وبساطة الاسماء/ يا اسم البرتقالة/ يا احمد العادي!/ كيف محوتَ هذا الفارق اللفظي بين الصخر والتفاح/ بين البندقية والغزالة!/ لا وقت للمنفى واغنيتي/ سنذهب في الحصار/ حتى نهايات العواصم/فاذهب عميقا في دمي/ اذهب براعم/ واذهب عميقا في دمي/ اذهب خواتم/ واذهب عميقا في دمي/ اذهب سلالم/ يا احمد العربي قاوم! فاذهب عميقا في دمي واذهب عميقا في الطحين/ لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين. ثم يتبدل الصوت وتتبدل النبرة فيخاطبنا الشاعر عن احمد الزعتر ويقول: وله انحناءات الخريف/ له وصايا البرتقال/ له القصائد في النزيف/ له تجاعيد الجبال/ له الهتاف/ له الزفاف/ له المجلات الملونة/ المراقي المطمئنة/ ملصقات الحائط/ العَلم/ التقدم/ فرقة الانشاد مرسوم الحداد/ وكل شيء كل شيء كل شيء/ حين يعلن وجهه للذاهبين الى ملامح وجهه. يا أحمد المجهول!/ كيف سكتنا عشرين عاما واختفيت/ يا احمد السري مثل النار والغابات/ اشهر وجهك الشعبي فينا/ واقرأ وصيتك الاخيرة؟/ أخي احمد! وأنت العبد والمعبود والمعْبد متى تشهد متى تشهد متى تشهد؟ واذا انتقلنا الى "قصيدة بيروت" سنجد نفس الظواهر والسمات التي وجدناها في "احمد الزعتر"، بمعنى سنجد وتلاقي الاضداد والنص الملحمي والصور المركبة والتجريد والزخم والتناص والاتكاء على الرمز، فلنسمع مقاطع منها، تقطر حزنا لأنه سيفارق المدينة التي احب يقول: تفاحة للبحر، نرجسة الرخام/ فراشة غجرية. بيروت شكل الروح في المرآة/ وصف المرأة الاولى، ورائحة الغمام/ بيروت من تعب ومن ذهب، واندلس وشام/ فضة. زبد. وصايا الارض في ريش الحمام/ وفاة سنبلة. تشرد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت/ لم اسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي.. وتنام/ من مطر على البحر اكتشفنا الاسم، من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب، كأننا اسلافنا نأتي الى بيروت كي نأتي الى بيروت. من مطر بنينا كوخنا، والريح لا تجري فلا نجري، كأن الريح مسمار على الصلصال تحفر قبوَنا فننام مثل النمل في القبو الصغير كأننا كنا نغني خلسة/ بيروت خيمتنا/ بيروت نجمتنا/ سبايا نحن في هذا الزمان الرخو/ أسلمنا الغزاة الى اهالينا/ فما كدنا نعض الارض حتى انقض حامينا على الاعراس والذكرى فوزعنا اغانينا على الحراس/ من ملك على عرش/ الى ملك على نعش/ سبايا نحن في هذا الزمان الرخو/ لم نعثر على شبه "نهائي" سوى دمنا/ ولم نعثر على ما يجعل السلطان شعبيا/ ولم نعثر على ما يجعل السجان وديا/ ولم نعثر على شيء يدل على هويتنا/ سوى دمنا الذي يتسلق الجدران/ ننشد خلسة بيروت خيمتنا/ بيروت نجمتنا. هذه المرارة القاسية التي تفوح في ارجاء القصيدة هي المسيطرة ولكنها تنفرج في النهاية وتنفتح على الاصرار حيث يقول: احرقنا مراكبنا، وعلقنا كواكبنا على الاسوار نحن الواقفين على خطوط النار نعلن ما يلي: بيروت تفاحة/ والقلب لا يضحك/ وحصارنا واحة/ في عالم يهلك/ سنرقّص الساحة/ ونزوّج الليلك. ثم يقول: لم نولد لنسأل: كيف تم الانتقال الفذ مما ليس عضويا الى العضوي؟ لم نولد لنسأل: قد وُلدنا كيفما اتفق/ انتشرنا كالنمال على الحصيرة/ ثم اصبحنا خيولا تسحب العربات/ نحن الواقفين على خطوط النار/ احرقنا زوارقنا/ وعانقنا بنادقنا/ سنوقظ هذه الارض التي استندت الى دمنا/ سنوقظها، ونخرج من خلاياها ضحايانا/ سنغسل شعرهم بدموعنا البيضاء/ نسكب فوق ايديهم حليب الروح كي يستيقظوا/ ونرش فوق جفونهم اصواتنا: قوموا ارجعوا للبيت يا احبابنا/ عودوا الى الريح التي استلت جنوب الارض من اضلاعنا/ عودوا الى البحر الذي/ لا يذكر الموتى ولا الاحياء/ عودوا مرة اخرى/ فلم نذهب وراء خطاكم عبثا/ مراكبنا هنا احترقت/ وليس سواكم ارض ندافع عن تعرجها وحنطتها/ سندفع عنكم النسيان، نحميكم/ بأسلحة صككناها لكم من عظم ايديكم/ نسيجكم بجمجمة لكم/ وبركبة زلقت/ فليس سواكم ارض نسمّر فوقها اقدامنا/ عودوا لنحميكم/ ولو انا على حجر ذبحنا/ لن نغادر ساحة الصمت التي سوّت اياديكم/ سنفديها ونفديكم. ثم يختتم بقوله: نحن الواقفين على خطوط النار نعلن ما يلي: لن نترك الخندق/ حتى يمر الليل/ بيروت للمطلق/ وعيوننا للرمل/ في البدء لم نخلق/ في البدء كان القول/ والآن في الخندق/ ظهرت سمات الحمل. وبعد خروج الفلسطينيين من بيروت يطل محمود درويش مع ملحمة رائعة هي "مديح الظل العالي" وهي تحتوي ايضا على نفس موتيفات وتقنيات القصائد السابقة، يقول فيها: بحرلأيلول الجديد/ خريفنا يدنو من الابواب بحر للنشيد المر. هيأنا لبيروت القصيدة كلها بحر لمنتصف النهار/ بحر لرايات الحمام، لظلنا، لسلاحنا الفردي/ بحر للزمان المستعار/ ليديكَ، كم من موجة سرَقتْ يديك/ من الاشارة وانتظاري ضع شكلنا للبحر. ضع كيس العواصف عند اول صخرة واحمل فراغك... وانكساري .. واستطاع القلب ان يرمي لنافذة تحيته الاخيرة، واستطاع القلب ان يعوي، وان يعد البراري بالبكاء الحر ثم يقول مخاطبا الفلسطيني المقاوم: خذ بقاياك، اتخذني ساعدا في حضرة الاطلال. خذ قاموس ناري وانتصر/ في وردة ترمى عليك من الدموع/ ومن رغيف يابس، حاف وعار/ وانتصر في آخر التاريخ/ لا تاريخ الا ما يؤرخه رحيلك في انهياري/ قلنا لبيروت القصيدة كلها، قلنا لمنتصف النهار/ بيروت قلعتنا/ بيروت دمعتنا/ ومفتاح لهذا البحر/ كنا نقطة التكوين/ كنا وردة السور الطويل وما تبقى من جدار/ ماذا تبقى منك غير قصيدة الروح المحلق في الدخان قيامة وقيامة بعد القيامة. خذ نثاري/ وانتصر فيما يمزق قلبك العاري/ ويجعلك انتشارا للبذار/ قوسا يلم الارض من اطرافها جرسا لما ينساه سكان القيامة من معانيك. انتصر/ ان الصليب مجالك الحيوي، مسراك الوحيد من الحصار الى الحصار. بحر لأيلول الجديد. وأنت ايقاع الحديد تدقني سحُبا على الصحراء، فلتمطره لأسحب هذه الارض الصغيرة من إساري. لا شيء يكسرنا/ وتنكسر البلاد على اصابعنا كفخار، وينكسر المسدس من تلهفك. انتصر، هذا الصباح، ووحد الرايات والامم الحزينة والفصول بكل ما اوتيت من شبق الحياة، بطلقة الطلقات/ باللاشيء/ وحدنا بمعجزة فلسطينية.. بيروت قصتنا/ بيروت غصتنا/ وبيروت اختبار الله/ جربناك جربناك. من اعطاك هذا اللغز؟ من سمّاك؟ وفي مقطع آخر منها يهاجم الحكام العرب الذين وقفوا متفرجين على جراح الفلسطيني وموته يقول: هي هجرة اخرى/ فلا تكتب وصيتك الاخيرة والسلاما/ سقط السقوط، وأنتَ تعلو/ فكرة/ ويدا/ و... شاما! كسروكَ، كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرشا وتقاسموك وأنكروك وخبؤوك وأنشؤوا ليديك جيشا حطّوك في حجر.. وقالوا: لا تسلّم/ ورموك في بئر وقالوا: لا تسلم/ وأطلت حربك، يا ابن امي، الف عام الف عام، الف عام في النهار/ فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة والفرار. ثم يجلد العرب على تقصيرهم وخياناتهم فيقول: نحن البداية والبداية والبداية. كم سنة وأنا التوازن بين ما يجب؟/ كنا هناك. ومن هنا ستهاجر العرب/ لعقيدة اخرى وتغترب قصب هياكلنا/ وعروشنا قصب/ في كل مئذنة حاو ومغتصب/ يدعو لأندلس/ ان حوصرت حلب. وأنهي بهذا المقطع الذي يلخص مأساة الفلسطيني، يقول محمود في نفس القصيدة: "وطني حقيبة/ وحقيبتي وطني/ ولكن... لا رصيف، ولا جدار/ لا ارض تحتي كي اموت كما اشاء/ ولا سماء حولي/ لأثقبها وادخل في خيام الانبياء. واخيرا هذا هو شعر درويش في المرحلة الثانية مرحلة المنفى والحصار والخروج من بيروت. وقد رأينا كيف تطور هذا الشعر وانفتح ليعانق كل تقنيات القصيدة الحديثة مع محافظته على الموسيقا والايقاع وهذه هي فرادة محمود وتفرده وتميزه |
قصيدة بيروت
بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام . فضّة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام. وفاة سنبلة، تشرّد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت . لم أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي... و تنام ... من مطر على البحر اكتشفنا الإسم، من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب، كأنّنا أسلافنا نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى بيروت ... من مطر بنينا كوخنا، والريح لا تجري فلا نجري، كأنّ الريح مسمار على الصلصال، تحفر قبونا فننام مثل النمل في القبو الصغير كأننا كنا نغنيّ خلسة : بيروت خيمتنا بيروت نجمتنا سبايا نحن في هذا الزمان الرخو أسلمنا الغزاة إلى أهالينا فما كدنا نعضّ الأرض حتى انقضّ حامينا على الأعراس و الذكرى فوزّعنا أغانينا على الحرّاس من ملك على عرش إلى ملك على نعش سبايا نحن في هذا الزمّان الرخو لم نعثر على شبه نهائي سوى دمنا و لم نعثر على ما يجعل السلطان شعبيّا و لم نعثر على ما يجعل السجان وديا و لم نعثر على شيء يدلّ على هويتنا سوى دمنا الذي يتسلّق الجدران ... ننشد خلسة: بيروت خيمتنا بيروت نجمتنا ...و نافذة تطلّ على رصاص البحر يسرقنا جميعا شارع و موشّح بيروت شكل الظلّ أجمل من قصيدتها و أسهل من كلام الناس تغرينا بداية مفتوحة و بأبجديات جديدة : بيروت خيمتنا الوحيدة بيروت نجمتنا الوحيدة هل تمددنا عل صفصافها لنقيس أجسادا محاها البحر عن أجسادنا جئنا إلى بيروت من أسمائنا الأولى نفتّش عن نهايات الجنوب و عن وعاء القلب ... سال القلب سال ... و هل تمدّدنا على الأطلال كي نون الشمال بقامة الأغلال؟ مال الظلّ مال عليّ، كسّرني و بعثرني و طال الظلّ طال... ليسرو الشجر الذي يسرو ليحملنا من الأعناق عنقودا من القتلى بلا سبب... و جئنا من بلاد لا بلاد لها و جئنا من يد ألفصحى و من تعب... خراب هذه الأرض التي تمتدّ من قصر الأمير إلى زنازننا و من أحلامنا الأولى إلى... حطب فأعطينا جدارا واحدا لنصيح يا بيروت! أعطينا جدارا كي نرى أفقا و نافذة من اللهب و أعطينا جدارا كي نعلّق فوقه سدوم التي انقسمت إلى عشرين مملكة لبيع النفط ...و العربي و أعطينا جدارا واحدا لنصيح في شبه الجزيرة : بيروت خيمتنا الأخيرة بيروت نجمتنا الأخيرة أفقّ رصاصيّ تناثر في الأفق طرقّ من الصدف المجوّف... لا طرق و من المحيط إلى الجحيم من الجحيم إلى الخليج و من اليمين إلى اليمين إلى الوسط شاهدت مشنقة فقط شاهدت مشنقة بحبل واحد من أجل مليوني عنق ! بيروت! من اين الطريق إلى نوافذ قرطبة أنا لا أهاجر مرتّين و لا أحبّك مرتين و لا أرى في البحر غير البحر ... لكنيّ أحوّم حول أحلامي و أدعو الأرض جمجمة لروحي المتعبة و أريد أن أمشي لأمشي ثم أسقط في الطريق إلى نوافذ قرطبة بيروت شاهدة على قلبي و أرحل عن شوارعها و عنيّ عالقا بقصيدة لا تنتهي و أقول ناري لا تموت ... على البنايات الحمام على بقاياها السلام... أطوي المدينة مثلما أطوي الكتاب و أحمل الأرض الصغيرة مثل كيس من سحاب أصحو و أبحث في ملابس جثتي عنيّ فنضحك: نحن ما زلنا على قيد الحياة وسائر الحكّام شكرا للجريدة لم تقل أني سقطت هناك سهوا... أفتح الطرق الصغيرة للهواء و خطوتي و الأصدقاء العابرين و تاجر الخبز الخبيث، و صورة البحر الجديدة شكرا لبيروت الضباب شكرا لبيروت الخراب ... تكسّرت روحي، سأرمي جثّتي لتصيبني الغزوات ثانية و يسلمني الغزاة إلى القصيدة... أحمل اللغة المطيعة كالسحابة فوق أرصفة القراءة و الكتابة: "إن هذا البحر يترك عندنا آذانه و عيونه " و يعود نحو البحر بحريّا ...و أحمل أرض كنعان التي اختلف الغزاة على مقابرها و ما اختلف الرواة على الذي اختلف الغزاة عليه من حجر ستنشأ دولة الغيتو و من حجر سننشيء دولة العشّاق أرتجل الوداع و تغرق المدن الصغيرة في عبارات مشابهة و ينمو الجرح فوق الرمح أو يتناوبان عليّ حتى ينتهي هذا النشيد... و أهبط الدرج الذي لا ينتهي بالقبو و الأعراس أصعد مرة أخرى على الدرج الذي لا ينتهي بقصيدة ... أهذي قليلا كي يكون الصحو و الجلاّد... أصرخ: أيّها الميلاد عذّبني لأصرخ أيّها الميلاد... من أجل التداعي أمتطي درب الشآم لعلّ لي رؤيا و أخجل من صدى الأجراس و هو يجيئني صدأ و أصرخ في أثينا: كيف تنهارين فينا؟ ثم أهمس في خيام البدو : وجهي ليس حنطيّا تماما و العروق مليئة بالقمح... أسأل آخر الإسلام : هل في البدء كان النفط أم في البدء كان السخط ؟ أهذي ،ربمّا أبدو غريبا عن بني قومي فقد يفرنقع الشعراء عن لغتي قليلا كي أنظفها من الماضي و منهم... لم أجد جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات في تغيير صاحبها ... وداعا للذي سنراه للفجر الذي سيشقّنا عمّا قليل لمدينة ستعيدنا لمدينة لتطول رحلتنا و حكمتنا وداعا للسيوف و للنخيل لحماية ستطير من قلبين محروقين بالماضي إلى سقف من القرميد ... هل مرّ المحارب من هنا كقذيقة في الحرب؟ هل كسرت شظاياه كؤوس الشاي في المقهى؟ أرى مدنا من الورق المسلح بالملوك و بدلة الكاكي ؟ أرى مدنا تتوج فاتحيها و الشرق عكس الغرب أحيانا و شرق الغرب أحيانا و صورته و سلعته... أرى مدنا تتوّج فاتحيها و تصدّر الشهداء كي تستورد الويسكي و أحدث منجزات الجنس و التعذيب ... هل مرّ المحارب من هنا كقذيفة في الحرب؟ هل كسرت شظايا كؤوس الشاي في المقهى ؟ أرى مدنا تعلّق عاشقيها فوق أغصان الحديد و تشرّد الأسماء عند الفجر... ...عند الفجر يأتي سادن الصنم الوحيد ماذا نودّع غير هذا السجن ؟ ماذا يخسر السجناء؟ نمشي نحو أغنية بعيدة نمشي إلى الحرية الأولى فنلمس فتنة الدنيا لأول مرة في العمر ... هذا الفجر أزرق و الهواء يرى و يؤكل مثل حبّ التين نصعد واحدا و ثلاثة مائة و ألفا باسم شعب نائم في هذه الساعات عند الفجر عند الفجر، نختتم القصيدة و نرتب الفوضى على درجات هذا الفجر بوركت الحياة و بورك الأحياء فوق الأرض لا تحت الطغاة تحيا الحياة ! تحيا الحياة ! قمر على بعلبك ودم على بيروت يا حلو، من صبّك فرسا من الياقوت! قل لي، و من كبّك نهرين في تابوت! يا ليت لي قلبك لأموت حين أموت ...من مبنى بلا معنى إلى معنى بلا مبنى". وجدنا الحرب ... هل بيروت نرآه لنكسرها و ندخل في الشظايا أم مرايا نحن يكسرنا الهواء؟ تعال يا جندي حدثني عن الشرطيّ: هل أوصلت أزهاري إلى الشبّاك ؟ هل بلّغت صمتي للذين أحبّهم و لأول الشهداء؟ هل قتلاك ماتوا من أجلي و أجل البحر ... أم هجموا عليّ وجرّدوني من يد امرأة تعدّ الشاي لي و النّاي للمتحاربين ؟ و هل تغيّرت الكنيسة بعدما خلعوا على المطران زيّا عسكريا؟ أم تغيّرت الفريسة ؟ هل تغيرت الكنيسة أم تغيّرنا؟ شوارع حولنا تلتفّ خذ بيروت من بيروت، وزّعها على المدن النتيجة: فسحة للقبو ضع بيروت في بيروت ،واسحبها من المدن النتيجة: حانة للهو ...نمشي بين قنبلتين _هل نعتاد هذا الموت ؟ _هل تعرف القتلى جميعا؟ _أعرف العشّاق من نظراتهم و أرى عليها القاتلات الراضيات بسحرهن و كيدهن ..و ننحني لتمر قنبلة؟ نتابع ذكريات الحرب في أيامها الأولى _ترى، ذهبت قصيدتنا سدى _لا... لا أظنّ _إذن، لماذا تسبق الحرب القصيدة _نطلب الإيقاع من حجر فلا يأتي و للشعراء آلهة قديمة ...و تمرّ قنبلة، فندخل حانة في فندق الكومودور _يعجبني كثيرا صمت رامبو أو رسائله التي نطقت بها إفريقيا _و خسرت كافافي _لماذا _قال لي: لا تترك الاسكندرية باحثا عن غيرها _ووجدت كافكا تحت جلدي نائما و ملائما لعباءة الكابوس ،و البوليس فينا _ارفعوا عنيّ يدي _ماذا ترى في الأفق؟ _أفقا آخرا _هل تعرف القتلى جميعا ؟ _و الذيت سيولدون... سيولدون تحت الشجر و سيولدون تحت المطر و سيولدون من الحجر و سيولدون من الشظايا يولدون من المرايا يولدون من الزوايا و سيولدون من الهزائم يولدون من الخواتم يولدون من البراعم و سيولدون من البداية يولدون من الحكاية يولدون بلا نهاية و سيولدون، و يكبرون، و يقتلون ، و يولدون، و يولدون، و يولدون فسّر ما يلي : بيروت ( بحر -حرب - حبر - ربح ) البحر : أبيض أو رصاصيّ و في إبريل أخضر ، أزرق، لكنه يحمرّ في كل الشهور إذا غضب و البحر : مال على دمي ليكون صورة من أحبّ الحرب : تهدم مسرحيتنا لتلعب دون نص أو كتاب و الحرب : ذاكرة البدائيين و المتحضرين و الحرب : أولها دماء و الحرب : آخرها هواء و الحرب : تثقب ظلّنا لتمرّ من باب لباب الحبر : للفصحى و للضباط و المتفرجين على أغانينا و للمستسلمين لمنظر البحر الحزين الحبر : نمل أسود، أو سيّد و الحبر : برزخنا الأمين و الربح : مشتق من الحرب التي تنتهي منذ ارتدت أجسادنا المحراث منذ الرحلة الأولى إلى صيد الظباء حتى بزوغ الاشتراكيين في آسيا و في إفريقيا! و الربح : يحكمنا يشردنا عن الأدوات و الكلمات يسرق لحمنا و يبيعه بيروت أسواق على البحر اقتصاد يهدم الإنتاج كي يبني المطاعم و الفنادق ... دولة في شارع أو شقّة مقهى يدور كزهرة العبّاد نحو الشمس وصف للرحيل و للجمال الحرّ فردوس الدقائق مقعد في ريش عصفور جبال تنحني للبحر بحر صاعدة نحو الجبال غزالة مذبوحة بجناح دوريّ و شعب لا يحب الظل بيروت_ الشوارع في سفن بيروت_ ميناء لتجميع المدن دارت علينا و استدارت .أدبرت و استدبرت هل غيمة أخرى تخون الناظرين إليك يا بيروت؟ هندسة تلائم شهوة الفئة الجديدة طحلب الأيام بين المدّ و الجزر النفايات التي طارت من الطبقات نحو العرش ... هندسة التحلّل و التشكّل واختلاط السائرين على الرصيف عشيّة الزلزال... دارت و استدارت هندسيّتها خطوط العالم الآتي إلى السوق الجديد يُشترى و يباع. يعلو ثم يهبط مثل أسعار الدولار و أونصة الذهب التي تعلو و تهبط وفق أسعار الدم الشرقيّ لا... بيروت بوصلة المحارب... نأخذ الأولاد نحو البحر كي يثقوا بنا... ملك هو الملك الجديد... |
وصوت فيروز الموزّع بالتساوي بين طائفتين يرشدنا إلى ما يجعل الأعداء عائلة و لبنان انتظار بين مرحلتين من تاريخنا الدمويّ _هل ضاق الطريق و من خطاك الدرب يبدأ يا رفيق ؟ _محاصر بالبحر و الكتب المقدسة _انتهينا؟ _لا. سنصمد مثل آثار القدامى مثل جمجمة على الأيام نصمد كالهواء و نظرة الشهداء نصمد... يخلطان الليل بالمتراس. ينتظران ما لا يعرفان يخبّئان العالم العربيّ في مزق تسمّى وحدة... يتقاسمان الليل : _ليلى لا تصدّقني و لكني أصدّق حلمتيها حين تنتفضان ... أغرتني بمشيتها الرشيقة : أيطلا ظبي ،و ساق غزالة، و جناح شحرور، وومضة شمعدان كلّما عانقتها طلبت رصاصا طائشا _ملك هو الملك الجديد إلى متى نلهو بهذا الموت ؟ _لا أدري، و لكنّا سنحرس شاعرا في المهرجان _لأيّ حزب ننتمي ؟ _حزب الدفاع عن البنوك الأجنبية واقتحام البرلمان _إلى متى تتكاثر الأحزاب، و الطبقات قلّت يا رفيق الليل؟ _لا أدري ، و لكن ربما أقضي عليك، و ربما تقضي عليّ إذا اختلفنا حول تفسير الأنوثة... _إنها الجمر الذي يأتي من الساقين يحرقنا _هي الصدر الذي يتنفّس الأمواج يغرقنا _هي العينان حين تضيّعان بداية الدنيا _هي العنق الذي يشرب _هي الشفتان حين تناديان الكوكب المالح _هي الغامض هي الواضح _سأقتلك.المسدّس جاهز.ملك هو الملك ، المسدّس جاهز. بيروت شكل الشكل هندسة الخراب... الأربعاء .السبت .بائعة الخواتم حاجز التفتيش. صيّاد. غنائم لغة و فوضى. ليلة الإثنين . قد صعدوا السلالم و تناولوا أرزاقهم. من ليس منّا فهو من عرب و عاربة .سوالم يوم الثلاثاء. الخميس. الأربعاء. و تأبطوا تسعين جيتارا و غنّوا حول مائدة الشواء الآدمي قمر على بعلبك و دم على بيروت يا حلو، من صبّك فرسا من الياقوت قل لي، و من كبّك نهرين في تابوت يا ليت لي قلبك لأموت حين أموت ... ...أحرقنا مراكبنا. و علّقنا كواكبنا على الأسوار. نحن الواقفين على خطوط النار نعلن ما يلي: بيروت تفّاحة و القلب لا يضحك و حصارنا واحة في عالم يهلك سنرقّص الساحة و نزوج الليلك أحرقنا مراكبنا. و علّقنا كواكبنا على الأسوار لم نبحث عن الأجداد في شجر الخرائط لم نسافر خارج الخبز النقيّ و ثوبنا الطينيّ لم نرسل إلى صدف البحيرات القديمة صورة الآباء لم نولد لتسأل: كيف تمّ الانتقال الفذّ مما ليس عضويا إلى العضوي؟ لم نولد لتسأل ... لم نولد لتسأل ... قد ولدنا كيفما اتفق انتشرنا كالنمال على الحصيرة ثم أصبحنا خيولا تسحب العربات... نحن الواقفين على خطوط النار أحرقنا زوارقنا، و عانقنا بنادقنا سنوقظ هذه الأرض التي استندت إلى دمنا سنوقظها، و نخرج من خلاياها ضحايانا سنغسل شعرهم بدموعنا البيضاء نسكب فوق أيديهم حليب الروح كي يستيقظوا و نرش فوق جفونهم أصواتنا: قوموا ارجعوا للبيت يا أحبابنا عودوا إلى الريح التي اقتلعت جنوب الأرض من أضلاعنا عودوا إلى البحر الذي لا يذكر الموتى و لا الأحياء عودوا مرة أخرى فلم نذهب وراء خطاكم عبثا مراكبنا هنا احترقت و ليس سواكم أرض ندافع عن تعرّجها و حنطتها سندفع عنكم النسيان، نحميكم بأسلحة صككمناها لكم من عظم أيديكم نسيجكم بجمجمة لكم و بركة زلقت فليس سواكم أرضا نسمّر فوقها أقدامنا... عودوا لنحميكم... "و لو أنّا على حجر ذبحنا " لن نغادر ساحة الصمت التي سوت أياديكم سنفديها و نفديكم مراكبنا هنا احترقت و خيّمنا على الريح التي اختنقت هنا فيكم و لو صعدت جيوش الأرض هذا الحائط البشريّ لن نرتدّ عن جغرافيا دمكم. مراكبنا هنا احترقت و منكم... من ذراع لن تعانقنا سنبني جسرنا فيكم شوتنا الشمس أدمتنا عظام صدوركم حفت مفاصلنا منافيكم "و لو أنّا على حجر ذبحنا" لن نقول" نعم" فمن دمنا إلى دمنا حدود الأرض من دمنا إلى دمنا سماء عيونكم و حقول أيديكم نناديكم فيرتدّ الصدى بلدا نناديكم فيرتد الصدى جسدا من الأسمنت نحن الواقفين على خطوط النار نعلن ما يلي: لن تنرك الخندق حتى يمرّ الليل بيروت للمطلق و عيوننا للرمل في البدء لم نخلق في البدء كان القول و الآن في الخندق ظهرت سمات الحمل تفّاحة في البحر، إمرأة الدم المعجون بالأقواس ، شطرنج الكلام، بقيّة الروح ،استغاثات الندى ، قمر تحطّم فوق مصطبة الظلام بيروت، و الياقوت حين يصيح من وهج على ظهر الحمام حلم سنحمله. و نحمله متى شئنا. نعلّقه على أعناقنا بيروت زنبقة الحطام و قبلة أولى. مديح الزنزلخت .معاطف للبحر و القتلى سطوح للكواكب و الخيام قصيدة الحجر. ارتطام بين قبرّتين تختبئان في صدر... سماء مرّة جلست على حجر تفكّر ، وردة مسموعة بيروت. صوت فاصل بين الضحية و الحسام . ولد أطاح بكل ألواح الوصايا و المرايا ثم... نام .. ثم... نام .. ثم... نام .. ثم... نام .. ثم... نام .. ثم... نام .. ثم... نام .. ثم... نام .. ثم... نام .. |
المرحلة الثالثة - مرحلة الكون والانسان ونبش الذات
في هذه المرحلة وخاصة في باريس تزداد تجربة محمود درويش الشعرية غنى وثراء، فهو في وحدته هناك يملأ الوقت بالقراءة والتبصر في الذات الانسانية وفي الكون فيجنح شعره الى تغور الذات والنبش في خفاياها وفي خفايا الكون وحين يدهمه المرض ويضطر الى الرضوخ لعملية جراحية معقدة في قلبه ثم الى عملية اخرى ويستشعر محمود خطورة المرحلة في حياته وعلى حياته تزداد قراءاته وتزداد تأملاته في الحياة وفي الكون وفي القضية وفي النفس البشرية، فيمتلئ شعره بالفلسفة ويمتح من الثقافتين العربية والغربية، وحين يتاح له القدوم الى الوطن ورؤية البلاد من جديد ومقابلة الاهل والاصدقاء القدامى، ينفتح الجرح ويدفق قصائد رائعة تصور لهفته وحنينه ولكنها لهفة الفلسطيني التي لا تخلو من المرارة. هذه الوحدة وهذا الانكفاء على الذات ولّدا شعرا معمّقا لا يتسكع على السطح ولا يحايئ الوجود من خارج بل يتغوره ويسبر خفاياه، في هذه المرحلة يخفت ايقاع القصائد ويجنح نحو ايقاع داخلي، متآلف متجانس ليعبر من خلاله محمود بصور مركبة تتوالد لولبيا عن مراراته وعن احساسه الداخلي بعبثية الحياة كما يعبر من خلاله عن مواجهة الموت. والموت كموتيف يرافق قصائد محمود في هذه المرحلة بشكل بارز،وقد كبس عليه الحنين في هذه المرحلة: يقول محمود: "امي تعدّ اصابعي العشرين عن بعد تمشطني بخصلة شعرها الذهبي، تبحث في ثيابي الداخلية عن نساء اجنبيات، وترفو جوربي المقطوع، لم أكبر على يدها كما شئنا: انا وهي، افترقنا عند منحدر الرخام.. ولوّحت سحب لنا ولماعز يرث المكان، وانشأ المنفى لنا لغتين دارجة.. ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى وفصحى.. كي افسر للظلال ظلالها (لماذا تركت الحصان وحيدا) وفي مواجهته للموت يصر محمود على الحياة ويصر على فلسطينيته وعلى امتلاك الاشياء المنتزعة من ذاكرته ووجوده من ماضيه وحاضره ويقول: "هذا البحر لي/ هذا الهواء الرطب لي/ هذا الرصيف وما عليه/ من خطاي وسائلي المنوي.. لي/ ومحطة الباص القديمة لي/ ولي شبحي وصاحبه/ وآنية النحاس وآية الكرسي، والمفتاح لي/ والباب والحراس والاجراس لي/ لي حذوة الفرس/ التي طارت عن الاسوار../ لي ما كان لي/ وقصاصة الورق التي انتزعت من الانجيل لي/ والملح من أثر الدموع على جدار البيت لي" (الجدارية) وحين يحدث الانقسام في صفوف شعبه يتعذب محمود ويشعر ان كل ما بنيناه قد صار آيلا للسقوط فيطلق زفراته المؤثثة بالمرارة والمحملة بالكثير من العتاب واللوم ويقول: "سنصير شعبا إن اردنا، حين يؤذَن للمغني ان يرتل آية من "سورة الرحمن" في حفل الزواج المختلط. سنصير شعبا حين نحترم الصواب، وحين نحترم الغلط" (أثر الفراشة) وحين يعود الى حيفا عشيقته الاولى قبل وفاته، حين يمكث في الجليل فترة طويلة نسبيا لأنه كان يستشعر على ما يبدو قرب اجله يقول لحيفا: "حيفا: يحق للغرباء ان يحبوك، وان ينافسوني على ما فيك، وان ينسوا بلادهم في نواحيك، مِن فرط ما انتِ حمامة تبني عشها على انف غزال! حيفا تقول لي: انتَ منذ الآن انتَ!" (اثر الفراشة) يقترب الموت من محمود ويزداد استشعاره به فيزداد تأملا وتلبس قصائده حالة من العمق الصوفي والفلسفة الانسانية العميقة كقوله: "الصمت اطمئنان الصاحب للصاحب/ وثقة الخيال بنفسه بين مطر وقوس قزح/ قوس قزح هو تحرش الوحي بالشاعر، بلا استئذان.. وافتتان الشاعر بنثر القرآن/ فبأي آلاء ربكما تكذبان/ وغائبان انا وانتَ، وحاضران انا وانت، وغائبان/ فبأيّ آلاء ربكما تكذبان" (في حضرة الغياب). او كقوله: "سيري ببطء، يا حياة، لكي اراك بكامل النقصان حولي، كم نسيتك في خضمك باحثا عني وعنك. وكلما ادركت سرا منك قلت بقسوة: ما اجهلك!/ قل للغياب: نقصتني/ وأنا حضرت لأكملك. (كزهر اللوز او ابعد) في مطولته الاخيرة يرتفع السؤال حارقا عند محمود درويش "من انا؟ من أنا؟" لأنه لا يستطيع ان يخيب ظن العدم كما كان يحسب، وفعلا ينتصر هذا العدم في النهاية فيقول: "كان يمكن لو كنت ابطأ في المشي ان تقطع البندقية ظلي عند الارزة الساهرة/ كان يمكن لو كنت اسرع في المشي، ان اتشظى وأصبح خاطرة عابرة/ كان يمكن، لو كنت اُسرف في الحلم ان افقد الذاكرة/ ومن حسن حظي اني أنام وحيدا فأصغي الى جسدي وأصدق موهبتي في اكتشاف الألم/ فأنادي الطبيب، قبيل الوفاة بعشر دقائق/ عشر دقائق تكفي لأحيا مصادفة وأخيب ظن العدم/ مَن انا لأخيب ظن العدم؟ من انا؟ من انا" (لاعب النرد). في مرحلته الشعرية الاخيرة يصل محمود الى ما بعد الحداثة ويصل فيها الى تأملات تحاول ابداعيا ان تجد صيغا غير مألوفة لحوار الانسان مع نفسه، مع الطبيعة ومع الخالق، فالانسان هنا محور تدور حوله التناقضات والثنائيات. في قصائده في هذه المرحلة يلتقي محمود درويش مع الفيلسوف "هيدجر" الذي قال: "اذا اردنا لأنفسنا ان نصل الى مرتبة الوجود الاصيل فلا بد لنا من ان نرتد الى ذواتنا لكي نأخذ على عاتقنا مسألة وجودنا". في شعر محمود درويش نلتقي مع مقولة الشاعرة والناقدة اميلي ركنسون التي تقول: "اذا ما بدأت اقرأ وشعرت ان قمة رأسي قد انتزعت، فانني حينئذ اقول ان ما اقرأه شعر". وانتزاع قمة الرأس في شعر محمود يعني نجاحه في نقل مأزومه الينا لنصير وإياه واحدا ولندخل معه جرن التجارب ولنتعمد في المعاناة، او لم يقل تولستوي: "الفن عملية انسانية فحواها ان ينقل الانسان للآخرين واعيا مستعملا اشارات خارجية معينة الاحاسيس التي عاشها فتنتقل عدواها اليهم فيعيشونها ويجربونها". ان شعر محمود درويش الدافق يشعرك انه قطعة منك، شعر جديد، له حقيقته الخاصة، حقيقة العالم الذي لا يعرف الذهن التقليدي ان يراه، ولكن الذي يراه ويكشف عنه هو الشاعر، فشعره في مرحلته الثالثة خصوصا يرى في الكون ما تحجبه عنا الالفة والعادة ويكشف وجه العالم المخبوء كما ويكشف عن علائق خفية ويستعمل لغة ومجموعة من المشاعر والتداعيات الملائمة للتعبير عن هذا كله، كما يقول "يوسف الخال" هذه هي بعض سرية شعر الدرويش، وهذا هو امتيازه في الخروج عن التقليدية، فقوامه شعر خلاق توليدي لا معنى سردي وصفي، أي قوامه الكشف عن عالَم يظل دائما في حاجة الى الكشف كما يقول "رينيه شار". من هنا يصير شعر الدرويش ذا خاصية تلتصق به تعني انه يعبر دائما عن قلق الانسان ابديا. ومحمود شاعر شاعر يعرف كيف يوازن بين حدود اللغة قواعدها وأصولها واساليبها المتواررثة وبين الجديد، فهو شاعر موهوب يعترف بقواعد لغته واصولها وبمبادئ الاساليب المتأثرة بهذه اللغة المتوارثة في تاريخها الادبي، وفي الوقت ذاته يأخذ لنفسه قدرا كافيا من الحرية لتطويع هذه القواعد والاساليب لينفخ شخصيته فيها. يقول "روزنتال": "الشعر الجديد في اقوى دفقاته يعتمد على الصلة بالتقاليد وانجازاتها الجمالية، والطرافة في القصيدة ليست وحدها التي تحدد مدى اصالة الشاعر وانما ما يحددها كذلك قدرتها على الافادة من التراث الشعري. اذ لا نجد شعرا قديما له قيمته دون ان يكون له ما يمثله اليوم". من هنا، ليس غريبا ان نجد اكثر الشعراء نشاطا – كما الحال مع الدرويش -، في مجال الابداع والتجربة هم كذلك اكثرهم تأثرا بصوت الماضي. فالماضي ليس عبئا بل مصدرا رائعا ذا معين لا ينضب، يقول تي.إس.اليوت: "نجد ان خير اجزاء القصيدة، بل نجد اكثرها تميزا، تلك التي تؤكد فيها آثار اسلاف الشاعر الموتى". وهذا يعني ان الدرويش كشاعر كان عليه في خلقه ان يجتاز عملية صراعية مع اللغة والاسلوب ليخرج سيدا منتصرا، لأنه في قدرة الشاعر – وهذا امتحانه – ان يتناول اللغة والطريقة المتوارثة ويرغمهما على التفاعل كمعنى مع المعنى الفردي والفريد الذي جاءت به تجربته، وهذا الشيء هو بالذات الذي يأسرنا في شعر الدرويش، فشعره بناء موضوعي ذو معنى ينعم بوجود خاص به وهذا البناء يتميز بثالوث الشعر العميق الجيد، اعني: "التضمين وتلاقي الاضداد والتلميح" لانه بالتضمين تكتسب القصيدة الجدة والطرافة وتعالج القضايا في ضوء تعقيداتها الحقيقية، وبتلاقي الاضداد تكتسب التوتر والزخم وترتفع عن مساق الكلام العادي، وبالتلميح تكتسب الضبابية والسرية اللتين تثيران في القارئ حب الاستطلاع والتشويق والتحدي والمغامرة في المجهول، وحجارة هذا البناء الموضوعي عند الدرويش الالفاظ لأنها في الشعر تؤدي الى ما وراء المعاني فتضاف اليها ابعاد جديدة وبذلك تتجدد وتحيا. "ان ابرز مظاهر الفرق بين اسلوبي الشعر القديم والحديث ليست ناجمة كما هو الاعتقاد السائد عن التحول من التعبير الواضح الى لغة الاحاجي،وانما هي ناجمة عن انتقال من الصيغة الشكلية الى البساطة وصراحة التعبير. فالشعر الجيد يتصف بألفة لا صنعة فيها ولا تكلف وادراك لحقائق الحياة اليومية بصورة لم تكن معهودة من قبل" كما يقول "روزنتال": شعر الدرويش يتجه نحو التخلي عن الحادثة والوقائعية ويستخدم كلمات منزاحة "ليست وفقا لدلالاتها المألوفة، كما انه يتخلى عن الجزئية ليتبنى رؤيا للعالم ولكنها رؤيا ليست مباشرة. يقول "مارلو": "الاثر الشعري الذي لا يكون الا شكلا من اشكال المديح والهجاء هو في الحقيقة ضد الشعر". لذلك الشعر عند الدرويش ليس انعكاسا بل فتحا، وليس رسما بل خلقا، الشعر عنده يتخلى عن الرؤية الافقية كما الشعر القديم الذي تمترس ووراء بستان من الالفاظ وتغطى بزخارف عديدة تركت لنا القصيدة اللعبة، القصيدة الجلية وتستّر بكابوس من التشبهات والاستعارات ليتغلّب على افقيته، لذلك ظل القديم على السطح كما يقول ادونيس، في شعر الدرويش لا نجد شعرا يتسكع على السطح ويعاني الوجود من خارج، بل يتحول الى محايأة هذا الوجود" كما يقول "امطانيوس ميخائيل". شعر الدرويش وارتكازا على ما ذكر يقوم على تنافر بين الشاعر والواقع يوازيه تنافر بينه وبين القارئ، وهذا التنافر هو ابرز خصائص هذا الشعر، والتنافر شعريا هو الغرابة، و"الجميل غريب دائما" كما يقول "بودلير". |
لاعب النرد
مَنْ أَنا لأقول لكمْ ما أَقول لكمْ ؟ وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ فأصبح وجهاً ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ فأصبح ناياً ... أَنا لاعب النَرْدِ ، أَربح حيناً وأَخسر حيناً أَنا مثلكمْ أَو أَقلُّ قليلاً ... وُلدتُ إلى جانب البئرِ والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً وانتميتُ إلى عائلةْ مصادفَةً ، ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ وأَمراضها : أَولاً - خَلَلاً في شرايينها وضغطَ دمٍ مرتفعْ ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ والجدَّة - الشجرةْ ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا بفنجان بابونجٍ ساخنٍ رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ ... ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ كانت مصادفةً أَن أكونْ ذَكَراً ... ومصادفةً أَن أَرى قمراً شاحباً مثل ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات ولم أَجتهد كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً ! كان يمكن أن لا أكونْ كان يمكن أن لا يكون أَبي قد تزوَّج أمي مصادفةً أَو أكونْ مثل أختي التي صرخت ثم ماتت ولم تنتبه إلى أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ ولم تعرف الوالدةْ ... أَو : كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ / كانت مصادفة أَن أكون أنا الحيّ في حادث الباصِ حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّةْ لأني نسيتُ الوجود وأَحواله عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها ودورَ الحبيب - الضحيَّةْ فكنتُ شهيد الهوى في الروايةِ والحيَّ في حادث السيرِ / لا دور لي في المزاح مع البحرِ لكنني وَلَدٌ طائشٌ من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ ينادي : تعال إليّْ ! ولا دور لي في النجاة من البحرِ أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ رأى الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً بجنِّ الُمعَلَّقة الجاهليّةِ لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً لا تطلُّ على البحرِ لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القرى تخبز الليلَ لو أَن خمسة عشر شهيداً أَعادوا بناء المتاريسِ لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ رُبَّما صرتُ زيتونةً أو مُعَلِّم جغرافيا أو خبيراً بمملكة النمل أو حارساً للصدى ! |
مَنْ أنا لأقول لكم ما أقول لكم عند باب الكنيسةْ ولستُ سوى رمية النرد ما بين مُفْتَرِسٍ وفريسةْ ربحت مزيداً من الصحو لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ بل لكي أَشهد اﻟﻤﺠزرةْ نجوتُ مصادفةً : كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ وخفتُ كثيراً على إخوتي وأَبي وخفتُ على زَمَنٍ من زجاجْ وخفتُ على قطتي وعلى أَرنبي وعلى قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ وخفت على عِنَبِ الداليةْ يتدلّى كأثداء كلبتنا ... ومشى الخوفُ بي ومشيت بهِ حافياً ، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أريدُ من الغد - لا وقت للغد - أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أسرعُ / أبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَُّر / أَسمعُ / أبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أدْمَى / ويغمى عليّ / ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك مُصَادفةً ، أو هروباً من الجيشِ / لا دور لي في حياتي سوى أَنني ، عندما عَلَّمتني تراتيلها ، قلتُ : هل من مزيد ؟ وأَوقدتُ قنديلها ثم حاولتُ تعديلها ... كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك ، والريح حظُّ المسافرِ ... شمألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ لأن الجنوب بلادي فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي ربيعاً خريفاً .. أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ ثم أطيل سلامي على الناصريِّ الذي لا يموتُ لأن به نَفَسَ الله والله حظُّ النبيّ ... ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ... من سوء حظّيَ أَن الصليب هو السُلَّمُ الأزليُّ إلى غدنا ! مَنْ أَنا لأقول لكم ما أقولُ لكم ، مَنْ أنا ؟ كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ والوحي حظُّ الوحيدين « إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ » على رُقْعَةٍ من ظلامْ تشعُّ ، وقد لا تشعُّ فيهوي الكلامْ كريش على الرملِ / لا دَوْرَ لي في القصيدة غيرُ امتثالي لإيقاعها : حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً وحَدْساً يُنَزِّلُ معنى وغيبوبة في صدى الكلمات وصورة نفسي التي انتقلت إلى غيرها « أَنايَ » من واعتمادي على نَفَسِي وحنيني إلى النبعِ / لا دور لي في القصيدة إلاَّ إذا انقطع الوحيُ والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ كان يمكن ألاَّ أحبّ الفتاة التي سألتني : كمِ الساعةُ الآنَ ؟ لو لم أَكن في طريقي إلى السينما ... |
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما هي ، أو خاطراً غامقاً مبهما ... هكذا تولد الكلماتُ . أدرِّبُ قلبي على الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ... صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ إذا التقتِ الاثنتانِ : أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبّ لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ . وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين . فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ - لا شكل لك ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً أَنت حظّ المساكين / من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً من الموت حبّاً ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً لأدخل في التجربةْ ! يقول المحبُّ اﻟﻤﺠرِّبُ في سرِّه : هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ فتسمعه العاشقةْ وتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ كالبرق والصاعقة للحياة أقول : على مهلك ، انتظريني إلى أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ... في الحديقة وردٌ مشاع ، ولا يستطيع الهواءُ الفكاكَ من الوردةِ / انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي فاُخطئ في اللحنِ / في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ لنشيد الوداع . على مَهْلِكِ اختصريني لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ، وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ : تحيا الحياة ! على رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ / حتى على الريح ، لا أستطيع الفكاك من الأبجدية / لولا وقوفي على جَبَلٍ لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوء أَعلى ! ولكنَّ مجداً كهذا الُمتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ صعبُ الزيارة : يبقى الوحيدُ هناك وحيداً ولا يستطيع النزول على قدميه فلا النسر يمشي ولا البشريُّ يطير فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية أنت يا عزلة الجبل العالية ! ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ أو سأكونْ ... هو الحظُّ . والحظ لا اسم لَهُ قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ نحن الذين كتبنا النصوص لهم واختبأنا وراء الأولمب ... فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال هو الواقعيُّ على خشبات المسارحِ / خلف الكواليس يختلف الأَمرُ ليس السؤال : متى ؟ بل : لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ |
مَنْ أنا لأقول لكم ما أقول لكم ؟ كان يمكن أن لا أكون وأن تقع القافلةْ في كمين ، وأن تنقص العائلةْ ولداً ، هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ حرفاً فحرفاً ، ونزفاً ونزفاً على هذه الكنبةْ بدمٍ أسود اللون ، لا هو حبر الغراب ولا صوتُهُ ، بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه قطرةً قطرةً ، بيد الحظِّ والموهبةْ كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو لم يكن هو ، لا غيره ، هُدْهُداً فوق فُوَهَّة الهاويةْ ربما قال : لو كنتُ غيري لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ هكذا أَتحايل : نرسيس ليس جميلاً كما ظنّ . لكن صُنَّاعَهُ ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ في الهواء المقَطَّر بالماء ... لو كان في وسعه أن يرى غيره لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ، وتنسى الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان ... ولو كان أَذكى قليلاً لحطَّم مرآتَهُ ورأى كم هو الآخرون ... ولو كان حُرّاً لما صار أسطورةً ... والسرابُ كتابُ المسافر في البيد ... لولاه ، لولا السراب ، لما واصل السيرَ بحثاً عن الماء . هذا سحاب - يقول ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخرى يشدُّ على خصره . ويدقُّ خطاه على الرملِ كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ . والسراب يناديه يُغْويه ، يخدعه ، ثم يرفعه فوق : إقرأ إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذا ما استطعت الكتابة . يقرأ : ماء ، وماء ، وماء . ويكتب سطراً على الرمل : لولا السراب لما كنت حيّاً إلى الآن / من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ توأمُ اليأس ، أو شعرُهُ المرتجل حين تبدو السماءُ رماديّةً وأَرى وردة نَتَأَتْ فجأةً من شقوق جدارْ لا أقول : السماء رماديّةٌ بل أطيل التفرُّس في وردةٍ وأَقول لها : يا له من نهارْ ! ولاثنين من أصدقائي أقول على مدخل الليل : إن كان لا بُدَّ من حُلُم ، فليكُنْ مثلنا ... وبسيطاً كأنْ : نَتَعَشَّى معاً بعد يَوْمَيْنِ نحن الثلاثة ، مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً منذ يومين ، فلنحتفل بسوناتا القمرْ وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء فغضَّ النظرْ ! لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ وخياليَّةُ الأمكنةْ بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ بل لأن نبيّاً تمشَّى هناك وصلَّى على صخرة فبكتْ وهوى التلُّ من خشية الله مُغْمىً عليه ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ متحفاً للهباء ... لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك من الجانبين ، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين يقولان : هيّا . وينتظران الغنائمَ في خيمتين حريرَيتَين من الجهتين ... يموت الجنود مراراً ولا يعلمون إلى الآن مَنْ كان منتصراً ! ومصادفةً ، عاش بعض الرواة وقالوا : لو انتصر الآخرون على الآخرين لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أخرى يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً . « أحبك خضراءَ »ُ تتموَّج في الضوء والماء . خضراء . ليلُكِ أَخضر . فجرك أَخضر . فلتزرعيني برفق... برفقِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء . أَنا بذرة من بذورك خضراء ... / تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ... |
من أنا لأقول لكم ما أَقول لكم ؟ كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا كان يمكن أَلاَّ أكون هنا ... كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ بي صباحاً ، ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُوم الضحى فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ كان يمكن أَلاَّ أرى الشام والقاهرةْ ولا متحف اللوفر ، والمدن الساحرةْ كان يمكن ، لو كنت أَبطأَ في المشي ، أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي عن الأرزة الساهرةْ كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ، أَن أَتشظّى وأصبح خاطرةً عابرةْ كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ، أَن أَفقد الذاكرة . ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً فأصغي إلى جسدي وُأصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً وُأخيِّب ظنّ العدم مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟ مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟ نشرت في الثاني من تموز (يوليو)2008 |
محمود درويش وشكل الصوت الغنائي \صبحي حديدي
-1-
تحاول هذه الورقة مقاربة الموضوع الغنائي بوصفه واحدا من أبرزا لسمات التكوينية في مشروع محمود درويش الشعري، سواء من حيث الديمومة الطويلة التي تكاد تبدأ منذ القصائد الأولى وتتواصل حتى القصائد الأخيرة، أو من حيث الحضورا لمركذي شبه الدائم في معظم النقلات الأسلوبية الكبرى التي عرفها هذا المشروع. ولسوف نتوقف عند اشكاليات مصطلح الغنائية ذاته ( وهو، كما هو معروف، بين أكثر مصطلحات نقد الشعر تعقيدا وتشابكا وتضاربا)، ثم بعض خصائص الموضوع الغنائي عند محمود درويش، كما يمكن تلمسها في مجموعته هي غنية، هي غنية (1986)، وتحديدا في قصيدة واحدة من هذه المجموعة هي "فانتازيا الناي". واذا كان في وسع المرء أن يبدأ من القرائن الأولى البسيطة، فإن استعراض عناوين قصائد درويش طيلة ثلاثة عقود، بين عام 1966 وحتى عام 1990، يشير الى حضور مفردات الموضوع الغنائي في كل مجموعة تقريبا: "نشيد ما"، "أغنية » في مجموعة أوراق الذيتون ( 1964)، "قال المغني"،"شهيد الأغنية "? "ناي" «نشيد"، في مجموعة عاشق من فلسطين (1996)، "أغنية حب على الصليب "، "موال ". "أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر"، "مغني الدم "، "أغنيات الى الوطن "، "الأغنية والسلطان" في مجموعة آخر الليل (1967)، "عازف الجيتار المتجول » "تقاسيم على الماء"، "أغنية الى الريح الشمالية "، "أغنية حب الى افريقيا" في مجموعة أحبك أو لا أحبك (1972)، "موسيقى عربية، "لحن غجري" في مجموعة حصار لمدائح البحر (1984)، "عزف منفرد"، "فانتازيا الناي" في مجموعة هي أغنية، هي أغنية (1986)، "رباعيات "، "جملة موسيقية " في مجموعة أرى ما أريد ( 1990). من جانب آخر، ربما كان الموضوع الغنائي كما تجلى في القصائد ذاتها هو التفصيل الذي حظي على الدوام بقدر ملموس من افصاح درويش عن "النوايا الأسلوبية "، إذا صح هذا التعبير. ومن المعروف أن درويش نادرا ما يعلق باسهاب على نصوصه الشعرية، ويحدث غالبا أن دارسيه يقتنصون إشارة هنا أو إشارة هناك من حواراته وأحاديثه. ولحسن حظ دارسه، لا يبخل درويش في هذا المضمار، وتكاد بعض أقواله تذهب مذهب الحيثيات القاطعة الدالة على هذا أو ذاك من شؤون شعره، فتقتبس على نطاق واسع وتحتل موقعها لأسباب عديدة تتجاوز أحيانا حكمة إطلاق تلك الأقوال في الأساس. ومما يلفت الانتباه أن درويش توقف مرارا عند تفصيل هام منتزع من سيرته زمن الطفولة، ذي صلة جوهرية برؤية الشخصية لمفهوم الشعر اجمالا، وبالموضوع الغنائي على وجه لتخصيص. وأنقل هنا هذا التفصيل كما رواه الشاعر في حوار مع التلفزة الفرنسية قبل أسابيع معدودات:"بدأت علاقتي بالشعر عن طريق علاقتي مع المغنين الفلاحين، المنفيين من قبل الشرطة. كانوا يقولون أشياء غريبة على درجة من الجمال بحيث أنني لم أكن أفهمها، ولكني كنت أشعر بها، وهكذا وجدت نفسي قريبا من أصوات الشعراء الجوالين المغنين، وقيما بعد أخذت استمع الى الشعر العربي الكلاسيكي الذي يروي مغامرات عنترة وسراه من الفرسان، فاجتذبني هذا العالم وصرت أقلد تلك الأصوات، واخترع لنفسي خيولا وفتيات » (1) قبلئذ، في عام 1987، قال: «مازلت أطلب الغناء وأرفض الرومانسية، مازلت أحث الواقع، بكل ما فيه من مفارقات وتناقضات وعبث، وأصر على الغناء الذي لا يشبه الغنائية المعروفة. لقد أراحني يانيس ?يتسوس حين وصف شعري بأنه ملحمي غنائي، أو غنائية ملحمية » (2) وفي عام 1970 كان قد قال: "أنا منحاز للغناء في الشعر. إن المناخ الانساني الحذين يقتض الشفافية في التعبير، ا وأحيانا لا أجد هذه الشفافيه إلا في الغناء» (3). لقد أراحه يانيس ريتسوس، ولكن أنى لريتسوس أن يريح دارسي الموضوع الغنائي عند محمود درويش. الاجماع قائم وشامل حتى أننا لا نعثر على استثناء واحد لا يضع الغنائية في رأس التوصيفات العديدة الخاصة بشعر درويش، فكيف باستثناء ينفي الغنائية عن مشروعه. ولكنه عموما ليس الاجماع الناجم عن اشتغال نقدي معمق يبدأ من النصوص ذاتها لكي يستصدر الأحكام بوحي منها واستنادا الى ما تعرب عنه من خصائص، بل هو لسوء الحظ اجماع غائم في معظم الحالات، وهو بالتالي اجراء لا يسلط المذيد من الضوء على ظاهرة أسلوبية معقدة أصلا، بل يكتفي باعادة انتاج الضوء القديم المقيم ذاته، اذا لم يسلط بعض العتمة ! ولسنا نقصد توجيه اللوم هنا، ولسوف نوضح بعد قليل مقدار ما يثيره مصطلح الغنائية من اشكاليات عويصة تسقط قسطا كبيرا من الملامة عن دارس شعر درويش، وان كانت لا تعفيه البتة من واجب المحاولة الثانية في أضعف الايمان. وما يذيد الأمر سوءا أن المصطلح يقاس عادة بقرينة أحادية هي الأداء الغنائي الصائت، أو"النغم » في مغناه التطريبي المبتذل، أو حتى بالقصيدة التي لا تكتب إلا لكي تعطى الى المطرب، الذي يحملها بدوره الى الملحن. أكثر من ذلك. يحدث أن ينقلب الخيار الغنائي الى "شتيمة" أو "وصمة عار"عند بعض الشعراء العرب، لأن الغنائية هنا هي تذكره على نحو ما بالأوزان التقليدية بطبولها وصنوجها وتطويباتها التي أكل الدهر عليها وشرب، ولا يعقل أن يلجأ اليها شاعر يشتغل على تقنيات مختلفة مثل "تفجير اللغة » و" الايقاع الداخلي ". وبالطبع يتجاهل هؤلاء، إذ لا يعقل أنهم يجهلون حقيقة حضور الغنائية الى درجة الانفجار الصرع في نص مثل "نشيد الانشاد"، أو في المقطع الشعري التالي من محمد الماغوط على سبيل المثال: كن غاضبا أو سعيدا ياحببيي كن شهيا أو فاترا، فإنني أهواك. يا صنوبرة حذينة في دمي من خلال عينيك السعيدتين أرى قريتي، وخطواتي الكئيبة بين الحقول أرى سريري الفارغ وشعري الأشقر متهدلا على المنضدة كن شفوقا بي أيها الملاك الوردي الصغير سأرحل بعد قليل، ومحيدا ضائعا وخطواتي الكئيبة تلتفت نحو السماء وتبكي.(4) وفي كل حال، من الانصاف القول أن اجتهادات دارسي الموضوع الغنائي عند محمود درويش تمتلك جميعها ما يمتلكه أي اجتهاد من فضيلة مزدوجة. لها أجر على المحاولة في الأساس وحتى حين تخطي،، ولها بالطبع أجر ثان حين تصيب، إذا جاز لنا اقتباس الحديث النبوي الشريف في هذا المقام. ومن الطبيعي استطرادا، أن نعثر على معالجات "دراماتيكية » لهذا الموضوع، وعلى أخرى رصينة أو تلم بمقدار كبير من النطاق الواسع المعقد، النظري والتطبيقي، الذي تشغله الموضوعات الغنائية في أي مشروع شعري كبير. وهكذا على سبيل المثال، نقرأ ما يلي من شاكر النابلسي: (درويش) يحاول أن يقدم دائما السؤال الوطني والسؤال الفكري عن طريق قلبه، وليس عن طريق عقله أو ذهنه وهذا الذي يأخذ شعره الى الغنائية دائما. لذا فقد كانت الأغنية رمزا لهذه التجربة في شعره. رمزا لأن تمر كل التيارات عبر قلبه، لا عبر عقله. ولذا فهو يغني دائما. يغني، ويغني ويغني، ما استطاع الى ذلك سبيلا، حتى لا يقتل الرمز، ويقتل المرموز، ويقتل الترميز في شعره. ذلك أن النغم يخدر الوعي، ويدع الروح تتحرر، ويترك الشاعر يرسل بحرية، عبر النغم، والأغنية، وهو في حالة تآلف بينه وبين الكون » (5). أو نقرأ بالمقابل، ما يقوله غالي شكري: "كان درويش عميق الانصات للحوار السري بين الانسان والطبيعة وسريع الالتقاط لهمسات المعاني الملتبسة في تراكيب اللغة. أي أنه رغم افتراضه "البساطة " في القصيدة الغنائية جاءت قصيدته باصطياده غير (المألوف من أعماق العادي والمألوف كيانا مفتوحا على الدلالة المجردة في قلب الصورة المجسدة. وهي الصورة التي أسست لغته من ترابط الايقاع والدلالة، ويتابع غالي: "ومن هذا المفهوم الأول للشعر الغنائي أقبل معجمه الخاص في اللغة، بمفرداتها وتراكبيها ودلالاتها. معجما من صناعة الخيال الخلاق، الخيال المثقف بهذا القدر أو ذاك من المعرفة والخبرة البشرية والقدرة على إقامة حوار غير مسبوق بين اللغة والناس والأشياء، وبين أسرار الأزمنة والتضاريس المجهولة في جغرافيا الروح. هذه اللغة التي استجابت للصورة المركبة بديلا للصورة المسطحة في الخارج أو المكورة داخل الذات، الصورة المركبة من الوعي واللاوعي، من الذاكرة الشعبية (التاريخ) والخيال القادر على التركيب. هذه اللغة أيضا هي التي استجابت للصوت المركب من حوار الطبيعة والانسان حوار الأنا والآخرين، وحوار الزمان والمكان، فلم يأت صوت الشاعر أحاديا أو متعددا بين المفني العربي القديم والكورس اليوناني القديم، وانما صوت مركب لا ينوب عن، ولا يوجز، ولا يختزل ولا يفني لنفسه. إنه صوت الشعر، لا أي صوت آخر"(6). |
واذا كان النابلسي قد لجأ الى القلب بدل العقل و" النغم الذي يخدر الوعي، ويدع الروح تتحرر، ويترك الشاعر يرسل بحرية " لتفسير غنائية محمود درويش، فإن غالي شكري لامس سلسلة من النواظم الأساسية في الموضوع الغنائي (أي الصوت الأحادي أو المتعدد وحوار الأنا والآخر وموقع الروح من تضاريسها المجهولة) ولكنه ذهب بهذه جميعها الى منطقة أخرى ليست من الغنائية في شي ء اذا لم تكن نقيضها المواذي وأقصد الصوت الدرامي.
وكان ت. س. إليوت قد أصيب ذات يوم، ببعض ما أصيب به دارسو الغنائية العرب من حيرة، ففي مقالته الشهيرة "أصوات الشعر الثلاثة، توصل دون كبير مشقة الى تشخيص صوت ثان من الشعر هو الصوت الملحمي أو الوعظي Didactic حيث يهيمن الفرض التاريخي أو الاجتماعي ويلح حضور الجماعة على وجدان الشاعر، وتوصل الى صوت ثالث هو الصوت الدرامي Dramatic حيث ينقل الشاعر بعض وجدانه الى شخوص وأقنعة وأفكار خارجية، مثلما يتلقى من هذه بعض وجدانها، ضمن صيغة حوارية في الحالتين، ولكن ماذا عن الصوت الأول، الغنائي، حيث الشاعر هو ضمير المتكلم، من نفسه ولنفسه وحول نفسه؟ لقد نقب إليوت طويلا في قاموس اكسفورد بحثا عن تعريف لكلمة "غنائي" فلم يجد ما يشفي غليله. ثم استعرض قرونا وعقودا من كتابة القصيدة الغنائية في أوروبا القديمة والحديثة والمعا هوة فلم يجد بينها القاسم المشترك الأعظم الذي يسمح بتدبر تعريف ما. ولقد وجد اليوت أن ما يميز القصائد التي ليست وعظية ملحمية وليست دراسية عن تلك القصائد المكتوبة بضمير المتكلم هو أمر واحد. أن شاعر ضمير المتكلم يعبر عن أفكاره وعواطفه لنفسه، أو لا يعبر عنها لأحد أخر محدد» (7) وهكذا قرر أن يطلق على قصائد هذا الصوت اسم "الشعر التأملي »، فلاسفة ونقاد وشعراء آخرون سواه لم يعبأوا كثيرا بحكاية التسمية بحد ذاتها فاستبقوا عليها رغم أنهم اختلفوا بهذا القدر أو ذاك حول التعريف جزئيا، ثم انخرطوا في سجال (لم يتوقف حتى الآن) موضوعه مسائل أخرى أكثر تشعبا وتعقيدا. ما هو السر في أن هذا النوع الكتابي الذي نسميه القصيدة الغنائية صمد على مر الدهور في جميع الثقافات الشفافية والمكتوبة، في حين انقرض أو يكاد النوع الوعظي والنوع الدرامي؟ لماذا تبدو القصيدة الغنائية وكأنها اختصار الشعر بأسره، أو تسميته الثانية؟ هل يكمن بعض السر في العلاقة بين القصيدة الغنائية والموسيقى؟ ما هي خصوصية موقع القاريء الواحد ذاته، بين قصيدة غنائية وأخرى غير غنائية؟ لماذا يبدو الوجدان العاطفي للشاعر الفرد وكأنه، في القصيدة الغنائية أكثر قدرة على "تكييف استجابات القاريء، وربما تحويله الى صوت ثان للشاعر أو صدى لذلك الصوت كما أشار هيجل؟ لماذا كان الصوت دالة الموضوع الغنائي ومشكلته في الآن ذاته؟ واذا شئنا نقل هذه الأسئلة الى منطقتنا. فكيف يتوجب أن نفسر شيوع أولى القصائد الغنائية في الأشعار المصرية الفرعونية، والسومرية والبابلية - الأشورية، والكنعانية والعبرانية، والساسانية والغسانية واللحمية والفارسية، وذلك قبل وقت طويل من الولادات الأوروبية الأولى لهذه القصائد؟ وبالطبع ليس من مهاو هذه الورقة الخوض في محتوى السجالات التي نجمت عن الأسئلة السابقة، ويكفي التذكير هنا بأبرز خصائص القصيدة الغنائية كما تمخضت عنها وتجمع عليها جملة هذه السجالات، إنها قصيدة قصيرة نسبيا وعموما (بين 30- 50 سطرا شعريا) عالية التركيز في طرائقها التعبيرية ذاتية في التقاطها للعالم الخارجي، شخصية في موضوعها، وقريبة من الغناء في نوعية بنائها، وهي تتحرك في موشور عريض من الأغراض، يبدأ من قصيدة الحب، ويمر بالمرثية، ولا ينتهي عند الانشاد الديني والتصوفي. وكان الشاعر الأمريكي الكبير إدجار ألن بوقد نفى عنها صفة التفجع العاطفي الرومانسي، واعتبر أنها ليست سوى الشعر في أصفى أشكاله. والموسيقى في القصيدة الغنائية عنصر عضوي تكويني، بالمعنيين الفكري والجمالي. والعمارة الايقاعية تصبح بؤرة تركيز لمدركات الشاعر اذ تتخذ شكلها اللفظي اللغوي، واذ تشرع في نقل القيم الوجدانية والشعورية والعقلية. ويجدر التذكير هنا بأن العرب كانت تقول "مقود الشعر الغناء" ولحسان بن ثابت بيت شهير يقول فيه: تغن في كل شعر انت قائله ان الغناء لهذا الشعر مضمار |
قصتي مع شعر درويش \ مارسيل خليفة
![]() اعتدت دائماً أن احتضن آلة العود لأغني شعر (محمود درويش) ويبدو أنه لا بد من الكلام لوحده، حين يأتي ليقول عن علاقتي بشعر (درويش). من جهةٍ ثانية لم أحب أن أرتجل (بعضاً من الحكي) عن ذلك الشعر الجميل، فوجدت أن لا بد من كلمة تكتب فكتبت: تعرفت على شعر (محمود درويش) عبر قراءات موسيقية شبه صامتة للقصائد الأولى، وكانت تلك المقاربات الموسيقية للقصائد يغلب عليها طابع الحذر حتى الخوف، الخوف المصاحب دائماً لأي مشروع جديد. بخجل وتردد رحت أعرض تصوري لضرورة غناء تلك القصائد. وفي صباح يوم باكر من شهر آب- أغسطس لسنة 1976 دخلت أحد استوديوهات باريس الصغيرة. ولم يكن معي سوى العود وأمي وريتا وجواز سفر وكانت أول تظاهرة لأسطوانة (وعود من العاصفة) على خشبة الجناح اللبناني في مهرجان الإنسانية بباريس مع أول أيلول-سبتمبر لسنة 1976 بالقرب من بسطة الحمص والفول والفلافل. لقد استعرت آنذاك من محمود درويش تلك النصوص ووضعت لها موسيقى على النبض الدرويشي، وذلك بإعطاء بعد موسيقي مستقل عن الكلمة سواء من الناحية الميلودية أم الإيقاعية أم التوافقية فكان هناك عالم صوتي يتشكل من بعدين موسيقي وشعري لينبثق من استقلالهما وحدة فنية. لسنين طويلة ارتبطت موسيقاي بشعر محمود درويش، فتآلفت أعمالنا في ذاكرة الناس حتى صار اسم أحدنا يستذكر آلياً اسم الآخر، ولا عجب في ذلك، فكل محطات مساري الموسيقي، لثلاثين عاماً مليئة بالإشارات من إلى أعمال درويش,. بدءاً ب(وعود من العاصفة) وصولاً إلى (يطير الحمام). فمنذ أولى محاولاتي وقبل أن يتعرف أحدنا إلى الآخر، كنت أحس بأن شعر درويش قد أنزل عليَّ ولي. فطعمُ خبز أمه كطعم خبز أمي، كذلك عينا (ريتاه) ووجع يوسفه من طعنة اخوته، وجواز سفره الذي يحمل صورتي أنا، وزيتون كرمله، رمله، وعصافيره، سلاسله وجلادوه، محطاته وقطاراته، رعاة بقره وهنوده... كلها كلها سُكناها في أعماقي. فلا عجب أن آلفت موسيقاي أبياته بشكل طبيعي، دونما عناء أو تكلف، يقيني أن شعره كُتب لأغنيه، لأعزفه، أصرخه، أصليه، أذرفه.. أحكيه ببساطة، على أوتار عودي، وإذا ما أشركت كل آلات الأوركسترا مع كلماتي وصوتي، طلع ذلك الإنشاد الذي يهز ويواسي، يحث ويقاوم.. في أوراقي الموسيقية اليوم مكان لشعر درويش أكثر حضوراً مما كان عليه. أمزحة الأمر أم مزاجية عبثية؟ لا هذه ولا تلك بل شيء كزهرة أتطاول إليها بيدي منذ زمن ولا أتجاسر، واليوم فأنا مستعد وسأجرؤ لأغني ألماً يلجمه النبل والخفر عن الصراخ والأنين، ولأرمز شعره في نظام أصوات ونبرات وإيقاعات. لشعر محمود درويش مذاق خاص، فهو مرتبط بذلك العالم المسور بالدمار وأمل القيامة الأخضر وفي شعره دعوة منعشة إلى الحياة. قصائد درويش بشوشة وفرحة كالنهار الذي ننتظر قدومه ومليئة بالأمل كالساعة التي لم نعشها بعد. والحزن الواضح النبرة أحياناً خلق صلة بشرية حميمة وتعاطفاً إنسانياً بالأشياء والرموز. مع شعر محمود درويش تعرفت على نفسي كفرد لي أهوائي ونوازعي ووساوسي وحاجاتي الملحة للحرية وللخبز وللورد ولقول الأنا دون خجل. محمود درويش يحفر الصخر بأظافره حتى الوجع الوحشي كي يجد القصيدة الطازجة دائماً. ** الحكى عن محمود درويش ما بيخلص والمقالات اللى انكتبت عن تجربتو الشعرية ما بتكفيه بس لحد هون وقف الاسبوع ...ودمتم ..:D |
الساعة بإيدك هلق يا سيدي 13:32 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3) |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون