![]() |
رائعة القصة الأخيرة .. وصف الشخصيات للحظة حسيت اني قادرة حس بالبطلة شوف محيطا والحرام الهدية .. التابوت .. القرنفل .. كثير من الحزن .. وكثير من الأبداع يسلموكتير :mimo: |
اقتباس:
![]() |
حب على حافة الحياة / هيفاء بيطار
حب على حافة الحياة
لم يعد يملك سوى ذلك الصمت النابض يواجه به الأيام التي تتراكم فوقه, ولم يكن عمره الذي قارب التسعين يشعره أنه يحتضر, كان يعرف أن غيابها يعني الموت, فهي نبضة الحياة, فليفتح نفسه للألم طالما لم يعد من أمل بلقياها, وليترك نفسه مذعناً لوجع الذكريات وليسمح لدموعه أن تسير في أنفاق وجهه المغضن بتجاعيد الطيبة, من يعيد له عطرها, ابتسامتها, صوتها وهي تدندن أغانيها, دندنتها وهي تحكي له ظلم الناس لها, من يعيد للشيخ حبيبته, لم يصدقوه حين قال لهم إن القلب لا يشيخ وأنه قدُّر له أن يحب وهو على أعتاب التسعين؟كان زاهداً في الدنيا, أسير وحدته القاسية حين التقاها في قفر وحدته المثالي للتأملات واستعادة الذكريات, كان يشعر بذل الشيخوخة ويمازح نفسه ساخراً: كل شيء فيك مرقع يا عدنان, أسنانك الاصطناعية, عيناك اللتان زرعت فيهما عدستين, وفي أذنك اليمنى سماعة بدّلوا لك مفصل الورك حين سقطت وكسرته, ما أنت سوى حطام رجل وهؤلاء قساة القلوب أولادك وأحفادك ينتظرون وفاتك, لا يمكنك أن تخدع نفسك وأنت تقرأ وجوههم وابتسامات النفاق التي يواجهونك بها, وقد أدركت نواياهم بحدسك فامتنعت عن التنازل عن البيت الكبير وعن الكافتريا الصغيرة التي يديرها أحد أحفادك ويعطيك كسرة من الأرباح.حكمة السنين علّمتك أن تقرأ نفوس البشر, أن تطل على هاوية القسوة والأنانية في نفوسهم يا للمرارة وأنت تعترف لنفسك أنك لو تنازلت لهم عن البيت والكافتريا لطووك كما يطوون سجادة قديمة ورموك في غرفة ضيقة أشبه بالقبر مبتهلين إلى الله لتسريع موتك فما فائدة شيخ اقترب من التسعين يعيش في منزل واسع يساوي الملايين.كان يعرف أن كلاً منهم – أولاده وأحفاده – يخططون عشرات الخطط لاستثمار بيته, لا يعوقهم سوى حياته, سوى تعاقب أنفاسه ونبض قلبه الرتيب, فليمت, يسمعها تدوي في صمتهم المطبق وهم يزورونه كل يوم جمعه مدعين حبه, ومقدّمين له ولاء طاعتهم الكاذب, فليمت, يقرؤها في حدقات عيونهم الضيّقة من الغيظ لماذا تعيش كثيراً أيعقل إننا ننتظر موتك منذ عشرين عاماً ياه! لماذا لا يلبي الله صلواتنا, ألا يقولون أن الله يلبي الدعاء الصادق؟لايمكن أن ينسى ذلك الحوار الذي يقشعر له جسده كلما استعاده بذاكرته كان لا يزال تحت تأثير المخدر, خارجاً لتوه من غرفة العمليّات بعد أن بدّلوا له مفصل فخذه المكسور, كان يسمع أصوات موسيقا بعيدة تصله من فضاء قصي جميل يهيمن عليه اللون الأزرق فيبتسم ابتسامة أقرب للشرود حين صفعه صوت أليف يعرفه إلى حد الوجع صوت حفيده عدنان الذي طالما حمله ودلله ولا عبه لعبته المفضّلة بأن يركع ليترك عدنان يمتطي ظهره ويسير به طول الصالون حتى نهايته التي يسمونها جزيرة المرجان.ياه يا عدنان لم أكن اعرف أن هذه اللعبة تكشف عن سادية وقمع تبطنان روحك.أفاق من التخدير بعد أن قذفه صوت عدنان إلى عالم الصحو المرعب صوت معدني جاف وحاقد: كنا نتأمل ألا ينجو من هذه العملية كيف تحمّل جسده المهترىء ثلاث ساعات تخدير.فتح عينيه محدّقاً بالنور الذي بهره ولم يسمح له تمييز أحد اقترب منه يهوذا وقبله قائلاً: الحمد لله يا جدي قمت بالسلامة, تنحى جانباً متعمداً أن يريه أكاليل الزهر, شكره, أجبر نفسه على الاعتقاد أن ما سمعه ما هو سوى هلوسات أما الحقيقة فعدنان الذي سماه في سره يهوذا يريد بيته الكبير ليحوله إلى مطعم يعتقد انه أحق من المقربين كلهم إلى جده فهو الحفيد الأكبر والذي يحمل اسم جده, كرهت اسمي يا عدنان عدنان وزن شيطان تمنى في سريرته لو لم يصح أما كان أشرف له لو مات ما معنى حياة تتحول إلى تراكم سنوات؟ هل الانتصار الوحيد للإنسان هو أن يبقى حياً.أحضروه للعناية بعد أن فقدوا الأمل من وفاته, لسان حالهم يقول: (( تجاوز الخامسة والثمانين يبدو أن الموت نسيه )) جملة سمعها من زوجة أحد أبنائه, وقرأ صداها في عيونهم وتراكمت كلماتها فوق طبقات حزن تترسب طبقة فوق طبقة وكلها هدايا من أولاده.لم يكن يعرف أن القدر سيسخر منه لهذه الدرجة أو ربما أحبه لهذه الدرجة, لقد أحبها منذ اللحظة الأولى التي وقع فيها نظره على وجهها الجميل المغلف بالإعياء امرأة في الأربعين لكنها لا تزال شهية ونضرة في عينها حزن يزيد جاذبيتها تحاول مداراته كل لحظة, كان عليها أن تقضي عنده اثنتا عشر ساعة مل يوم تأتي صباحاً, وتتركه مساءً, تنظف البيت تطهو له طعامه الخالي من الملح والدسم تغسل ثيابه وتسليه بقراءة المجلات أو تلاعبه بالورق.ظل لأيام يتفرس بوجهها محاولاً اكتشاف قرَفها منه اشمئزازه من خدمة شيخ يقترب عمره من القرن, لكنه لم يَر بذرة اشمئزاز كانت نظرتها طافحة بالورود حتى أنها أدهشته حين أشبعت قطن بالكولونيا ومسحت رقبته و وجنتيه ويديه, ضحكت ضحكة قصيرة كأنها بررت ما قامت به بتلك الضحكة, جلست إلى جانبه وقالت له كأنها تبوح بحقيقة لنفسها أنت تحب, كريم ولطيف وإنساني.لم يشم رائحة طمع, استوقفته كلمتها الأخيرة, سألها: إنساني ماذا تقصدين؟ رفعت إليه عينين شاردتين ارتجف فمها, وغشت عينيها طبقة لزجة من الدموع, اجتهدت أن يكون صوتها صافياً دارت تشققاته وهي تقول متهربة من الجواب: سأعد القهوة.كان ممنوعاً من شرب القهوة لكنه رغب أن يشرب معها قهوة السر, هكذا أحس ولم يكذّبه إحساسه لأنها – ومن غير إنذار – تدفقت أمامه دموعاً ساخنة وكلاماً خارجاً من بهاء روحها المتألمة, باحت له بمأساتها يبدو أن عمره المديد أو إحساسها أنه على حافة القبر خفف عنها عبء قول الحقيقة سيموت ويموت اعترافها معه.حكت له قصّتها كيف كان زوج أمها يتحرش بها حين كانت في الحادية عشرة, أحست الأم فأسرعت بالتخلص منها, وزوجتها لرجل يزيدها بثلاثين عاماً عملت خادمة له ولأولاده إلى أن حاول ابنه التحرش بها فهربت من المنزل وطلبت الطلاق, وجدت نفسها مرمية في الشارع وعليها أن تعيل طفلين أنجبتهما, اضطرت بعد أشهر من التشرد والجوع أن ترجع إلى زوجها الذي صار يضربها متهماً إياها أنها هي التي أغوت ابنه معيداً على سمعها مئة مرة في اليوم: إن الشيطان امرأة.أخذت نفساً عميقاً وحبسته في صدرها قالت بعد صمت ثقيل: المهم الطفلان يجب أن يعيشا عيشة كريمة.كان سخياً في عطائه وكانت تقدر عطاءاته وكانت تقدر عطاءه لدرجة أن يقبّل يديه شاكرة, حفظت مواعيد دواء الضغط والقلب, حضّرت له حلويات خفيفة شهيّة, وعرّفته بطفليها اللذين أحبهما أكثر من أحفاده كلهم طالباً منهما أن ينادياه جدي.سرى الدفء في أيامه وعروقه وحياته, فلتكن تلك المرأة كفنه, كان يتأمل يدها وهي تمسح زجاج النافذة يتأملها بافتتان وهي خارجة من الحمّام مبلولة الشعر وهي منحنية تمسح الأرض ما أجملها, ما أقربها إلى روحه, فليعترف لنفسه بأنه يحبها وبأنها دنياه.اعترف لها ذات يوم أنها بعثته من رماده وانه كان ميتاً حقاً من دونها, شكرته وهي تدعو له بطول العمر, تمنى لو يملك الشجاعة ويطلب إليها أن تتزوجه بعد أن طلقها زوجها, سيكون الزواج بالنسبة إليه الدفء والرحمة اللذين حرم منهما, وبالنسبة إليها الاستقرار وضمان حياة كريمة لطفليها.لكنه لم يجرؤ على اتخاذ خطوة واحدة, سيقولون إنه خرف كم أحس بالقهر وهو يعي حقيقة تصلبه, لا يحق لقلب العجوز أن يحب! سحب رصيده من المصرف وقدّمه لها, قالت له بانفعال أليم: لن أقبل, لن أسمح لذل الحاجة أن يضطرني للقبول, أنت تعطيني أكثر مما استحق, هذا المال من حق أولادك.قال: بل من حق من يحبني ويعتني بعجوز مثلي دون تذمر أو قرف.استنكرت كلامه قائلة: أنت أروع رجل عرفته في حياتي لكن... سمع كلماتها رغم أنها لم تنطقها بل تركتها محبوسة في حنجرتها, ماذا لو عرف أولادك؟قال: ستأخذين المال, فأنت أحق به من أولادي..كان يحس أن حياته متعلقة بحياتها ومصيره معلق بمصيرها وحين تتركه كل مساء, يجلس مستنشقاً عبقها منتظراً طلوع شمس جديدة تزف حضورها إليه, إنه يتعبد عشقاً في محراب شيخوخته.باغتته بعد سنة من الخدمة بسؤال: أتحبني؟رفع إليها عينين مسهدتين وبرطم بكلمات غير مفهومة.قالت له وهي تضم رأسه إلى صدرها: وأنا أحبك أيضاً صدقني.تمنى لو يموت في تلك اللحظة, أية روعة أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على صدرها الدافئ, إنه لا يتحمل الحياة بعيداً عنها, كلهم غرباء وحدها عاملته بحنان وإنسانية.الحب بعث الأمل في قلبه, لم يعد يفهم ما معنى أنه في التسعين وقد يعيش عشرة أعوام وربما عشرين وهو في جنة الحب, من قال إن الحبّ والسعادة حكر على الشباب؟فاتحها برغبته بالتواجد عنده ليل نهار, بأن يتزوجها ويسجل البيت باسمها, غض نظره وأكمل ما لابد من قوله: من حقك أن تحبي شاباً مثلك, إذا وجدت الشخص المناسب, صارحيني, سأتفهمك, ومن يدري قد أكون ميتاً وقتها, فأجنبك حرج الصراحة.كان يجب أن يعلمهم عن نيته في الزواج من حبيبته, لم يعرف أنهم سيحجرون عليه وسيتهمونه بالتخريف, طردوها, وألفوا عنها الشائعات والفضائح, هددوها بالسجن بتهمة الدعارة, سحبوه من البيت الكبير وزجوه في مشفى المجانين, الطبيب الذي عاينه مراراً تعاطف معه في البدء ثم لم يعد يقدر أن ينظر إليه, أن تلتقي عيونهما, عرف أنهم اشتروه, دفعوا له كي يكتب أنه مجنون.كان يقدّر ظروفها, تمنى لو تغامر وتزوره مرة واحدة, مرة واحدة فقط, امتنع عن الطعام راغباً بمغادرة الذل والغدر, علقوا في وريده سيروماً, تظاهر أنه قبل بإجرائهم العلاجي, انتظر أياما غارقاً في مستنقع ذكرياته, وجوه أهداها عمره وخانته, حب أتى متأخراً ليهزأ منه أم لينقذه, لا يعرف.سحب إبرة السيروم من يده, أحس بكيانه يختزل ويصير مجرد قلب ينبض بالحب, لكن بلا جدوى, محكوم عليه بنهارات تعذبه, وبمساءات تقبره فليتحرر ليطير خارج قفص الجسد, عساه يلقاها في فضاء ما.ربط حبل كيس السيروم حول عنقه, وأخذ يشد بطاقته كلها, أحس كيف تجحظ عيناه وتضطرب أنفاسه, ربط طرف الكيس بعارضة السرير المعدنية, وجر جسده بالاتجاه المعاكس, اسقط نفسه أرضاً لكي يكون الشد على رقبته أعظم, بعد لحظات رآها تدخل إليه شفافة كشفافية الفجر الأولى, مبتسمة ابتسامة أذابت آلامه كلها, انحنت بجانبه واضعة رأسه على صدرها الدافئ, مسحت جبينه المتعرق براحتها, ثم مسحت جبينه بقطعة مشبعة بالعطر, بكى فسالت دموعه بين نهديها, كانت عبراته لزجة حمراء تتدفق من عينيه بوقارٍ مذيبةً وجع الذكريات. |
البلهاء / هيفاء بيطار
البلهاء بعــــد يومين من زفاف وحيدها، وُجدت تيريزا البلهاء ميتة تحت شجرة السنديان الهرمة الوحيدة في الحديقة الصغيرة قرب بيتها، تحديداً الغرفة الحقيرة التي عاشت فيها ربع قرن مع ابنها. اختلفت الآراء حول وفاة تيريزا البلهاء، منهم من رجّح أنها انتحرت، مستحضرين فرويد إلى أذهانهم الذي سيعتبر -كما يحلو لهم أن يفسروا- زواج ابنها نهاية لحياتها من جهة، وتكثيفاً شديداً للحادثة التي صبغت مستقبلها إلى الأبد، حين حملت بابنها وهي في الرابعة عشرة، وتنصّل الأب من الاعتراف بأبوته للجنين، واعتقد بعضهم أن تيريزا البلهاء توفيت بسرطان الثدي الذي تعاني منه منذ سنوات، وترفض العلاج. أما ابنها الذي بكاها بدموع من نار، فكان يهذي وسط دموعه بأنها توفيت من الحزن، وبأن الحزن حين يزيد عن حد معين يصبح قاتلاً. لم يشيّع تيريزا البلهاء إلى مثواها الأخير سوى نفر قليل من الناس، أختاها الوحيدتان دون زوجيهما، اللذين كانا متبرئان من تيريزا الساقطة، ابنها وزوجته، ومالكة الغرفة التي استأجرتها تيريزا لتعيش فيها مع ابنها. التصقت بتيريزا صفة البلهاء مذ كانت في الرابعة عشرة. كانت كبرى إخوتها، ومسؤولة عن العناية بهم لأن أمها مضطرة للعمل من الصباح وحتى المساء خادمة في البيوت لتعيلهم، فيما والدها هائمٌ منذ سنوات في مصحٍ للأمراض العقلية. كثيراً ماحلمت تيريزا بزيارة والدها، لكن أمها كانت تزجرها كل مرة، تنهاها عن ذكره، فما كان من هذا النهي القاسي إلا أن يزيد اضطرام أشواقها وأفكارها نحو والدها، كان غيابه يجعل حبها له شفافاً ونقياً لاتشوبه كلمات البشر الفظة القاسية، ولا تصرفاتهم الخالية من الرحمة، وكثيراً ماكانت ترنو إلى البعيد وتتخيل أنها تركض مسافات ومسافات لتلقي بجسدها في حضنه، فيضمها بقوة إلى صدره وتمتزج دموعهما، وهو يعدها أنه لن يتركها أبداً... كانت صديقاتها يسخرن منها حين يضبطنها تبتسم وتبرطم بكلمات وحدها، فيقلن لها: المجانين فقط يتحدثون مع أنفسهم، لكنها كانت تبتسم ولا تُعلّق بكلمة. فهي تحب صديقاتها من كل قلبها حتى لو سخرن منها وتهامسن بأنها بلهاء. ماكانت تفهم فن الكذب، ولا فلسفة الغش، إنها تُعبّر عن كل ماتحسه بالقول والفعل وعلى الملأ. ماكانت تفهم لماذا يداري الناس سلوكهم، ولماذا يكونون بعدّة أقنعة! ذات يوم حين زارتهم جارتهم، أدهشها ترحيب أمها الحار بالمرأة، فانبرت تيريزا تقول بسذاجة: أمي، أليست هذه جارتنا التي تقولين عنها بخيلة وثرثارة ولا يهمها سوى اصطياد زوج ثري لابنتها. انقطعت العلاقة بين المرأتين بسبب تيريزا البلهاء، ورغم العتب القاسي الذي تعرّضت له تيريزا من أمها، فإنها لم تفهم لماذا اعْتبرت مذنبة؟! بقيت على تساؤلاتها الساذجة لماذا لايقول الناس كل شيء أمام بعضهم، لماذا يكذبون؟ ومامعنى الكذب؟ فرحت بجسدها اللدن الرشيق، الذي أخذ يتكوّر، ويشع حرارة جديدة، أشبه بتيارات مائية ساخنة تدغدغ جلدها وأحشاءها، كانت تضحك لصورتها في المرآة، وهي تكتشف تلك المشاعر اللذيذة، وتتساءل: لماذا لم تشعر بها من قبل؟ كانت تقضي ساعات تتأمل نهديها الشامخين، وتمرر يديها على وركيها وبطنها وفخذيها، منتشية بالتحوّل الجميل والمدهش في جسدها، كانت مزهوة بتفتّح أزهارها، بالثمار اليانعة الشهية التي ترغب أن يتحلّب الناس ليتذوقوها، وكانت تبكي بدموع سخية وهي تسمع أغاني عبد الحليم حافظ الذي احتل أحلام يقظتها التي لاتنقطع إلا عند الضرورة. في الثالثة عشرة سقطت تيريزا في شرك الحب، كل الحارة شهدت حبها للشاب الجميل الذي يقود سيارته الفخمة البيضاء، ودون أن تتلفت خائفة وأمام العيون المتلصصة من الشقوق والثقوب، كانت تيريزا تركض إلى حبيبها، وتجلس بجانبه في السيارة ليأخذها إلى الشقة التي استأجرها لغرامياته. دُهشت تيريزا حين انفضّت عنها صديقاتها، وصرن يرمقنها باحتقار ويتهامسن حين تمر بجانبهن، كانت تتساءل بدهشة وحزن: لماذا تغيّرت نظراتهن؟! ماكان لها أن تفهم أبداً نظرة الاحتقار، فهي لم تختبر هذا الشعور، ومادة روحها النقية غير مؤهبة للإحساس به. أخذ بطن تيريزا يتكوّر، ويزداد حجماً، أدهشها أنها غدت بدينة، مع أنها لاتأكل زيادة عن عادتها! وبأن تنورتها الوحيدة ماعادت تحيط بخصرها. حتى الشهر الخامس لم تلحظ الأم حمل ابنتها، في الواقع لم تكن تراها، لأنها تعود إلى البيت حطام امرأة. متهالكة من التعب، تمسح أولادها بنظرة، وتغطّ في النوم، تاركة صغارها يكبرون برعاية تيريزا البلهاء والعناية الإلهية، وصدقات الجيران. ذات يوم تحلّقت صديقات تيريزا حولها وسألنها: تيريزا، ألا تلاحظين أن بطنك يكبر؟ ويتغامزن وينفجرن ضاحكات. فتلمس تيريزا بطنها متعجبة وتقول: أجل إنه يكبر. فيسألنها: تيريزا من والد طفلك؟! تحملق تيريزا في وجوههن وتتساءل بدهشة طفولية: طفل، أي طفل!. تقول إحدى صديقاتها: من تعاشر رجلاً تحمل بطفل. كانت تيريزا تفسّر كبر بطنها، بسبب انقطاع الطمث، فالدم يتجمّع في الداخل، ويجعل بطنها يكبر، كانت مقتنعة كلياً بهذا التحليل الدقيق لكبر بطنها، ولم تكن تقلق، فذات يوم سيتدفق كل هذا الدم إلى الخارج ويعود بطنها إلى حجمه الطبيعي. ضربتها أمها بوحشية وهي تسألها: منذ متى تعاشرين هذا الكلب؟ وكانت تيريزا تبكي وترتعش ولا تتفوه بكلمة، استدعت الجلاّدة القابلة لتكشف على ابنتها، وبعد الفحص رفعت القابلة عينين زائغتين بالدهشة وأدلت بتقريرها: الفتاة حامل في شهرها الخامس، لكنها لاتزال عذراء!! اقتحمت أم تيريزا منزل الشاب الثري وواجهت أسرته بحمل ابنتها، طُردت الأم واختفى الشاب عن الأنظار، استدانت الأم المنحوسة -كما غدا اسمها في الحارة- المال، وأقامت دعوى على الشاب لتضطره للزواج من تيريزا والاعتراف بابنه، لكن الشاب نفى أبوته للطفل، وقال في المحكمة بأن تيريزا عاهرة وتعرف الكثير من الرجال غيره، وذكر أسماء خمسة من أصدقائه وأصدقاء والده على أنهم عشّاق لتيريزا، وأصرَّ على استدعاء هؤلاء العشّاق وسماع شهاداتهم بتيريزا، عارفاً أنهم سيذكرون جميعاً الوحمة البنفسجية فوق عانة تيريزا بقليل! وحين واجه محامي تيريزا المحكمة بتقرير طبي يثبت أن تيريزا لاتزال عذراء، وبشهود من الجيران، يؤكدون أن الفتاة لم تخرج سوى مع الشاب الثري، استمر الأب في نكرانه، وانتهت الدعوى بأن دفع الشاب مبلغاً كبيراً لصاحب السيادة كي يُبرأ من أبوة الطفل الذي تحمله البلهاء في بطنها. كان على تيريزا أن تعرف دفعة واحدة معنى الألم والتخلي ونبذ الناس لها واحتقارها، الذي أحسته يؤلمها كوخز الإبر، كان عليها أن تعرف دفعة واحدة معنى الوحدة وموت المشاعر البكر الطاهرة التي كانت تدفعها لتأمل جسدها بافتتان وللارتماء في أحضان الحبيب مكتشفة جسدها في جسده، وسعيدة بأن يكتشف جسده في جسدها. انقضت كل تلك المشاعر الوحشية القاسية على تيريزا، وأحاطتها كدائرة من نار وهي تتمخّض معانية آلاماً لاتطاق، بينما لاتسمع كلمة واحدة تؤاسيها من أمها، أو القابلة، فمن يؤاسي فتاة حملت سفاحاً؟ لكن تيريزا البلهاء غدت أماً بطرفة عين، ولدت إنسانة جديدة في اللحظة التي قذف رحمها ابنها. خلال أشهر شاخت الصبية ذات الأربعة عشر عاماً، ماتت شهوتها للرجل وتحوّلت إلى جرح سيظل مفتوح الشفتين مدى الحياة، وضاع ذلك الشعور البهي المتوهج الذي لاتعرف أن اسمه الشهوة في غياهب الإهمال، أعطت روحها وكيانها لوحيدها، صار دنياها وعالمها. كانت ترتعد من قسوة النظرات ووحشيتها فتهرب إلى دنيا صغيرها، إنه الكائن الوحيد الذي يُحبها ويقبّلها، ويقبلها كماهي، وحده لايصدّق أنها زانية. كبر الصغير وكان صورة طبق الأصل عن والده، حاول البعض ممن يحتفظون ببقايا رحمة في قلوبهم أن يصحبوا طفل الزانية إلى والده، ليفحموه بالشبه بينهما، لكن الأب استمر في النكران، وتزوج من فتاة من سويته المالية، وأنجب منها ثلاث بنات، لكن حرقة الصبي ظلت تلاحقه، فكان يقول في سره، أيُعقل أن أنجب ثلاث بنات في الحلال، فيما الصبي لا أنجبه إلا في الحرام. استطاعت تيريزا البلهاء أن تنتزع شفقة الناس بعد سنوات وليس احترامهم، فالكل يشهد كم أحبت طفلها، ظلت تحمله حتى العاشرة من عمره، كانت تقضي ساعات بجانبه تتأمله وهو نائم، تغني له أغاني عبد الحليم بصوتها الهامس العذب، وتمسح دموعها الخرساء. ماعادت تتذكر أنها أنثى. انحفر الرجل في ذاكرتها مدية تطعنها في الخلف، كانت دروس الحياة المبكرة والقاسية قد جعلتها تفقد أدنى رغبة في المقاومة. كان الاستسلام التام لكل ماجرى معها هو الحل الأكثر رحمة وتحملاً بالنسبة لها، وقد قاومت بضراوة محاولة العديد من الشبان جعلها عشيقة، حتى أن أحدهم قال لها غير مصدق إنها لاتنوي معاشرة أي رجل: إلى متى ستتظاهرين بأنك شريفة، وقد تعوّدت أن تباعدي بين ساقيك مذ كنتِ في الثالثة عشرة؟ تعوّدت تيريزا على ابتلاع الإهانات، واستمرت تقبر الأيام، يوماً بعد يوم، لا يعنيها سوى ابنها، وتمكنت بواسطة جارتهم الوحيدة التي تشفق عليها من الحصول على عمل في مؤسسة لبيع الخضار، وفي أوقات فراغها المستفيضة كانت تيريزا تُبدع كنزات صوفية رائعة تبيعها وتساعد نفسها على العيش. الصغير غدا كبيراً حين عاين جرح أمه، باحت له وهي ترتعد من شعورها بالعار من يكون والده، سربلهما صمتٌ طويل لم تجرحه كلمات لأيام، كانت تعاني آلاماً لاتطاق، وتخشى أن تفقد احترام الرجل الوحيد في حياتها، لكنه بعد أيام دفن رأسه في صدرها قائلاً: أنتِ أروع أم في الدنيا. لكم أحبك ياتيريزا الرائعة، أماهو فأكرهه، أنا لاأب لي. كم كانت صادقة حين قالت له: لا تكرهه يابني، لاتجعل الكره يعّكر روحك. كانت تيريزا تعاني من اشمئزاز شديد حين ترى رجلاً وامرأة يتغازلان على شاشة التلفاز، ظلت أسيرة مشاعر الإثم طوال حياتها، وساعد موقف اخواتها من رسوخ هذه المشاعر، فبعد زواجهن انقطعن كلياً عن زيارتها، فهمت من غير أن تسأل أن أزواجهن يمنعونهن من زيارة الأخت الآثمة التي أنجبت من غير زواج. حين بلغ ابن تيريزا السادسة عشرة، فوجئت بعناية زائفة من أمها وجارتهم، ليقنعوها بالزواج من أرمل يعيش في الأردن، أكدتا لها أن هذا الزواج هو الوحيد القادر على إعادة الاعتبار ونفض الغبار عن كرامة تيريزا المعفّرة في وحل الإثم منذ سنوات، فالرجل سيسجل ابن الحرام على اسمه، رفضت تيريزا بقوة وقالت بأنها لاتطيق الرجال ولا تستطيع أن تقرِّب رجلاً. لكن الأم والجارة أقنعتاها بأن زواجها سيحّول ابنها من ابن حرام إلى ابن شرعي وبأنها يجب أن تضحي في سبيل ابنها. قبلت تيريزا الزواج من الكهل، سافرت معه إلى عالمه الغريب، منتظرة اللحظة التي سيسجل فيها ابنها على اسمه، لكنه أخذ يتملص، بدا لها واضحاً منذ البداية أنه يريدها خادمة، بل عاهرة، كان يجبرها على لبس ثياب داخلية خليعة، ويطلب إليها أن تقوم بحركات معينة، ويضربها كي تشاهد كل يوم العديد من الأفلام الجنسية الخليعة لتتعلم فن ممارسة الجنس، لم تستطع تيريزا الاحتمال، هربت منه بعد أن قال لها بأنه يستحيل أن يسجّل ابن الزانية على اسمه، وبعد أن صرخ في إحدى فورات غضبه: ياقحبة كنتُ أظنك تعرفين فنون إرضاء الرجال، فإذا أنت تيريزا البلهاء حقاً. عادت تيريزا إلى غرفتها الضيقة تنشر أحزانها على الجدران، واستأنفت حلمها الشاق الوحيد بأن يدخل ابنها كلية الهندسة. وأخيراً ابتسمت، هي التي نسيت الابتسام، حين حصل ابنها على لقب مهندس، وخطب زميلة له في الجامعة، وترك أمه تعيش وحيدة مع ذاكرة شوّهتها الآلام. تحوّلت تيريزا إلى إنسانة شبه خرساء، كانت تقضي أياماً لاتنفتح شفتاها عن كلمة، الجملة الأخيرة التي تفوّهت بها قبل وفاتها بيومين لجارتها: أحس أن حياتي سراب. القلة الذين شاهدوا جثة تيريزا تحت شجرة السنديان الهرمة، انتابهم إحساس واحد بأنها كانت تحلم، ثمة ابتسامة ترفرف على وجهها، وسرب أحلام يطوف حول عينيها ترى بماذا كانت تحلم تيريزا البلهاء قبل أن تسلم الروح؟ نقلاً عن موقع القصّة السوريّة. |
قصص روعة و الله مشكور
|
تم رفع جميع المرفقات الموجودة في هذا الموضوع على رابط خارجي لحين حل مشكلة المرفقات - ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا - :mimo: |
ما بعرف شو بدي أحكي..الإشي الوحيد اللي عجبني بعد قراءة "البلهاء,الساقطة,حب على حافة الحياة" هو النهايات الحزينة المشابهة جدا ً للواقع,يعني الكتاب عادة بقصصهم أو حتى بالأفلام ً ما بحبوا يفشلوا القارىء مشان هيك بزهقونا بالنهايات السعيدة إللي ما بتصير بالواقع..بس بقصص هيفا حسينا إنه إحنا عالأرض يعني تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
وغير هيك لاحظت إنه لسانها طويل شوي يعني مسبات وتشبيهات و وصف دقيق لخصوصيات أنثوية مش لازم الكل يتطلع عليها وهاي قناعة خاصة ما بحب حد يعلق عليها وكأنة عندها كره واضح مبين من قصصها لشرائح معينة سواء مجتمعات,ناس,أو جنس معين,يعني بنقدرنحكي إنه بس خيالها مساعدها شوي بس ثقافتها على قدها وعشان تفهموا قصدي أكثر إقرأوا للرائعة أحلام مستغانمي وبتحسوا بالفرق. مشكوور يا ضوء القمرلأنك شاركتنا بثقافتك ومشكور أكتر على ذوقك في اختيار القصص وانشالله ما يكون تعليقي ثقيل عليك.:D:D:D |
لأ..لأ..لأ..ما تحكيلي إنه صعقة حب بتخلص لهون؟؟؟ بقدر أحكي عن هالقصة رائعة..وصفها للحالة العشقية بين البطلة وبين خطيب صاحبتها..تتبعها الدقيق لصعقة الحب ..فصلها بين الحب العقلاني والحب الصدفة اللي ما بتحكمه أي عقلانية الخارج عن سيطرتنا..إحتفاظها بحدود أخلاقية حياتية واقعية بحتة لا يمكن تجاوزها وهي حدود الصداقة وحدود الخيانة واللعب بمشاعر الآخرين وخلتها مستحيلة بوجود رابط محكم وهو الخطبة يعني صعبت اللعبة شوي وبرجع وبأكد على نقطة الواقعية والبعد عن النهايات الخيالية ولو إنا بنحتاجها أحيانا .
أنا أطالب بإيجاد حل.. مشكوووووووووور يا ضوء القمر على هالقصة.والشكر أولاً وأخيراً لكاتبة القصة:D:clap: |
ترقبوا المجموعة القصصية "مرآة الروح " قريباً جداً.
تحياتي:D |
جينا شكرا للكل بس دوبي ئريت الئصه الي حاططتها باشق .. |
ما يهمني إن أحبني أم لا ما يهمني إن احبني أم لا ، طالما أنه أشعل جمرة الحب في رماد أيامي , ما يهمني إن أحبني أم لا ، طالما استيقظ صباحا ً ، فأشعر أن دفء الشمس ما هو إلا دفء قلبي . لا أعرف كيف أصبحت تحت تأثيره ، وسحرت بمجال جاذبيته . رجل أحسست أني أحبه ، حين بدأت أستعير كلماته ، أقلد صوته وحركاته أخزن صدى ضحكته الصامتة في روحي . أحسست أني أحبه حين باغتتني نفسي كم ترتعش في حضرته ، فكان عليّ أن أكبح جماح أشواقي إليه ، وأن أصارع هوى عنيف يدفعني للبوح به ، وعقلٌ كئيب من شدة تعقله بلجم هذا الهوى العنيف . أحبه وأعرف أنه لم يترك لي خرم إبرة أتسلل منه إلى عالمه . محصن باللطف ، ومدجج باللباقة ، وأنا أحوم حوله ، مستنهضة كل حيل الأنثى لاقتحام أسوار رجولة محصنة . سهام أنوثتي لا تمل من اقتحام قلعة رجولته .. أعرف كم أحبه ، حين أحس أن التسكع يجعلني على صلة معه من حيث لا أدري ، وحين تنفلت مني ابتسامات مباغتة ، وأنا أنصت بذهنٍ شارد لحوار الناس حولي ، فيبحلقون بي متفاجئين من ابتساماتي غير المتناسبة مع أحاديثهم ! أتظاهر أني أقمع سعالا ، لن يحزرو أبدا أن ابتساماتي ما هي إلا حب يعبر عن نفسه بطاقة الخيال وحدها . وحين أشعر أن البعد يعطيه فخامة وألقا ً ، فأستنجد بالفراغ الذي يفصلني عنه و أستنجد لاهثة بقوى خيّرة وبكتب الأبراج والمنجمين ، وأسمح للدموع بالانهمار على وجنتيّ الشاحبتين ، وأسمح لنفسي أن أعاتبه على قسوته . هو الذي لم يعدني بشيء ! ولا يعرف أي هوى أشعل في قلبي ؟ هو الذي نجح في جعلي خارج عالمه تماما ً ، وأشعرني كم أنا نائية ولا مجال لتقاطع عالمينا . هو الذي يغلق نفسه كدائرة وأنا أفرد نفسي كشعاع ، يمسح دائرة عزلته بيد من نور وحنان . أدرك كم أحبه حين لا يأخذ أبدا ً ، ما أنا متلهفة لإعطائه إياه . متعففٌ دوما ً ، ومعتذر ٌ ، لا يريد هداياي . مجللة بهزيمتي : أحب رجلا ً لا يريد مني شيئا ً . أدرك كم أحبه حين يصير ألم فراقه ممتع ، وحين تتحقق تلك المعادلة المستحيلة هو أن يتحول ألمي إلى إلهام . فأبدع لغة ، وأقترب من بطانة الكلمات التي ما كنت أعرف كيف ألمسها وتصبح كل دقيقة ممتلئه بالنبض وتتملكني لهفة مباغتة لأرى ما وراء الأشياء فأشعر أني بقوة سحرية أصل إليه ، إلى ذلك الفضاء حيث تدوم روحه فأشرع نفسي لأحتضن فضاء أنفاسه . أحب نفسي العاشقة ، المتعلقة كتعويذة على عتبة بابه الموصد . د. هيفاء بيطار من مجموعتها القصصية " مهزومة بصداقتك " من زمان ما قريت شي بيشبهني لهالدرجة :akh: |
ميمو هالكتابة رائعة جداً . بشكرك على الاختيار . اقتباس:
:mimo: |
شكرا على هالمقال الجميل
ماقصرتوا وتقبلوا مروري:D |
الساعة بإيدك هلق يا سيدي 06:46 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3) |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون