أخوية

أخوية (http://www.akhawia.net/forum.php)
-   حصاد المواقع (http://www.akhawia.net/forumdisplay.php?f=79)
-   -   مقالات لجوزيف سماحة (http://www.akhawia.net/showthread.php?t=107535)

رجل من ورق 19/08/2008 21:55

الإعلام الحربي



ليس سرا ان السفارة الاميركية في بيروت، كما كل سفارة اميركية في العالم، تتصل بوسائل الاعلام لتعرض عليها خدماتها في ما يخص تغطية »الحرب المحتملة« في العراق. اي ان السفارة تقوم بواجبها.
السر هو ان القارئ او المشاهد اللبناني والعربي لا يعرف الكثير عن تجاوب وسائل الاعلام المعنية. سينتظر، لكي يصبح مطلعا، بدء العمليات القتالية ورؤية المراسلين بأزيائهم الكاكية. في غضون ذلك، يُضرب نطاق من السرية حول الشروط التي يضعها الجانب الاميركي على الصحف والتلفزيونات من اجل الموافقة على اعتماد المراسلين ومن معهم.
فواشنطن تدرك، بعد التجربة المرة في فيتنام، وفي ظل ثورة الاتصالات الحالية، ان الاعلام اكثر خطورة من ان يُترك للاعلاميين. وفي المعلومات ان الصحافيين يُفترض بهم مرافقة القوات الاميركية الغازية حصرا، والتزام »ميثاق شرف« يمنعهم من بث ما لا يحصلون على إذن عسكري ببثه من ضابط الموقع. وعلى الضباط ان يعودوا بالتسلسل الهرمي، امام قضايا شائكة، الى دونالد رامسفيلد شخصيا او الى رئيس الاركان ريتشارد مايرز.
ولقد أكمل البنتاغون، حتى الآن، تدريب 232 صحافيا على مهمات شبه قتالية ولكنه توقف عن ذلك لأن الوقت يضغط ولأن »الامن الاعلامي« سيتوفر ميدانيا. وهكذا، فإن مراسلا تلفزيونيا سيجد نفسه امام المعضلة التالية: هل في الامكان توجيه اي انتقاد الى ممارسة جندي اميركي يتولى حراستي شخصيا؟
لقد جرى اختبار هذا الاسلوب في الحرب السابقة على العراق. وكان علينا ان ننتظر صدور عشرات الكتب اللاحقة من اجل معرفة حقيقة ما جرى، علما بأن بعض هذه الكتب فكك، منهجيا، ما كان يُنقل الينا على انه الحقيقة.
ان تعليب التغطية الاعلامية للحرب هو قمة جبل الجليد في خطة محكمة ترمي الى السيطرة على مسرح العمليات الصحافي. فالبنتاغون لا ينوي ترك شيء للصدف. وهو جدد، من اجل ذلك، الاتفاق مع جون ريندون (ريندون غروب) الذي بات معتمده الرسمي منذ عشرين سنة: نيكاراغوا، بناما، البلقان، هايتي، افغانستان، العراق 1 والعراق 2.
وظيفة راندون هي »هندسة الصورة« بالمعنى الاستراتيجي للكلمة. فهو الذي يساعد في انشاء الاذاعات الموجهة ضد العراق. وهو الذي اكتشف »العشيقة الشقراء« لصدام حسين. وهو الذي ساعد كولن باول في عرضه المرئي والمسموع امام مجلس الامن. وهو لا يتوانى عن اختراع أحداث تتم تغطيتها لاحقا وعن ابتداع جمعيات يصبح رأيها مسموعا (»التحالف من اجل العدالة في العراق«).
والرجل منصرف منذ اشهر الى تحضير الحملة المسبقة للحرب والى وضع قواعد العمل الاعلامي اثناءها. وفي العدد الاخير من »لونوفيل ابسرفاتور« انه هو واضع الافكار التمهيدية للعدوان وعلى رأسها »تركيز السجال العام على ضرورة تغيير النظام في بغداد بسرعة«، ومن اساليبها »عمليات سرية لتغيير الرأي العام المتردد« (عرائض، مقالات، تحقيقات، جمعيات وهمية...).
يُستحسن بوسائل الاعلام اللبنانية والعربية ان توضح للمستهلكين نوع الاجابات التي قدمتها الى الادارة الاميركية في ما يخص هذا الموضوع بالذات. ونحن نعرف ان سباقا محموما يحصل الآن من اجل انتزاع موقع نموذجي من »التغطية الكاملة«. ان هذا الموقع قد يدر مالا اعلانيا كثيرا، ولكن المطلوب تحذير المواطنين مما تدفعه المنطقة ثمنا لحصولها على الصورة الاميركية عن الحرب... وهي، بالضرورة، صورة معقمة او وردية!

19/2/2003

رجل من ورق 19/08/2008 21:55

الشرق الأوسط الكبير: المشترك بين أميركا وأوروبا



الشرق الأوسط الكبير: المشترك بين أميركا وأوروبا
من الأفضل للعالم أن يكون تعددياً. إنه كذلك بمعنى ما وإن كانت الإدارة الأميركية الحالية تمارس انفراداً ملحوظاً في مجالات كثيرة. إلا أن من المفترض أن نلاحظ أن تعددية اليوم، ولو الجزئية، هي غير قطبية الأمس. فهي لا تقوم على امتلاك كل محور أو مركز رسالة عالمية تناهض رسالة يحملها محور أو مركز آخر. وإذا كان من تمايزات سياسية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مثلاً، فإنها تمايزات تخترق دول الاتحاد كما تخترق السجالات الأميركية كما هو بيّن في الحملة الرئاسية الحالية.
تظهر هذه الحقيقة التعددية هي غير القطبية في ما يسمى المبادرات الأميركية والأوروبية للإصلاح في الشرق الأوسط الكبير. لسنا، إطلاقاً، أمام مشروعين متنافرين كما كان يمكن أن يكون الأمر أيام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. نحن أمام مشروعين متكاملين مطروحين أصلاً لنقاش أولي في هيئات تضم دول الغرب وتضيف إليها روسيا مرة (قمة الثماني) أو تركيا مرة أخرى (قمة حلف شمال الأطلسي).
إن الجذر المشترك في المبادرتين الأميركية والأوروبية أكبر ممّا قد يتصوّر البعض. هذه بعض محاوره:
أولاً لا يعادي أي من المشروعين النظام الرسمي العربي الراهن. صحيح أن الأوروبيين أكثر تشديداً على »المشاركة« ولكن الصحيح، أيضاً، هو أن هذا ما انتهى إليه الأميركيون بسرعة. لا مجال للكلام عن تهديد للاستقرار الضامن للمصالح الغربية. كل ما في الأمر هو تطعيم الوضع الراهن عبر استحداث أدوات تدخل عليه قدراً بسيطاً من التطوير. وفي الحالتين معاً، وفي الحالة الأميركية تحديداً، لن نجد تعريفاً للسياسات الفعلية التي تعرف المصالح الوطنية والاستراتيجية بما يمكّن من تحديد موقف من هذه السياسات. كل ما نجده هو نوع من القنابل الدخانية التي تتقدم السياسات في ظلها.
ثانياً إن منظومة المبادئ التي يتم التبشير بها واحدة: الديموقراطية، حقوق الإنسان، حكم القانون، الحاكمية الجيدة... إنها المنظومة نفسها التي يُقال في أوروبا وفي الولايات المتحدة إنها في أساس العلاقة الجامعة بينهما.
ثالثاً إن تحرير الاقتصاد حاضر، على قدم المساواة، في المبادرتين: دعم القطاع الخاص، فتح الأسواق، الانضمام إلى منظمة التجارة، حسن التعامل مع المؤسسات النقدية الدولية، تغيير البيئة التشريعية لتصبح حديقة للاستثمار، والأجنبي منه تحديداً، تطوير التعاون البيني، الارتباط بالعولمة. إلخ...
رابعاً البُعد الثقافي واحد في المبادرتين: التسامح، نبذ التعصب والعنصرية، إصلاح الأنظمة التعليمية، تمكين المرأة، الانفتاح على الخارج، زيادة الاعتماد على التكنولوجيات الحديثة في الاقتصاد والاتصال والتعليم، حوار الثقافات، احترام الأقليات والأفراد...
خامساً كذلك تنهض المبادرتان على أسس مشتركة لجهة الدعوة إلى مكافحة الإرهاب بكل أشكاله، وعدم اللجوء إلى العنف لحل المنازعات، واعتماد الاعتراض السلمي حتى على الاحتلال، والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل ولو من طرف واحد، وحسن الجوار، إلخ...
يعني ما تقدم أنه عندما تنظر النخب الأوروبية إلى بعيد فإنها لا ترى شرقاً أوسط كبيراً مختلفاً في شيء عن ذلك الذي تراه النخب الأميركية.
ومع ذلك يمكن تعيين نقاط تمايز، العراق وفلسطين أساساً. ولكن، حتى في هذين العنوانين، يبقى الجذر المشترك متيناً.
ففي ما يخص العراق لا خلاف بين الطرفين على ضرورة إنجاح مرحلة ما بعد الحرب التي سبّبت خلافات. لا يمكن لأي أوروبي أن يتمنى فشل المشروع الأميركي لعراق جديد مسالم. إن الاختلاف محصور بدرجة الاستئثار الأميركي بالملف العراقي ويترجم هذا الاختلاف نفسه بأهمية الدور المعطى للأمم المتحدة، وبشروط زيادة استخدام حلف شمال الأطلسي، وبدرجة إشراك العراقيين في العملية السياسية فوراً.
وفي ما يخص فلسطين لا تباين بين الطرفين على أمن إسرائيل وحمايتها، لا بل حقها في التوسع المحدود في الأرض المحتلة عام 67، وكذلك حقها في رفض عودة اللاجئين صيانة لطابعها اليهودي. كذلك لا يتباين الطرفان على إدانة العمل العسكري كأسلوب في المقاومة خاصة عندما يطال مدنيين. وأخيراً ثمة أساس متنام لاعتبار السلطة الفلسطينية فاسدة وغير متحمسة أو غير راغبة في حل.
يبقى أن خلافاً نظرياً يباعد بين الأوروبيين والأميركيين. فالأوائل يعتبرون أن حل النزاع العربي الإسرائيلي شرط للتغيير الكبير في الشرق الأوسط لأنه يسمح بالضغط من أجل ديموقراطية لا تحمل خطر وصول قوى راديكالية. أما الأخيرون فيعتبرون أن النزاع لم يعد يحتل المكانة التي كان يحتلها، وأن في الإمكان تهميشه، وأن هذا، بالضبط، ما يحاولون فعله في العراق بعد احتلاله حيث لا يبدو موقفهم من القضية الفلسطينية مصدر اعتراض عراقي جوهري على سياستهم (ثمة مصادر اعتراض أخرى). يدرك الأميركيون، في الواقع، أن نجاحاً في حل النزاع يسهّل الأمر أمامهم ولكنهم واثقون من قوتهم إلى حد أنهم يرفضون تقدم مشروعهم بهذا الحل. أضف إلى ذلك أن من غير الممكن، من وجهة نظر أميركية، إعطاء ياسر عرفات حق النقض على مشروعهم العراقي.
إن التباعد في الشأن الخاص بالنزاع قابل للتسوية أو، على الأقل، لقدر من التقارب. فبإمكان الولايات المتحدة الموافقة على أن حل النزاع عنصر دفع كما بإمكان الأوروبيين كما جاء في ورقة جوشكا فيشر فك الارتباط جزئياً بين »الإصلاح« والتسوية.
كذلك يمكن للطرفين أن يلتقيا عند الفكرة القائلة بأن حل النزاع مرهون أكثر بما يتوجب على الفلسطينيين (والعرب) فعله لا بما يتوجب على إسرائيل وأرييل شارون. وثمة مؤشرات أوروبية في هذا الاتجاه ليس معروفاً بعد ما إذا كان الحدث الإسباني سيلجمها.
إن ما هو مشترك بين أوروبا وأميركا، وما هو مختلف عليه، وما هو قابل للتسوية يرسم، إلى حد بعيد، المناخ الدولي الذي يتحرك العرب فيه. إنه مناخ لا علاقة له بذلك الذي ساد أيام الاستقطاب الدولي. يفترض أخذ ذلك بالاعتبار في السياسات العربية كلها، الرسمية والشعبية، سواء حيال قضايا مثل العراق وفلسطين، أو حيال قضايا ذات صلة بالوجهة الاقتصادية، والمضمون الاجتماعي لحركات الاعتراض، وتحديد العناوين العريضة لنهضة عربية مأمولة... ومؤجلة!

19/3/2004

رجل من ورق 19/08/2008 21:56

الشرق الأوسط الكبير: حذار الابتزاز



لم يبقَ مسؤول أميركي نافذ إلا وذكر بالخير تقارير الأمم المتحدة عن التنمية في الشرق الأوسط: جورج بوش، ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، كولن باول، كونداليسا رايس، بول وولفويتز... ومع تضاؤل الأمل بالعثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق تتضخم الادعاءات الأميركية بأن الحرب لم تكن تملك هدفاً سوى وضع الجيش في خدمة برنامج الأمم المتحدة للتنمية و»حرقة« واضعي التقارير على الأوضاع المزرية لأمتهم. يبدو النسر العدواني على شاكلة حمامة إنماء. ولقد صاغ أركان الإدارة الأرق الديموقراطي في عبارات متنوعة، وفي مبادرات عديدة، قبل أن تجد صياغتها في مشروع سيطرح الصيف القادم أمام عدد من القمم الغربية والأطلسية.
وفي مقابل هذه الهجمة الإصلاحية الديموقراطية لم يبق مسؤول عربي إلا ورفع عقيرته بالصراخ استنكاراً. لقد بات الزاد اليومي لحكامنا التصريح ضد هذا الخطر الداهم، والتحذير منه، وإبداء الاستعداد لخوض منازلة مصيرية معه. وجرى التركيز، في هذا السياق، على مجموعة من الأفكار والأطروحات. منها، أولاً، أن الإصلاح لا يمكنه أن يستورد من الخارج وأن يقفز فوق »عاداتنا، وتقاليدنا، وتراثنا، وتركيبتنا السكانية، وثقافتنا، وأنماط حياتنا...«. ومنها، ثانياً، أن الغاية من هطول المبادرات الإصلاحية صرف النظر عن الانشغال بقضية فلسطين وشعبها وهذا ما لن تسمح به أنظمة تغفو وتفيق على همّ »القضية المركزية«. ومنها، ثالثاً، أن الحكومات تمارس إصلاحاً »بالقطارة« فليس جائزاً استعجالها لأنها أدرى بما تستطيع شعوبها تحمّله.
لم يتحول هذا السجال إلى حفلة ردح. ولكنه، بالتأكيد، حفلة أكاذيب يُراد لها، من الجانبين، تنفيذ أجندة ابتزاز.
لنأخذ المبادرة الإصلاحية الأميركية. إن من يقرأها يصعب عليه أن يعترض على بند واحد فيها. فهي كناية عن سلة أفكار واقتراحات يصعب رفضها إلا إذا كان المرفوض هو المرسل لا الرسالة. ولكن المشكلة »الوحيدة« معها أن لا علاقة لها بالسياسة الأميركية الفعلية. إن المبادرة في مكان والسياسة في مكان آخر لا تجمع بينهما إلا صلة واهية.
لا شيء، في المبادرة، عن النفط، وتحرير التجارة والأسواق، ضمان الأرجحية الإسرائيلية، ومكافحة الدول المارقة، وإنتاج أنظمة »صديقة«، ومنع بزوغ قوة إقليمية، وتعزيز النفوذ الأميركي على سواه، ونشر القواعد العسكرية، وتنظيم آليات الاستتباع بالأطلسي، ومحاصرة التعبيرات الوطنية بصيغتها القومية أو اليسارية أو الإسلامية... لا شيء من ذلك علماً أن هذه هي، بالضبط، السياسة الأميركية في الشرق الأوسط الكبير. وتعريف هذه السياسة بصفتها كذلك مستقى من عدد لا يحصى من الوثائق الرسمية الأميركية التي يمكن لأي مبتدئ في العلوم السياسية مطالعتها وفهم محتواها.
إن المبادرة الإصلاحية الأميركية هي الضريبة الترويجية للسياسة الأميركية الفعلية. فهذه الأخيرة لا تنوي هز الاستقرار المفيد إطلاقاً، ولا تبغي أكثر من عمليات تجميلية تجريها أنظمة صديقة، وتسعى إلى أن ترعى نشوء نخب مدينة لها بوجودها ودورها. إن السياسة الأميركية الفعلية مسؤولة إلى حد بعيد عن الأوضاع الكارثية التي تدعي المبادرة الرغبة في إصلاحها.
أما الاعتراضات الرسمية العربية على المبادرة فلها قصة أخرى.
كيف تجرؤ أنظمة على الاحتجاج على فرض الإصلاح من الخارج؟ إن معظم حدودنا مفروضة من الخارج، وكذلك مؤسساتنا الرسمية، واقتصادنا يوجهه صندوق النقد. وبعض سياساتنا الخارجية مستأجرة من الخارج. وإسرائيل فُرضت علينا من الخارج وقبلناها. حتى أسامة بن لادن صناعة خارجية، والقوات التي تحمي حكومات هي الأخرى من الخارج. إن كل ما هو مستورد مقبول إلا إذا فاحت منه رائحة إصلاحية.
أما رفض الانشغال عن قضية فلسطين فزعم لا ينطلي على أحد. يكفي أن نراقب يومياً العسف الإسرائيلي ونقارنه بالتجاهل العربي (وأحياناً بالتواطؤ) حتى نستنتج، بسهولة، أن الحجة في غير محلها. غير أنها تصبح وجيهة عند تقديمها بشكل آخر. فالولايات المتحدة تتظاهر بأنها تضع الديموقراطية شرطاً للتسوية باعتبار أن عالماً عربياً ديموقراطياً لن يناهض إسرائيل التي سبقته في الديموقراطية. أما الأنظمة العربية فتعرف أن كل فسحة حرية قابلة للاستغلال من جانب قوى تأخذ عليها، أي على الأنظمة، تخاذلها في نجدة شعب فلسطين وتخلّيها عن أي برنامج وطني. لذا فإنها تميل إلى مطالبة الولايات المتحدة ببذل جهد للتسوية، وهو جهد لا تكلف نفسها به، حتى لا تنشأ أوضاع تهدد، في الوقت نفسه، المصالح الأميركية وركائزها المحلية.
يبقى التلويح بأن الإصلاح جارٍ فلا ضرورة لتسريعه حتى »لا ينفرط العقد« كما قال أحد الرؤساء. هذا موقف أبوي بالمعنيين. بمعنى التقرير عن الشعب نيابة عنه. وبمعنى ضبط وتيرة الإصلاح على وقع مشاريع »التوريث«.
لقد كان مؤسفاً أن إصلاحيين عرباً وقعوا في الفخ الابتزازي الذي نصبته لهم أنظمتهم. لقد قادتهم إلى فتح النار على »المبادرة«، وساعدتهم في ذلك، من أجل أن تقيم ستاراً تمرر من ورائه خضوعها الكامل للسياسة الأميركية. أي أن الحكام العرب راهنوا على وطنية إصلاحيين عرب ورفضهم لكل إملاء خارجي من أجل حماية نهج يقوم على الخضوع للإملاء الخارجي.
لقد كان، ولا يزال، مطلوباً الدفاع عن الحس النقدي والوعي الاعتراضي، وتسخيف الدعوة القائلة إن المطالبة بالتغيير في الأوضاع العربية باتت موضع شبهة لأن هناك، في واشنطن، من يمارس الاستخدام الذرائعي لتقارير التنمية.

10/3/2004

رجل من ورق 19/08/2008 21:58

شرق بوش... الموسّع



ينوي الرئيس جورج بوش الاستفادة من مناسبات دولية قريبة (قمم الأطلسي، الدول الصناعية الكبرى، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي) من أجل طرح مبادرات تخص »الشرق الأوسط الموسّع«: مجموعة اقتراحات لنشر الديموقراطية، دور أكبر للتحالف الأطلسي في العراق وأفغانستان...
سيكون في وسع واشنطن البناء على ما أنجز في التسعينيات مع محاولة تعديل تأخذ في الاعتبار ما استجد على سياستها بعد تفجيرات 11 أيلول.
ما الذي أنجز في التسعينيات؟
طوّرت واشنطن تحت عنوان »المبادرة المتوسطية« أو »الحوار المتوسطي« خطة تقحم حلف شمال الأطلسي في علاقات مع دول عربية (مصر، الأردن، الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا) ومع إسرائيل. جاء ذلك في سياق الاندفاع إلى توسيع الحلف شرقاً بضم دول إليه، وفي إطار توقيع عدد من اتفاقيات »الشراكة من أجل السلام«. غير أن ما يميّز »المبادرة المتوسطية للأطلسي« الاعتراف بأنه ليس في الإمكان الذهاب بعيداً في هذا المجال بما يعني ضرورة الاكتفاء بمناورات مشتركة، وبتبادل خبرات، وبتنسيق لأعمال عسكرية ذات وظيفة إنسانية، وبتكثيف الزيارات والتدريب، وبإنشاء لجان مشتركة... إلخ. ولقد أمكن إبقاء هذه العلاقات خارج دائرة الضوء برغم أنها لا تزعم السرية لنفسها، وبالرغم من أن كثافتها كان يفترض أن تثير اهتماماً جدياً.
في موازاة ذلك، وبالتساوق مع المفاوضات الثنائية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، سعت واشنطن بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، واليابان، وروسيا، وكندا، والمؤسسات المالية الدولية، لتشجيع المفاوضات الإقليمية الخاصة بالتعاون البيئي، والاقتصادي، والمائي، وبتسيير حياة اللاجئين، ونزع السلاح... وأمكن على هامش هذه المفاوضات عقد قمم اقتصادية بحثت في عنوان عريض أطلقه شمعون بيريز »الشرق الأوسط الجديد«.
من امتعض من »الأوسطية« شارك في »المتوسطية« التي بادر إليها الاتحاد الأوروبي، برعاية أميركية غير مباشرة، وعرفت باسم »مسار برشلونة«.
إلى ذلك، حفل عقد التسعينيات بتوقيع معاهدات أمنية واقتصادية ثنائية، فضلاً عن حوارات إقليمية عربية مع تجمعات خارجية. وأخيراً كان لهيئات اقتصادية دولية، من منظمة التجارة إلى صندوق النقد إلى البنك الدولي، دور كبير في عقد صلات متنامية مع دول عربية.
وفي تطور مواز كانت الولايات المتحدة، بعد الحرب الباردة وانفجار أزمات البلقان، تغيّر في تعريفها لمسرح عمليات حلف شمالي الأطلسي وفي مضمون نشاطه: انتقل المسرح نحو الجنوب وباتت التهديدات ذات صلة بالإرهاب، وأسلحة الدمار، والنزاعات الفائقة عن حدودها والمتحولة إلى تهديد إقليمي... وبرزت في وثائق الحلف، في الذكرى الخمسين لتأسيسه، مفاهيم جديدة تقول إن »الشرق الأوسط الموسّع« بات مجال اهتمام أول لحلف شمال الأطلسي.
حصل هذا كله عشية تفجيرات 11 أيلول (حصلت معه أمور أخرى منها التغييرات الهيكلية في بنية الجيش الأميركي وإعادة تموضعه في أوروبا). أي اننا كنا أمام شبكة علاقات شديدة التعقيد تشد بلدان المنطقة إلى الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، و»الناتو«. صحيح أنه يمكن استكشاف تباينات في أنماط العلاقات ولكن الأصح أنها تحاول أن ترسم أفقاً لا محيد عنه للعالم العربي: التسوية مع إسرائيل، الليبرالية الاقتصادية والانفتاح، والارتباط الوثيق بمركز نفوذ غربي أو أكثر.
قرّرت الولايات المتحدة، بعد 11 أيلول، أن العالم العربي الإسلامي هو حاضن التهديدات الموجهة ضدها. ماشاها كثيرون في بعض استنتاجاتها وأيّدوا حربها في أفغانستان. غير أن
خلافات برزت في ما يخص العراق ونظرية الحرب الاستباقية ودعوات التغيير الهيكلي للشرق الأوسط تحت عنوان »الثورة الديموقراطية«. لقد بدا الانفراد الأميركي هو السمة الغالبة في مرحلة ما بعد الحرب الأفغانية. إلا أن هذا الانفراد اكتشف حدوده نتيجة عوامل متعددة: الكلفة المادية والبشرية للحرب في العراق، فوضى ما بعد الاحتلال والمقاومة والمطالبة بدور للأمم المتحدة، ضرورة تطوير النموذج التدخلي في أفغانستان، حيوية إشراك آخرين في مواجهة الأزمات مع كوريا (روسيا، الصين، اليابان) أو مع إيران (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا)... إلخ.
تراجعت واشنطن بعض الشيء تحت وطأة هذه الضغوط. والواضح أن ما سوف تقترحه على حلفائها ينطلق من فرضية تقول إن »الشرق الأوسط الموسّع« مسؤولية أميركية أوروبية. على أن التراجع يريد الاحتفاظ بجوهر ما استجد على السياسة الأميركية في العامين الأخيرين: تعيين شرق أوسط موسّع ومحدد بطريقة عشوائية كمسرح للعمليات خلال المرحلة المقبلة، إشهار مشروع شديد الجذرية في التعاطي معه باسم الديموقراطية، إسقاط الصراع العربي الإسرائيلي من أن يكون عنصراً محدداً في المشاكل والحلول، الارتضاء بأدوار هامشية للحلفاء على قاعدة المشاركة في الأعباء لا المسؤوليات.

19/2/2004

رجل من ورق 19/08/2008 21:58

1.ك. س. ب.



»أياً كان سوى بوش« (ا. ك. س. ب). هذا هو الشعار الذي يحفّز الناخبين الديموقراطيين الأميركيين على التوجه بكثافة إلى صناديق الاقتراع. وهذا، أيضاً، هو الشعار اللاعب دوراً حاسماً في اختيارهم جون كيري لمنافسة الرئيس الحالي.
لم تنته الانتخابات الفرعية بعد ولكن نتيجتها باتت شبه محسومة. إن سناتور ماساشوستس هو خصم جورج بوش بعد أشهر.
إن »ا. ك. س. ب« هو، إلى حد بعيد، شعار دولي وعربي أيضاً. يمكن، دون خشية المبالغة، القول إن المزاج الأوروبي العام معه. وكذلك الروسي والصيني والأميركي اللاتيني والآسيوي. لا بل ليس مستبعداً أن يكون طوني بلير نفسه يفضل، في العمق، فوز كيري ويحلم أن يستعيد معه العلاقة التي بناها، ذات مرة، مع بيل كلينتون والتي تجاوزت الالتحاق الاستراتيجي لتتضمن أفكاراً، مهما كان الرأي فيها، عن »الطريق الثالث«، ودور الدولة، واليسار »الحديث«، والليبرالية الاجتماعية، وموقع المؤسسات الدولية، والتعاطي مع أزمات الشرق الأوسط، وتأثيرات تحرير التجارة على العلاقات في العالم، إلخ...
إن مواجهة بين بوش وكيري هي، بمعنى ما، مواجهة بين بوش وبلير. لا أكثر من ذلك. ولكن، أيضاً، لا أقل. علماً أن رئيساً أميركياً مثل كيري يدفع بلير إلى إبراز أفضل ما عنده (وهو قليل)، في حين أن رئيساً مثل بوش يدفع بلير إلى إبراز أسوأ ما عنده (وهو كثير).
تدل المعطيات الأولى على أن المقترعين من أصول عربية في الولايات المتحدة تبنوا الشعار الآنف الذكر (ديترويت). ومن دون امتلاك مؤشرات حاسمة يبدو أن المزاج الشعبي العربي يغلّب التخلص من بوش على ما سواه من اعتبارات. وليس مستبعداً أن يكون المزاج الرسمي كذلك خوفاً من الإحراجات الكثيرة التي تسبّبها السياسات القصوى للإدارة الحالية.
إذا كان ما تقدم صحيحاً، وهو صحيح على الأرجح، سنكون أمام بداية ابتعاد عن وعي عربي تقليدي يعتبر أن الجمهوريين أقرب إلى العرب (لمصالح نفطية وغيرها)، وأن الديموقراطيين أقرب إلى إسرائيل (لعلاقة إيديولوجية حميمة، فضلاً عن
المصالح). أي أن هناك من يأخذ العلم بما استجد من تطورات في الولايات المتحدة وإسرائيل والعالم. وأبرز هذه التطورات أن دعم المشروع الصهيوني في طوره التوسعي الراهن يأتي من أوساط اليمين وأقصى اليمين في حين يميل يسار البلدان الغربية إلى التلاقي مع التوجه العربي المعبّر عنه بعرض التسوية بشروط الحد الأدنى.
تدلّل وقائع السياسة الأميركية في المرحلة الأخيرة، بما في ذلك الحملة الانتخابية، تدلّل على هذا التحول. فبوش، الرئيس، يخوض معركته بسياسة شرق أوسطية موغلة في العداء للمصالح العربية: من تهميش القضية الفلسطينية، إلى إلحاقها بالتغيير في العراق، إلى ربطها بمكافحة الإرهاب، إلى إسقاطها لصالح إطلاق يد شارون، إلى تمويت خريطة الطريق، إلى إغفال »رؤية« الدولتين، إلى تأييد فك الارتباط الذي يمكنه أن يعني انتقالاً حاسماً إلى موقع المحافظين الجدد الذين يعتبرون أن قيام دولة فلسطينية عنصر تأجيج للإرهاب لا إخماد له. وإذا كانت الإدارة، تلوّح بالديموقراطية أفقاً انطلاقاً من العراق فإنها لا تعني بذلك إلا التأشير إلى مدى جذرية التطويع الذي تود قيادة المنطقة إليه.
مقابل ذلك عبّر المرشحون الديموقراطيون كلهم (باستثناء جوزف ليبرمان إلى حد ما) عن وجهة مختلفة بعض الشيء. ثمة تنويعات عديدة لديهم ولكن يمكن الدفاع عن الفرضية القائلة إن جون كيري يمثل خطاً وسطاً بين ليبرمان »اليميني« وهوارد دين »اليساري« (فضلاً عن من هم أكثر جذرية من دين).
يقوم هذا الخط الوسط على مجموعة من المحاور: دور أكبر للأمم المتحدة وللحلفاء، تسريع تسليم السلطة للعراقيين بالتراضي، رفض الانسحاب السريع إذا كانت الفوضى بديلاً، التركيز على دور أميركي فعال في الصراع العربي الإسرائيلي يترجم السعي إلى حل »الدولتين« ولا يلقي التبعات كلها على جانب واحد، الدعوة إلى إعطاء الدبلوماسية والمفاوضات فرصة قبل اللجوء إلى العنف...
إن هذه المحاور هي اقتباسات من القليل الذي قاله كيري عن الشرق الأوسط وعن تصوره للسياسة الخارجية الأميركية. غير أنه، بالطبع، قال أشياء أخرى. فهو عبّر عن دعمه الكامل لإسرائيل، وتعاطفه معها، وتمييزه العلاقة الأميركية معها عن أي علاقة مع دولة أخرى في الشرق الأوسط. وهو اعتبر مكافحة الإرهاب واجباً فلسطينياً يسمح بالانضمام إلى الحرب العالمية ضد الإرهاب التي يعتزم المضي فيها بما لا يسمح لبوش الطعن في تراخيه. ومن المقدّر، في الأسابيع القادمة، أن يشدد كيري على كل ما هو مجز في الانتخابات فيزيد من وسطيته الاجتماعية والاقتصادية، ويزداد تقرّباً من مجموعات الضغط القادرة على تجيير أصوات، ويستعيد مرتكزات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط (والعالم) وهي مرتكزات يمكن قول الكثير فيها خاصة لجهة تعارضها مع ما يمكن للعرب أن يعتبروه مصالح حيوية لهم.
... ومع ذلك سيبقى »أياً كان سوى بوش« هو الموقف الأنسب والأقدر على أن يشكل مرشداً لكل من يريد التدخل في انتخابات تهم العالم بأسره وتسمح للولايات المتحدة بتقديم أجوبة أخرى على التحديات الراهنة بما فيها تحديات ما بعد تفجيرات 11 أيلول واحتلال العراق.

12/2/2004

رجل من ورق 19/08/2008 21:59

مكتب الدمار الشامل



هذه أسماء كوكبة من الأميركيين مع نبذة سريعة عن البعض منهم حيث تقتضي الضرورة.
ريتشارد بيرل، غني عن التعريف. نيو غينغريتش قائد الأكثرية الجمهورية البرلمانية في أواسط التسعينيات، وأحد أقطاب اليمين الأقصى في الحزب، ومن دعاة التحالف مع ليكود، وعضو في مجلس سياسات الدفاع التابع للبنتاغون والذي كان يرأسه بيرل إلى أن أطاحته فضيحة (من الرئاسة لا من العضوية). جيمس وولسي رئيس أسبق لوكالة الاستخبارات المركزية وعضو فعال في أي منتدى يجمع عتاة اليمين الصهيوني في الولايات المتحدة.
مايكل روبين من محللي قضايا الشرق الأوسط في »أميركان انتربرايز« وهي مؤسسة »بحثية« تمثل قلعة من قلاع المحافظين الجدد وتمد الإدارة الحالية بعدد من مسؤولي الصف الثاني والثالث. الكولونيل وليام برونير مساعد، في مرحلة سابقة، لغينغريتش.
ديفيد وورمسر هو أحد واضعي المذكرة الشهيرة عام 96 إلى بنيامين نتنياهو (مع زوجته ميرياف وريتشارد بيرل ودوغلاس فيث). كما أنه من اللوبي العامل على جمع اليمين الإسرائيلي بأكثر التيارات الأميركية محافظة. مايكل معلوف كان أحد مساعدي بيرل في الثمانينيات.
هارولد رود مستقدم إلى الخدمة في البنتاغون من جانب أصدقائه »المدنيين«. يعتبر المستشار الأقرب إلى وولفويتز لشؤون الإسلام، وهو من تلامذة برنارد لويس النجباء إلى حد أن كتاب لويس الأخير »أزمة الإسلام« مهدى إليه بالإسم.
ابرام شولسكي أحد الذين تعرّفوا إلى بيرل أثناء العمل مع السيناتور »الصقري« هنري جاكسون قبل أن ينتقل مع أستاذه (بيرل) إلى إدارة رونالد ريغان. وضع كتباً ومقالات مع غاري شميت الذي يتولى رئاسة »مشروع القرن الأميركي«.
وليام لوتي رئيس مكتب شؤون الشرق الأوسط وجنوب آسيا في وزارة الدفاع تحت إشراف دوغلاس فيث. سبق له العمل مباشرة مع ديك تشيني ومع غينغريتش. لويس ليبي رئيس مكتب
تشيني ومن المناضلين في صفوف اليمين الصهيوني الأميركي. بول وولفويتز غني عن التعريف. أحمد الجلبي كذلك.
ما هو القاسم الجامع بين هذه الأسماء كلها؟
إذا وضعنا الحماسة الفائقة لإسرائيل الليكودية، فإن ما يجمع هذه »الكوكبة« هو الدعوة المبكّرة، أي منذ مطالع التسعينيات، إلى قلب النظام العراقي ولو باحتلال البلد. إن عدد الكتب والدراسات والمذكرات والمحاضرات والمقالات التي وضعها المذكورة أسماؤهم فرادى أو جماعة، والتي »تثبت« امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وصلاته بالإرهاب على أنواعه وب»القاعدة« تحديداً، أكثر من أن تحصى. نحن أمام جوقة من صناع الرأي اعتبروا، منذ سنوات، أن واحدة من مهماتهم المركزية شن حرب في الشرق الأوسط وإعادة هيكلة المنطقة.
صناع الرأي هؤلاء باتوا في مواقع مؤثرة ضمن الإدارة الحالية بعد خوضهم معارك ضد بيل كلينتون وتراخيه الأخلاقي وإضاعته فرصة الاستفادة القصوى من انكسار موازين القوى في الشرق الأوسط. لا بل يتميّز البعض منهم (أكثرهم) بلومه الشديد لجورج بوش الأب الذي امتنع عن دخول بغداد و»أرغم« إسرائيل على حضور مؤتمر مدريد.
كان يمكن لهذا القاسم المشترك أن يبقى نظرياً. كان يمكن، أيضاً، لأصحابه أن يكونوا موجودين في ثنايا الإدارة الحالية يمارسون قدراً من النفوذ. غير أن الذي حصل هو أكثر من ذلك بكثير.
لقد التقى هؤلاء جميعاً، من دون إضافة أحد أو استبعاد أحد، في هيئة أنشئت داخل وزارة الدفاع وأطلق عليها اسم »مكتب الخطط الخاصة«.
بدأ المكتب بنواة تشكلت غداة تفجيرات 11 أيلول. ففي حين كان الجهد الاستخباري متجهاً نحو ملاحقة »القاعدة« و»طالبان« وأسامة بن لادن كانت هذه النواة تشير بإصبع الاتهام إلى مكان آخر: بغداد. وكانت تفعل ذلك مستفيدة من أمور عدة:
1 التقارب الذي حصل في قمة السلطة بين المحافظين التقليديين (تشيني، ورامسفيلد) وبين المحافظين الجدد والذي قاد إلى نجاح التيار الإيديولوجي في إعطاء معنى للحدث وفي صياغة رد: جاءنا الهجوم من العالم العربي الإسلامي وعلينا أن نرد بحرب شاملة.
2 بقاء الملف العراقي معلقاً ووجود نظام له »بروفيل« يصلح لإعطائه مثلاً في خصوم تريد الولايات المتحدة الخلاص منهم وبمعونة دولية إذا أمكن.
3 توفر عملاء عراقيين من نوع أحمد الجلبي قادرين على تأمين معلومات ومعطيات تؤكد »الخطر المتعاظم والداهم« لناحية أسلحة الدمار أو الصلة مع الإرهاب.
4 تردد الأجهزة الاستخبارية الرسمية والمحترفة في تقديم وقود معلوماتية تبرّر القرار المتخذ سابقاً، وكذلك ميل كولن باول إلى المبالغة في ضرورة اعتماد التعددية على حساب الانفراد.
تطوّرت هذه النواة لتصبح »مكتب الخطط الخاصة«. وباتت المهمة تجاوز عمل الأجهزة من أجل مد المسؤولين بتقارير غير مدقق فيها تساعدهم في تنفيذ ما بات واضحاً أنه قرار مسبق. وبناء على ذلك جرت عملية »تطهير« في أجهزة البنتاغون، وتمّ استبعاد المحترفين، وتولى »المحافظ الجديد« جون بولتون أمر التغطية من موقعه في وزارة الخارجية.
يعني ذلك أن عدداً من مسعوري الحرب كانوا مسؤولين إلى حد بعيد، وبدعم من قمة هرم السلطة، على توفير الأجواء المناسبة لتبرير الغزو. ولقد أدى ذلك إلى احتكاكات عديدة سواء مع الاستخبارات المركزية أو مع وزارة الخارجية.
إن مناسبة التطرق إلى عمل هذا المكتب هو إعلان بوش تشكيل لجنة تحقيق في تقديرات المخابرات عشية الحرب. إن أي تحقيق لا يبدأ باستجواب الأشخاص المشار إليهم سينتهي إلى خاتمة أسوأ من التي خلص إليها اللورد هاتون.

10/2/2004

رجل من ورق 19/08/2008 22:00

هنا الوردة ...



هنا الوردة ...
يكاد المرء لا يصدق ما يقرأ. إن هناك، بين القادة الفلسطينيين، من يدعو العرب والمسلمين إلى »ترك مأزق شارون ليتطور«. يبدو أن صاحب الدعوة هو الذي لا يصدق ما يقرأ، أو أنه يقرأ بنظارات خاصة لا تجعله يرى الانهيارات المتتالية في العالمين العربي والإسلامي. ينتمي الرجل إلى فئة مبتلية تعتبر كل إنجاز لخصم مشكلة وقع فيها. وآخر إنجازات هذه الفئة ما تطلق عليه »الاعتقال المأزقي«، قاصدة بذلك الهزيمة الساحقة التي أنزلها صدام حسين بالمحتلين الأميركيين بتركهم يقبضون عليه. لسنا ندري ما كان الوصف لو أن جورج بوش هو المسجون، ولكننا ندري أن المتفائلين الأبديين اغتبطوا كثيراً لسقوط بغداد بالطريقة المعروفة معتبرين أن ذلك فخ سيطبق على الأميركيين ويشكّل محطة تالية في الهزائم النازلة بهم منذ »أم المعارك«!
الاتهام الذي يوجهه القائد الفلسطيني المشار إليه يطال من يرمي طوق نجاة لشارون فيقبل بعدم إدانة وثيقة جنيف ويمتنع عن النضال لإسقاطها، أو يتعاطى مع »خريطة الطريق« ولا يرى فيها مجرد وسيلة لإنقاذ إسرائيل مما تتخبط فيه.
ليست المشكلة في تعريض كل من »الوثيقة« أو »الخريطة« لنقد. المشكلة هي في الإيحاء بأن كلاً منهما، أو أياً منهماً، وسيلة فك الطوق عن رئيس الوزراء الإسرائيلي المحاصر، والموضوع في موقع دفاعي.
إن اقتراح محاربة شارون بتركيز جهد فلسطيني وعربي ضد »وثيقة جنيف« حراثة في البحر. لا »يفيد« ذلك إلا في تشتيت الصف وتحويل الفوضى إلى ما يشبه الفتنة. وهو يقوم على فرضية أن الكل صهاينة لا فرق بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، بمعنى أن الشعارات والسياسات يجب أن تتبرأ من ملامسة دنس التمييز والبناء عليه. وهو لا يقيم أي وزن لرأي عام عالمي أو فلسطيني يرى القطاع الأكبر منه سياسة شارون المتطرفة عبر »الوثيقة«. أي ان هذا الاقتراح هو الذي يمنع مشكلة الاحتلال من أن تتطور لأنه يساعد في تبرئة المحتل، ويوفر للإدارة الأميركية فرصة التملص من تحديد مضمون ل»رؤية« الدولتين.
إن الدعوة لتركيز جهد لإسقاط »الوثيقة« حرب على طواحين
هواء. إنها عملية انتحارية، ليس ضد رواد مقهى هذه المرة، وإنما ضد وهم هو وهم بالضبط لأنه أرقى، بما لا يقاس، من موازين القوى الحالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
إن ما قد لا نخسره بالحرب ضد الوثيقة نخسره في الحرب ضد الخريطة. يؤدي ذلك إلى مزيد من الهشاشة في وضع السلطة الوطنية، وإلى استعداء اليسار والوسط في إسرائيل، أي إلى إرغامهما على الالتحاق أو مزيد من الالتحاق بالخيار الشاروني، وإلى توتير العلاقة مع المجموعة الدولية، رأياً عاماً وحكومات، وإلى تجاهل مجلس الأمن وقراره الأخير، وإلى توفير ذريعة إضافية لبوش من أجل الانفكاك عن وثيقة يدّعي رعايتها...
إن ما يبدأ خطأً في التقدير ينتهي خطيئة في السياسة. وخطأ التقدير هو اعتبار شارون في مأزق والحركة الوطنية الفلسطينية في حالة هجوم. ينتج عن ذلك اعتبار يقول إن إسقاط »الوثيقة« و»الخريطة« هو بعض من فائض الجهد لا يحول دون إحكام الحصار على شارون، وقطع مخارج الطوارئ عليه، وسجنه في دوامة معضلته لأن تباشير القضاء النهائي عليه وعلى دولته أقرب منالاً من أي وقت آخر.
هذا هو تمام العدمية. وهذا هو المدخل المفضل لتبديد ما تبقى من قوة في خوض معارك لا هي ضرورية ولا حاسمة. إن انتقاد وثيقة جنيف ممكن. وكذلك امتلاك وجهة نظر في الخريطة وأوالياتها وأوجه قصورها. غير أنه من غير الجائز وصول عمى الألوان إلى حيث يستحيل التمييز بين مخاطر »حلول افتراضية« وبين خطر »الحل« الواقعي، الملموس، الجاري تنفيذه.
الوردة هنا فلنرقص هنا، قال أحدهم. ويقصد أنه يتعيّن تحديد الحيز الحقيقي للمواجهة في كل لحظة. وهذا الحيز في فلسطين، اليوم، هو ضد المشروع الشاروني المعبَّر عنه في »خطاب هرتسليا«.
فشارون يضع الفلسطينيين أمام الخيار: إما الحرب الأهلية وإما »الحل« من طرف واحد. أي إما تطبيق القراءة الإسرائيلية ل»خريطة الطريق« وإما مواجهة خطر ضم قسم من الضفة، وتقطيع أوصال الأرض المحتلة، وضرب التواصل بين الفلسطينيين، وقطع صلتهم بالمحيط إلا لأغراض التجارة أو... الرحيل. ولا يمضي يوم، ولا تمضي ساعة، إلا وهذا الحل الزاحف يتقدم من دون أن يبدو في الأفق إجماع على مقاومته وإحباطه. ثمة معارضة جذرية تطلق النار في غير اتجاه، وثمة حكومة تدفن رأسها في الرمال مراهنة على »اجتماع مثمر«، وثمة وسطاء يتصرفون وكأن سحر الكلام دواء، وثمة »رعاة« يعرفون أنهم يكذبون عندما يكتشفون جملة في كلام شارون توحي بأنه وفيّ لالتزامات.
لقد بات صعباً تصديق دعاة »ترك مأزق شارون يتطور«. لا يعقل أن هؤلاء لا يعاينون الخط البياني التنازلي للوضع العربي والإسلامي وللوضع الدولي المحيط بقضيتهم. ولا يعقل أن ما يميّزهم عن البن لادنية يتعطل في هذا المجال بالضبط. إن التفسير الممكن لسلوكهم هو أنهم يضبطون سياساتهم على إيقاع الصراع على السلطة وليس على إيقاع الصراع على الأرض. فإذا وضعنا هذه الفرضية في الحسبان بات ممكناً فهم الكثير مما يبدو متناقضاً وغير عقلاني. فهل هذا هو الموضوع فعلاً؟ وهل هذا ما يختبئ وراء الكلام الكبير؟ هل هذه هي الوردة التي يرقصون حولها؟ هل يدركون الآثار »التعبوية« لخطابهم؟ هل يعتذرون من أحمد ماهر؟

23/12/2003

رجل من ورق 19/08/2008 22:01

الأزمة ووعي الأزمة



مَن زعم أننا عصاة على التغيير؟ ها نحن ننسف طقوسنا. اعتدنا أن ننتقل من الهزيمة إلى النقد الذاتي إلى الإعداد لهزيمة تالية. ها نحن نعبر من الهزيمة إلى الهزيمة من دون عناء التوقف عند محطة المراجعة متظاهرين أننا نحاول التفكير في »معنى النكبة«.
نركب قطار التدهور السريع. ونستغني به عن أكذوبة الاحتفال بجلد النفس التي هي، في حقيقة الأمر، قابلة الأفكار الأكثر تردياً. نستعيض عن جمال عبد الناصر بمسوخ الناصرية. وننحط من صدام حسين إلى »بقايا نظام صدام حسين«. ونحوّل فيصل القاسم إلى أمين عام الجماهير العربية، وأسامة بن لادن إلى مرشد روحي، وعنتر الزوابري إلى قائد ميداني، وسعد الدين إبراهيم إلى رمز النضال الديموقراطي، و»بنك المدينة« إلى نموذج الليبرالية الاقتصادية، والانتخابات بالتعيين إلى ممارسة للتعددية، وتفجير المقاهي إلى تحرير فلسطين، إلخ...
لقد بتنا نرى في الاحتلالات التي نتعرض لها مآزق المحتلين، وفي تصعيد عنف الاحتلال تصديراً لمآزق الخصوم حتى لم يعد مفهوماً لماذا جرى اختيارنا هدفاً تنصب عليه هذه »المآزق«، خاصة إذا ازدادت تأزماً.
إن كل إطلاق نار، عندنا، مقاومة. وكل مأدبة منتدى فكري. وكل رصف للكلمات مطالعة. وكل
إنفاق استثمار. وكل رشوة إعادة توزيع للثروة. وكل إحسان مكرمة. وكل إضراب عطلة. وكل تنظيم عشيرة. وكل طائفة أمة. وكل بلد عربي جار خصم. وكل مؤسسة مشتركة مزحة. وكل حاكم إله. وكل برلمان غرفة صدى. وكل فكرة سلعة. وكل جامعة حضانة.
نعجز عن إنتاج وعي مطابق يكون جذرياً في واقعيته، ممسكاً بالأحوال في جوهرها ومجاريها العميقة، مميزاً بين القشرة التي نراها والعمارة التي تحملها، محلياً قدر الواجب وكونياً قدر الإمكان، مدركاً مشاكل اللحظة وتحديات المستقبل، محدداً المعضلات الملموسة والعلاجات المتاحة.
لم يسبق أن كان التفارق بهذا الهول بين الأزمة ووعي الأزمة. ولم يسبق أن كان المواطن العادي، إلى هذا الحد، متفرجاً، أو مزنراً بحزام ناسف، أو متسكعاً عند أبواب دعاة »التجسير« و»ردم الهوة« المتشكلين بصفتهم الجناح المتنوّر المزعوم لسلطات عربية موغلة في الفشل.
لا يطال الفشل تحقيق إنجاز فحسب. إنه فشل في أن نكون فاشلين. وفي وقت تنحو نزعة الرفض نحو دموية عبثية، تتحول محاولة التكيّف إلى مسخرة، خاصة عندما يقال فيها إنها نتيجة قرارات حرة وليست رعباً، ممّا كان يسميه ياسين الحافظ، »خبطة الحذاء الاستعماري فوق جباهنا«.
لم ننجح في شيء ضد الولايات المتحدة. غير أننا سننجح في إحباط »الديموقراطية القادمة فوق دبابة«. وسينشأ تواطؤ غريب من نوعه بين ثلاثة أقانيم: كذب الادعاء الأميركي، رعونة العداء لما هو أجنبي، الحالة ما قبل المجتمعية لبلداننا. والأفق الواضح لهذا النجاح دوام المستنقع الحالي وزيادة البعوض الطنان فوقه.
... وقل إن هناك من أخذ على أدونيس رثاءه لبيروت. وقل إن هناك من يستطيع الادعاء بأن فورة المعارض، والمنتديات، والزيارات، والأيام الثقافية، وأسابيع السينما أو المسرح، تشكّل حياة جديرة بهذا الاسم تغني وتراكم وتحدث تقدماً.
لو تأخرت محاضرة أدونيس شهراً لكانت الأيام زوّدته بالكثير. ولكن المأساة هو أن الزاد نفسه كان استخدم من قبل الذين اعترضوا عليه وساجلوه من أجل المفاخرة بما تحتضنه المدينة سواء كان إنتاجاً محلياً أو انعكاساً للرثاثة العربية.
لكل الحق في امتلاك وجهة نظر نقدية في بيروت ومآلها، أي لكل الحق في مخالفة ما قاله الشاعر وكاد يعتذر عنه. ولكن ما لا يجوز تمريره هو هذا الخلط الغريب بين نشاطية تفوح لها رائحة المباخر وبين هموم أصلية، عميقة، يتم التعبير عنها بعيداً عن قصور المؤتمرات. ويكاد المرء يقول إن العلنية تهمة أو انها حمّالة تهمة. فلا شيء يرجى من الاحتفال، والأبهة، والفخامة، والاستعراض، ومآدب التكريم، وتحويل المآسي إلى عنصر... ترفيهي. لا شيء يرجى إلا الإدراك أن انحطاطنا ووعينا يسيران في خطين متوازيين، ومتعارضين فوق ذلك!

6/12/2003

رجل من ورق 19/08/2008 22:01

»جنيف« ... حاجة فرنسية



تسبّب »مبادرة جنيف« مشكلة فلسطينية. وتشكّل إحراجاً لإسرائيل الليكودية. وتطرح تحدياً على واشنطن يُرغم كولن باول على تذكير من يهمه الأمر »أنا وزير خارجية الولايات المتحدة« حتى لا يتصرف معه أرييل شارون وكأنه وزير خارجيته.
إلا أن »مبادرة جنيف«، التي لن تقدم حلاً فورياً للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، تجعل الأوروبيين سعداء. أكثر من ذلك أنها تبدو مثل حاجة فرنسية داخلية ملحّة.
منذ اندلاع الانتفاضة الثانية وثمة شيء يحصل في فرنسا. فشبان الهجرة، وهم بالملايين، يتماهون مع شبان الأرض المحتلة. يعبّرون عن غضبهم، واحتقاناتهم، ورفضهم للتمييز ضدهم، وضيقهم بالغيتوات التي يعيشون فيها، بالاتجاه نحو انطواء إتني قد ينفجر غضباً ضد أجهزة السلطة، أو ضد المحلات التجارية، أو ضد مواطنين يهود.
يحصل ذلك في ظل انطواء مماثل يصعد بين الأخيرين ويجعلهم يغلّبون يهودية معينة على الانتماء إلى الجمهورية، خاصة عندما تبدو لهم متجاهلة لمخاوفهم أو مقصّرة في حمايتهم. ولا يتردد قطاع من هؤلاء في التماهي مع سياسات أرييل شارون، ورفض أي انتقاد لها، وتقديمها بصفتها الخيار الوحيد المتاح لرد التهديد الوجودي الذي تتعرض له »الدولة اليهودية الوحيدة في العالم«.
وينمو، في هذا السياق، صراع جديد على موقع الضحية. فالشبان العرب والمسلمون يعتبرون أنفسهم موضع اضطهاد وعنصرية يرون لهما صورة يومية مضخمة في ما يحصل في فلسطين. ويرد الشبان اليهود، أو شبان يهود، بأنهم يُحشرون في موقع الأقلية المطاردة تماماً كما هي حال إسرائيل في »البحر العربي« المحيط بها.
وفي حين يقول الأوائل إن »الإسلاموفوبيا« هي السمة الأولى للوضع الفرنسي الراهن، يقول الأخيرون إن انبعاث اللاسامية هو الخطر الأول لاتصاله بشياطين الماضي الفرنسي ولارتفاع درجة الخطر في هذه »الشياطين« عن تلك الموجودة في الماضي الكولونيالي.
تدخلت عناصر كثيرة في تسعير هذا التوتر.
لقد اندفع مسؤولون إسرائيليون إلى تصنيف فرنسا بأنها البلد الأكثر عداءً لليهود في أوروبا. وتأسّس على ذلك مطالبة هؤلاء

بالهجرة وعرض المساعدات عليهم في حال قرّروا الانتقال إلى أرض ميعادهم. ووصلت المبالغات، هنا، إلى حد استوجب ردوداً من يهود فرنسيين يرفضون هذا الخيار ويصلون إلى حد تحميل سياسة شارون بعض المسؤولية عمّا يحصل ل»الدياسبورا«.
ولوحظ أن مثقفين فرنسيين، من الحريصين جداً على متانة العلاقات الأوروبية الأميركية، ومن المحتجين على موقف جاك شيراك في حرب العراق، وعلى ما يعتبرونه انحيازاً إلى الجانب الفلسطيني، لوحظ أن هؤلاء طبّقوا على النزاع الفلسطيني الإسرائيلي النظريات السائدة حالياً عن خطر الإرهاب وضرورة محاربته، وصمتوا عن قول كلام نقدي في حق الحكومة اليمينية في إسرائيل. ولم يجد هؤلاء تبريراً لعزلتهم في بيئتهم إلا تحميل الإعلام مسؤولية الترويج لصورة مزورة عن النزاع.
ثمة مثقفون يهود بين هؤلاء طبعاً. ولكنهم، في هذا المجال، صدروا عن موقف لا علاقة له بهذا الانتماء وإنما بتصوّر أعم لما يجب أن يكون عليه الموقف الغربي من التهديد الأصولي الإسلامي خالطين بين برجي نيويورك ومخيم جنين.
تداخل هذا الجو المؤدي إلى تقوقع مع قضايا أخرى من نوع مشكلة الحجاب من أجل أن تجد فرنسا نفسها مهددة بمخاطر تراجع المثال الجمهوري، والعودة القوية للطوائف والجماعات ما دون الوطنية، وهو أمر يجب وضعه في إطار التهديدات الأصلية لفكرة الدولة الأمة المتمثلة في العولمة، وتحويل بعض السيادة إلى أوروبا، وتعزيز اللامركزية على حساب العاصمة.
لا يمكن الإطلالة على الموقف الفرنسي من مبادرة جنيف إلا على قاعدة هذه الخلفية، وهي خلفية تجعل دعم المبادرة حاجة وطنية داخلية.
ليس الحديث هنا عن موقف الدولة الفرنسية فحسب. فهذه لم تُحدث مفاجأة بما فعلت. فالمعروف أنها مع حل متوافق عليه، ومع تصوّر لمضمون الحل قريب لما ورد في الوثيقة، ومع اتخاذ مسافة عن شارون تخدم، في ما تخدم، رد التحية له على مواقف كثيرة بينها الاحتقار الذي يعامل به مندوبي أوروبا، والفيتو الذي يضعه على أي لقاء بياسر عرفات.
إن الحديث هنا هو عن النخبة الفرنسية والرأي العام الفرنسي.
لقد أدى »استيراد النزاع الشرق الأوسطي« إلى فرنسا، وتداخله مع قضايا العولمة والعولمة البديلة، والانغلاقات المذهبية والطوائفية، وإعادة تموضع القوى السياسية الفرنسية حياله، ووفرة الإنتاج الفكري، ومحاولات توسيع مجال تهمة »اللاسامية« لتطال كل انتقاد لإسرائيل، واندماج النقاشات حول فلسطين بتلك الخاصة بحرب العراق بتلك الخاصة بمصير العلاقات الأوروبية الأوروبية ومع الولايات المتحدة، وانفجار قضية الحجاب... إلخ. أدى ذلك كله إلى نوع من »الحرب الداخلية الباردة والمنخفضة التوتر«.
وبدا، لفترة، أن النصاب السياسي والثقافي المؤمّن لانتقاد شارون لا يكفيه موازنة ذلك بالهجوم اللاذع والمحق على العمليات ضد مدنيين إسرائيليين. كان لا بد من أن يتوازن نقد شارون بتأييد لتيار إسرائيلي آخر حتى لا تبدو مواقف فرنسية صباً للزيت فوق نار »الحرب« الفلسطينية الإسرائيلية. وجاءت مبادرة جنيف، بالمشاركة الإسرائيلية فيها، هدية من السماء.
لقد سمحت بإطلاق مبادرات أهلية كثيرة داعية إلى دعمها ورعايتها وتبنيها وجعلها جزءاً من السياسة الخارجية الفرنسية في حين أنها، في الواقع، ضرورة داخلية (لا بأس في ذلك، وربما كان أفضل). ومن يقرأ، اليوم، العرائض الفرنسية المؤيدة للمبادرة، فسيفاجأ بتواقيع لأشخاص أمضوا السنوات الأخيرة في سجالات حادة ضد بعضهم تبادلوا خلالها اتهامات في منتهى الخطورة. ومن الواضح، جداً، أن وظيفة المبادرة تبريد الأجواء المحتقنة في فرنسا، وتوليد توافقات تمتص التوترات، والسعي نحو هدنة عربية إسلامية يهودية تنعكس على المناخ العام.
لقد حاول بعض المنضمين بحماسة إلى تأييد المبادرة، تقديمها بصفتها وثيقة ضد شارون وعرفات على قدم المساواة. غير أن ذلك يبدو تبريراً من أجل تغطية انسحابهم من الزاوية التي حشرهم فيها صمتهم عن رئيس الوزراء الإسرائيلي وارتكاباته ولو أنهم، حتى إشعار آخر، سيرفضون الاعتراف بذلك.
لقد تسبّبت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في تصديع مشروع عمل عربي يهودي مشترك في فرنسا تحت عنوان مكافحة العنصرية. وأوصلت الانتفاضة الثانية الصدع إلى حافة خطيرة لأنها طرحت سؤال المواطنية والقيم الكونية ضد الانغلاق الطوائفي.
ثم جاءت المبادرة لتوجد مخرجاً يسمح بالتأسيس لوئام ما، لوئام يعيش عبره الفرنسيون صيغة التعايش بين يوسي بيلين وياسر عبد ربه، وهي ليست بالضرورة الأفق الأكثر احتمالاً لما قد يعيشه الإسرائيليون والفلسطينيون.
أي إنجاز أكثر من وضع ألين فينكلكروت وبيار أندريه تاغييف إلى جانب طارق رمضان وباسكال بونيفاس!

2/12/2003

رجل من ورق 19/08/2008 22:02

وورمسر أو »الحرب الحتمية«



»إذا كان على الولايات المتحدة أن تبقى كلاعب كبير في المنطقة، وإذا كان على إسرائيل الاستمرار كأمة، فعلى الجانبين واجب التفكير في الإقدام على ما لا مهرب منه: الحرب«! فالحرب، وحدها، »تحوّل الأزمة إلى فرصة«.
قائل هذا الكلام هو ديفيد وورمسر. نشره في صيف 2001 أي قبل أيام قليلة على تفجيرات 11 أيلول. الحرب التي كان يدعو إليها لاحتفاظ أميركا بموقعها وبمجرد استمرار إسرائيل جاءت إليه وتحولت الأزمة، فعلاً، إلى فرصة.
خبر صغير نشرته الصحف قبل أيام. انتقل ديفيد وورمسر من العمل مع »الصقر الليكودي« جون بولتون (راجع الشهادة في »محاسبة سوريا«) في وزارة الخارجية إلى العمل مع من لا يقل »صقرية« و»ليكودية« لويس ليبي مدير مكتب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني. سيكون مسؤولاً في وظيفته الجديدة عن ملف الشرق الأوسط. وسيكون محاوره في مجلس الأمن القومي التابع لجورج بوش المدعو إليوت أبرامز أحد أبرز المثقفين اليمينيين اليهود المتميّز بأطروحاته حول حيوية التحالف مع الأصوليين المسيحيين لما فيه أمن... إسرائيل.
* * *
وورمسر كثير الكتابة. له عدد من الكتب وإطلالات تلفزيونية أكثر من أن تحصى. إن مطالعة لأدبياته تستوجب التوقف حيال المقال الذي نشره صيف 2001 في مجلة »الشؤون الأمنية الدولية« الصادرة عن »المعهد اليهودي لشؤون الأمن الوطني«. ليس في التوقف أي اعتباط. المقال خلاصة تفكير الرجل وتفكير الشبكة التي يعمل في إطارها والتي تحتل مواقع نافذة في الإدارة.
إن الاعتذار عن الإطالة واجب ولكن هذا ملخص يحاول أن يكون دقيقاً لأطروحات الرجل.
يعتبر، صيف 2001، أنه لا بد من »إعادة النظر بالسياسة الشرق الأوسطية« في ضوء تفجر الانتفاضة الفلسطينية رداً على عقد كامل من العجز الأميركي والإسرائيلي. »نحن أمام منعطف«، يقول وورمسر، تماماً كما كان الوضع في 1939 حين اتضح فشل أميركا وبريطانيا في استثمار الانتصار الذي تحقق في الحرب العالمية الأولى. بعد الحرب العالمية الثانية طبقت النخبة البريطانية على الشرق الأوسط سياستها السابقة فتراجعت وتخلت عن المشروع الصهيوني. فشلت في أن تلاحظ التطابق الكامل بين كثافة العداء للصهيونية ودرجة الاستبداد والتعاطف مع النازيين ثم السوفيات. لقد أدى تخلي بريطانيا عن إسرائيل إلى طردها من الشرق الأوسط! (أغرب تفسير ممكن للعدوان الثلاثي في 56 ونتائجه).
ورثت السياسة الأميركية، في البداية، الأساليب البريطانية إلى أن انتبهت إلى أنها مع إسرائيل في معركة واحدة، معركة الأمم الحرة ضد الاستبداد.
لقد بدأ عقد التسعينيات، يقول وورمسر، بهيمنة أميركية إقليمية وبتفوّق إسرائيلي في الشرق الأوسط. غير أن العقد انتهى والولايات المتحدة على حافة أن تُطرد وإسرائيل في أزمة عسكرية ووجودية. ولقد حصل ذلك لأنهما اعتقدتا أن الكراهية لهما عائدة إلى ظلم ارتكبتاه وليس إلى السلوك الاستبدادي لخصومهما. فالعداء لهما من طبيعة الأنظمة العربية وهو يزداد بازدياد الاستبداد.
يعتبر وورمسر أن إسرائيل هزمت الجيوش العربية 5 مرات: 48، 56، 67، 70، 73. ولكنها لم تستثمر انتصاراتها فحصلت على هدنات مديدة فقط. الحرب الوحيدة النموذجية، بهذا المعنى، هي الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982 حيث استكملت إسرائيل
تدمير منظمة التحرير بدل الاكتفاء بالإضرار بها. ويمضي وورمسر ليعتبر أن الثمانينيات هو، بمعنى ما، عقد ذهبي افتتح بالغزو واختتم بضرب العراق. هذان الانتصاران الإسرائيلي والأميركي جعلا العرب يقتربون من إسرائيل وأميركا. لقد »اصطفت الأمم لتسالم« وبدا أن النصر المشترك آخذ بصياغة المنطقة مع انتقال الراديكاليين العرب، بأطيافهم كافة، إلى الهامش.
غير أن الكارثة، في رأي وورمسر، هي أن تل أبيب وواشنطن لم تفهما انتصارهما وتخلتا عنه. وقعتا في خديعة الاعتقاد بأنهما تسبّبان الكراهية فسعتا إلى إصلاح الأمر ورفع الظلم واستجداء العطف. لقد أخطأت الولايات المتحدة بحق إيران فلم تنقضّ عليها. وأخطأت بحق العراق فاكتفت بحصار متراجع. ولكن الخطأ الأكبر هو ارتكاب »خرافة أوسلو«. لقد اقتنعت إسرائيل، يسارها، أن الظلم الذي أنزل بالفلسطينيين هو القوة الدافعة للنزاع. فبادرت إلى »أبلسة« قوتها، وغرقت في يوتوبيا الحل والتسوية. وغفلت عن الحقيقة القائلة »إن القوة المتفوقة يمكن استخدامها لزعزعة أسس القومية العربية الراديكالية والأصولية الإسلامية«.
نشأ وهم يعتبر أن التخلي عن ثمرة الانتصار في 67 هو المدخل إلى حل. والأنكى من ذلك، في عرف وورمسر، أن التخلي لم يكن معروضاً على الأردن وإنما باسم »تلبية التطلعات الوطنية الفلسطينية«. ففي رأيه أن مجرد الاعتراف بحقوق متساوية للفلسطينيين يشرّع الاعتقاد الفلسطيني بأن وجود إسرائيل نفسه جريمة وسطو.
يلوم وورمسر »أميركا كلينتون« على مشاركتها في الأخطاء، ولومها إسرائيل على تعثر التسوية، واعتناقها »خرافة حل الأزمات« عبر تشجيع »معسكرات سلام« تبحث عن قواسم مشتركة. ويتهم قادة الولايات المتحدة وإسرائيل العمالية بأنهم أوهموا أنفسهم أنهم يكتبون قواعد جديدة للتاريخ غير أن التاريخ انتصر، وانتصاره يقود الطرفين نحو هاوية.
اتفاق أوسلو، إذاً، والفشل الأميركي في إيران والعراق هما أصل البلاء لأنهما أنعشا القوى الاستبدادية المعادية. وبناء عليه فإن الحرب »التي كانت منذ أشهر غير واردة تبدو اليوم حتمية«. يختم وورمسر ناطقاً باسم الأميركيين والإسرائيليين »بما أننا محكومون بالكراهية لما نحن عليه ولما هم عليه فإننا محكومون بالحرب إلى حين توجيه ضربة قاصمة إلى مراكز الراديكالية والحقد: دمشق، بغداد، طرابلس، طهران، غزة.« والأمل أنه، بعد هذه الضربة ستبدو محاربة أميركا وإسرائيل بمثابة انتحار!
* * *
يمكن اعتبار ما تقدم أحد أفضل العروض لمعنى سياسة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة المتحالفين مع أقصى اليمين الصهيوني. فديفيد وورمسر ليس وحده. إنه جزء من تيار موجود في مراكز بحث، ومعاهد دراسات، ومواقع صحافية، والأهم من ذلك في صلب الإدارة.
إنه مقرّب جداً من ريتشارد بيرل (عملا في أميركان أنتربرايز) وكتب الثاني مقدمة كتاب الأول (1999) حول ضرورة شن الحرب على العراق. وزوجة وورمسر، ميرياف، أنشأت موقع »ممري« على أنترنت بالتعاون مع الكولونيل احتياط في الجيش الإسرائيلي يغال كارمون. وهي مديرة دراسات الشرق الأوسط في معهد هدسون وترتبط، مع زوجها، بصلات قوية مع جماعة معهد واشنطن التابع للوبي الإسرائيلي، كما مع جماعة »منتدى الشرق الأوسط« الذي يديره الغني عن التعريف دانيال بايبس (وليام كريستول عضو في المنتدى). ومن بين منشورات »المنتدى« هناك »النشرة الاستخباراتية للشرق الأوسط« المعدة بالتعاون مع ضباط سابقين إسرائيليين ومع »لجنة لبنان الحر« التي تشكل طرفاً يحاول أن يكون فاعلاً في »محاسبة سوريا«.
المعروف عن وورمسر هجومه الدائم على المملكة العربية السعودية ومصر، وصلاته القوية بأحمد الجلبي (والمؤتمر الوطني العراقي) الذي حاول تنظيم لقاءات له مع مسؤولين إسرائيليين كما ساعده في اختراق الكونغرس. غير أن وورمسر يكاد يكون متخصصاً في التحريض ضد سوريا، ككيان، وليس فقط ضد السياسة السورية. وهو يسند دعوته إلى خروجها من لبنان على عداء مكين لفكرة الاتحاد العربي المسؤولة، في رأيه، عن الكوارث كلها.
* * *
لقد ارتقى وورمسر درجة في سلم الإدارة. والمغزى من ذلك أن هناك، في واشنطن، من يريد توجيه رسالة إلى العرب تتبنى المنطق الشاروني: ما لم يحل بالقوة يحل بالمزيد من القوة. لقد كانت الحرب حتمية في رأي وورمسر عشية أيلول 2001. أما وقد اندلعت فلا بد من المضي فيها.

24/10/2003

رجل من ورق 19/08/2008 22:03

إصلاح ضد إصلاح



عندما يتحدث الرئيس اميل لحود عن »الاصلاح«، ويتحدث الرئيس رفيق الحريري عن »الاصلاح« فإنهما لا يكونان يتحدثان عن »الاصلاح« نفسه. »اصلاح« الأول مختلف عن »اصلاح« الثاني، لا بل مناقض. يكفي ان تشن »أوساط« الرئيس لحود حملة دعوة الى »الاصلاح« حتى تعتبر أوساط الرئيس الحريري أنها مستهدفة وأن هناك من يريد بها شراً. ويكفي ان تعبر »اوساط« الرئيس الحريري عن نيته المضي في مشروعه »الاصلاحي« حتى تستنفر »أوساط« الرئيس لحود معتبرة ان المواجهة في قمة السلطة مستمرة.
لا يمكن ان نفهم فذلكة موازنة 2004 وردود الأفعال عليها الا على قاعدة »إصلاح ضد إصلاح«. فعندما يقال فيها إنها موازنة تتخلى عن الطموحات الاصلاحية يجب ألا يفهم من ذلك انها تتخلى عن تلك الطموحات التي يصر عليها لحود. كلا. ان كل تخل للحريري عن طموح اصلاحي هو خطوة الى الأمام يحققها اصلاح لحود.
ويمكن، بهذا المعنى، اعتبار ان وزير المالية أعلن استسلامه عندما اقترح مشروع موازنة عادياً جداً. فهو اذ يعتبره »دون الطموحات« فإنه يكون يحدد السقف الأعلى الذي كان يريده، والسقف الأدنى الذي اضطر الى احترامه بصفته سقفاً حدده آخرون.
الا ان هذا الاستسلام الشكلي يدل على ان السنيورة يتصرف مثل لاعب جيدو ماهر. يريد ان يحوّل قوة »خصمه« الى قوة لنفسه. فهو بتظاهره بالاستسلام، يرغب في اظهار ان اندفاعة الفريق الآخر ستصل، ومعها البلاد، الى هاوية. وبدل ان تكون الموازنة الاصلاحية عقبة تحول دون هذه النهاية فإنها، لعاديتها، إزاحة لهذه العقبة، أي ازالة للمكابح التي قد تمنع الانهيار.
ان مشروع موازنة 2004 هو تعبير عن سأم. لقد ضجر السنيورة من دور الكاهن الأول للتقشف الاصلاحي. وهو، في ذلك، يغيّر قواعد اللعبة آخذاً في الاعتبار الموازين الفعلية للقوى كما ارتسمت منذ تشكيل الحكومة الحالية. ان موازين القوى هذه ميّالة بشكل واضح الى الرئيس الأول. والتكتيك الجديد هو استباق تعديلات محتملة على الموازنة وتضمينها، منذ البداية، في المشروع من أجل تحقيق هدفين. الأول هو حرمان قوى سياسية من متعة تشذيب الموازنة باسم القضايا الاجتماعية. الثاني هو التأشير للقوى الاقتصادية النافذة بأن موازين القوى السياسية الراهنة لن تفعل سوى مفاقمة الأزمة وزيادة التردي.
وثمة »قطبة مخفية« في المشروع. مؤداها ان مجلس الوزراء هو الذي وافق على البنود الاصلاحية السابقة، وأن مجلس النواب هو الذي أقرّها. غير ان الحكومة تغيرت فاقتضى أخذ العلم طالما ان التغيير يريد تغليب »الاصلاح اللحودي« على »الاصلاح الحريري«. يبقى على مجلس النواب، في هذه الحالة، ان يتحمل مسؤولية المحاسبة حتى لا يبدو، قبل حوالى سنة، موافقاً على وجهة وبعدها موافقاً على »الاتجاه المعاكس«.
تقضي الصراحة القول ان المواطنين لا يملكون فكرة واضحة عن المشروعين »الاصلاحيين« للرئيسين. نضع جانباً آراءهما في السياسة والاجتماع والثقافة وعلاقات الطوائف. نكتفي بآرائهما ذات الصلة بالموازنة. وهنا يبدو، بشكل ضبابي جداً، انهما يتوافقان على الاعتراف بوجود أزمة لكنهما يتباينان في ما عدا ذلك. فالرئيس لحود ميّال الى الاحتفاظ بدور أكبر للقطاع العام وإلى الاهتمام بالضائقة الاجتماعية وزيادة التقديمات. والرئيس الحريري ميّال الى الخصخصة وزيادة القدرة التنافسية. الرئاسة الأولى صاحبة مواقف سياسية تريد إلحاق الاقتصاد بها. الرئاسة الثالثة صاحبة مواقف اقتصادية تريد للسياسة ان تأخذها بالاعتبار.
هذه الضبابية في تحديد المواقف لا تتبدد بالتصريحات اليومية المتبادلة والتي تشكل، غالباً، رسائل شخصية يصعب على اللبناني العادي فهمها. ولكنها، أي الضبابية، لا تمنع من طرح سؤال على كل من الرئيسين.
السؤال الموجه الى الرئيس لحود: هل يمكن، فخامة الرئيس، ان تقدم لنا أرقاماً دقيقة عن كلفة الوعود التي تطلقها في ما يخص التقديمات الاجتماعية للفئات الأكثر تضرراً من الأزمة؟ وإذا كان الجواب إيجاباً فمن أين تأتي الأموال في الشرط اللبناني والإقليمي الراهن؟السؤال الموجه الى الرئيس الحريري: هل يمكن، دولة الرئيس، ان تقدم لنا معطيات واضحة عن فكرتك المتعلقة بكيفية الخروج من الأزمة؟ وإذا كان الجواب ايجاباً فهل سيستمر هذا التوزيع غير العادل لأعباء الخلاص من المأزق بحيث يزداد التفارق الاجتماعي؟
ان السبب في اختيار هذين السؤالين، ولكل منهما استطراد، هو ان الرئيس لحود يبدو أكثر تعاطفاً مع نقابات العمال في حين يبدو الرئيس الحريري أكثر تعاطفاً مع نقابات أصحاب العمل. نقول »يبدو«. ولكن المشكلة هي ان النقابات الأولى تطلب بما لا تستطيع الموازنة احتماله، والنقابات الثانية تتهرب من ان تقوم بالحد الأدنى من واجباتها المواطنية.
ان مبدأين يتوجب بهما التحكم بأي موازنة للبنان. الأول هو ان لا خروج سريعاً من الأزمة. الثاني ان لا خروج من دون »شد الأحزمة« بشكل عادل وبالتساوي (أي بعدم المساواة بين الفقراء والأغنياء). لقد غاب هذان المبدآن عن مشروع 2004. وبما اننا قد لا نجدها لحظة تحول المشروع الى قانون فليس أقل من انتظار موازنة كارثية في 2005.

1/10/2003

رجل من ورق 19/08/2008 22:04

»إمبراطورية في حالة إنكار«: المثال العراقي



التعريفات الكلاسيكية ل»الامبراطورية« تتقاطع. نكون أمام »امبراطورية« عندما تتولى سلطة واحدة ادارة شؤون محكومين متعددين (شعوباً ودولاً ومناطق...). ينطبق هذا التعريف الكلاسيكي على الولايات المتحدة في موقعها العالمي وفي صلتها بكل من افغانستان والعراق.
غير ان الولايات المتحدة، حسب نيال فيرغوسون، وهو مؤرخ بريطاني، هي »امبراطورية في حالة انكار«. اي انها (نخبة حاكمة وشعباً) ترفض »الواقع الامبراطوري« وتتبرأ منه. يقودها هذا التناقض بين ما هي عليه وبين وعيها له الى ارتكاب اخطاء تجعلها تفشل في معظم تدخلاتها العسكرية الخارجية. وأبرز هذه الأخطاء ثلاثة: التحديد المسبق لمدة »الاقامة«، عدم تحمل الكلفة البشرية والمادية، رفض اشراك آخرين وبناء تحالفات.
ولا يحتاج المرء الى عناء كبير ليلاحظ ان السجالات الدائرة اليوم في شأن العراق (وافغانستان بنسبة أقل) في الولايات المتحدة نفسها، وبينها وبين الآخرين تتناول، بالضبط، هذه العناصر. ففي العراق تجسد الفعل الامبراطوري كاملاً. وفي العراق أيضاً ظهرت الثغرات التي يقود اليها الانكار. وكان يمكن لهذه السجالات ألا تندلع لولا التوظيف العالي في المغامرة العراقية وهو توظيف يطال اعادة صياغة العلاقة بين المركز الامبراطوري وبين العالم كله والمؤسسات التي استقر عليها منذ عقود.
ليس صدفة، والحالة هذه، ان يدعو اميركيون (وغيرهم) حكومتهم الى توضيح المدة التي تعتقدها ضرورية للبقاء في العراق. لقد قيل، مرة، ان الولايات المتحدة ستحارب ثم تجري انتخابات ثم تنسحب. وكان القصد الايحاء انها ستغادر سريعاً. وقيل، مرة اخرى، ان سنتين هي الحد الأدنى المطلوب. وذهب البعض الى الحديث عن عقد كامل، واقترح سناتور، قبل يومين، مدة خمس سنوات مرفقة ببرنامج واضح. ويقال ان كارل روف، مدير الحملة الانتخابية لجورج بوش، لا يفكر في الأمر إلا من زاوية التأثير على حظوظ الولاية الثانية.
وليس صدفة، ايضاً، ان يحضر موضوع الكلفة المادية والبشرية. فعندما يتحدث بول بريمر عن عشرات مليارات الدولارات الواجب انفاقها يُخرج أميركيون كثيرون آلة الحساب: كم يمكن التعويض عن هذا الانفاق بالنفط وبفتح العراق أمام الشركات الاميركية؟ كم يبلغ عجز الموازنة وكيف سيزداد؟ كيف سيمكن تمويل برامج اجتماعية؟ هل في الامكان الدفاع عن الاقتطاعات الضريبية الكبيرة والمنحازة للأغنياء التي أقدمت عليها الادارة؟
وليس صدفة، أخيراً، ان تعلن واشنطن عن عودة قريبة الى مجلس الأمن، فهي تحتاج الى شركاء يتحملون معها قسطاً من الأعباء المالية والبشرية. والوجه الآخر لذلك، وأمام استمرار الاوضاع المتدهورة في العراق، هو البحث في سبل تعزيز الدور الذي يفترض بالعراقيين أنفسهم ان يلعبوه سواء عبر مجلس الحكم، أو الحكومة، أو الادارة المحلية، أو حتى، الميليشيا.
والواضح من هذه العناوين ان الادارة تحاول امتصاص الآثار السلبية للانكار الذي تمارسه حيال واقعها الامبراطوري. وهي اذ
تفعل ذلك فانها تسعى الى انقاذ جوهر »التعريف الكلاسيكي للامبراطورية« ولو قادها ذلك الى »السماح« لآخرين بمقاسمتها تحمل الاعباء!
تفعل واشنطن ذلك مضطرة. ما تفعله ليس الانتقال من »امبراطورية في حالة انكار« (أي من امبراطورية ذات صفة استثنائية) الى »دولة قائدة لجهد تعددي يحترم المؤسسات والمواثيق الدولية«. كلا. انها، فقط، تتحول الى »امبراطورية عادية« ولو انها لا تملك استثناء آخر سوى انها الأقوى على مر التاريخ والمتحررة من أي منافسة.
وهي تفعله مضطرة لأن ما استقرت عليه بعد حوالى عقد ونصف من انتهاء الحرب الباردة يلزمها بذلك. فلقد طوّرت، خلال هذه الفترة، وعياً لموقعها ودورها، واعادت بناء معتقداتها ومؤسساتها الامنية، وقدمت تعريفات جديدة للمخاطر والتهديدات والتحديات التي تواجهها. قادها ذلك الى التراجع عن نظرية تأمين القدرة على خوض حربين اقليميتين كبيرتين (العراق وكوريا)، أوصلها الى نظرية جديدة باسم »الصدمة والترويع«.
لم يكن هذا اسم الحرب على العراق. انه الاسم المعطى لوظيفة الجيش الأميركي في القرن الحادي والعشرين. فلقد اعيد بناء القوات المسلحة من أجل ان تخوض حرباً بسرعة وتكسبها بسرعة: تخفيف العديد، زيادة الاعتماد على التكنولوجيا المتقدمة والأسلحة الذكية، تعزيز وسائل النقل والانتشار، تطوير أجهزة التشويش، الرهان على اصابة العدو بشلل، تأمين التفوق الكاسح في المعلومات، السيطرة المعرفية على مسرح العمليات. باتت الخطة هي التدمير السريع وغير المكلف لقوات الخصم على ان يحصل ذلك من بعيد وقبل التماس الجسدي.
»الصدمة والترويع« تعني الغاء قدرة العدو على القيادة وتأمين التواصل اللوجستي، وتقطيع اوصال قواته وشبكة اتصالاتها وانزال رعب مرفق بتدمير انتقائي يزيل أي حاجز أمام الدور التقليدي (المحدود) للقوات البرية التي بات يفترض فيها ان تحتل أرضاً خالية من مقاومة.
انها عمليات اغارة خاطفة يقوم بها عشرات الآلاف وينهونها تاركين وراءهم اثراً خفيفاً.
كانت هذه هي النظرية التي استقر عليها اليمين الجمهوري عند وصوله الى السلطة (مرفقة بحماية فضائية للأرض الوطنية من هجوم غير تقليدي). كانت »نافعة« قبل 11 أيلول. وربما استمرت نافعة بعده خاصة اذا كان القصد توجيه ضربات استباقية لاعداء محتملين حسب »عقيدة بوش«، لكنها لم تعد نافعة اطلاقاً لأنها صيغت في وقت كان الجمهوريون يسخرون من اهتمام الديموقراطيين ب»بناء الأمم« في حين بات شعارهم ليس »بناء الأمم« في افغانستان والعراق وانما اعادة تشكيل المجتمعات العربية والاسلامية كلها. لم تعد نافعة لانها، تعريفاً، تجعل الحرب سهلة ولكنها لا تقدم جواباً واحداً على أسئلة ما بعد الحرب. لا تسلح أصحابها بما يمكنهم من ادارة شعوب قرروا »صدم وترويع« جيشها على ان يهتموا، لاحقاً، بتأمين المياه والكهرباء لها ناهيك بتنظيم السير!
لقد ادخلت الادارة انعطافة جذرية على هدف الحرب من دون ان تمتلك ادوات التعاطي مع نتائج ذلك. وما نشهده في افغانستان، ولكن خاصة في العراق، هو نتيجة طبيعية لهذه الثغرة: يتقن الجيش الاميركي أبجدية الحرب ولكنه لا يعرف ألف باء السلام. فكيف اذا استمر الشعب العراقي موزعاً بين مقاومة عنفية وحياد سلبي. ان »الصدمة والترويع« تقتضي تجاوباً نشيطاً من »الشعوب« حتى يصبح ممكناً تحويل الحرب الى اعادة بناء للأمة والمجتمع والدولة. ولقد كان هذا هو الرهان في العراق. رهان المحافظين الجدد البارعين في انكار الواقع الامبراطوري تحت عنوان ان ما تفعله الولايات المتحدة ليس اكثر من نشر عدوى الخير الذي خصها الله به. لقد فشل هذا الرهان لانه لا يقوم على الانكار الاخلاقي للواقع الامبراطوري بل لانه لم يكن يدرك ان المهمة الاصعب هي، بالضبط، بعد »الصدمة والترويع«.
لا يوفر الوضع الدولي الراهن، ولا الوضع العربي، شرطاً لكسر النزعة الامبراطورية الاميركية. غير انه، بالتأكيد، قادر على جعلها اكثر تواضعاً. واكثر تواضعاً تعني هنا إرغامها على الاعتراف بأنها... امبراطورية.

2/9/2003

رجل من ورق 19/08/2008 22:05

عودة إلى »نظرية المؤامرة«



بعد تفجيرات 11 أيلول سادت المنطقة العربية تفسيرات عديدة. من قائل إن العملية مدبرة من جانب »الصهيونية العالمية« بدليل غياب آلاف الموظفين اليهود عن مبنى مركز التجارة. ومن قائل إن أجهزة أميركية معينة سهلت لإرهابيين الأمر لغايات في نفسها داخلية وخارجية. ومن قائل إن مخابرات تملك خبرات هائلة استخدمت مجهولين للثأر من الولايات المتحدة. ومن قائل إنه في حال كان تنظيم »القاعدة« هو الفاعل فذلك لا يعدو كونه تواطؤاً بين أسامة بن لادن وأرباب عمله السابقين.
ويمكن لأي استفتاء للرأي اليوم ان يظهر وجود نسبة عالية بين العرب والمسلمين ترفض نسبة التفجيرات إلى جهة معنية فعلاً بالصراع ضد الولايات المتحدة. وثمة مسؤولون عرب يمتنعون، عند الكتابة أو التصريح، الجزم في هوية الجهة المسؤولة.
لقد شكلت هذه الروايات مجالاً خصباً للحديث عن الوعي الخرافي عند العرب، وعن تعلّقهم بنظرية المؤامرة، وعن ميولهم الطفولية إلى انكار مسؤوليتهم. قيل الكثير عن الخلل في العلاقة مع العالم، وعن العجز عن فهمه، وعن إدارة الظهر له، وعن الامتناع عن رؤية حقائق دامغة لا تترك مجالاً للشك.
ولما انبرى بن لادن ليتبنّى، ولو بشكل موارب، العمليات استمر الاصرار، ولو بعناد أقل، على ان الحقيقة في مكان آخر. وكذلك ازدادت الشبهات في الدور الذي يلعبه هذا الرجل وتعززت من رفض واسع للتصديق بأن أميركا وجبروتها عاجزة عن وضع اليد عليه.
ان اندفاع قطاعات شعبية واسعة لتبني »نظرية المؤامرة« يستحق وقفة لا تكتفي بإدانة متعالية تلغي أي محاولة للفهم.
صحيح ان التعلق بهذه الروايات يخالف العقلانية الباردة، ولكن الصحيح، أيضاً، ان التدقيق فيها، والقراءة بين سطورها، يقودان إلى اكتشاف رسالة أخرى تحاول هذه »الخرافات«، بتلعثم، قولها.
لقد استشعرت هذه القطاعات ان التفجيرات لن تصبّ في مصلحتها، وانها ستلحق أذى بقضاياها، وحاولت، عبر التلفيقات المشار إلى بعضها، التبرؤ منها ونسبتها إلى خصومها. وبما ان هذه المشاعر ليست صافية، إذ تداخلها مواقف عدائية من العداء الأميركي للعرب، فإن النتيجة كانت خليطاً عجيباً من الشماتة والانكار وعدم الاستقرار على رأي.
***
تنشر الزميلة »الشرق الأوسط«، منذ يومين، تلخيصاً لكتاب عنوانه: »استراتيجية القاعدة... الأخطاء والأخطار«. واضع الكتاب هو عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية المصرية عصام دربالة. والجماعة، كما هو معروف، من التنظيمات الاصولية الراديكالية التي مارست العمل المسلح العشوائي قبل ان تعلن مبادرة لوقف النار لم تُخرِج قادتها، ومنهم دربالة، من السجون. ولقد تميزت، في الأسابيع الأخيرة، بإدانة تفجيرات الرياض والدار البيضاء المنسوبة إلى »القاعدة«.
جاء في الكتاب، نقلاً عن »الشرق الأوسط«: »ان استناد القاعدة على سلبية الاستراتيجية الأميركية تجاه العالم الإسلامي وقضاياه لتبرير خيارها الاستراتيجي لا يلح الاحتجاج به أو الاستناد إليه، لأن استراتيجية القاعدة هي، في الحقيقة، أهم عامل أسهم في تسريع وصياغة تلك الاستراتيجية الأميركية السلبية، ولأن استراتيجية القاعدة أهدرت الفرصة السانحة كي تستفيد من معطيات الوضع الدولي«... يضيف الكتاب: »فالقاعدة عندما صاغت استراتيجيتها بإشعال مواجهة وحرب على أساس ديني لم يكن ذلك في مواجهة حرب صليبية معلنة تجري على قدم وساق كما يدعون. ولكن سياسة القاعدة هذه أسهمت في تعزيز التيارات الصليبية والمعادية للإسلام في أميركا والغرب بما جعل صوت دعاة الحرب الشاملة على الإسلام أكثر حضوراً وحظوظاً«.
يستطرد الكاتب في مناقشة »القاعدة« وأفكارها وبرامجها وعملياتها ويستعرض الاضرار الجسيمة التي خلّفتها خاصة لجهة توسيع جبهة الاعداء وتأليبهم وعزل المسلمين. والخلاصة شبه المعلنة، وهي مهمة لأنها صادرة عن هذا الطرف بالتحديد، هي ان »القاعدة« تلعب بين يدي التطرف الأميركي. لا يتهمها بذلك، ولا يتبنى »نظرية المؤامرة«، ولكنه ينبهها إلى ذلك ويلقي ضوءاً مختلفاً على »نظرية المؤامرة«.
***
مايكل ليدين واحد من النواة الصلبة لمنظري »المحافظين الجدد« في الولايات المتحدة الأميركية. لا يأتمر البيت الأبيض بأمره طبعاً ولكن ذلك لا يلغي ان الكتلة التي تشاركه أفكاره تحتل موقعاً مميزاً داخل الإدارة وانها تتباهى بامتلاكها، دون سائر الأميركيين، استراتيجية رد على 11 أيلول.
لا ضرورة لهذا التباهي لأن الاستراتيجية المقدمة بصفتها الرد على 11 أيلول كانت جاهزة قبل ذلك بسنوات!
يرى ليدين ان لا قيمة لأي قائد لا يحارب. الحرب، في رأيه، قاعدة السياسة الخارجية لأنها تنقذ الولايات المتحدة من »خطر السلام«. السلام »حلم بشع« لأنه يخفف الانضباط، ويسبب الاسترخاء، ويشجع الغرائز المنحطة، ويقود إلى اضعاف الدولة.
ولا بأس من اللجوء إلى الكذب تمهيداً للحرب. إن خديعة الاعداء شرط مركزي لبقاء الأمة الأميركية وإنجاح مشاريعها الكبرى. والتعبئة الدينية هي الأنجح والأقدر على الحشد. فالجيوش المتشكلة من الغوغاء يجب إلهامها وتحميسها وأدلجتها والدين هو القادر وحده على ذلك لأنه يوحي بوجود ثمن راقٍ بديل التضحية بالحياة.
يستطيع ليدين ان يدّعي نبوءة. ففي 1999 تمنى »الحظ« للأميركيين. والحظ هو »ان احداثاً خارجية مفاجئة يمكنها بعون الهي ايقاظنا من السبات، واثبات الحاجة إلى تحول جدي تماماً كما فعل الهجوم الياباني التدميري في بيرل هاربور عام 1941. انه الهجوم الذي دفع الولايات المتحدة إلى مغادرة أحلامها الوردية عن الحياد الدائم«. ولقد استعاد أصحاب »مشروع القرن الأميركي« (أي ليدين وأصدقاؤه) مثال بيرل هاربور ليتمنوا حصول ما يشجع أميركا على دور أكبر لجهة السيطرة على العالم وقطع الطريق على أي منافس محتمل. قيل هذا الكلام قبل 11 أيلول.
ولعل خير ما يمثل تفكير ليدين العبارة الواردة في كتاب له عن الحرب على الإرهاب. يقول: »يجب عليهم مهاجمتنا كي يستمروا على قيد الحياة، تماماً كما يجب علينا تدميرهم لنصرة رسالتنا التاريخية«.
إن اعتداءات موضعية على الولايات المتحدة هي مطلب من جانب الغلاة الأميركيين لأن ذلك يجعل »خصماً« معيناً جزءاً من لعبة تتجاوزه كثيراً.
***
لا يصعب اكتشاف التلاقي بين الجماعة الإسلامية المصرية وبين مايكل ليدين في تقييم نوع العنف الذي تمارسه »القاعدة«. ولا يصعب، بالتالي، إلقاء نظرة أكثر تفهماً على »نظرية المؤامرة« التي قد تصبح دليل حكمة شعبية مصاغة بلغة خرافية.
المهم في ما تقدم، والمثال العراقي حاضر، وكذلك المثال الفلسطيني، التوقف ملياً عند تقييم عنف يمارس ضد الولايات المتحدة (وضد إسرائيل). ليست هذه دعوة إلى الاستغناء عن المقاومة، بما فيها المسلحة. ولكنها دعوة إلى التمييز بين مقاومة يمكن لها ان تكون جزءاً من منظومة التبرير الهجومي الأصلي، وبين مقاومة تعرف ان تكسر هذه الحلقة المفرغة حتى لا تكون مضرة حيث تريد لنفسها العكس.

8/8/2003

رجل من ورق 19/08/2008 22:06

اختبارات ذكاء



كريستيان وسترمان واليستير كامبل. الأول موظف استخباراتي في وزارة الخارجية الأميركية. الثاني مستشار مقرّب جداً من رئيس الحكومة البريطانية. الأول اعترف بأنه خضع إلى ضغوطات لتعظيم مخاطر الترسانة العراقية من أسلحة الدمار الشامل. الثاني »اعتذر« لأنه ارتكب خطأين: سرقة »تقرير« أعده أحد الطلاب ونسبته إلى الأجهزة البريطانية، أولاً، وثانياً، سوء صياغة متعمّد.
في ما يلي ارتكابات اضطر المسؤولون الأميركيون والبريطانيون إليها من أجل الدفاع عن ادعاءاتهم. إنها، باختصار، ارتكابات تحتقر الذكاء.
أولاً قيل إن أبرز دليل على وجود أسلحة دمار شامل في العراق هو أن المفتشين الدوليين لم يجدوها. بما يعني أنهم في حال وجدوها فإنهم يكونون يدللون على عدم وجودها. وخلاصة الأمر أن هذه الأسلحة موجودة لأن هناك، في واشنطن ولندن، من قرّر ذلك.
ثانياً إن الصعوبة التي صادفها المفتشون في العثور على أسلحة دمار شامل، وهي صعوبة بالغة طالما أنهم لم يجدوها، تحسم في أن الأمر خطير جداً. كيف؟ لو لم تكن الترسانة فتاكة إلى أبعد حد لكان النظام تهاون بعض الشيء في إخفائها بما يمكّن مفتشين وخبراء من أن يعثروا عليها. إن فقدانها، والحالة هذه، ليس معناه وجودها فحسب، بل، أيضاً، خطرها. وهو، أي الخطر، داهم طالما أنه قادر على إبادة البشرية بسرعة. إن 45 دقيقة تكفي، كان يقول طوني بلير.
ثالثاً إذا ثبت أن الأسلحة مختفية فهذا يعني أن صدام حسين دمرها قبل لحظات من اندلاع الحرب. لو كان دمرها قبل الحرب بفترة معقولة كانت مصلحته إرشاد المفتشين إلى أمكنة ذلك وتجنّب المواجهة. كلا، يفترض، حسب دونالد رامسفيلد، أن الرئيس العراقي شرع في عملية التدمير والصواريخ تنهال عليه. يعني ذلك أن صدام حسين، كحقوقي مميّز، أراد، بفعلته هذه، حرمان الولايات المتحدة وبريطانيا، لاحقاً، من حجة الحرب. و»لاحقاً«، هنا، تشمله مع نظامه. ربما كان التفسير الآخر أن صدام حسين الذي أدرك أن جيوش الاحتلال ستعثر على ما خبّأه أراد أن يتجنّب دخول التاريخ بصفته شخصاً كذب ذات مرة على هانس بليكس. إن في الأمر حرصاً على السمعة لافتاً للنظر.رابعاً من اختراعات دونالد رامسفيلد الأخيرة أن أميركا وبريطانيا لم تكونا وحيدتين في الجزم بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل. هذه نقطة لصالحه لولا أنه يستخدمها لتبرئة بلاده. غير أن رامسفيلد لا يكون رامسفيلد إذا لم يذهب أبعد. فهو يكاد يقول إنه أحسن الكذب إلى حد جعل منه حقيقة معمّمة الأمر الذي يعفيه من المساءلة خاصة إذا جاءت من دول شاركت في استبطان الادعاءات وترويجها. إن الكذبة الكاملة تعفي صاحبها لأن اكتمالها يلغي إمكانية مقارنتها بصدق ما.
يكمل رامسفيلد، وهو بالمناسبة شاعر رديء، شاتماً الدول التي كانت تصدق الكذبة لأنها رفضت الذهاب إلى الحرب حتى وهي مصدقة أن بغداد خطيرة جداً. أي أنه يحوّل الكذب إلى حجة له لا عليه ويعطيه، بعد انكشافه، مفعولاً رجعياً، أي أنه يحوّله سبباً إلى محاكمة المشاركين فيه لامتناعهم عن التصرف تأسيساً على ذلك. وهكذا، وإذا أخذنا فرنسا مثلاً، نصبح أمام الوضع التالي: بما أن فرنسا كانت طرفاً في الكذبة فلقد كان عليها أن تكون طرفاً في الحرب، ولو أنها كانت طرفاً في الحرب لأمكن لها التأكد، ميدانياً، من صدق الكذبة. وبما أنها مشت نصف الطريق فقط فلقد أثبتت أنها »أوروبا القديمة« التي تلهث عاجزة عن اللحاق ببولندا، مثلاً، التي أرسلت جنودها ليكونوا شهوداً على أن حكومتهم خدعتهم.
خامساً صحيح أن هذه »الخزعبلات« صعبة. ولكن ما يسهلها هو أن الشعب الأميركي يصدق حتى لو لم يكذب عليه أحد. ليس هناك من يستطيع إقناع ربع الأميركيين بأن صدام حسين لم يستخدم أسلحة دمار شامل في الحرب الأخيرة. وهكذا فإذا فشلت عملية اكتشافها فلأنها فتكت بجيوش التحالف بما يؤكد صحة التوقعات السابقة ويبرّر القتال. ويتعزز هذا التبرير من أن نصف الأميركيين تقريباً لا يملك أدنى شك بمسؤولية صدام حسين عن تفجيرات 11 أيلول. لقد استمع المواطنون إلى رئيسهم يقول في خطاب »حال الاتحاد«: »تصوروا لو أن الإرهابيين التسعة عشر سلّحهم صدام حسين« بأسلحة الدمار... وحصلت هنا عملية »الترانسفير« إذ اقتنع الأميركيون من فرط الإمعان في التصور أن النظام العراقي اعتدى عليهم، وأنه يملك قدرة تدميرية، وأنه على صلة بالقاعدة. وتشكل هذه »الأقانيم« جوهر الاستراتيجية الوطنية القائمة على »الضربة الاستباقية« فكيف إذا كانت الضربة انتقامية واستباقية.
لا يعود غريباً، والحال هذه، أن يتساءل أميركي »لقد فهمنا سبب الحرب في العراق ونؤيدها ولكن ماذا يفعل أبناؤنا في... أفغانستان؟«.
سادساً أن الوقت الذي أمضاه عشرات آلاف الجنود الأميركيين والبريطانيين في العراق يفوق الوقت الذي أمضاه عشرات المفتشين الدوليين. وفوق ذلك تتمتع قوات الاحتلال بحق التجول والاستطلاع والاستجواب. وثمة مئات المسؤولين والخبراء والعلماء قيد الاعتقال. أما الوشاة فحدّث ولا حرج. ومع ذلك فإن الاحتلال يداري تهمة الكذب بدعوة الصبر. ولكن المشكلة هي أن هانس بليكس كان يواجه كل مرة يطلب فيها الصبر بتهمة الكذب، أو بما هو أقل منها.
سابعاً ثمة مباراة في الولايات المتحدة بين من يجد أفضل مخرج من الورطة. كان الفائز، حتى ما قبل أيام، صاحب نظرية »الضرورات البيروقراطية« بول وولفويتز الذي نسب »الفشل« إلى كون »الاستخبارات فناً أكثر منها علماً«. يبدو أن رئيس هيئة الأركان المشتركة ريتشارد مايرز تفوّق، مؤقتاً، عليه. ففي رأيه »أن معلومات الاستخبارات لا تعني أن الشيء حقيقي«! يعني ذلك أن المعلومات كانت متوافرة من دون أن يشترط ذلك أن الأسلحة تشاركها هذه الصفة.

26/6/2003

رجل من ورق 19/08/2008 22:06

بوش والعالم



ست محطات في ستة أيام. سيحتك جورج بوش بالعالم الخارجي في أقل من أسبوع أكثر ما فعل طيلة حياته كلها. سينتقل من بولندا إلى روسيا إلى فرنسا إلى مصر إلى الأردن إلى قطر. والواضح أنه لن يبحث في أي من هذه البلدان العلاقات الثنائية حصراً مع بلاده. إنها أمكنة يستعرض فيها قوة الولايات المتحدة، ويستخدمها من أجل مخاطبة العالم (والعرب بوجه خاص) متأملاً أن يرتد ذلك على الحملة الرئاسية التي سيباشر الإعداد لها.
إن جدول الزيارات، كما أعلن عنه، غني بالدلالات خاصة بالنسبة إلى رجل لم يُعرف عنه ولعه بالسياسة الخارجية.
اختار بولندا ليبدأ منها. سيقوم بغرض الزيارة إلى معسكر اعتقال نازي في محاولة واضحة للإيحاء أن الشر الذي ساعدت الولايات المتحدة على التخلص منه انبعث مجدداً، في العراق، فكانت جاهزة للقضاء عليه. غير أن الخطوة اللافتة هي اختياره هذا البلد بالذات لإلقاء خطاب منتظر عن العلاقات عبر الأطلسي. سيستفيد من دلالة المكان والتاريخ. المكان هو بولندا الممثلة الأكثر بروزاً لما يسمّى »أوروبا الجديدة«، أي أوروبا التي تغلّب »الأطلسية« على كل ما عداها. صحيح أن الثقافة أوروبية وأن الاقتصاد مرتبط بألمانيا وفرنسا ولكن الصحيح، أيضاً، أن طلب الحماية يتوجه إلى الحليف البعيد الذي لا يمثل الخطر التاريخي الألماني، ولا الخطر الحديث الروسي السوفياتي. يُقال عن بولندا إنه بلد يملك »فائضاً من التاريخ«. إن هذا الفائض الخاص هو الذي يتحكّم بالاختيارات وهو الذي استدعى أن يقول بوش، من هذا المكان بالضبط، رؤيته لكيفية تجديد الروابط مع الحلفاء. وبمجرد أن يكون الكلام من بولندا يكون له وقع مميّز لجهة توضيح الميول الأميركية الجديدة.
عند الانتقال إلى روسيا سيمارس بوش التطبيق للشق الأول من نظرية كوندوليسا رايس: المسامحة. يريد ألا يخسر بوتين بعدما نظر في عينيه ملياً واكتشف التقارب معه وتأكد من أنه لم يكذب عليه في قصة الصليب الشهيرة ولا في كيفية تربية البنات! ستنجح الزيارة (برغم تباين حول إيران) لأنها حاجة للرئيسين ولبوتين أولاً. فالروسي لا يسعه أن يرفض الغفران الذي يحمله الأميركي. وإذا كانت سان بطرسبورغ ستكون عاصمة العالم لأيام فإن استعراض بوش فيها هدفه إفهام هذا العالم أنه تغيّر إلى حد لم يعد يستدعي التحالفات الثابتة لعهد مضى. سيحاول، بتحركه، أن يفهم الضيوف الغربيين أن الحاجة إليهم أقل طالما أن سان بطرسبورغ كانت... ليننغراد! وكيف لا تقل الحاجة إليهم والعقيدة الرسمية الأميركية »تحظر« بروز قوة أو تحالف قوي يهدد الأرجحية الكاسحة.
في فرنسا (إيفيان) قد نشهد تطبيقاً للشقين الثاني والثالث من نظرية رايس: تجاهل ألمانيا ومعاقبة فرنسا. واشنطن تعتبر أن برلين كانت ضد الحرب على العراق، من حيث المبدأ، أما باريس فكانت ضد الولايات المتحدة. سيقابل بوش شرودر متسلحاً بزيارتيه السابقتين إلى بولندا، ضحية ألمانيا، وإلى روسيا الخطيرة على ألمانيا. فأميركا حرّرت الأولى وتحميها، وهي أضعفت الاتحاد السوفياتي ما سمح بتوحيد ألمانيا. ولعل المستشار الألماني سيكتفي من القمة بألا يبالغ بوش في تجاهله. أما شيراك فقضية أخرى. إنه المضيف ولكن السيد الفعلي غيره. سيسعى إلى معرفة الأثر الذي تركه الجهد الفرنسي للتأقلم وسيفهم، على الأرجح، أن المسافة المطلوب قطعها لا تزال طويلة. سيجرّب أن يلجأ إلى مواضيع يريد لها أن تشكّل جدول أعمال الدول الصناعية الأكثر تقدماً: كيفية إطلاق الاقتصاد العالمي،
مكافحة السيدا، مساعدة أفريقيا. وسيستفيد من وجود مدعوين أجانب من خارج النادي من أجل الإيحاء بأن القضايا الملحة هي التي تتطلب تعاوناً واسعاً ومتساوياً بين دول العالم وتكتلاته الكبرى. إلا أن بوش سيركز على ما يراه حاسماً في توكيد الغلبة: العراق، الإرهاب، أسلحة الدمار... ولعل رسالته إلى القمة وصلت قبله. اختصر مشاركته إلى يوم واحد فقط. سيصل متسلحاً على الآخرين بالمحطتين السابقتين ويغادر قوياً ليتوجّه، باسم الآخرين، إلى المحطتين التاليتين.
في مصر (شرم الشيخ) سيصل السلوك الإمبراطوري إلى ذروته. القول إنها قمة عربية أميركية فيه تعزية للعرب. إن الاجتماع درس في الإملاء. ثمة لائحة مطالب غير قابلة لنقاش جدي. فبوش يراهن على السمعة التي كسبها بأنه سريع اللجوء إلى القوة، وكذلك على سمعة محاوريه بأنهم سريعو اللجوء إلى التجاوب. ستتحكّم بالاجتماع ثلاثة أشباح. الأول هو شبح صدام حسين، الثاني شبح ياسر عرفات المبعد، الثالث شبح كلينتون. لقد سبق للأخير أن عقد قمة في شرم الشيخ ل»مكافحة الإرهاب« ولدعم شمعون بيريز. لم تنجح في تحقيق غاياتها فسقط بيريز وفكّت المقاومة اللبنانية حصاراً كان يُراد فرضه. الظروف اليوم مختلفة وبوش، إذ يرفض أمراً، فإنه يرفض أن يكون مثل كلينتون. يكره نموذج سلفه إن لجهة الفشل أو لجهة التورط الشخصي في تفاصيل أي تسوية. يعتبر القمة اختباراً لنفوذه ويريد أن يرى ما إذا كان يُطاع إن تحدّث.
عند الوصول إلى الأردن (العقبة) سيكون بوش محكوماً بهمّ وحيد: الإيحاء بأن القمة ليست الأولى وإنما الأولى و... الأخيرة. ويستطيع أن يعتبر أن مجرد التهويل بذلك أعطى نتائج بحيث سارع أرييل شارون ومحمود عباس إلى استقباله كل بباقة زهور. وليس من المستبعد، والحالة هذه، أن تكرر المفاوضات الراهنة نموذج »اتفاق أوسلو«: سهولة نسبية في التوافق على قضايا المرحلة الانتقالية واصطدام بتعقيدات قضايا الحل النهائي. علماً أنه من الجائز توقّع صعوبات جدية في المهمات المستعجلة. فأبو مازن لا يستطيع احتمال ما يتوافق بوش وشارون على مطالبته به، كما أنه لا يرتاح كثيراً إلى الدخول في مواجهة مع الإثنين معاً. بعد اجتماع العقبة سيبدأ عهد أبو مازن جدياً وسيتضح ما إذا كان ما بدأ هو، في الواقع، العد التنازلي.
ينهي بوش جولته في قطر (هل سيمتنع عن زيارة العراق أم أنها مفاجأة الرحلة؟). إن واجبه شكر جنوده على الحرب التي خاضوها وشحذ عزيمتهم لمواجهة ظروف صعبة. ولا يتناول الشكر »تحرير« العراق فحسب طالما أن الحرب سمحت للجولة التي بدأت في بولندا أن تكون »ظافرة« إلى هذا الحد. ومن غير المستبعد، إذا تطرّق الأمر إلى إعادة انتشار القوات الأميركية، أن نستمع إلى الرئيس الأميركي يستعيد تصنيفات دونالد رامسفيلد ليميّز بين »عرب جدد«، قطر نموذجاً، وبين عرب عاربين قد يواجهون مصير صدام حسين أو ياسر عرفات، على الفرق الشاسع بين الرجلين والمصيرين.
إن نظرة سريعة إلى هذه الحلقات المتتابعة التي تضع بوش في مواجهة العالم والعرب تكشف أمراً نادر الحدوث في العلاقات الدولية. أن قادة سيكونون معه في روسيا وسينتقل بعضهم إلى فرنسا ثم إلى مصر، وبعض من في مصر سيتوجه إلى الأردن. نحن، إذاً، أمام مسرحية من ستة فصول يتغيّر فيها عدد من اللاعبين بين فصل وآخر ولكنها تدور كلها حول شخصية محورية تلاحقها الأضواء. وفي هذا الأمر وحده عبرة لمن يريد أن يعرف عن تقدير الرجل لنفسه ولموقع بلاده وللصلات المستقبلية بكل »الأقاليم« التي زارها.

31/5/2003

رجل من ورق 19/08/2008 22:07

النقاش الإمبريالي



بسقوط بغداد (بعد كابول) دخلت العلاقات العربية الأميركية مرحلة نوعية جديدة: الاستعمار المباشر.
وإذا كان البعض في واشنطن يزعم أن الأمر غريب على تراثه فإننا، من موقعنا، نعيش صدمة العودة إلى وضع كنا نعتقد أننا غادرناه منذ عقود.
إن المشهد العراقي الراهن مشهد امبريالي بامتياز: الانفراد، إبعاد الأمم المتحدة، الوجود العسكري، تقسيم البلد مناطق وتعيين ولاة أجانب، حق التقرير في العقود، الإشراف على الثروات الطبيعية، إعداد مناهج مدرسية، التصرف بالأموال المجمدة، ضبط التوازنات بين أبناء البلد... إلخ.
وينعكس هذا المشهد الكولونيالي تحولاً في طبيعة السجالات في المتروبول. لم تعد عناوين التدخلية أو الانعزالية، الانفراد أو العمل الجماعي، الاهتمام بآسيا أو بالشرق الأوسط، نهاية التاريخ أو صدام الحضارات، الأحادية القطبية أو التعددية، لم تعد هذه العناوين تشكل عصب النقاش في المركز الامبراطوري. إن السؤال المهيمن، اليوم، هو السؤال الامبريالي. وتعكس هيمنته قدرة جناح محدد (في الإدارة، ومراكز البحث، والإعلام...) على فرض أجندته. ويتشكل هذا الجناح من المحافظين الجدد التدخليين ورافضي الانضباط بقواعد النظام الدولي والداعين إلى »ثورة دائمة« المتحالفين مع دعاة »الامبريالية الرؤوفة« التي لا يجوز لها أن تخجل من نفسها ولا أن تتردد أمام حمل »عبء الرجل الأبيض«.
لم يكن لهذا الجناح أن يمارس نفوذاً بهذا الحجم لولا انحياز القوميين المتعجرفين إليه ديك تشيني، دونالد رامسفيلد... ، ولولا اعتناق جورج بوش لبعض أطروحاته وتخليه، بالتالي، بعد 11 أيلول، عن رفض »بناء الأمم« ودعوته السالفة إلى »سياسة خارجية متواضعة«.
القاعدة التي ينهض فوقها هذا التحالف تؤكد أن البقاء في العراق مديد، وأن العراق مجرد بداية من أجل تغيير المنطقة طوعاً أو تهديداً أو عنفاً. ويعني ذلك، عملياً، انفتاح مرحلة تاريخية يصعب تقدير مداها.
لا مبالغة في القول إن مواضيع النقاش المستجدة ترث ما سبقها وتعيد إنتاجه وتكاد تحلّ محله. ولا مبالغة، أيضاً، في التأكيد أن أطياف المشهد الأميركي كلها تساهم فيها.
ف»اليساري« (المؤيد للحرب) توماس فريدمان يصنّف العراق ولاية أميركية جديدة تضم 23 مليون نسمة ويدعو مواطنيه إلى التنبّه إلى »أننا تبنينا طفلة اسمها بغداد« بما يعني أن المسؤولية كبيرة عن تنشئتها أولاً، وعن توفير البيئة الصالحة لها أيضاً. واليميني الليكودي كاره الإسلام كدين، والمعيَّن من قبل بوش في لجنة للسلام (!)، دانيال بايبس (صديق العماد ميشال عون، بالمناسبة) يقترح خطة مديدة للعراق قوامها الإتيان إلى الحكم برجل قوي ذي ميول ديموقراطية مع إبقاء القواعد العسكرية الأميركية للدعم والمساندة!
ليس صعباً تأصيل هذا النقاش في أميركا. فلقد شكّلت الويلسونية، على الدوام، خياراً من خيارات السياسة الخارجية ونجحت في صد أي نزعة انعزالية.
ومع أنها انتقلت، اليوم، لتصبح بنداً في نهج أقصى اليمين، فإن ذلك لا يعدو استعادة لنظرية في »الامبريالية التقدمية« كانت رائجة في الولايات المتحدة منذ... قرن! وهكذا، بعد مئة سنة، نجد من يعود إلى هذه الأفكار المؤسَّسة على »الاستثناء الأميركي« والداعية إلى سياسات »انفرادية«.
لقد كان رونالد ريغان صاحب رأي في دور بلاده ضد »امبراطورية الشر«. ولطالما اعتبرت مادلين أولبرايت، بعد سقوط جدار برلين، أن »أميركا أمة لا غنى عنها، وأنها ترى أبعد لأنها أطول قامة«. وتحدث ريتشارد هاس عن »الشرطي المتردد« قبل أن يكتشف ونكتشف أن هذا الشرطي تحرّر قليلاً بعد انتهاء الثنائية القطبية وغادر تردّده نهائياً بعد 11 أيلول. ولقد كانت هذه التفجيرات مناسبة شجعت ماكس بوت (أحد مفكّري المحافظين الجدد) على الدعوة إلى وضع »الفضائل البربرية الحربية في خدمة المُثُل الأميركية العليا«.
لم يحصل أن تخلت الولايات المتحدة عن وعي نفسها بصفتها استثناء: سواء كان ذلك بصفتها »أرض ميعاد« أو بصفتها »صاحبة رسالة«. وها هي، في أفغانستان ثم العراق، تمارس هذه الرسالة حيال »خير أمة أُخرجت للناس«، ثم حيال دعاة »الرسالة الخالدة« المنسوبة إلى الأمة العربية.
لقد أكثر المسؤولون الأميركيون، وعلى رأسهم بوش، في الأشهر الأخيرة، الحديث عن »المهمة التمدينية« التي ستحملها بوارجهم إلى العالمين العربي والإسلامي. وأفاض كتّاب وخبراء ومؤرخون وصحافيون في استعراض »النماذج« واستحضار اليابان أو ألمانيا أو أوروبا الشرقية، وفتحوا سجلات التدخلات العسكرية حتى الأخيرة منها ونتائجها.
مال الرسميون إلى ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية من أجل تأكيد أن لا تناقض بين »الدبابات« و»الديموقراطية«. إلا أنهم جوبهوا باعتراضات عن التفاوت بين ألمانيا واليابان من جهة، والعراق من جهة ثانية (فضلاً عن التجانس أو التعدد العرقي والمذهبي). ويُعتبر ستانلي كورتز أحد أبرز المعترضين. وهو يعتبر أن على واشنطن الاتعاظ، في تجربتها الامبريالية العراقية، بتجربة بريطانيا في الهند التي دامت قرنين ونيفاً!
كتب كورتز عن »الامبريالية الديموقراطية« ملاحظاً أن خطين بريطانيين تواجها في الهند: خط احترام المؤسسات المحلية والتقاليد والدين، وخط كسر المحرّمات واستيلاد سند محلي واعتبار السكان الأصليين »لوحاً أبيض« يكتب المستعمِر فوقه ما يشاء. ونصح الإدارة باعتماد سياسة لا تقوم على السلطة المباشرة ولكن لا تعتمد كثيراً على العراقيين مع ضرورة التمييز بينهم وبين »العائدين« الذين يمكنهم لعب دور. وخلص إلى أن الانتخابات خطرة الآن لأن الجو غير مؤات ولذا لا بد من تقطيع الوقت ب»حكومة تمثيلية« على امتداد »مرحلة امبريالية غير ديموقراطية« في انتظار مساعدة العراقيين على بلوغ سن الرشد. واستعرض السجال الأميركي بين من يدعو إلى الاعتماد على النخب العربية التقليدية ومن يريد »دمقرطة« سريعة مع ميل من جانبه إلى المواءمة بين النهجين وعدم الخشية من إشهار المشروع الاستعماري الذي سيجد في ديكتاتورية النظام السابق تبريراً أخلاقياً لنفسه. يفاخر كورتز ب»أن لا ديموقراطية من دون حضورنا«. وبما »أننا أصحاب مصلحة فلنأخذ وقتنا«.
قد لا يكون روبرت كوبر أميركياً ولكنه ملهِم المحافظين الجدد. فلقد عبر هؤلاء خط التمايز الأيديولوجي معه من أجل تبني أطروحته عن »الامبريالية الليبرالية«. الرجل دبلوماسي بريطاني مقرّب جداً من طوني بلير و»الطريق الثالث«. ويقدم نموذجاً عمّا يمكن أن تصل إليه »الاشتراكية الديموقراطية« في تعاملها المنحطّ مع العالم الثالث.
يقسّم كوبر الدول إلى ما قبل حديثة (متعثرة) وحديثة (مكتملة ولكنها تعترف بالصراعات الجيواستراتيجية) وما بعد حديثة (أوروبا التي ألغت الحروب البينية من قاموسها). يعتبر الصنف الأول خطراً على الثالث. يفلسف المعايير المزدوجة إذ إن قواعد السلوك الممكنة بين الدول ما بعد الحديثة لا تنفع مع دول تعيش شريعة الغاب والواجب معاملتها وفق أسس لا تلغي الحرب ولا الخداع ولا الكذب. يستنتج أن الحل المنطقي هو العودة إلى الكولونيالية كما في القرن التاسع عشر. يؤكد أن شروط الحل الامبريالي متوفرة وأن الطلب موجود في الدول المتخلفة، ولكن العرض ضعيف من جانب الامبرياليين المحتملين. وينتهي داعياً إلى »امبريالية ما بعد حديثة«، أي »امبريالية ليبرالية« تقيم وزناً ما لحقوق الإنسان والقيم الكونية.
تحيلنا هذه الكتابات إلى ما نقرأه يومياً عن خلافات بين وزارتي الدفاع والخارجية في الولايات المتحدة: ارتباك في إدارة العراق، تباين في التعيينات، عدم الحسم في الانتخابات، صلات بعراقيي الداخل والخارج، أيّ نوع من العلاقة مع الإسلام والتقاليد المحلية، دور الأجانب في الإدارة، تفضيل العملاء الخالصين أم شخصيات ذات صلة بالبيئة الإقليمية... ليست هذه الخلافات تكتيكية، ولا هي نابعة من اختلاف مزاج كولن باول عن مزاج دونالد رامسفيلد، ولا عن صراعات نفوذ شخصية. نحن أمام نقاشات استراتيجية حول نوع الامبريالية التي ستمارَس... علينا. وهي نقاشات ينتمي أصحابها إلى مدارس فكرية، وإلى مراجعات حصلت للحقبة الاستعمارية، وإلى تقديرات لمآل الحركات الاستقلالية. ويمكن أن نزيد، في ما يخصنا، أنها تنتمي، أيضاً، إلى الموقع المراد للاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي أن يشغله وإلى دروس ذلك.
والملاحَظ أن الأميركي أو البريطاني المعترض على سياسة بلاده شرع يحاور، هو الآخر، من موقع الاعتراف بأن السؤال الامبريالي هو المطروح. فأناتولي ليفين لا يفعل شيئاً آخر حين يحذر من »استنساخ« ما حصل في القرن التاسع عشر، ويميّز بين »امبريالية وديعة« قد تمارسها أميركا وأخرى »استيطانية فظة« تعيشها إسرائيل. وهو إذ يطرح تساؤلات عن رد الفعل الشعبي الأميركي، وعن موقع بريطانيا في المنظومة الجديدة، فإنه يبقى ميالاً إلى توقع رد فعل محلي ضد »المهمة التمدينية« المزعومة.
* * *
يتضح من هذا الاستعراض السريع للمحطة الراهنة للنقاشات الأميركية (والبريطانية)، أن العرب هم الموضوع. وليس صعباً اكتشاف كم أن العرب هم، أيضاً، أبرز الغائبين. نحن لا زلنا في »أين صدام« و»من أسقط بغداد«، في حين أن التجاهل كامل لصخب يبحث عن أفضل صياغة، من وجهة نظر المتروبول، لأدق تفاصيل حياتنا. هل يصدق علينا تقدير كوبر من أننا فشلنا إلى حد أننا بتنا نشكّل حالة »تطلُّب استعماري«؟ سواء كان الجواب نعم أو لا، فإن الاستعمار موجود معلناً افتتاح حقبة، ومن دون أن يستثير، حتى الآن، ولو الفضول في التعرّف إلى خياراته المتفاوتة في تقرير مصائرنا.

6/5/2003

ooopss 20/08/2008 00:03

تم التثبيت لمدة تكفي للاطلاع على المقالات
:D

رجل من ورق 20/08/2008 21:41

شكرا اوبس وبنكمل:

أفكار مجهولة المصدر



كيف يخطر في بال معارضين عراقيين سابقين مخاطبة الأميركيين بالشعار التالي: لقد حرّرتمونا، شكراً، ارحلوا؟ هذه جملة مجهولة المصدر والسياق. لا معنى لها. ومع ذلك فإنها تتردد كثيراً. هل هي ناجمة عن نقص في الوعي السياسي؟ وفي هذه الحالة يكون التقدير صائباً في ما يخص »ديكتاتورية النظام« ولكنه يكون صبيانياً في ما يخص الدوافع الأميركية. ويمكنه، أيضاً، أن يكون تصديقاً حرفياً لادعاءات واشنطن عن »الخير« الذي أزاح »الشر« من دون أن تكون له مصلحة في ذلك إلا فعل الإزالة نفسه. فمن يقرأ تصريحات الرئيس جورج بوش عن نواياه حيال العراق لا يشك لحظة في أنه أكثر غيرية من الصليب الأحمر. وقد لا يؤثر في ذلك أن قواته كانت تصيب العشرات، في اللحظة نفسها تقريباً، في الفالوجة. إن »حرّرتمونا، شكراً، ارحلوا« قد تفسّر بأنها صيغة احتيالية وريثة لأطروحة »البلهاء المفيدين«: لا للحرب لا للديكتاتورية. وهي كذلك لجهة إيهام النفس بالقدرة على الربح في مجالين متضادين. وتكاد تشبه، أحياناً، أكذوبة السفارة الأميركية التي تدفع لأحد العملاء... الجزية. وبقدر من المبالغة، يمكن القول إن الله سخّر الجيوش البريطانية والأميركية لنصرة معارضين وبما أن »المكتوب« حصل بات تسليم الأمانة واجباً. وليس مستبعداً أن تكون العبارة تعويذة يُراد بها الجمع بين كراهية صدام حسين وإبلاغ بوش بعدم محبته. إنها نوع من حل لفظي لمشكلة نفسية.
كيف يخطر في بال راديكالي فلسطيني الاعتقاد بأنه قادر على إجلاء إسرائيل عن كامل الضفة والقطاع وانتزاع حق العودة من دون قيد أو شرط؟ وهذا الراديكالي هو، على الأرجح، إما أصولي أو متحدر من أصول يسارية. أي إنه، في الحالتين، يفترض فيه الاعتقاد بأنه جزء من معركة أوسع كثيراً من مجرد الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية.
يتناسى هذا الراديكالي تاريخ السجال »الوحدة طريق التحرير« أو »التحرير طريق الوحدة«. ومن حقه، ربما، أن يتناسى لأن أحداً لم يسجل، بحد أدنى من العقلانية، نتيجة هذا السجال. المهم أن وعياً رديئاً يأتي ليملأ هذا الفراغ. ففي خلفية شعار »انتفاضة حتى النصر« قلة إدراك لمعنى إسرائيل، وموقعها، ودورها، وخصوصية المقاومة الفلسطينية لاستعمار استيطاني هو فريد من نوعه لجهة التوازن الديموغرافي الذي يوجده، ولجهة استهدافاته التي تتجاوز أرض فلسطين.
غير أن الأخطر من ذلك هو أن »انتفاضة حتى النصر« هو ضوء أخضر لكل المتخلين العرب والمسلمين عن الانتقال من »التضامن الأخوي« مع الفلسطينيين إلى اكتشاف المصالح الفعلية الوطنية والقومية في خوض المواجهة. إن الشعار يميني حتى النخاع ويوظف لغة قطرية ثورية في خدمة تخاذل عام. ويمكن له، عند الممارسة، أن يقود إلى نهج عدمي يحوّل الشعب كله إلى »استشهادي« يتركز همّه في الثأر من الاحتلال لا في إجلائه.
إن التصرف وكأن احتلال العراق لا يغيّر شيئاً خطير. وهو لا يفعل، عملياً، سوى تعبيد الطريق أمام كل من يريد أن يذهب في استنتاجاته إلى الحد الأقصى... المعاكس. ويصح هذا التقدير، أكثر ما يصح، عندما يكون المتصرفون على هذا النحو ينتمون إلى تيارات تضع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في إطار أوسع، وتتنبّه إلى أن الخصم المباشر، هنا، هو جزء من معسكر يمتد نفوذه على العالم كله.
كيف يخطر في بال مسؤول سعودي الاعتقاد بأن الإعلان الأميركي عن إعادة انتشار القوات خارج المملكة لن يؤثر في العلاقة بين الدولتين؟ الفكرة تبشيرية بالكامل وترفض أن تواجه واقعاً مستجداً: لقد تحرّرت واشنطن مرتين من الرياض، عسكرياً ونفطياً. وكان لها، مع تفجيرات 11 أيلول، أن حسمت في لا جدوى الاستفادة الإيديولوجية.
ولن تتأخر الأيام في إثبات أن الإدارة الأميركية، صقورها تحديداً، تملك دفتر شروط تضغط من أجل تنفيذه. وإذا كانت بنود من هذا »الدفتر« أعلنت في الأشهر المنصرمة فإن الآتي أعظم ومن العبث التصرف وكأن شيئاً لم يحصل.
كيف يخطر في بال قطري أن يتحدث عن »تحالف« بين دولته وبين الولايات المتحدة الأميركية؟ يخطر.
كيف يخطر في بال مثقف عربي أن يعتبر نتيجة الحرب على العراق غير عادلة؟ نعم كانت الحرب ظالمة أما النتيجة فعادلة. وهي كذلك لأنها كافأت الأكثر استعداداً وعاقبت الأقل استعداداً. وعبثاً تعريف الثاني بأنه »النظام العراقي« وحده. إنه مجموع الجهد العربي العام المبذول منذ عقود إن لم يكن للنهوض فلوقف التدهور. لقد اعتقد البعض أن التاريخ سيساعد في تحويل الهزائم العربية الكمية إلى انتصار نوعي. غير أن أحداً لا يطيق هذا النوع من المزاح السمج. إن كل تفكير في درجة الظلم في هذه الحرب قاصر إذا لم يجرؤ على مواجهة معنى »عدالة النتائج«.
كيف يخطر لمناضل عضو في »المؤتمر العربي العام الثالث« أن يوافق على عبارة تقول: »إن الوحدة العربية، بصرف النظر عن الأشكال الدستورية التي يمكن أن تتخذها، هي اليوم ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، فالكيانات الكبيرة وحدها هي القادرة على التصدي للأنواء الدولية«. إن هذه »الكيانات الكبيرة« ليست في أمر اليوم. ولكن »التصدي« خيار لا بديل منه. فهل يمكن الارتهان إلى »ضرورة« وحدة تزداد ابتعاداً خاصة أن التهديدات تطال الكيانات القطرية.
تبدو العبارة فعل إيمان لا علاقة له بالواقع العياني. وتدل على أن الخطأ، ربما، هو أن يخطر في بال ساذج إمكانية أن تحصل المراجعة المطلوبة وأن تذهب إلى نهايتها.
هذه نماذج سريعة عن أنماط تفكير تنتمي إليها أطياف المشهد السياسي العربي. وهي تدل، موضوعة في سياق تاريخي، على أننا نعيش أفضل أيامنا لأننا، بعدة من هذا النوع، سنترحّم على يوم سقوط بغداد.

1/5/2003

رجل من ورق 20/08/2008 21:42

بناء ملف



بناء ملف
خبر من هنا. معلومة من هناك. عنوان في صحيفة. دراسة في مجلة. ندوة في مركز أبحاث. تحقيق على قناة تلفزيونية. يكفي المرء أن يفتح عينيه بعض الشيء حتى ينتبه إلى أن الولايات المتحدة ماضية في بناء ملف خاص ب»حزب الله«. ليس الحديث، هنا، عن المواقف الأميركية المعروفة من الحزب ولا عن القوانين التي تعامله كعدو على قاعدة أنه »تنظيم إرهابي ذو بُعد عالمي«. نحن أمام شيء آخر. أمام استعداد تدريجي لصدور »أمر عمليات«.
إن إعلام الحزب موضع رصد. لا لجهة ما يبث بل لجهة الهيئات والشركات والمصارف التي تتعامل معه. ما كُتب في هذا المجال »دسم« وهو سيتعرّض إلى توسيع. المكاتب التي أعلن عنها في واشنطن والموكل إليها تنظيم الحرب النفسية، وتعميم المعطيات بغض النظر عن دقتها »شغالة«. والواضح، هذه الأيام، أنها تركز على »الصلات المتعاظمة« بين الحزب وتنظيم »القاعدة« باعتبار ذلك يحدث نقلة في التعاطي الأميركي معه. ويتم، في هذا الإطار، التركيز على وجود عناصر قيادية من جماعة ابن لادن في إيران من أجل تمرير الفكرة القائلة بأن »فريق الدرجة الأولى في الإرهاب العالمي« (على حد وصف ريتشارد أرميتاج للحزب) آخذ في وراثة »القاعدة«، ولملمة شتاتها، وتسخيرها للعمل في خدمته.
ويحتل مقال جيسيكا سترن في »فورين أفيرز« مكاناً مميّزاً في هذا الجهد الأميركي لناحية المطبوعة التي نشرته، ووزنها، ولناحية أن صحيفة مثل »نيويورك تايمز« اعتبرت من واجبها المشاركة في نشره.
يكاد المقال يصف امتداداً أخطبوطياً للحزب بشكل يتماهى وجوده مع »الانتشار اللبناني« ويتجاوزه. وحيث لا يتم التصريح يجري الاكتفاء بالإيحاء على أساس أن كل امتداد ل»القاعدة« هو، عملياً، بيئة لعمل جنود السيد حسن نصر الله.
»إن المفاجئ تقول سترن والمقلق هو تنامي الدليل على أن التنظيم السنّي، »القاعدة«، بات يتعاون مع التنظيم الشيعي، »حزب الله«، المعتبر الأكثر تعقيداً بين المنظمات الإرهابية في العالم«. وتستعيد الكاتبة تحذير جورج تينيت، مدير الاستخبارات المركزية، من أن الحزب »صعّد مراقبته لأهداف أميركية« في شتى أرجاء المعمورة.
تزعم الكاتبة أن العلاقة بين التنظيمين تطوّرت بعد إبعاد »القاعدة« من أفغانستان وأن »اجتماعات عُقدت أخيراً بين الطرفين في لبنان وباراغواي وبلد أفريقي«. وتستعيد »معلومة« قيام عماد مغنية بالتنسيق مع »حماس« و»الجهاد« تاركة لوسيلة إعلام أخرى أن تتولى دور الرجل في العلاقة المباشرة مع »القاعدة« في إيران.
»الجنة الإرهابية«، حسب سترن، أو »ليبيا الجديدة«، كما تسميها، هي منطقة المثلث بين الباراغواي والبرازيل والأرجنتين. فهناك يلتقي للتنسيق، والتدريب، والتحضير لشن عمليات ماركسيون كولومبيون، و»حماس«، و»حزب الله«، وفاشيون من أقصى اليمين الأميركي. والإشارة إلى الأخيرين ذات دلالات لأنها توحي بأن الحزب أوجد سنداً داخلياً لنفسه فوق الأرض الأميركية وأصبح بالتالي خطراً داخلياً لا يتورّع عن ازدراء الحواجز الإيديولوجية كلها في حربه المقدسة على الولايات المتحدة.
وإذا كان اللبنانيون لم يسمعوا بجزيرة مارغاريتا فإن المقال يعلمهم أنها جزيرة وضعها الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز في تصرف هذه »الأممية الإرهابية« إضافة إلى فتحه بلاده أمام الأنشطة التخريبية.
لا يقل حضور الحزب في إسرائيل نفسها وفي إيران وأميركا الجنوبية والولايات المتحدة نفسها، لا يقل حضوره عن حضوره في آسيا. فهو على صلة بحركات الجهاد الباكستانية والبنغالية والأوزبكية والهندية والفيليبينية حيث توصل معها إلى توحيد التدريب، ودمج العمليات، واستخدام تسهيلات مشتركة.
ويبدو أن للحزب »قاعدة تجنيد« في العراق طالما أن صحافياً حميد مير كاتب سيرة ابن لادن أسرّ إلى جيسيكا أنه التقى عناصر من الحزب هناك فأخذوه إلى المركز العسكري!
ليست الحال في أفريقيا مختلفة. فالصاروخان اللذان
أطلقتهما »القاعدة« على طائرة إسرائيلية في تشرين الثاني 2002 صاروخان أدخلهما »حزب الله« شخصياً من الصومال إلى كينيا.
وتأتي الخاتمة كما هو متوقع: للحزب دور في تجنيد علماء ذوي خبرة بالأسلحة البيولوجية و... النووية.
هذا نموذج عمّا يُكتَب في إعلام أميركي رصين. عند الانتقال إلى غيره يصبح مستحيلاً وضع حد لخيالات جامحة. والمشكلة في الموضوع أن الجناح النافذ في الإدارة الأميركية طوّر »عقيدة بوش«، الكارثية أصلاً، ليعطي نفسه الحق في الضرب حتى بناء على »معلومات غامضة«... أو لمجرد »اعتبارات بيروقراطية« ناجمة عن توفر إجماع، ولو معدوم الأساس، في واشنطن.
العمل الأميركي على »بناء ملف« ل»حزب الله« سيتكثف. وتقضي الأمانة القول إنه يحقق نجاحات إعلامية وحتى سياسية. ومن الواجب إدراك ذلك وأخذه في الحساب خاصة إذا بدا بوش متجهاً نحو ولاية جديدة. غير أن هناك إدراكاً وإدراكاً. فالبعض، مثلاً، يعتبر أن خير وسيلة لتجنّب الغضب الأميركي هو إزالة أسباب هذا الغضب وهكذا يصبح اختفاء المقاومة ضربة ناجحة موجهة إلى مَن يعلن رغبته في اختفائها!.

14/8/2003

رجل من ورق 20/08/2008 21:44

عالم أكثر أمناً« (جورج بوش)



ليست المشكلة أن جورج بوش وعد، قبل حرب العراق، ب»عالم أكثر أمناً«. المشكلة أنه يدلل على إنجازاته، بعد كل انفجار، بالقول متباهياً إنه حقق وعده وأن العالم بات، بالفعل، أكثر أمناً.
يفعل ذلك في حين أن زيارته إلى بريطانيا تحولت إلى إقامة في قصر بكنغهام وتجوُّلٍ في جواره. فإذا كان البريطانيون جعلوا رحلته غير آمنة سياسياً لديهم، وهم من هم في تاريخية العلاقة مع الولايات المتحدة، فإن في ذلك، وحده، ما يؤشر إلى آثار ما يرتكبه على العالم كله.
لقد جاءت تفجيرات اسطنبول أمس لتذكّر أن العالم الأكثر أمناً الذي تحدث عنه بوش هو غير العالم الذي نعيش فيه. ويدلّ الإرهاب المتنقل أن بوش، بإضافته العراق على أفغانستان، أوقد نيراناً قد تتحول إلى لهيب يصعب إطفاؤه.
كانت دول كثيرة في العالم مستعدة للانخراط في مواجهة مع إرهاب أسامة بن لادن. لا بل إنها فعلت ذلك قبل أن تنعطف الإدارة بشكل يهدد التعاون الدولي، والعلاقات الدولية، ومواثيق الأمم المتحدة، وكل ما يصب في مجرى العمليات البوليسية ضد تنظيمات هيولية متطرفة.
لم يفعل بوش، طوال الشهور الماضية، سوى توجيه الرسائل الخاطئة إلى العالم. فلمَ المفاجأة إذاً في تبلور رأي عام ضده يحمّله مسؤولية الاضطراب؟ ولعل العالم العربي هو المجال الأبرز لممارسة سياسة لا يمكن لها، باسم التغيير، إلا إنتاج الفوضى.
إن ما تريده واشنطن، في منطقتنا، هو جمع الماء والنار. تريد من الأنظمة أن تكون، في الوقت نفسه، أكثر طاعة لها وأكثر انفتاحاً من دون أن تقترح عليها ما يستر عيب الالتحاق. هذا مزيج متفجر.
لقد أهينت الديموقراطية الفعلية في تركيا باسم الديموقراطية المحتملة في العراق. مورست ضغوط هائلة على أنقرة من أجل أن تكون مطيعة بغض النظر عن المقاومة الديموقراطية الضارية لهذه الطاعة. حصل ذلك مرتين وفشل في المرتين. وتبيّن، بوضوح، وفي هذا البلد الأطلسي، أن التجاوب مع الإملاء الأميركي يكشف السلطة ويستولد تعبئة ضدها. لقد كان صعباً، ولا يزال، جمع شكل الطاعة المطلوب ومداها مع قدر من الديموقراطية. وتسبّب ذلك في لوم بول وولفويتز الجيش لأنه خضع لقرار البرلمان.
إن ما يصحّ على تركيا يصح بصورة أقوى على بلدان عربية. فوضع المملكة العربية السعودية، مثلاً، في موقع تجاذب يؤدي إلى ما نشهده. والإصرار على طرح أسئلة على مجتمعات لا تملك جواباً يجعل الأوضاع ساخنة. فكيف إذا كانت الأسئلة متناقضة بين تلبية الطلبات الأميركية بالتخلي عن الحد الأدنى من دعم النضال الفلسطيني وبين تلبية الضغط الداخلي الذي يعتبر هذا الحد الأدنى الممارس قريباً من التخلي والخيانة؟
لم تستطع الولايات المتحدة، حتى اليوم، أن تقدم مبرراً للحرب على العراق في ما يخص أسلحة الدمار والعلاقة مع الإرهاب. وزادت على ذلك تخبطاً في إدارة الوضع بعد الحرب يجعل الأميركيين يشرعون في التساؤل فكيف غيرهم. لذا فإن الاحتمال الأكثر وروداً هو أن تبدو الحرب عنفاً برّانياً عدوانياً عارياً.
وعندما يصار إلى تبريرها بالمقابر الجماعية فإن المواطن العادي يصبح ميالاً إلى كراهية صدام حسين و... الولايات المتحدة. لأنه، في هذه الحالة، لا يسعه نسبة النوايا الحسنة إليها وهو يراقب رعايتها الحماسية للعدوانية التوسعية الإسرائيلية. ويكفي أن يفتح مسؤول أميركي فمه ليهدد سوريا أو إيران لامتلاكهما أسلحة دمار شامل حتى يكون رد الفعل العادي أننا أمام كذبة جديدة من النوع الذي تضيع المسؤولية عنه بين مخابرات فاشلة ومحافظين جدد ينفذون أجندة خاصة.
إن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وصفة توتر.
ففي رأي العربي العادي أن درجة التحاق الأنظمة بواشنطن تفيض

عن درجة انفتاح هذه الأنظمة. يعني ذلك أن نخباً حاكمة تتبع سياسات غير شعبية من غير أن يترافق ذلك مع فتح قنوات التعبير عن الرأي. وينتج عن هذا التفاوت ميل إلى العنف أو إلى تقبّل العنف، أي إلى رفض توجهات سائدة لا تسمح باعتراض عليها من ضمن المؤسسات. ومتى أشار أحد إلى هذا التعارض ونتيجته، ولو بأسلوبه الخاص، عومل، كما حصل مع وليد جنبلاط، بأنه شخص غير مرغوب فيه.
إن المفارقة ليست في الدرجة العالية من العنف. إنها في الدرجة المنخفضة من الحدة وهي درجة تلعب، حتى الآن، دوراً تعويضياً وتتخذ أشكالاً تتعرض، أكثر فأكثر، إلى الإدانة. ولو كان بوش يملك مقداراً كافياً من الحكمة لكان لاحظ، مثلاً، أن »الجماعة الإسلامية« في مصر أدانت »القاعدة«، وأن تنظيمات أصولية استهجنت التفجيرات الأخيرة، وأن اجتماعاً ضمّ يوسف القرضاوي، وعباسي مدني، وخالد مشعل، وحسن الترابي لم تصدر عنه دعوات متطرفة.
إن الرقعة السياسية لممارسة الإرهاب تضيق ولو أنها، ديموغرافياً، تتسع. ولا يفيد في شيء تكرار بوش في لندن الخلط بين مقاومة مشروعة ضلت طريقها (القدس) وبين عمل إجرامي بكل المقاييس (اسطنبول). لا يفيد ذلك إلا إذا كانت الاستفادة إضفاء قدر من شرعية القدس على عبثية ودموية اسطنبول.
إن الإرهاب أكثر تعقيداً من أن يحيط به العقل التبسيطي لبوش. ليس أكثر تعقيداً لجهة أسبابه التي تستدعي معالجات غير أمنية فحسب، بل أكثر تعقيداً لأنه يمر في لحظة اختلاط بين المحلي والكوني تستوجب الدرس. ليس كل عمل هو من أعمال »القاعدة«. فنحن، هنا، أمام »ماركة مسجلة«، وهي، مثل أي »ماركة مسجلة« تعطي »السلعة«... معناها. طالما أن »القاعدة«، كعنوان، موجودة فهي مدخل لأي متطرف كي يقنع نفسه بأنه إنما يخوض في منازلة كونية طرفها الآخر فسطاط الشر الشيطاني.
* * *
ثمة مشكلة اسمها جورج بوش. إنها مشكلة تجعل العالم أقل أمناً. هذا ما يقوله المعلق الأميركي بول كروغمان الذي يتهم رئيسه بتهديد الأمن القومي لأنه بدل محاربة الإرهاب تصرف بشكل يزيده. وهذا ما يقوله ريتشارد ريفز الذي يعتبر أن البيت الأبيض الحالي يكرر المشهد الريغاني حيث كل من فيه يعتبر نفسه أذكى من الرئيس. وهذا ما يقوله نورمان ميلر. يقول الأخير إن كلينتون كان من الذكاء بحيث اختار مساعدين أذكياء جداً ولو أنهم يقلون عنه فتشكلت إدارة من الأكفاء بقي هو نجمها. أما بوش فلم يكن من الغباء بحيث يكرر فعلة كلينتون ويختار من هم دونه. صحيح أنه غبي ولكن ليس إلى الحد الذي يجعله لا يدرك أن اختيار من هم أشد غباء سيعرّض أميركا إلى »حكم البلاهة«.
الأبله يمكنه أن يؤذي الآخرين غير أنه يؤذي نفسه حكماً. أما بوش، على رأس الولايات المتحدة، فالنتيجة أن العالم أصبح أقل أمناً.

21/11/2003

رجل من ورق 20/08/2008 21:46

من هنا إلى أين؟



هناك من يريد لهذين اليومين أن يمضيا على خير، وبسرعة. فاللياقة تقتضي الابتسام ل»حزب الله«، وتقدير نضاله، وشكره. غير أن لهذه اللياقة دورها في شحذ السكاكين. وربما بدأ الطعن يوم الاثنين. إذ يستحسن بالعيد، أيضاً، أن يمر. لقد نجح الحزب إلى حد يفرض عليه دفع بدل نجاحه. فما تبقى من »إنجازات« لا تليق به. لا بل إن إنجازه الوحيد قد يكون إنجازه الأخير: الاختفاء في سبيل لبنان واللبنانيين. إنه حزب من أحزاب قليلة في العالم تجد من يقول لها الشيء نفسه سواء أنجزت أو أخفقت!
لنستعد، إذاً، للاستماع إلى هذه المعزوفة: كلنا مع الحزب والمقاومة، كلنا كنا مع تحرير الجنوب وإطلاق الأسرى، لكننا لا نريد لأحد أن يحل محل الدولة، أما شبعا فعلينا إثبات لبنانيتها، وأما سمير القنطار فالدبلوماسية تتكفل به. إن شجاعة الأمس هي حماقة اليوم. ألا ترون الغضب الأميركي؟ ألا تفهمون معنى احتلال العراق؟ ألا يكفينا الاهتراء الاقتصادي؟ هل في وسعنا أن نجاري أرييل شارون في جنونه؟ ألم يحن الوقت لمساواة المقاومة بباقي الميليشيات؟ هل نريد أن نقدم ذرائع للعدو؟ فلنرسل الجيش إلى الجنوب، ولنقفل الجبهة، ولنساعد الحزب على التحول إلى العمل السياسي.
كلام مكرّر. لو تمّ الاستماع إليه قبل عام 2000 لكان الجنوب محتلاً بالكامل. ولو تمّ الاستماع إليه غداة التحرير لكان الأسرى في السجون. أما الدبلوماسية وإطلاق سمير القنطار فيسأل عن الأمر... مروان المعشر.
كلام مكرّر، إلا أن فيه بعض الحقيقة. لا يمكن إنكار أن إطلاق الأسرى، بعد تحرير الجنوب، يوهن صلة لبنان المباشرة بالصراع المسلح مع إسرائيل. ثمة قضايا عالقة بالتأكيد (شبعا، القنطار، مصير الأخوة الفلسطينيين...) ولكنها، في عرف البعض، أقل إلحاحاً من أوضاع سابقة لجهة »استدعاء« السلاح.
يجب أن يكون المرء عنيداً حتى لا يعترف بأن »حزب الله« أقدم على تأقلم معيّن بعد أيار 2000. ولقد حصل التأقلم في اتجاهين: الأول هو حصر المواجهة العسكرية مع الاحتلال حيث هو، في مزارع شبعا، والثاني هو تطوير البُعد الإقليمي القائم على نصرة الانتفاضة الفلسطينية.
لقد بقي هذا التأقلم فائضاً عن محصلة التوافقات اللبنانية. أي أنه، بكلام آخر، استمر عنواناً من عناوين التباين. هناك من رعاه ودافع عنه. وهناك من اعترض وطالب بالمزيد. لقد شهدنا، بعد أيار 2000، تبلور تيار صاغ توجهه بشعار مركب: الجيش اللبناني إلى الجنوب والجيش السوري إلى سوريا. وبدا، لفترة، أن هذه الأطروحة صاعدة نحو موقع الهيمنة على السجال الداخلي. إلا أنها تراجعت تحت ضغوط داخلية (لم تكن كلها موفقة و»ديموقراطية«)، واتضح أنها، باسم حوار يفترض فيه إنتاج توافق، إنما تثير انقسامات أشد خطورة. ومع أن تفجيرات 11 أيلول وما تلاها صبّت الماء في طاحونة هذا الرأي فإن أصحابه تراجعوا عنه بعض الشيء (باستثناء ميشال عون) وإن كان بعضهم لم يتخلّ جدياً عنه.
قد نشهد، في الفترة المقبلة، تبلور صيغة منقحة عن هذا التوجه. وسيحصل ذلك، بالضبط، نتيجة تراجع الدور اللبناني المقاوم ل»حزب الله« قياساً بالتضخم المرتقب في دوره الإقليمي، أي، عملياً، بتعزز المنحى الذي برز بعد 2000 ورد عليه الحزب بقدر من التأقلم المفهوم.
سيقال إن الوضع الناشئ يوفر ذرائع لفنسنت باتل للادعاء بأن الحزب إن لم يكن »منظمة أجنبية« فإنه يخدم »مصالح أجنبية«. وسيصبح ممكناً التركيز على »الإرهاب ذي البُعد الدولي« مع تضاؤل دور التنظيم المحلي المقاتل من أجل الأرض والأسرى. وليس ما يمنع أن يتهم أي دعم للفلسطينيين بأنه تدخل في شؤون داخلية من أجل إثارة الانقسام. غير أن التشديد سيكون على شبكة العلاقات الإقليمية للحزب بحيث يجري تقديم تصلبه وكأنه يخدم سياسات إقليمية تريد التجاوب مع ضغوط تتلقاها عبر تسويات لا تستقيم إلا عبر دفع الحزب إلى تشدد يحسّن لها شروطها التفاوضية.
هذه عناوين لنقاشات مقبلة.
يتجاهل أصحاب وجهة النظر السالفة الذكر حقائق أساسية.
إن الصراعات الإقليمية مستمرة وضارية من فلسطين إلى العراق. وليس في وسع لبنان عزل نفسه عنها إلا بمعنى الانضمام إلى محور آخر. ولبنان معني فعلاً بمنع إسرائيل من إلحاق هزيمة بالشعب الفلسطيني. ونضع جانباً، هنا، واجبات الأخوّة والتضامن من أجل التأكيد على المصلحة الوطنية في تمكين الفلسطينيين من منع تنفيذ الحل الإسرائيلي بطبعته الشارونية. أن يكون لبنان معنياً يساوي أن يكون له دور. وبهذا المعنى فإن ما يسمى »المرحلة الثانية« من أي تبادل للأسرى هو بعض هذا الدور.
إن السؤال الذي يتوجب على اللبنانيين طرحه على أنفسهم هو التالي: أي لبنان في ظل توطد الهيمنة الأميركية على المنطقة في لحظة رعايتها للتوسعية الإسرائيلية في الأرض العربية والتصميم على الإبادة السياسية للشعب الفلسطيني؟
إن الترجمة المحلية لهذا المشروع ليست أقل من تدمير الحد الراهن من الاستقرار، والانتكاس عن السلم الأهلي الهش، والعودة للدوران في الفلك الإسرائيلي... فالمصلحة اللبنانية هي البقاء في المعسكر المستهدف لأن ثمن ذلك هو، بالتأكيد، أقل من ثمن الانتقال القسري إلى الضفة الأخرى. ولعل الموقف من »حزب الله« هو عنوان الخيار الإقليمي بانعكاساته الداخلية.
إذا سلمنا بأن الدور الإقليمي ل»حزب الله« سيزداد بروزاً يصبح التساؤل مشروعاً عن الحماية اللبنانية الداخلية لهذا الدور.
تقول التجربة السابقة إن الحزب اختار تضاؤل دوره الداخلي من أجل عدم إثارة الحساسيات. أمّن الحماية لنفسه بالفعالية، والتغطية الرسمية، وبالتفاف قاعدة شعبية ضيقة في نهاية المطاف، وبدعم سوري وإيراني.
لن يكون ذلك كافياً بعد اليوم. إن ضراوة ما يجري لا تقاوم بذراع عسكرية وتغطية من قمة السلطة. لا بد من توفير مناعة اجتماعية أشد رسوخاً. ويعني ذلك، في ما يعني، السعي إلى تغيير إدارة الشؤون اللبنانية ببعديها الداخلي والإقليمي.
قد لا يستطيع الحزب لعب الدور الذي تدفعه الظروف والإرادة نحوه إلا بشروط من نوع آخر تدخل تعديلات على الصعد اللبنانية كلها.

30/1/2004

رجل من ورق 20/08/2008 21:47

لا أينعت ولا حان قطافها



»ربما يرغب ريتشارد بيرل أن يكون في الموجة الأولى من العسكريين الأميركيين المتوجهين إلى بغداد«. بهذه العبارة سخر سيناتور أميركي من »أمير الظلمات« الذي يُقال عنه إنه أمضى وقتاً إضافياً في العمل من أجل الدفع نحو الحرب ضد العراق. وتجد هذه العبارة تفسيراً لها في ملاحظة قالها أحد العاملين مع كولن باول: »ثمة خبرة عسكرية في الطابق السابع من وزارة الخارجية أكثر ممّا في مكتب وزير الدفاع كله«!
عندما فتح النقاش الجدي في الإدارة حول النهج الواجب اتباعه حيال بغداد لاحظت الصحافية مورين رود، بسخريتها اللاذعة، أن »المدنيين نظموا انقلاباً ضد العسكر«.
ولكن من هم هؤلاء المدنيون؟
الذين احتموا بهم لاحظوا قاسماً مشتركاً بينهم: لم يسبق لواحد منهم أن خاض حرباً علماً أنهم، في معظمهم، في سن كانت تفرض عليهم التجنيد الإلزامي في فيتنام.
الرئيس جورج بوش نفسه لم يدخل الجيش في فترة الحرب و»تطوّع« في الحرس الوطني في تكساس. وهذا سلوك اتبعه »أبناء النافذين« حسب ما يقول كولن باول نفسه في مذكراته.
نائب الرئيس ديك تشيني تجنّب الخدمة بحجة أنه كان يملك »أولويات أخرى في الستينيات«.
وزير الدفاع دونالد رامسفيلد قاد طائرات عسكرية بين حربي كوريا وفيتنام من دون أن يشهد ولو معركة واحدة.
لويس ليبي، الرجل الأول في مكتب تشيني، أمضى تلك الفترة العصيبة في جامعتي بال وكولومبيا.
بول وولفويتز وبيتر رودمان اهتما بتحصيل العلم أكثر من خدمة العلم. أما دوغلاس فيث فكان... دون السن.
إليوت ابرامز، المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، والصديق الصدوق لأرييل شارون، حصل على إعفاء لدواع صحية. وفعل جون بولتون مثله وهو، حالياً، الرجل الثالث في وزارة الخارجية، ويتميّز باستسهال الدعوة إلى استخدام السلاح النووي.
يبلغ عدد الذين وقعوا على »مشروع العقد الأميركي الجديد« 32 شخصاً. والبيان التأسيسي (إنجيل المحافظين الجدد) يدعو إلى حروب على العراق وسوريا ولبنان وإيران وفلسطين... بين هؤلاء ثلاثة فقط خدموا »عسكريتهم« أما الباقون فتهرّبوا.
ريتشارد بيرل بين المتهرّبين. أمضى حرب فيتنام زميل دراسة مع وولفويتز في جامعة شيكاغو. ولما تخرّج انضم إلى تيار في الحزب الديموقراطي هو الأكثر حماسة ل... الحرب! وهو اليوم يحرّض على القتال ويؤسس الشركات التي يجني منها أموالاً وفيرة مقابل خدماتها العسكرية والأمنية.
فرانك غافني (من »معهد السياسة الأمنية« والصديق الجديد للجنرال ميشال عون) اختفى عن الأنظار زمن الحرب.
ينتمي هؤلاء جميعاً إلى البنية الضاغطة في اتجاه العدوان. وفي حين يطلق البعض عليهم صفة »الصقور« يميل البعض الآخر إلى أنهم، كطيور، أقرب إلى الدجاج منهم إلى أي شيء آخر. وينسب هذا البعض الثاني إليهم »ميزتين«: الأولى هي التهرّب من الخدمة العسكرية، والثانية هي الدعوة إلى حل المشاكل السياسية بوسائل عسكرية. وفي الإمكان أن نضيف ميزة ثالثة: أنهم، جميعاً، من أشد أنصار النسخة الليكودية المتطرفة عن إسرائيل ومن أشد رافضي أي تسوية في المنطقة.
شكّل الأشخاص المشار إليهم محرّك القوة الدافعة للحرب على العراق. ولجأوا، في سبيل ترجيح رأيهم، إلى بناء منظومة متكاملة من الأفكار (لعب المؤرخ برنارد لويس دوراً كبيراً في ذلك). والغاية من هذه المنظومة تسويق الحرب والسجال ضد من يعارضها أو يدعو إلى التمهّل في خوضها.
قالوا إن العراقيين سيهبّون إلى ملاقاة »جيش التحرير« الأميركي، وأن معارضين مثل أحمد الجلبي، نافذين جداً في الداخل وممثلين له، أكدوا أن الجيش والشعب سينحازان إلى كل من ينقذهم من الديكتاتور. حسموا في أن العراقيين سيرحّبون بمستشارين يعملون لصالحهم. روّجوا أن في الإمكان نزع عروبة العراق باسم ثنائية القومية. اعتبروا أن لا أسهل من تحويل البلد منطلقاً للهجوم على إيران وسوريا والفلسطينيين والسعودية. أصروا على تبني الأفكار الاستشراقية حول غياب أي هوية وطنية جامعة أو قومية.
استنتجوا من كل ما تقدم أن الحرب نزهة غير مكلفة لا مادياً ولا بشرياً وأن ثمراتها مغرية جداً. وتمكّنوا، بهذا الأسلوب، من إسكات معارضيهم، ومن استغلال أجواء ما بعد 11 أيلول. ووضعوا ذلك كله في سياق منظور يرمي إلى إعادة تشكيل العالم بعد انتهاء الحرب الباردة ويلقى دعماً من مؤسسات صناعية ضخمة في عالمي الأسلحة والنفط. وركزوا على أن منطلق إعادة التشكيل هذه هو التغيير الجذري للشرق الأوسط وعلاقاته وثقافته وتحويل الجلبي إلى رمز للاقتصادي الجديد وكنعان مكية إلى رمز للمثقف الجديد.
لقد أثّر هذا المناخ الثقافي السياسي في وضع الخطة العسكرية للغزو والقائمة على فرضية »الثمرة الناضجة التي حان قطافها«. نقول »أثّر« فقط لأن العسكريين المحترفين حاولوا جهدهم تعديلها وسعوا، مدعومين من باول (صاحب العقيدة المخالفة لما يجري تطبيقه)، ومن المخابرات، إلى إنتاج تسوية لا تعكس في الميدان الخرافات الإيديولوجية الغرضية لحزب الحرب.
وإذا كانت هذه الخطة العسكرية تواجه، اليوم، المتاعب التي تواجهها فلأنها، بالأساس، مبنية على سوء تقدير سياسي يعامل العراق على أساس »أينعت وحان قطافها«.
هل يبرّر ذلك الانتقال، من الجانب العربي، نحو تفاؤل يستعيد اللغة الانتصارية التقليدية؟ كلا. إن الولايات المتحدة تتمتع، بحكم انفرادها، بأفضلية لم يمتلكها أحد قبلها: لا وجود لخصم كوني قادر على استثمار أخطائها وتحويل تورّط جزئي من جانبها إلى مأزق استراتيجي.
إن في إمكان واشنطن تعديل خطط الحرب. وفي إمكانها التوقف عند محطة وفتح مفاوضات سياسية. وفي إمكانها البحث عن تسويات مع قوى إقليمية ودولية. ولكن شرط أي من هذه الخيارات هو ألا تستمر أميركا في ارتكاب »خطيئة العجرفة«، وأن يقودها ذلك إلى إعادة تركيب التوازنات ضمن الإدارة نفسها.
وفي انتظار المجريات اللاحقة، وفي ضوء ما هو حاصل حالياً، وبشكل خاص في ظل مفاجأة العراق لنفسه وللعرب وللعالم، يمكن المغامرة بإطلاق استنتاج ولو مبكر: لن يكون العراق، بغض النظر عن النتائج العسكرية للحرب، أرضاً صديقة للاحتلال الأميركي. وإذا صدق هذا الاستنتاج فإن له ما بعده.

25/3/2003

رجل من ورق 20/08/2008 21:48

وداعاً ريتشارد



استقال ريتشارد بيرل. خرج متسربلاً بالفضيحة. ربما يكون غادر قبل أن تتم المساءلة الفعلية. حصل معه ما حصل لعدد من المبشّرين الأصوليين الأميركيين الذين كانوا يتظاهرون بالهذيان لحظة اتصالهم بالرب، ويرتجفون، ويتصبّبون عرقاً، في حين تمتد أيديهم إلى جيوب المشدوهين بأدائهم بهدف... السرقة. لقد قدّم الرجل نفسه بصفته إيديولوجياً لا تحرّكه سوى الأفكار والمعتقدات. وأمضى حياته ينظّم الحملات ويقودها، ويقيم الشبكات ويفعّلها، ويتظاهر أنه يفعل ذلك عن غيرية لا مثيل لها.
لم يتردد في تسليط الأضواء على نفسه. كان يدلي، يومياً، بتصريح أو موقف يسقط فيه بلداً باسم تحريره. اعتبر نفسه، لسبب ما، محمياً. غير أن قدراً بسيطاً من التنقيب في حياته كشف عن انتهازية استثنائية. ليس بيرل سوى سمسار صغير يستغل موقعه الاستشاري في وزارة الدفاع الأميركية من أجل تدبير صفقات والحصول على عمولات وذلك في سياق الولاء الأعمى لليمين الإسرائيلي والإصرار على تماهي المصالح بينه وبين الولايات المتحدة.
ادعى في بداية »غلوبال غيت« أنه لم يقرأ تفاصيل الالتزامات الواقعة عليه في موقعه المسؤول. ولكنه تصرف على طريقة »المريب الذي يقول خذوني« عندما تبرْع بأموال لصالح عائلات الضحايا من الجنود الأميركيين في حرب العراق. الجنود الذين شجع على إرسالهم للموت هناك.
يمكن، لما تقدم، أن يكون قراءة في دواعي استقالة بيرل التي سبّبت حزناً شديداً لدونالد رامسفيلد. فلقد نشأ تعارض مصالح، وشرعت الصحافة تهتم، وبدأ نواب يطرحون أسئلة فكان لا بد من تطويق الهجوم المحتمل بهروب سريع. غير أن هذه القراءة تتناول مستوى واحداً من مستويات الحدث. ففي المجلس الاستشاري الذي يترأسه بيرل عشرة من أصل ثلاثين لهم
(تتمة المنشور ص 1)
علاقات خاصة بشركات السلاح التي تعقد صفقات بعشرات مليارات الدولارات مع البنتاغون. واللافت أن هؤلاء يشتركون جميعاً في »ميزة« أخرى.
إن هذا هو المستوى الثاني للحدث.
الضجة حول بيرل مثارة منذ أسابيع. دفع بها الصحافي سيمور هيرش إلى الأمام في تحقيق في »نيويوركر« نشرته »السفير«. وقد رد المتهم قائلاً إن هيرش »إرهابي«. فما الذي تغيّر اليوم؟
إن ما تغيّر اليوم هو الإطار العام للحرب التي تشنها الولايات المتحدة على العرب والعالم في العراق. فالملاحظ أن أصواتاً كثيرة بدأت ترتفع تكشف الأوهام التي جرى ترويجها لتسويق الحرب. لقد قيل إنها ستكون سهلة، سريعة، حاسمة، نظيفة، مثمرة. وإذا بها صعبة، بطيئة، مفتوحة، وسخة، وغير مثمرة.
إن بيرل هو أحد أبرز دعاة »الحرب الاختيارية«... لأنها حرب سهلة. لقد روّج لنظرية أن العراقيين كلهم سيرقصون في الشوارع احتفاءً بقدوم الغزاة. وساجل ضد الذهاب إلى الأمم المتحدة داعياً إلى التعويض عن المجموعة الدولية بأحمد الجلبي وكنعان مكية. وسخر، حتى، من فكرة تحالف »لا ندري من داخله، ومن خارجه، ومن أين الحصول على بطاقة عضوية فيه«.
لم يكن وحده مصراً على هذه الفرضية (تحرير العراق وإعادة هيكلة الشرق الأوسط والعالم بقليل من الجهد وبمعاونة معارضة عراقية متأمركة متأسرلة ذات نفوذ »هائل« في بلادها). إنه، في هذا المجال، جزء من تيار له ممثلون أقوياء في الإدارة (ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، بول وولفويتز، جون بولتون، الخ...). ولقد صاغ صديقه كينيث ادلمان، وزميله في المجلس الاستشاري، هذه الفرضية بكلمات بسيطة: »ستكون الحرب لطرد صدام حسين نزهة. لماذا؟ 1) لأنها كانت نزهة في السابق، 2) لأنهم باتوا أضعف. 3) لأننا بتنا أقوى، 4) لأننا نعمل للسيطرة إلى الأبد«. ويكرّر ادلمان قبل أيام أن »حساب الأرباح والخسائر« لا يزال ميالاً لصالح الحرب.
يكتشف الأميركيون والبريطانيون هذه الأيام أن الأمور ليست كما قيل لهم. ويطفو إلى السطح سؤال مقموع عن »اختطاف السياسة الخارجية الأميركية«. والواضح أن »حزب الحرب« يخوض معركة صعبة حتى يتهرّب من الاتهامات الموجهة إليه بأنه استعجلها واستسهلها.
فوليام كريستول، مثلاً، شرع يروّج لضرورة »التسامح مع طول الحرب« لا »التسامح مع الهزيمة« مضيفاً أن المطلوب زيادة العنف »حتى لا يصدق أحد أن أميركا ضعيفة«. وزاد عليه مايكل ليدين بأن »حجم الأضرار أمر ثانوي. فالأميركيون، حسب الدراسات الأكاديمية، شعب يحب الحرب ويكره الخسارة«. ولقد ارتاح هذا »الحزب« إلى التحول في لهجة جورج بوش وطوني بلير وكبار القادة العسكريين. لقد بات في وسع المعارك أن تستمر حتى تصل إلى نهايتها المحتومة: الانتصار.
لقد دفع ريتشارد بيرل ثمن هذا التحول في اللهجة. إنه أول رأس سياسي يسقط لأنه نظّر لغير ما وقع فعلاً. وليس من المستبعد أن تكون تمت التضحية به أمام ضغط العسكريين المحترفين الذين يتهمون »عقائديين« بالتدخل الفظ في صياغة الخطة القتالية. فلقد انبنت هذه كلها على أساس أن الشعب العراقي أولاً، والشعوب العربية تالياً، تنظر إلى الأميركيين كقوة تحرير لا قوة احتلال، وأنها، »تحب شارون وتكره عمرو موسى« خلافاً لأغنية راجت تجمع بين الابتذال والتقاط الحس الشعبي.
المستوى الثاني المتحكّم بأي قراءة لاستقالة بيرل هو، إذاً، الإعلان عن فشل التقدير السياسي الكامن وراء الخطة العسكرية.
غير أن هناك مستوى ثالثاً.
لقد نُظر إلى معركة العراق بصفتها جزءاً من حملة أوسع تطال الشرق الأوسط كله والعالم.
قبل أيام التقى في »معهد أنتربرايز« المحافظ ثلاثة محاضرين: ريتشارد بيرل، مايكل ليدين، وجيمس وولسي (المدير السابق للمخابرات المركزية وأحد أبرز الصقور في واشنطن). تبارى الثلاثة في وصف الشرق الأوسط الجديد، وفي وصف العلاقات الدولية الجديدة، وفي تحديد مصير أوروبا، ومجلس الأمن، الخ... ولقد نهض البناء كله على أن الحرب ستكون منتهية في أيام، وعلى أن واجب الولايات المتحدة هو تحديد الوعاء الذي سيعيد تشكيل الميوعة العالمية. وتميّز ليدين، بين الثلاثة، بأنه دعا، استناداً إلى التجربة العراقية، إلى ضرورة الإسراع في مواجهة سوريا، وإيران، والسعودية، وغيرها. ففي رأيه أن العراق هو موقعة في حملة تتجاوزه كثيراً...
إن في استقالة أحد الثلاثة، بيرل، ما يؤشر أيضاً إلى أن الارتطام بالواقع يفترض به أن يقود إلى قدر من التواضع. فهذه الاستقالة، وبغض النظر عن سببها المباشر، الانتفاع الشخصي، تؤشر إلى أن المقاومة تؤتي ثماراً. لقد أدت، حتى الآن، إلى إدخال تعديلات على الخطة العسكرية ولكنها، في الوقت نفسه، ألمحت إلى إمكان إحباط الخطة السياسية.
* * *
ملاحظة: ليست هذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها ريتشارد بيرل من دوائر صنع القرار في واشنطن. إن »أمير الظلمات« قادر، باستمرار، على العودة والإيذاء ثم إن الباقين في مواقع السلطة ليسوا أفضل منه. هل نقول له »وداعاً« أم »إلى اللقاء«؟

29/3/2003

رجل من ورق 20/08/2008 21:50

الديموقراطية والتطلّب القومي



إن الرأي العام يختار إعلامه ويصنعه ربما أكثر ممّا يصنع الإعلام الرأي العام. وربما تنطبق هذه الملاحظة أكثر في ما يخص المرئي والمسموع.
ليس من باب الصدفة، والحالة هذه، أن تكون »فوكس« حسمت السباق لصالحها ضد »سي. ان. ان« في الولايات المتحدة. فهي أكثر التصاقاً بمزاج الحرب العدوانية وأقل مهنية. وبما أن الرأي العام الأميركي متحمّس للحرب بأكثرية واضحة فلقد انعكس ذلك على نسبة المشاهدة.
لقد شهدنا في الأسابيع الماضية سباقاً بين الفضائيات العربية. ومَن يعرف طبيعة المناقشات في غرف التحرير، ومَن يلاحظ درجات الإقبال يجد ربطاً محكماً بين تغطية تدين الحرب وبين ارتفاع عدد المشاهدين. القناة الأكثر نجاحاً هي التي تُكثر من صور القتلى المدنيين، وتُظهر الدمار، وتتوقف عند الأسرى المدنيين، وتستخدم قاموساً شديد الانحياز ضد »الغزو« و»العدوان«. ليست وظيفة الفضائيات، العربية أو غيرها، مخاطبة العقل. تكتفي باستفزاز المشاعر. والمشاعر العربية إلى جانب العراق.
لهذا السبب وليس لغيره تحوّل وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف إلى ظاهرة شعبية. قد يقول قائل إنه لا يقول الحقيقة، وانه سخيف وسوقي، وشتّام، وديماغوجي... وليس مستبعداً أن تكون هذه الأوصاف صحيحة خاصة إذا حوكم
الرجل بمعيار مخاطبة الرأي العام الأجنبي. غير أننا، هنا، أمام نوع من التشاوف الذي يخطئ تماماً في تعيين التطلّب العربي. فالمواطن العادي يرى في الصحاف شخصاً شجاعاً، حاضراً في أرض المعركة، تعبوياً، جريئاً، رافعاً للمعنويات. لقد أعطى وجهاً لما أبداه العراقيون من مقاومة. وتحدث بلغة تلبي حاجة نفسية لدى الكثيرين. وتحوّل غيابه إلى علامة خطر. واستفاد كثيراً من شبق عام إلى تصديقه. وساعده في ذلك، أن الجانب المعتدي ارتكب هفوات إعلامية بائسة.
إن شعبية الصحاف استفتاء يؤكد الرفض العربي العارم للعدوان. وهو عارم إلى حد أنه أقدم على معالجة الذاكرة فمحا منها ما كان يمكن أن يؤاخذ الصحاف عليه.
ثمة مثال آخر على الانحياز الشعبي. إذا أجري استقصاء للرأي يقول: من تفضل قناة الجزيرة أم صاحب قناة الجزيرة؟ هل هناك من يشكّك في النتيجة. الجواب محسوم. ويمكن، هنا أيضاً، توجيه اتهامات لا تحصى لهذه الفضائية. غير أن هذه الاتهامات لا تلغي إطلاقاً وجود تطلّب قوي لدى الجمهور العادي على موقف نضالي ولو رافق ذلك تأفف من هموم مهنية مؤكدة.
إن من واجب أي مسؤول أميركي أن يطرح على نفسه السؤال التالي: لماذا اختارت الحكومة القطرية الصديقة خطاً سياسياً إعلامياً ل»الجزيرة« مناهضاً للخط الذي تتبعه الدوحة؟ الجواب، هنا أيضاً، واضح. إن »الجزيرة« هي الستر الذي يفترض به تغطية عورة العلاقة مع واشنطن. ولذلك فإن الولايات المتحدة لا تمتنع عن تسويق النموذج القطري السياسي ولكنها تمارس اضطهاداً في حق الجزيرة يصل إلى حد القتل العمد.
* * *
تقود هذه المقدمات إلى تدعيم سجال مع »حزب الحرب« الأميركي. إن عليه أن يختار بين حالين: إما عالم عربي ديموقراطي ومعارض لسياسات واشنطن، وإما عالم عربي قمعي ومسوق إلى تأييد هذه السياسات. أما العالم العربي الديموقراطي والمؤيد للولايات المتحدة فهو ضرب من »الغول والعنقاء والخل الوفي«.
يدخل أقطاب من الحزب المشار إليه في نقاشات للدفاع عن وجهة نظرهم. يقولون: نعم في الإمكان فرض الديموقراطية والصداقة مع أميركا بقوة السلاح. والدليل أن هذا ما حصل في اليابان وألمانيا. يقولون: نعم في الإمكان فرض الديموقراطية بقوة السلاح حتى في مجتمع تعددي. يقولون: نعم في الإمكان التوصل إلى الديموقراطية حتى من دون تقاليد سابقة راسخة. والدليل أن هذا ما حصل في عدد من بلدان أوروبا الشرقية...
يتناسى هؤلاء حقائق بديهية.
ففي الحالتين الألمانية واليابانية تولّد شعور كاسح لدى الشعبين بأنهما عوقبا على عدوان قاما به. ولقد أدى ذلك إلى نشوء وعي، متفاوت بين البلدين، بأن الهزيمة القاسية والدموية كانت هي الطريقة الوحيدة لتحررهما من نزعة عدوانية. لا ينطبق هذا النموذج على الوضع العربي. فالشعور العام لدى العرب هو أنهم، على امتداد قرن ونيف، ضحية اعتداءات متلاحقة تبدأ بالتقسيم، وتمر بالخدائع، وتصل إلى قيام إسرائيل وما استتبع ذلك من قهر (مستمر) كانت الولايات المتحدة، في خلاله، راعية الاضطهاد والمسؤولة عن انكسارات كبرى. ليس في الأمر »بارانويا«. هذه حقيقة لا تفعل الولايات المتحدة سوى تعزيزها كل يوم. ولذا سيكون مستحيلاً النظر إلى حرب أميركية على بلد عربي بصفتها فعل تحرير له وللمنطقة يقود إلى ديموقراطية موالية.
لا بل، أكثر من ذلك، ينظر العرب إلى أي خلل في المقاومة العراقية للغزو بصفتها نتيجة طبيعية لنقص... الديموقراطية. وهم يعرفون أن العراق مستهدف لأسباب لا علاقة لها بالاستبداد (وإن كان يوفر ذرائع قابلة للتسويق) وأن الاستبداد هذا مسؤول عن ضعف النجاح في رد الاستهداف.
إذا كان المثالان الألماني والياباني لا ينطبقان على الحالة العربية فإن الحالة الأوروبية الشرقية أقل انطباقاً.
نحن هنا أمام شعوب قادتها ظروفها التاريخية إلى دمج تطلّبها القومي، ضد الاتحاد السوفياتي، بإيديولوجيا الخصم الدولي لموسكو، الديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية. غير أن الأصل كان التطلع القومي.
أما العرب فإن الشرط التاريخي لتحقيق مشروعهم القومي هو وضعهم، رغماً عنهم، في مواجهة مع المستعمرين القدامى والجدد. لذلك حصل الدمج، في مرحلة ما، بين »التحرر الوطني« و»الاشتراكية«. ولذلك، أيضاً، وحتى مع تبدد الأوهام في ما يخص »الطريق اللارأسمالي«، فإن كل ما يحصل لا يغيّر شيئاً من حدة التطلب القومي. لذا لا يمكن نقل تجربة أوروبا الشرقية حيث التحرر الوطني يقود إلى أفضل العلاقات مع الولايات المتحدة ما دام مديناً لها. إن واشنطن بحكم تعريفها لمصالحها في الشرق الأوسط، تجعل التحرّر العربي في حالة صدامية معها. ولا تعود الديموقراطية، بهذا المعنى، سوى الشكل التنظيمي للحياة العامة الذي يسمح باحتمال تحقيق ولو انتصار ما ضد سياسة الإلحاق التي شرعت تأخذ شكلاً كولونيالياً بائداً.
* * *
لقد كان »حزب الحرب« الأميركي حاسماً أمس في محاولته لتغييب صورة الحرب، أي لتغييب الرأي العام عن الحرب. والأمر غريب بعض الشيء لحرب تُخاض تحت عنوان »الثورة الديموقراطية«. هناك من يزعم أن هذا السلوك سيبقى غالباً وأن الصراع من أجل الديموقراطية سيبقى من مسؤولية القوى العربية الأكثر جذرية في تعيين التناقض بين مصالح المنطقة والمصالح الأميركية، وخاصة تلك المصالح المنظور إليها من زاوية حلف المتطرفين في أميركا وإسرائيل. ليس في الإمكان تمرير هذه المصالح في وضح النهار. لن تمر إلا إذا أعقب إطفاء الشاشات غرق العرب في ظلام مديد.

9/4/2003

رجل من ورق 20/08/2008 21:54

العدوان أولاً، الانهيار ثانياً



التمثال قاوم أكثر من صاحبه. بدا، لوهلة، أنه يرفض السقوط. غير أنه، في عناده، قدم تكثيفاً لهذه الحرب. حاول عراقيون قلائل زحزحته. لم ينجحوا. عُصب رأسه بعلم أميركي. ثم أزيل. رُفع علم عراقي. أُنزل. تقدمت دبابة أميركية وتولّت، بالأصالة عن نفسها والنيابة عن الآخرين، طأطأة النصب. إنها، في ساعات قليلة، قصة النظام والشعب والاحتلال.
لا يجوز مقاربة هذه الحرب من خلال نتيجتها فقط. الأسباب مهمة أيضاً. لذا نحن أمام سؤالين لا واحد: لماذا حصل العدوان؟ لماذا حصل الانهيار؟
أما العدوان فلأن الولايات المتحدة أرادته. كان مشروعاً لبعض الإدارة الحالية يختمر منذ سنوات. تحوّل إلى خطة في سياق تفجيرات 11 أيلول والانتصار السهل في أفغانستان. تكاد

أهدافه تكون معلنة سواء في ما يخص إعادة هيكلة الشرق الأوسط، وتعزيز الحل الليكودي للقضية الفلسطينية، أو في ما يتعلق ببناء نظام جديد من العلاقات الدولية. تريد واشنطن أن تحصد ما زرعته في المنطقة منذ عدوان 67، وأن تعوّض ما فاتها، عالمياً، منذ انتهاء الحرب الباردة، وأن تستبق تطورات تهدد بتقليص وزنها حيال حلفاء وشركاء.
ثمة بناء كبير، من وجهة نظر واشنطن، ينهض فوق هذه الحرب التي يمكن اعتبارها، بحق، فعلاً تأسيسياً لمرحلة جديدة. ولذلك لم يكن في الإمكان إيقاف قطار الموت وكان لا بد من منع الحرب أو السعي إلى جعلها مكلفة. وتقضي الحقيقة القول إننا، اليوم، أمام فشلين. الفشل الأول هو في منع الحرب. وهو يطال مجلس الأمن، ودولاً نافذة، وقادة روحيين، وعشرات ملايين المتظاهرين. لقد حاولت بغداد تسليحهم بما يمكّنهم من صد الاندفاعة الأميركية غير أنهم لم يتمكّنوا من ذلك. الفشل الثاني هو في جعل الحرب مكلفة. وهذا حديث آخر.
يخطئ من ينظر إلى يوم أمس فلا يرى فيه إلا دخولاً سهلاً إلى بغداد. إن أسباب الانهيار لا تتجاوز 9 نيسان 2003 فقط، ولا العشرين يوماً من القتال فحسب.
لقد كانت نتيجة الحرب محسومة منذ لحظة انطلاقها. ولقد خُدعنا بدفعة مقاومة لم تلبث أن اختفت. وعادت موازين القوى لتفعل فعلها.
إن ما حصل أمس هو تتويج لحروب عمرها ما لا يقل عن 23 عاماً. كان سبقها تحطيم لمعظم القوى السياسية العراقية وتركُّز استثنائي للسلطة. لقد خرج العراق من قتاله مع إيران بجيش »قوي« ومجتمع منهك. ثم دخل المغامرة الكويتية فخرج منها بجيش محطم ومجتمع منكسر ومدمّى ويائس خاصة بعد العنف الداخلي القاسي. وتبع ذلك حصار لم يعرف العالم مثيلاً له. كانت العقوبات مؤذية، وتقلصت السيادة كثيراً، غير أن قدرة النظام على التحكّم بمواطنيه ازدادت في حين كان النسيج الوطني يتعرض إلى تمزق يكاد يضعه على حافة الاندثار: قمع، جوع، فقر، أمية، تفكك العلاقات الإنسانية، زيادة الجريمة، انعدام الصلة بالخارج، انحطاط الثقافة... وعندما لاحت بوادر العدوان الجديد كان العراق حطاماً ومؤسسات السلطة منخورة.
إن عراقاً على هذه الشاكلة لا يستطيع الصمود الجدي أمام أقوى آلة عسكرية في تاريخ البشرية. لذلك لا غرابة أن يحصل التداعي الذي شهدناه والذي يتوّج مرحلة تاريخية كاملة. لقد كان النظام هو نقطة الضعف الهائلة في الدفاع عن الوطن لأنه لا يستطيع استنفار سوى أقلية. ومع ذلك لم يستشعر رئيس النظام واجب أن يتظاهر بسحب يده من »المقبّلين« وذلك قبل ساعات من موتهم في سبيله... أو الهرب.
عندما وصل الغزاة وجدوا ظل مجتمع أو بقاياه. لم تحصل انتفاضات شعبية ضد الاحتلال، ليس لنقص في الوطنية. ولم تحصل انتفاضات شعبية ضد النظام، ليس لنقص في رفضه... لم تحصل انتفاضات لأن الشعب العراقي، ربما، دون القدرة على ذلك. إن عدد الذين تجمّعوا لإسقاط التمثال يقارب عدد الذين هرعوا يقبّلون الأيدي... وهو قليل.
يفيق معظم العراقيين اليوم على بلد آخر. إن أكثرية ساحقة بينهم لا تعرف إلا هذا النظام الذي حكم لعقود.
انتهت، أمس، عملياً »ثلاثية«: الشعب النظام الاحتلال. سيجد المواطنون أنفسهم أمام جيوش أجنبية. هل هي جيوش غزو؟ هل هي جيوش تحرير؟ قبل إطلاق تقديرات حول صيغة العلاقة في ثنائية الشعب الجيوش الأجنبية، يتوجب إجراء تقدير دقيق لما كان عليه السلوك حين كانت »الثلاثية« مسيطرة.
الواضح في خلال العشرين يوماً الماضية أن الشعب العراقي أعطى النظام فرصة الدفاع عن نفسه. لقد كان رفض المشاركة الشعبية أسلوباً في الحكم طيلة عقود. غير أن هذا الرفض انقلب ليصبح حكماً على السياسة السابقة من دون أن يكون ترحيباً بما هو قادم. لقد تفرج العراقيون على الحرب إذا كان جائزاً استخدام هذا المصطلح. لم تبادر مدينة إلى »إسقاط نفسها«. ولكن انحيازات متفاوتة حصلت إلى الفريق الرابح بعد ربحه وبشكل لا يسمح بالحسم في ما كانت عليه التمنيات السابقة.
يصعب، والحالة هذه، تفسير الرسالة التي وجهها العراقيون في خلال ثلاثة أسابيع. هل سيميلون إلى الاستكانة وإعطاء المحتلين »فترة سماح«؟ هل سيرفضون حكماً أجنبياً ولو اختبأ وراء عملاء محليين؟ إن القرار قرارهم طبعاً ولكل وجهة كلفتها.
إن عوامل كثيرة ستتدخل ل»مساعدة« العراقيين على الاختيار. ولكن ما يمكن الحسم فيه، منذ الآن، هو أن اليمين الأميركي الأقصى سيحوّلهم إلى حقل اختبار لأطروحاته الخطيرة.
لقد خرج هذا الجناح منتصراً في الحرب الأخيرة التي كانت، في العمق، اختباراً أولياً لنظريته في الضربة الاستباقية. وسيعتبر أن من حقه ممارسة سياسة »الشهية المفتوحة«... على العراق أولاً، وجيرانه تالياً، والعالم كله استطراداً. ويعني هذا الكثير بالنسبة إلى هوية البلد، وثقافته، وروابطه، واقتصاده، وتوازناته الداخلية، وموقعه في منطقته، ومستقبله... إلخ. إن هذا »الكثير«، ممّا نعرف عنه بعض الشيء، هو فوق طاقة »المعارضة« على التحمّل ما عدا بعض الغلاة من رموزها.
قد لا تكفي جذرية هذا اليمين الأميركي وحدها لإنتاج رد فعل عراقي سلبي. ولكنها توفر، بالتأكيد، شرطاً ضرورياً (ولو ليس كافياً) لأن يخلط المرء بين توقعاته وتمنياته، ويرجح أن العراقيين لن يستطيعوا تلبية دفتر الشروط.

10/4/2003

رجل من ورق 20/08/2008 21:56

الدب والسكين والبندقية



»ان النفسيات المتعلقة بالقوة وبالضعف سهلة الفهم. فالرجل المسلح بسكين واحدة يستطيع ان يقرر ان الدب الذي يهيم في الغابة هو خطر قابل للاحتمال ما دام البديل اصطياد الدب بهذه السكين أكثر خطراً من الترقب وتمني ان الحيوان لن يهاجم. غير ان الرجل نفسه، لو كان يحمل بندقية، لكان فكّر بشكل مختلف في ما يمكنه ان يكون خطراً قابلاً للاحتمال. لماذا يجازف بأن يتعرض للافتراس اذا كان في وسعه تجنب ذلك؟ ان رد الفعل النفسي هذا، وهو رد فعل سائد، هو الذي جعل أوروبا وأميركا تتواجهان«.
»القوة والضعف« هو عنوان الكتاب الأخير لأحد أبرز منظري المحافظين الجدد في الولايات المتحدة روبرت كاغان. أحدث ضجة كبرى عندما كان مقالاً واستمر يفعل ذلك عند صدوره قبل أسابيع. يدافع الكتاب عن فكرة بسيطة. يقول ان الفرق بين السلوك الأوروبي (باستثناء بريطانيا) والسلوك الأميركي نابع، حصراً، من ضعف الطرف الأول وقوة الثاني. فالضعف يقود الى تحديد للمخاطر وسبل حلها لا علاقة له بالدرجة المتدنية من قدرة الاحتمال لدى القوي وميله الى العلاج العنيف.
يحاول الكتاب ان يفسر، انطلاقاً من هذا المنظور، الرغبة الأوروبية في اعتماد الوسائل الدبلوماسية، واللجوء الى مجلس الأمن، وتمديد المهلة للمفتشين في العراق... فهذا كله نابع من وهن برز حديثاً في القارة خلال القرن العشرين وتعزز بعد انتهاء الحرب الباردة. وبالمقابل فإن الولايات المتحدة سارت في اتجاه معاكس وتعزز ذلك بعد انتهاء الحرب الباردة. ففي حين مال الأوروبيون الى الرغبة في التنعم ب»ثمرات السلام« و»تناسوا الاستراتيجيا« ذهب الأميركيون نحو ضرورة التوسع، ونقل المعارك الى العالم، وتأمين المصالح على مدى بعيد، وتعيين التهديدات، والحزم في حسمها. وأما احداث 11 أيلول فإنها لم »تغيّر أميركا وإنما جعلتها أكثر أميركية«.
يعتبر كاغان، والحالة هذه، ان العقيدة الدفاعية الجديدة لجورج بوش هي الابنة الشرعية لشعور أميركا بقوتها. ويجعل هذا الشعور مضحكاً بعض الشيء تحديد المخاطر بصفتها المجاعة، والاوبئة والفقر، وسلبيات العولمة، وانتشار الجريمة... لا يليق هذا التحديد بالولايات المتحدة. لذا فإنها، أولاً، تكثر الحديث عن الدول المارقة، والدول المتعثرة، والارهاب ذي البعد العالمي، وتنتدب نفسها ثانياً، للتوجه الى حيث الداء من أجل استئصاله قبل ان يهددها.
والعدوان على العراق هو النموذج الاول للحرب الاستباقية التي يراد لها إجهاض خطر داهم. فالعراق دولة مارقة، تمتلك أسلحة دمار شامل، ويمكنها ان تستخدمها مباشرة أو بواسطة
ارهابيين ضد الأرض الأميركية أو المصالح الأميركية. لذا وجب التحرك الذي هو، في نهاية المطاف، تحرك أقرب ما يكون الى الدفاع المستقبلي عن النفس.
***
يمكن القول، بعد سقوط تكريت، إن الولايات المتحدة استكملت بسط احتلالها على العراق. ولا يكاد يمر مؤتمر صحافي لمسؤول أميركي، سياسياً كان أو عسكرياً، من دون ان يقف سائل ليسأل: ولكن ما أخبار أسلحة الدمار الشامل؟ ويتردد الجواب نفسه: نحن واثقون من أنها موجودة، ولكن النظام أحسن إخفاءها، وسيأتي يوم نكتشفها.
نحن أمام واحد من احتمالين.
هذه الأسلحة غير موجودة. يعني ذلك ان واشنطن المدركة سلفاً لفراغ الملف قامت بهذه الحرب لأسباب لا علاقة لها بالادعاءات التي قدمتها وغيّرت فيها غير مرة.
هذه الأسلحة موجودة فعلاً. ومع ذلك فإن بغداد لم تستخدمها حتى ان النظام سقط تماماً من دون ان يدافع بها عن نفسه. نضع جانباً »تفسير« ريتشارد بيرل من ان سرعة التقدم حالت دون الاستعمال. نضع ذلك جانباً لنستنتج ان من لم يلجأ الى هذه الترسانة في »حشرة« من هذا النوع لم يكن ليلجأ إليها من أجل »الاعتداء« على الولايات المتحدة. وإذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً، وهو، على الأرجح، صحيح فإنه يقود ببساطة الى نسف التطبيق الأميركي على العراق لنظرية الضربة الاستباقية. فنحن، ببساطة، أمام ضربة لا تستبق شيئاً. أي نحن أمام حرب ذات أهداف عدوانية أصلية استخدمت الذرائع الممكنة كلها من أجل احتلال العراق في سياق مشروع جذري يطال المنطقة أساساً والعالم استطراداً.
يقود ذلك الى القول ان التبريرات التي يقدمها المتطرفون الأميركيون للتمايز بينهم وبين بعض الأوروبيين كاذبة من أساسها. لم نكن أمام موقفين من استشعار الخطر والرد عليه. كنا أمام حملة نيوكولونيالية رفض البعض المشاركة فيها. ويسمح ذلك بالعودة الى »القصة« التي يرويها روبرت كاغان.
كلا، ليست الولايات المتحدة رجلاً يمتلك بندقية ويسمح لنفسه حيال الدب بما لا يسمح لنفسه به رجل يمتلك سكيناً. ان الولايات المتحدة هي الدب الذي يهدد الاثنين معاً. ومن الأفضل، لردعه، امتلاك بندقية. ويتأكد ذلك من ان هذا »الدب« ارتدع نسبياً حيال كوريا وبالضبط لأنها تمتلك أسلحة دمار شامل.
***
لا تقوم واشنطن، في العراق، بدفاع استباقي عن النفس. تقوم بعدوان هجومي يريد أخذ العراق وتحويله الى منصة لتطويع الأمة العربية بمعتدليها و»متطرفيها«. إنها تسعى الى بناء شرق أوسط جديد لا وجود فيه لأي نوع من الممانعة أو التحفظ.
يفسر لنا ما تقدم، سبب التبكير في شن هذه الحملة السياسية على سوريا. ان لها أسبابها العراقية المؤكدة من وجهة نظر أميركية. ولكن التدقيق فيها بعض الشيء يحسم في ان لها صلة بقضايا الصراع العربي الاسرائيلي وبموازين القوى الخاصة به التي لا يلوح فيها أي تهديد، ولو استباقي، للأرض الوطنية الأميركية.
ان في هذه الحملة ما يشي بالطبيعة العدوانية الأصلية لهذه الحرب على المنطقة ولترابط الحلقات بين ما يخص المصالح الخاصة بواشنطن وتلك الخاصة بإسرائيل والدرجة العالية من التماهي بين استهدافات الدولتين.
لسنا، اذاً، أمام دب واحد بل اثنين. واللافت انهما وجدا درجة من التنسيق يفتقر إليها ضحاياها. فالضحايا ليسوا دببة إلا بقدر ما ان الأسود أكل يوم أكل الأبيض.

15/4/2003

ooopss 23/08/2008 22:14

بعدني عم اقرأهن ماخلصت
اقتباس:



قرّرت الولايات المتحدة إنفاق ملايين الدولارات من أجل تشجيع الديموقراطية في العالم العربي ...


من واجب أي صديق لها أن ينصحها بألا تفعل ذلك. إذ كلما خطا العرب خطوة نحو الديموقراطية كلما ازدادت خصومتهم لها، و»الأخطر« من ذلك، كلما ازدادت قدرتهم على حسم هذه الخصومة لصالحهم

:lol:

لسنا، في الواقع، أمام خطأ ترتكبه الولايات المتحدة بحق نفسها وحلفائها عبر تشجيع الديموقراطية. فهذا الشعار يقصد منه شيء آخر. يقصد منه التسلل لتعميم ثقافة يطلق عليها »ثقافة السلام والتسامح والاعتدال«. إن هذه الثقافة قابلة للهزيمة في أي معركة ديموقراطية فعلاً في العالم العربي. تهزمها ثقافة تجعل العدالة مطلباً، والحرية مطلباً، والسيادة المنفتحة على العالم مطلباً. وتهزمها أيضاً ثقافة »السلام العادل« والذي لا يسعه أن يكون دائماً ما لم يكن عادلاً



اقتباس:

الأزمة ووعي الأزمة


إن كل إطلاق نار، عندنا، مقاومة. وكل مأدبة منتدى فكري. وكل رصف للكلمات مطالعة. وكل
إنفاق استثمار. وكل رشوة إعادة توزيع للثروة. وكل إحسان مكرمة. وكل إضراب عطلة. وكل تنظيم عشيرة. وكل طائفة أمة. وكل بلد عربي جار خصم. وكل مؤسسة مشتركة مزحة. وكل حاكم إله. وكل برلمان غرفة صدى. وكل فكرة سلعة. وكل جامعة حضانة


حسيت هون تجسيد للواقع ساخر ومؤلم وواقعي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 16:26 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون

Page generated in 0.22598 seconds with 10 queries