-
PDA

عرض كامل الموضوع : فى حب نجيب محفوظ.... دراسات


صفحات : [1] 2

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:07
نجيب محفوظ:
السهل الممتنع
الدكتور يحيي الرخاوي استهلال واعتذار:
حين طُُلب مني أن أقوم بتحليل شخصية نجيب محفوظ إسهامًا في هذا العمل المهم، فزعت من حيث المبدأ، ورفضت من حيث المنهج. إن كل ما يستطيعه أي شخص يريد أن يضيف لمحة قصيرة التقطها من جانب من جوانب حضور محفوظ الشخصي أو الإبداعي هو أن يرصد بعض ما تردد في وعيه من أصداء شخصيته: مبدعًا وفردًا عاديا حاضرًا: يجلس علي المقهي ويمشي في الأسواق. وحتي هذه المهمة بدت لي من أصعب ما يمكن، لذلك قررت أن أكتفي بمحاولةٍ توضّح معني شائعا، لكنه ملتبس عند معظم الناس، وهو المعني الذي تمثله شخصية نجيب محفوظ خير تمثيل، أعني معني «السهل الممتنع».
كثير ممن يرددون تعبير «السهل الممتنع» لا يدركون أبعاد مضمونه تحديدًا. إنه تعبير يشير إلي كيف أن الأمر، أو الشخص، الذي قد يبدو سهلاً واضحًا مباشرًا، هو في نفس الوقت فريد نوعه بحيث لا يمكن أن يتكرر أو حتي يقلد. قد نستعمل هذا التعبير بسطحية عابرة، وقد يعني معني شديد العمق من حيث إشارته إلي نوع رائع من تمام دورة ارتقاء بشري، دار دورته حتي عاد إلي أبسط صور الوجود محتفظًا بعمق خاص يجعل من البسيط ما يرادف أروع العمق. إن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ لما دار دورته الكاملة بما في ذلك الإسراء والمعراج، ظل يمضي بين الناس بشرًا يمشي في الأسواق، وجدًا طيبًا يداعب أحفاده، وإنسانًا لينا رقيقا يلين لهم بما رحمة من ربه. لم يكن ذلك علي حساب عمق وجوده، ولا عظمة رسالته، ولا مسئولية حمله لذلك القول الثقيل، الذي أضاء به الدنيا قبل أن نتراجع نحن عن حمل منارته.
لاحظت هذا الحضور لما هو «سهل ممتنع» مع اثنين حظاني ربي أن أقترب منهما، الأول وأنا بعد صبيا لم أبلغ السادسة عشرة من عمري، وهو يحيي حقي، والثاني وقد شارفت علي السبعين وهو نجيب محفوظ. إن الذي جعلني أتمثل أكثر ما هو «السهل الممتنع» في يحيي حقي، أنني عرفته في بيت وحضور المرحوم محمود محمد شاكر، كانا يمثلان عكس بعضهما البعض في ظاهر حضورهما، كما كانا في نفس الوقت أقرب من عرفت إلي بعضهما البعض. يمكن أن يوصف محمود شاكر بـ«الصعب الجميل»، في مقابل يحيي حقي «السهل الممتنع». كان صوت محمود شاكر، وحسمه، وغضبه، وحضوره الموسوعي، ودقته المنهجية ترعب ـ لأول وهلة ـ كل من يتعرف إليه لأول مرة، لكن ما إن تقترب منه أكثر حتي تجد بداخله طفلاً وديعًا رقيقًا محبًا كريمًا متسامحًا عطوفًا جميلاً، ليس أسهل منه ولا أقرب. أما يحيي حقي فبعد أن تأخذك سهولته ودماثة حضوره يستدرجك ـ دون أن تشعر ـ إلي أغوار لم يكن ظاهره ينبئ بها قط. فتعرف أنه «ممتنع» فعلاً. كتابة يحيي حقي تتصف بنفس الصفة «السهل الممتنع».

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:09
نفس التحدي وصلني وأنا أقرأ القرآن الكريم مع أولادي ثم مع أحفادي قبيل المغرب في رمضان. أتعجب كيف أن هذا الكتاب الذي لا ريب فيه هدي للمتقين، نزل بهذه الصورة الشديدة السهولة ـ خصوصًا إذا قارناه بالأدب السائد في عصر التنزيل ـ تلك الصورة التي تنساب دون شرح إلي عقل طفل صغير، أو وعي عجوز أمية، بمثل ما تصل إلي عقل فقيه حاذق، أو عالم نحرير، يتم ذلك هكذا طول الوقت عبر أكثر من أربعة عشر قرنًا دون أن تزداد الصعوبة، وهو يفجر وعي أعماق من يقترب منه بما يجعله ـ طبعًا ـ ممتنعًا عليه ـ أليس تنزيلاً من رب العالمين.

مريد يتحرك في رحاب شيخه:
حين أتاحت لي الظروف أن أتحرك خلال هذه السنوات الثماني الأخيرة (تقريبًا) في رحاب وعي شيخي الجليل نجيب محفوظ، رحت أعايش هذا المعني الرائع ماثلاً أمامي طول الوقت. كنت قد استشعرت نفس المعني من كتاباته قبل أن أعرفه شخصيا، لكنني لم أكن أتصور أن حضوره اليومي العادي بين الناس هو مَثَلٌ أروع لأجمل صور «السهل الممتنع». كنت أحسب أنه يقضي وقته بين الناس ليزداد احتكاكًا بمادة إبداعه، ليأتنس بهم بعيدًا عن الورق والقلم والكتب والرمز، وإذا بي أكتشف أن وجوده اليومي، هذا أكثر «سهولة»، وفي نفس الوقت أكثر امتناعًا لأنه أكثر إبداعًا متحديا بإعجاز أن يوجد واحد مثله، أو حتي أن ينجح أحد أن يقلده.
ما هو السر في هذا الذي يصلنا منه بهذه الصورة البسيطة الجميلة المتحدية المعجزة في آن؟ للإجابة علي هذا السؤال حاولت أن أضع فرضًا يقول:
إن ذلك لا يتم إلا إذا تقارب الواحد من بعضه البعض، إذا تناغمت مستويات وجوده. (منظومة دماغه) مع بعضها البعض، فتكون النتيجة أن الخطاب يصل إلي المتلقي عبر أكثر من مستوي من مستويات وعيه وفي نفس اللحظة. من هنا يستقبل كل متلقٍ المستوي الذي يناسبه فيبدو له الخطاب سهلاً، فإذا ما اقترب ليفحص الأمر أو يحاوله، فإنه يكتشف أن هذا الذي تلقاه لم يكن خالصًا منفصلاً عن غيره من سائر المستويات، بل كان متضمنًا إياها. من هنا يأتي «الامتناع» لأن هذه المرتبة من التناغم لا يصل إليها إلا مبدع متكامل، يعيش إبداعه بقدر ما يفرزه، وهو يفرز إبداعه من خلال ما يعايشه.
هذا هو المدخل الذي أسهم به في محاولة التعريف بما يميز نجيب محفوظ إنسانًا ومبدعًا بصفتي مريدًا عاجزًا، لم يستطع أن يستوعب إلا بضع ما تردد في وعيه من أصداء حضور شيخه، فأقدم ذلك علي محورين:
المحور الأول: نجيب محفوظ: يمشي بين الناس، مبدعًا لهم.
المحور الثاني: نجيب محفوظ: يستوعب التاريخ ويفرزه.


المحور الأول: محفوظ: يمشي بين الناس مبدعًا لهم.
في أصداء السيرة الذاتية يقول نجيب محفوظ: «تذكرت كلمات بسيطة، لا وزن لها في ذاتها، مثل "أنت"، "فيم تفكر"، "طيب"، "يالك من ماكر".. ولكن لسحرها الغريب الغامض جن أناس، وثمل آخرون بسعادة لا توصف».

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:10
هذا بالضبط ما وصلني من كلماته العادية، ولفتاته الطبيعية، وما يترتب عليها إذ «لسحرها الغامض جن بعضنا، وثمل آخرون بسعادة لا توصف».
عرفته بكل هذا القرب بعد الحادث القدر، وكان قد توقف عن القراءة قبل ذلك، ثم توقف عن الكتابة بعد الحادث، ففزعت أشد الفزع وآلمه، ورحت أتساءل كيف يمكن لهذا العقل البشري، لهذا الوعي الخلاق، لهذا الإنسان الحاد التلقي الغامر الإبداع، كيف يمكنه أن يستمر وقد ظل أكثر من سبعة عقود يتلقي ليرسل. يتمثل ليقول. يستوعب ليبدع. كيف يمكنه أن يستمر دون قلم وورقة. دون نشر وهجه المتجدد يضيء وعينا المتلهف. دون تلوين وتشكيل وإعادة تشكيل، دون استلهام إلهي. أو وجد نبوي؟ وحين لم تسعفني الإجابة جزعت، وصبرت، وأملت، وثابرت، فإذا بعشرتي له وتلمذتي علي هدي خطاه الوديعة علي أرض الواقع اليومي تخفف عني ما أصابني من ألم، وما تصورت من عجز، إذ راحت أصداء حضور شيخنا الجليل تجيب علي ما حيرني بما هدانا الله إليه، فجاءت إجابته ـ من واقع حركتنا اليومية ـ تحقق لي فرضًا طالما شغلني، فرضا يقول:
«إن الحياة الحقيقية هي الإبداع الحقيقي: قبل وبدون أي ناتج إبداعي آخر، خارج عن ذات صاحبه».
قيل وكيف كان ذلك؟
رحت أتأمل اختراقه لكل ما أصابنا إذ أصابه، رحت أتابعه وهو يروض القدر بفعل هادئ طيب صبور، ساعة بعد ساعة، يومًا بعد يوم، جلسة بعد صحبة، حديثًا بعد نكتة، فعاينته وعايشته وهو يبني معمارًا جديدًا هو ما سميته: الإبداع حي ـ حي (استعارة من التعبير صواريخ جو ـ جو)، أعني الإبداع الذي يصل مباشرة من وعي يتخلق إلي وعي يتشكل، دون حاجة لأن يصاغ في رموز خارج ذات صاحبها. أنا لاأعني ـ فقط ـ ما يشبه العلاقة الصوفية التي تتم بين الشيخ ومريديه، ولكنني أتذكر أيضًا علاقة الطفل بأمه (وكلاهماـ الأم والطفل ـ يعاد تشكيله إذا صحت العلاقة الجدلية) كما أتذكر علاقة الرسل بحوارييهم، قبل الوحي وبعده.
حين بدا لي أن هذا الفرض الذي افترضته يمكن أن يكون صحيحًا، فرحت فرحًا غامرًا إذ تصورت أن الله سبحانه قد أفاء علينا برحمته حين ألهم شيخنا أن يواصل إبداعه فينا إذ نتشكل ـ هكذا ـ في حضوره الحي المبدع، (كان هذا قبل أن يعاود كتابة أحلام فترة النقاهة). فإذا بنا نتعرف علي مقاييس أخري للإبداع، مثل أن يخرج الواحد منا ـ من جلسته ـ غير ما دخل، أو أن يكتشف الواحد منا ـ وهو يتحدث إليه ـ غير ما قصد، أو أن يتذوق الواحد منا ـ في حضوره ـ طعم الهواء الداخل إلي صدره غير ما ألف، كل ذلك من واقع هذه المعايشة البسيطة الصادقة العميقة. لقد راح شيخنا يقرؤنا ويكتبنا ثم يعيد كتابتنا، وهو لا يكتفي بهذا، بل يسمح لنا أن نعيد قراءته واستقبالنا له.
تأكد لي من خلال هذه الخبرة أن الإبداع ليس قاصرًا علي ما يكتب أو ينشر، ولا هو قاصر علي تشكيل اللون أو تنغيم اللحن، وإنما الإبداع أساسًا هو نوع الحياة التي يحياها الشخص، فحين يكون التلقي طازجًا، والدهشة حاضرة، والتعلم مستمرًا، والأسئلة لها نفس احترام ويقين الإجابات، تصبح الحياة ـ مجرد أن يمر عليك تلو اليوم وأنت حي ـ إبداعًا في ذاتها، مجرد أن تعي كيف تشرق عليك الشمس، أن تسمع همس أنفاسك، أن تتمتع بتأمل عروق ظهر يدك، أن تعني لمن تقول له «صباح الخير» أنه «صباح الخير»، أن تسمح لحلمك أن يبقي في وعيك بعض الوقت كما هو دون إضافة أو تأويل أو تفسير، كل هذا إبداع في إبداع، تأكد لي كل ذلك أكثر فأكثر حين عايشته مع شيخنا هذا، في زمننا هذا، طوال هذه السنوات الأخيرة بما يحتاج إلي إيضاح. في بعض ما يلي من عينات ليست مفصلة بشكل كاف.

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:11
= يخرج الواحد منا من مجلس نجيب محفوظ مختلفًا، يحدث هذا بدرجات متفاوتة لمعظم من يحضره، يخرج وقد تغير فيه شيء ما، شيء طيب وعميق: أحيانًًا أحسه بدرجة ما من التحديد، وأحيانا يصل إلي وعيي رغما عني فأنزعج منه أو أفرح به، وأحيانا أرجح أنه حدث ولا أدرك تفاصيله، فأنتظر تراكماته مع غيره حتي أستبين.
= من علامات نجاح هذا النوع من الإبداع الجميل أننا لا نمله، نحن لا نشعر مع شيخنا هذا بالزمن أصلا.. أراهن لو أن أحدًًا جلس مع نجيب محفوظ ونظر في الساعة مرة واحدة يستعجل الوقت (بشرط ألا يطغي علي جلسته جسم غريب لحوح لا يعرف طبيعتها).
= يتسع صدر شيخنا لأي اختلاف وكل اختلاف، ليس فقط فيما يصله، ولكن فيما بين المتحاورين بعضهم مع بعض. وإذا بنا نتحمل بعضنا بعضا أكبر مما لو تواجهنا بعيدًًا عنه. وهذا من علامات وضرورة التخلق الجديد لذواتنا في رحابه، ونحن نتعلم كيف نتحمل الغموض، نثري بالاختلاف للتوليف.
= تتعاظم التفاصيل الإنسانية البسيطة في حضور محفوظ، فتصبح لها نفس أهمية ودلالات القضايا العامة، ففي عز انهماكنا ـ مثلا ـ في تعريف المثقف، أو مناقشة اتفاقية الجات، أو مصيبة فلسطين، يسأل نجيب محفوظ عن نتيجة فحص قلب أحدنا ممن يكون قد أخطره باعتزامه استشارة طبيب، أو عن أحوال قادم من سفر بعيد، يحدث كل هذا العادي بشكل غير عادي، فيغوص في عمق وجداننا معًًا، حتي نصبح واحدًًا حوله، فنتقارب أرق وأقرب في كلية متناغمة جديدة.
يحدث كل ذلك دون أن نسميه إبداعًًا، ودون أن يبدو عليه أنه هو قائد هذه السيمفونية الإنسانية من التواصل الجميل.
أنت في جلسة نجيب محفوظ، لا تملك إلا أن تنسي أنك تجلس مع نجيب محفوظ الذائع الصيت الحاصل علي نوبل، الكذا وكيت، بل إنه هو شخصيا أكثر واحد لا يلاحظ أنه «نجيب محفوظ» بل مجرد واحد منا: يقوم لكل قادم، ويرد علي كل سائل، مهما صغر أو كان ضيفًًا يحضر لأول مرة. هذا الحضور الإنساني الرقيق ليس منفصلا عن إبداعه المسجل المعلن الناتج منه بعيدًًا عن حضوره الشخصي اليومي. وكأن هذا الإبداع العادي هو الأرضية الأصل التي يمارس محفوظ من خلالها حضوره الإيجابي المتفجر إبداعًًا روائيا بمختلف أنواعه.
بدا لي أن محفوظًًا يقرؤنا ويكتبنا بكل اللغات، وكل من عاشره أكثر من مرة لابد أن يلاحظ لغات تحاوره المتعددة سواء بالكلام أم بالصمت المفعم، أم بالإيماءة المتسامحة أم بالضحكة العريضة.
ذات مرة تساءلت ماذا لو أنه غاب عن جلساتنا هذه، لا قدر الله، ثم أدرنا نفس الحديث، وتناولنا نفس المواضيع، وتحمسنا نفس الحماس، واختلفنا نفس الاختلاف: هل يتبقي فينا ما يتبقي وهو بيننا؟ لا أظن. بل إنني تصورت أن أحدًًا منا لن يحضر أصلا في المرة التالية. لأنه سوف يفتقد ذلك «الحضور الخاص المعجز معًًا».

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:14
المحور الثاني: محفوظ يستوعب التاريخ ويفرزه
كيف يكون واحد من الناس، هو نفسه تاريخ ناسه؟ وكيف يقوم هذا الواحد وهو ليس مؤرخًًا ـ بتسجيل تاريخ ناسه في إبداعه؟ يفعل هذا وذاك دون تكلف ودون افتعال، وبأسلوب يصل إلي كل واحد، وفي نفس الوقت يعجز عن فعل مثله أي واحد.
لعل نجيب محفوظ كان يصف نفسه حين أعلنها علي لسان أب يخاطب ابنه في مقدمة روايته «العائش في الحقيقة» وهو يقول: «كن كالتاريخ، يفتح أذنيه لكل قائل، ولا ينحاز لأحد ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين». التاريخ الذي يعنيه محفوظ هنا ليس هو التاريخ المكتوب في كتب التاريخ أو وثائقه، وإنما هو التاريخ الحي الماثل في وعي الإنسان وهو يعمر الأرض، وهو يتعثر، وهو ينتكس، وهو يبحث عن الحقيقة، وهو يصاب بالعمي عنها، ليقع ثم يقوم، ليعاود البحث. إن تعبير محفوظ «كن كالتاريخ».. لا يعني التشبيه، بقدر ما يحدد ما هو التاريخ، وكأنه يقول «أنت (أنا) التاريخ»، ذلك أنه أردف بعد هذه النصيحة من الأب استجابة الابن وهو يقول: «وسعدت جدا بالتوجه إلي تيار التاريخ الذي لا أعرف له بداية، ولن يتوقف عند نهاية، ويضيف كل ذي شأن إلي مجراه موجة مستمدة من حب الحقيقة الأبدية».

التاريخ الحقيقي، والتاريخ الوثائقي
لا أريد أن أدخل في مناقشة إشكالية مدي مصداقية «علم التاريخ» أكاديميا، إن مدخلي هنا يتجاوز ذلك وأنا أستمع لأصداء نجيب محفوظ وهي تتردد في وعيي، إنني أكتشف أن لوحين محفوظين يدقان لحنًًا تاريخيا رائعًًا مخترقًًا. لوح يمثل إبداعه، ولوح يتجلي في شخصه:
اللوح الأول: هو التأريخ بالإبداع، وقد رأيته أكثر دلالة وإحاطة من كتب تاريخ يكتبها مؤرخون محترفون وأكاديميون، هو أصدق أيضًًا من التسجيل الوثائقي، ومن الرص الشهاداتي. المبدع يحتوي الواقع ثم يفرزه، وهو يسجله بموضوعية فائقة لأنه يتجاوز الحكي المعلوماتي، والتصوير الساكن، والوثائق والشهادات المشبوهة. النص الأدبي ـ مثلا ـ يعري الواقع الخارجي والناس من خلال معاناة فإبداع كاتبه، ثم يأتي الإبداع النقدي بعد ذلك ليعيد قراءة النص فيصنف ويرتب الواقع البشري أعمق وأكثر دقة وإحاطة، إنه يخلق من الواقع واقعًًا أصدق، لا خيالاً بديلاً. من هذا المنطلق تعتبر إبداعات محفوظ من أهم المصادر التي يمكن أن تساعدنا للتعرف علي أنفسنا وعلي تاريخنا، وعلي امتدادنا إلي ما يمكن أن نكونه.
أما اللوح الثاني: فهو التاريخ المسجل بيولوجيا في خلايانا، هو اللوح المحفوظ المبرمج القادر المسمي «الدنا» DNA، حيث يقع في بؤرة محورية الوجود، ليتجلي في الذاكرة والوراثة والمناعة والطفرات التطورية. إن التاريخ الذي يسجل في نوايا خلايا الأحياء نوعًًا بعد نوع، حتي الإنسان جيلاً بعد جيل هو التاريخ الحقيقي، حيث لا يخضع للأهواء أو يقبل التزوير. لقد كدنا ننجح في فك رموز أبجدية اللوح البشري عامة (الجينوم)، ولنا أن نأمل في أن ننتقل لفك رموز الجماعات فالأفراد حتي يمكن أن نقرأنا دون تدخل مريب، وحتي ذلك الحين نحن لا نملك إلا أن نقرأ ما يصدر عنا، وما يصدر منا، سلوكًًا وإبداعًًا، رمزًًا ومباشرة.
إن الفرض هنا أصعب، وهو من قبيل التفاؤل كما ذكرت، أملاً في أن هذا الشيخ الرائع يمثل «ما هو نحن» أو «بما يمكن أن نكونه».
وفيما يلي عرض بعض عينات من إبداع محفوظ، ثم من تجليات حضوره الشخصي لتفسر لنا ما أعنيه بهذين اللوحين اللذين حفظهما لنا محفوظ بإبداعه وحضوره جميعًًا.

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:16
اللوح الأول: التأريخ بالإبداع

أولاً:التجلي في أحداث الماضي مباشرة (قراءة في تاريخ مصر القديمة) بدأ نجيب محفوظ الكتابة المنشورة سنة 1932 بترجمة «مصر القديمة»، ثم تلاها مباشرة تقريبًًا (بعد مجموعة قصص قصيرة: همس الجنون 1938) بثلاثية عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة (1939، 1943، 1944 علي التوالي). وهو لم يعد إلي مثل هذا التناول، بعد نضج فائق، إلا ليكتب «العائش في الحقيقة» (1985) بمستوي آخر في عمق آخر (هذا، فضلاً عن لمحات عابرة في قصص قصيرة هنا وهناك). هذه الرحلة في التاريخ لا تمثل تمامًًا ما أعنيه بـ: التأريخ بالإبداع، (أو الواقع الإبداعي) علي الرغم من أنها سميت المرحلة التاريخية (محمود العالم). إن تقييم هذه المرحلة من وجهة نظر المداخلة الحالية هو أنها تعتبر إعادة بمثابة صياغة لتاريخ قديم معروف. إن هذا لا يعدو أن يكون بمثابة تحديث خيالي لقراءة في التاريخ، فهو ليس تمثلاً إبداعيا لواقع معيش. هذا المستوي هو «قراءة» أكثر منه «معايشة»، فانصهارًًا، فإعادة تشكيل، هي قراءة توصل إلينا ما هو نحن سهلاً مسلسلا، دون أن تفرض علينا حقائق جامدة نخضع لها قسرا حتي لو لم تكن هي، هذه الترجمة من وقائع تاريخية جامدة إلي إبداع سلس لا يقدر عليها إلا من ملك أداة موضوعها ليصنعها منسابة بهذه السهولة التي تمتنع علي غيره.

ثانيا: التجلي الرمزي

لم يفصل إبداع محفوظ بين تاريخنا (تاريخه) وتاريخ البشرية (بل تاريخ الحياة أحيانًًا). هو لم يقصد ذلك ابتداء، لكن انتماءه إلي الحياة، ودوام سعيه لاكتشاف الحقيقة، ألهماه أن يقرأ تاريخنا علي أرضية أوسع بامتداد أبعد. إن حضور شعب، ثم فرد علي هذه الأرض أو تلك في زمن محدد، ليس إلا تجسيدًًا لمسيرة الحياة برمتها حيث يستحيل فصل الوجود البشري، حتي في حضوره الفردي، عن ملحمة الوجود الحيوي (التطور). من هنا راح محفوظ يبحث بإلحاح لم يهمد عن «الطريق» إلي الله، و بقدر ما راح يحفر حول جذور الحياة لعله يسبر غورها في هذه المحاولة تداخل الموقف الفلسفي بالموقف الصوفي بالموقف التأريخي. هكذا اضطر محفوظ ـ ربما تحت إلحاح إبلاغ الرسالة ـ أن يبالغ في اللجوء للرمز وهو يعيد كتابة التاريخ حتي خيل إلي أن ما يميز هذا التجلي الرمزي لم يكن استيعاب الواقع إبداعًًا بقدر ما كان إظهار القدرة علي إعادة تشكيل التاريخ حالاً بلغة آنية لا أكثر. اعتبرت أنه قد غلبته إغراءات الأداة القادرة علي تطويع أي شيء حتي تاريخ البشرية حتي بدا لي مدرسا يلخص لنا درس الحياة بطريقة سهلة قريبة وهو يقوم بإعادة صياغة التاريخ كتابة موازية للرسالات الهادية دون إضافة معينة. تجلي هذا البعد الرمزي في أكثر من عمل كان أهمها، وأخطرها، «أولاد حارتنا» حيث بلغ الرمز من الوضوح ما عري المرموز له حتي رجحت كفة سلبيات المحاولة علي إيجابياتها، وترتب علي ذلك ما ترتب. لكن الرمز تخفي أكثر في أعمال أقل طموحًًا مثل «حكاية بلا بداية ولا نهاية» وهو يقدم الكتب الثلاثة التي هزت البيت الكبير والطريقة. لم يتردد محفوظ في تقديم كوبرنيكس في ثوب الشيخ أبو كبير هو يعلن «أن بيتنا ما هو إلا فرع من فروع لا حصر لها من بيوت الطريقة»، كما ألبس سيجموند فرويد ثوب الشيخ أبو العلا «ذاك الوحش الذي يتلذذ بالأعراض..» هذا كله أوصل معني «التسهيل بالتعميق»، وليس بالإيجاز أو الحذق والترجمة إلي اللغة المعاصرة، وهو أمر بالغ التعقيد إذا ما اقتربت منه، أو حاولت مثله.

ثالثًًا: التجلي الأعمق لدورات الحياة

تتكرر محاولات محفوظ لصياغة التساولات الأساسية لمسار ومصير الإنسان في توجهه نحو المطلق بدءًًا بزعبلاوي، حتي تنضج التجربة لتؤتي أكمل ثمارها حين يمتلك محفوظ ناصية الرقص مع دورات الحياة مباشرة دون حاجة إلي رمز يستعيد به أحداث التاريخ. راح محفوظ يتناغم وهو يدور مع المطلق، وهو يعري ضلال الخلود ويساويه بالموت الآسن، كما استطاع أن ينبهنا كيف أن «الوعي بالموت» هو أعظم حافز للحياة. نجح محفوظ في الحرافيش أن يرسم دورات الحياة وكأنه يلف معها في سيمفونية الإيقاع الحيوي دون حواجز، «تعالوا نأخذ عينة محدودة من الحرافيش:
=لو أن شيئًًا يدوم، فلم تتعاقب الفصول؟
(هل تصدق أن هذه فقرة كاملة في الرواية؟ فقرة رقم 45).
ثم نقرأ بعد ذلك بخمس صفحات فقط:
«الشمس تشرق، الشمس تغرب، النور يسفر الظلام يخيم».
هل يوجد ما هو أبسط من ذلك، لو أن هذه الجمل وضعت في كتاب للقراءة الرشيدة لأطفال في المرحلة الابتدائية لكانت مناسبة من فرط سهولتها، أما موقعها في سياق ملحمة الحرافيش التي بدأت دوراتها بعاشور الناجي لتنتهي بعاشور الناجي أيضًًا فهذا هو ما يمتنع علي غير محفوظ حتمًًا.
بدت لي ملحمة الحرافيش خاتمة هذه المحاولات لفرط ما اتسق تناغمها، إلا أنه عاد من جديد إلي دورات الحياة وهو يبحث بنفس أهدأ في رحلة ابن فطومة، وأيضًًا ظهرت دورات أخري مؤخرًًا في أصداء السيرة الذاتية. هذا تاريخ دوار يحضره محفوظ في «هنا والآن» ثم يحركه في دورات الحياة الحالية وكأنها تتكرر، وهي لا تتكرر بل تتجدد حيويتها.

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:20
رابعًًا: التجلي المتابع المستوعب للواقع الظاهري (روايات الأجيال أساسًًا)
لا يكاد يخلو عمل من أعمال محفوظ، حتي ما غاص منه وبه في خيال شاطح (مثل رأيت فيما يري النائم وليالي ألف ليلة، وحتي أحلام فترة النقاهة) من حضور الواقع الظاهر كما يعيشه أي منا بلغته الآنية وحضوره البسيط العميق الرائع. يتجلي ذلك بوجه خاص في روايات «الأجيال» خاصة بدءًًا من الثلاثية، وليس انتهاء بحديث الصباح والمساء (الذي شرح فيه تطور الطبقة الوسطي المصرية بشكل خاص خلال قرنين من الزمان، منذ نزول نابليون علي شاطئ الإسكندرية 1798 حتي أحداث سبتمبر السادات 1981)، ثم «يوم قتل الزعيم» و«باقي من الزمن ساعة».

خامسًًا: التجلي السياسي
أظهر التجلي السياسي في إبداع محفوظ مدي سعة المسافة بين موقف نجيب محفوظ المتحفظ (لا المحافظ) وهو يدلي بآرائه السياسية في الحياة اليومية، وبين نجيب محفوظ السياسي والثائر المغامر حتي القتل في إبداعه الروائي. يبدو أن إبداعه هذا هو بمثابة التعويض الذي يعادل موقفه المحافظ في الحياة العادية، هذا الإبداع عوضه عن التزامه المتحفظ أبدًًا. نقرأ ذلك التنبيه علي ضرورة التحفظ وهو يصدر من الوالد للابن في مقدمة العائش في الحقيقة: «ولكن احذر أن تستفز السلطان، أو تشمت بساقط في النسيان». ثم إنه ألحق ذلك بقوله مباشرة «كن كالتاريخ.. إلخ. ثم إنه أكمل بعد ذلك، وكأنه يصف نفسه ثانية، ويخاطبها..«أما أنت، فتريد الحقيقة، كل علي قدر همته». بدا البعد السياسي في إبداع محفوظ مكملاً لـ (وليس بالضرورة متناقضًًا مع) الرأي السياسي في تصريحاته وأحاديثه الرسمية المنشورة (دون أحاديثه الخاصة) ومع ذلك فإنه لا يكاد يخلو له عمل واحد من التجلي السياسي الناقد الثائر المقتحم للجاري علي السطح بما في ذلك التاريخ المسجل بالوثائق والشهادات، إلا أن بعض رواياته حظيت بقدر أكبر من غيرها في الاهتمام بهذا البعد مثل: الكرنك، وثرثرة فوق النيل، ويوم قتل الزعيم، وميرامار واللص والكلاب والشحاذ. إن أي مؤرخ أكاديمي لا يضع هذه الأعمال المتميزة الروائية السلسة كمصدر من أهم مصادره، يمكن أن يفوته الكثير.
ليس معني أن محفوظًًا استطاع أن يمتلك ناصية الأحداث ليمزجها في خياله المبدع ثم يخرج بها في هذه الصورة الروائية السلسة أنه ابتعد عن الأحداث لصالح إبداعه، بل لعله أضاف إلي الأحداث حقيقة أغوارها بفضل إبداعه، أتم محفوظ هذا التأريخ ليصبح في متناول كل الناس، وفي نفس الوقت هو ممتنع عن غيره من فرط سلاسته وعمقه معًًا، هكذا.

سادسًًا: التجلي الذاتي (السيرة الذاتية)
صرح محفوظ أكثر من مرة بأنه لن يكتب سيرته الذاتية، بل إنه ذهب أبعد من ذلك حين برر تحفظه هذا بأنه لا يري في سيرته الذاتية ما يستأهل الإشارة بوجه خاص، فهي ـ حسب قوله ـ لا تختلف عن سيرة أي مواطن مصري وجد في ظروفه وهو لم يكن في ذلك مدعيا التواضع، بل لعله ـ من فرط أمانته ـ أراد أن يبلغنا أنه (نجيب محفوظ) يمكن أن يتكرر بلا أدني تقديس.. ثم إنه في نفس الوقت لم يتردد (ولا يتردد) أن يجيب كل سائل عن خصوصياته إجابة صادقة ومباشرة، وإن لم تكن كاملة طبعًًا.
علي الرغم من هذا العزوف المبدئي، فإن سيرة نجيب محفوظ تجلت في كل أعماله (عدلت عن أي أقول أغلبها) هي لم تتجل ببعدها الظاهر، وإنما بمستوياتها الكيانية المتعددة. إن نجيب محفوظ هو من المبدعين القلائل (أو النادرين) الذين لم يعيشوا هذا التناقض الصعب بين ما هم، وما يكتبونه. وفي نفس الوقت إنه لا يوجد تماثل أبدًًا بين شخصه وبين ما يكتب. إنه يحضر ـ شخصيا ـ في كل ما يكتب، وهو يحضر مبدعًًا لشخوصه المتفردة ـ غير ما هو ـ أيضًًا في كل ما يكتب. كلا الحضورين سهل ممتنع، فعلاً، لكن لكل لغته، وتشكيله ليكمل بعضه بعضا. ومع كل هذا التحفظ، فإن محفوظ قد سمح في بعض أعماله بجرعة أكثر فأكثر من سيرته الذاتية بدءًًا بالثلاثية، ثم المرايا، فحكايات حارتنا، ثم أخيرًًا أسمعنا أصداءها أكثر اختراقًًا وتكثيفًًا في «أصداء السيرة الذاتية».

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:21
اللوح الثاني: نجيب محفوظ يستوعبنا.. فهل هو يمثلنا؟
إذا كان إبداع محفوظ قد غمرنا بكل هذا الثراء والإثراء لما هو تاريخ، فإن شخصه ـ بيننا ـ ليس أقل ثراء، ولا أقل إعجازًًا. في خطوط عريضة، سوف أحاول أن أكشف عن بعض ما عايشته مما هو نجيب محفوظ المواطن المصري الذي يعمل موظفًًا: يأتمر، ويأمر، ويقبض مرتبه، ويحال إلي المعاش، ويرعي أسرته، ويمشي بين الناس، ويطرح نفسه حيثما كانوا، ليجعلها في متناولهم طول الوقت دون تردد.. ثم إنه يبتعد ليشحذ وعيه مبدعًًا متخفيا بروائعه المضيئة والمحركة دون أن يتعارض هذا مع ذاك. إن حضور نجيب محفوظ هكذا يبدو مختلفًًا من حيث الموقف والموقع، لكنه أبدا ليس متناقضًًا، ولا هو متصارع مع بعضه البعض. إنني ـ من باب التفاؤل المؤلم ـ رحت أتصور أنه بحضوره اللاقط المشع معًًا، يمكن أن يمثل تاريخًًا يشير إلي إمكانياتنا الكامنة، فنشعر أننا مطالبون بإطلاقها تتحرر وتضيف، وفيما يلي بعض تجلياته في الحياة العادية ومن ذلك:

أولاً: محفوظ رب الأسرة والحرفوش (الدائرة الخاصة نسبيا):

هذا بُعدٌ لا يحق لي ـ ولا أحد ـ أن يقترب منه، فهو ما أتاح بعضه لبعض حوارييه إلا ثقة بهم، ويقينًًا من أمانتهم، ومن عجب أن يكون مثل هذا البعد هو الأهم عند كثير من النقاد والمؤرخين، ليس بالنسبة لمحفوظ فحسب، وإنما بالنسبة لأي قائد أو رائد أو مبدع، مع أنه ـ في نهاية النهاية ـ بعدًًا ليس متاحًًا أبدًًا مهما ترك من علامات، أو استنتج من شهادات الأقربين. إن ما يمكن أن أشهد به في هذه المنطقة، علي قدر ما أتيح لي، هو أنه بعد لا يتناقض ـ عمومًًا ـ مع غيره في عمق جوهره، لا بالنسبة لنجيب محفوظ مبدعًًا، ولا بالنسبة لنجيب محفوظ شخصًًا يمشي بيننا، ويسمح لخاصته أن يعرفوا أكثر فأكثر. هذا التناسق بين الشخص وإبداعه ليس حال أغلب من هم ليسوا محفوظًًا من المبدعين. إنه بُعد طيب رائع، لا يزيد الأبعاد الأخري إلا عمقًًا، وثراء، ومصداقية، ونبضًًا حيا. كيف حقق نجيب محفوظ ذلك؟ وهل كانت له مضاعفاته التي دفعها بصبر ورضا دون أن ندري؟ لست أعرف. وليس من حقي أن أتمادي أكثر.

ثانيا: محفوظ الموظف (المطيع، والمرؤوس، والرئيس المسئول والرقيب..)

كان لهذا البعد أروع الأثر في تكوين محفوظ الإنسان والمبدع معًًا، فقد أدي عدة وظائف لا يمكن تصور تمامها إلا من خلاله، لقد سمح هذا البعد لمحفوظ أن يخالط الواقع حتي يعجن بمائة يومًًا بيوم، فتعمقت علاقته بالالتزام الراتب (الروتين) الرائع، وتأكدت صلاته بالناس الحقيقيين، ثم إنه من كثرة ما أحب هذه الفرصة وأدرك مدي ضرورتها وروعة عطائها، اندفع في «حضرة المحترم» يقدسها حتي ألّهَهَا، وكأنه ضرب ما عاشه في مائة، ليبلغنا مدي قدسيته رغم اغترابه الظاهر. لا أظن أن أحدًًا وهو يتعامل مع نجيب محفوظ الموظف كان يستطيع أن يتبين منه نجيب محفوظ المبدع، فإذا علمنا أنه لم يكن قط ثم تناقضا، وأن كثيرًًا من مادة إبداعه كان مصدرها هذا العمل البسيط الجميل المنتظم المستمر، أمكننا إدراك ما نعنيه بتحقيق المعادلة الصعبة.

ثالثًًا: محفوظ السياسي

تحدد هذا البعد من قبل أن يكتب محفوظ زاوية «وجهة نظر» أسبوعيا في الأهرام، لكن حضوره السياسي مواطنًًا عاديا لا يقتصر علي ما نقرأه له في هذه الزاوية، فهو لا يتردد في إعلان موقفه السياسي الحريص ألا «يستفز السلطان» في أي مناسبة. إنني أشهد أنني لم أعرف عنه نفاقًًا في ذلك، وإنما هو يختار أي لمحة إيجابية لأي حاكم، فيأمل فيها أكثر مما تعد، وكأنه يغري الحاكم ـ بذلك ـ بالعمل علي الاستزادة في هذا الاتجاه. وهو علي الرغم من تصنيفه باعتباره من المحافظين فإنني لا أشك أنه من أول من يتقدم المعارك متي فرضت عليه (علينا). إنه فقط يرفض المعارك المؤجَّلة، والمؤجِّلة لكل ما هو إيجابي آني واجب الأداء حالاً. يكمل هذا البعد أيضًًا تلك الممارسة السياسية العادية الدؤوب، مهما بدت تحصيل حاصل، ومهما تأكد من لاجدواها، فهو يذهب إلي صناديق الانتخاب، ولا يتعالي عن الإجابة عن أي سؤال مهما كان السائل، حتي لو رجح أن هذا السائل سوف يلوي إجابته، من منا يستطع فعل ذلك بهذه البساطة التي نراها فيه؟ من منا يستطيع أن يواصل المشي في طريق يعلم يقينًًا أنه مسدود النهاية، لكنه يواصل المشي فيه؟

محفوظ المقهي (قديمًًا) والفنادق (بعد الحادث):

هذا حضور آخر، فيه من السياسة والخصوصية معًًا، ما لا يترادف مع الحضور السياسي التصريحاتي (وجهة نظر)، أو مع الخصوصية المغلقة الحميمة (الحرافيش)، لكنه أبدًًا ليس متناقضًًا مع أي بعد آخر (كيف يفعلها هكذا ذلك الرجل؟؟!!). إنها مدرسة مفتوحة لكل من أراد دون أي استئذان أو تحفظ، ودون أوراق اعتماد أو شروط. وهو وحتي كتابة هذه السطور، مازال حاضرًًا جدًًا وسطنا طول الوقت، هي مدرسة لا أعرف لها مثيلاً، فهو يبدو بيننا ـ بكل ما امتحن به من إعاقات حسية ـ أكثرنا حضورًًا، وديمقراطية وانتباهًًا، وتقبلاً للاختلاف، وتسامحًًا، وتعلمًًا (لا تعليمًًا فقط). هو» «هكذا»، ما يمكن أن نكونه نحن؟ حين نلتقط هذا الحضور التاريخي في ذات محفوظ، باعتباره أجمل وأروع من يمثلنا (ياليت)، وحين نتابع هذه الإحاطة الدقيقة لتاريخنا في إبداعه، قد نضبط أنفسنا ونحن نتساءل كيف ذلك؟ هل هذا الرجل هو أصدق ما يمثلنا، أم أنه التحدي الملقي علينا لنكونه؟ إن مجرد تصور صحة هذا الفرض يحملنا مسئولية مؤلمة. بقدر ما يحيطنا بتفاؤل مسئول.

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:26
الأستــاذ

////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
مصطفي نصر



جاءني بعض الزملاء لكي نذهب لمقابلة نجيب محفوظ في كازينو «بترو» بالإسكندرية.. ذلك المكان الذي كان يجلس فيه ـ صيفا ـ مع توفيق الحكيم وثروت أباظة والعديد من كتاب مصر المعروفين، لكنني رفضت الذهاب إليه لأنني لا أستطيع أن أقدم نفسي لأحد علي أني كاتب قصة دون أن يكون قد قرأ لي من قبل.. ودعتني الظروف بعد عدة سنوات إلي مقابلته في حديقة فندق سان استيفانو، حيث انتقل إليه بعد هدم كازينو بترو، يومها وجدته يجلس مع شاعر من أسرة غنية لم أكن قد قرأت له أو حتي سمعت عنه. كان يحكي لنجيب محفوظ عن تجربته في إنتاج أحد الأفلام العربية من إخراج قريب له. واقتحمت عليهما جلستهما مما ضايق الشاب الثري فلم يرتح لوجودي. كان نجيب محفوظ ودوداً معي.. نظر إلي وتحدث معي تاركا الشاب الآخر والكلمات لم تزل فوق شفتيه.. قال نجيب محفوظ لي: ماذا تفعلون في الإسكندرية؟ كيف تنشرون أعمالكم؟
حكيت له عن تجربتنا في نشر الأعمال علي نفقتنا الخاصة. قال:
ـ الناس لا تقرأ الآن.
ـ والحل؟
مط شفتيه. قال الشاب الآخر الذي ضاق بتغير الحديث من السينما إلي الأدب:
تجربة الدكتور أنس داود في رأيي هي الحل الأمثل «وأنس داود شاعر سافر إلي بلد عربي غني ومكث به عدة سنوات وعاد ممتلئا بالنقود. وهويجالس نجيب محفوظ كثيرا في القاهرة والإسكندرية»).
قلت لنجيب محفوظ:
ـ الحل في رأيي أن يفعل الأدباء ما فعلته في أول حياتك.. لقد كتبت للسينما عندما كانت رائجة فلماذا لا نكتب للتليفزيون بجانب أعمالنا الأدبية؟
قال في هدوء شديد: لكن تجربتي مع السينما لا أعتبرها من تاريخي الأدبي.
قلت: كيف؟ لقد كتبت فيلم «درب المهابيل» وهو في رأيي من أهم إنجازات السينما المصرية حتي الآن.
تردد قليلاً، ثم قال: عندك حق.. هو فيلم يستحق أن أعتز به.
فجأة قال الشاب الثري: تمارس لعبة المصارعة؟
ضحكت قائلاً: إننا نتحدث عن السينما والأدب.. فما الذي ذكرك بالمصارعة؟
قال: جسدك يدل علي أنك مصارع.
كان نجيب محفوظ يتابع هذا في صمت. نظر في ساعته وقال للشاب الثري:
ـ ذهبت إلي محطة الرمل وسألت عن مجلة «....» (مجلة يصدرها حزب معارض تتابع الذين يتعاملون مع إسرائيل ثقافيا. وقد اتهمت نجيب محفوظ في عدهدا الأخير بأنه قابل مفكرا إسرائيليا في قهوة ريش بالقاهرة.)

sam0o0o
10/01/2008, 07:28
كتاباتك واقتباساتك حلوة كتير ....
وع فكرة نجيب محفوظ من اروع الكتباب وفي قصة ازا قرأتيها اسمها اللص والكلاب برضو من اجمل القصص
وشكرا الك ع مجهوووووودك
بالتوفيق

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:29
قال الشاب الثري: سيأتي الأصدقاء بعد قليل ومعهم نسخ منها.
عاد نجيب محفوظ إلي الخلف، شد ظهره إلي مسند المقعد، ونظر الشاب الثري إلي في صمت وضيق، شعرت بأنه يتمني أن أقوم وأنصرف.. إحساسي هذا جعلني أتشبث بالبقاء.. نظرت إليه متحديا. نظر هو إلي المائدة الخالية في شرود.. ونظرت أنا إلي الباب الحديدي الواسع، فقال نجيب محفوظ مجاملاً: أهلاً بك.
أراد أن يقطع الصمت الذي حط علي الجلسة منذ لحظات. وليرحب بي بصفتي أول مرة أقابله.. وأحسست بأنني في حاجة لأن أثبت لهما أنني كاتب ولست دخيلاً عليهما. فذكرت زميلي في ميدان الكتابة محمد الجمل وسعيد سالم لعلمي أنهما يشاركان نجيب محفوظ جلسته دائما.. قال الشاب: تعرفهما؟
قلت: نعم.
قال: آه.. قالها وكأنه أدرك شيئا خافيا عليه.. انتظرت أن يكمل.. لكنه اكتفي بهذه «الآه» وعاد إلي صمته. قال نجيب محفوظ.
ـ أتيتم في وقت غير مناسب.. في الماضي لم يكن هناك تليفزيون وكانت المجلات والجرائد تنشر القصائد والقصص في الصفحات الأولي.
شعرت بالأسي.. لقد قضيت عمري كله أحلم بأن أكون أديبا معروفا. ضحيت من أجل هذا بالكثير.. تخيل عندما تحس بعد ذلك أنك ضحيت من أجل لا شيء، من أجل سراب.. تذكرت قصة كتبها صديق لي، عن صانع طرابيش علمه أبوه الصنعة أيام كانت منتشرة ورائجة، ومات الأب دون أن يعلمه صنعة سواها، وفجأة ألغت الدولة الطرابيش. وأغلق أصحابها دكاكينهم.. انتهت الصنعة قبل أن يبدأ هو عمله.
كان نجيب محفوظ متأثراً بمقاطعة البلاد العربية لكتبه بعدما نشر عن تأييده لمبادرة كامب دافيد.
ثم حضرت باقي الشلة. بعضهم يعرفني أو قرأ لي من قبل.. كان الشاب الثري صامتًًا مهمومًا طوال الوقت «وعلمت أنه في الجلسات السابقة كان يضحك ويسخر ويقلد الشخصيات العامة» قال أحدهم للشاب الثري: اليوم أنت مش مبسوط!
أومأ برأسه وعاد ثانية لحزنه وشروده.
تحدثوا عن مقالات نشرت ضد الذين يتعاملون مع إسرائيل ثقافيًا: قلت:
ـ إنها المجلة الحكومية الوحيدة التي تستطيع نشر مثل هذه المقالات.
قال أحد أفراد الشلة للشاب الثري: نفس رأيك الذي قلته من قبل.
فقال في حدة: اليسار يسيطر عليها وسوف تطرد هيئة تحريرها في القريب «وتغيرت بالفعل هيئة تحرير هذه المجلة بعد أشهر قليلة.. وتولت إدارتها مجموعة أخري جعلتها مثل سائر المجلات الحكومية».
كنت أفكر في المأزق الذي وقعت فيه.. أحاديث نجيب محفوظ المقتضبة ومجاملاته التي تثير الدهشة «يحكون أن أديباً شاباً غير معروف وغير جيد أعطاه مجموعته القصصية المطبوعة بالماستر ليقرأها، فتصفحها في الجلسة ثم قال مجاملاً: جيدة.. فطلب منه الأديب الشاب أن يكتب عنها.. بحثوا عن ورقة ليكتب فيها فلم يجدوا. ففتح الشاب علبة سجائره بعد أن وضع ما فيها من سجائر في جيبه.. وكتب نجيب محفوظ كلمة قصيرة عن المجموعة، نشرها الشاب علي ظهر مجموعته القصصية الثانية!
نظر نجيب محفوظ في ساعته وقال للشاب الثري: التاسعة الآن؟
أجابه بنعم. وقف فوقفنا جميعًا، صافحنا وسار خارجًا من باب الحديقة.. ووقف الشاب الثري شاردًا، صافحني الجميع سواه، ساروا أمامي خارجين من الباب، تابعتهم حتي خرجوا ثم سرت، أحسست بالضيق وكأنني خسرت صفقة عمري.
سرت في الطريق، وجدت نفسي أمام محطة جليم.. وقفت أنتظر الأتوبيس، المحطة خالية، ليس بها سواي.. شعرت أن الوقت قد طال والأتوبيسات لا تأتي.. أردت أن أجلس كان جسدي غير قادر علي الوقوف. وشعور يغمرني بأنني ابتعدت عن بيتي مسافات شاسعة، كأنني ضللت الطريق وسرت في صحراء واسعة بعيدة.

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:30
اللقاء الثاني بجوار مبني مؤسسة «الأهرام»
كنت أسير بجوار مبني مؤسسة «الأهرام» ومعي الصديق محمود قاسم. وقد تسلمت ما يخصني من رواية «الهماميل» بعد طبعها في روايات «الهلال» ورأينا نجيب محفوظ يسير وحيدًا ذاهبًا إلي الطريق العمومي لينتظر تاكسي، صافحناه، قلت لمحمود قاسم: أعطيه نسخة من الرواية؟ قال: أعطه.
تذكرت وأنا أخرج النسخة من الحقيبة، وأنا أكتب الإهداء، أن صديقاً لي أرسل إليه روايته فاعتذر له برسالة عن عدم تمكنه من قراءتها، فهو منذ أصيب بالسكر لا يقرأ إلا الأعمال التي يحتاجها في كتابة أعماله. وقلت هذا للأديب جمال الغيطاني عندما فكر في تخصيص صفحة الأدب التي يشرف عليها لي، واقترح أن يعمل لقاء بيني وبين نجيب محفوظ. قلت له هذا.. فقال الأستاذ جمال الغيطاني: بالعكس، نجيب محفوظ يقرأ معظم الأعمال التي تصدر.
المهم أعطيته نسخة من رواية «الهماميل»، وعندما قرأ اسمي قال لي: أنت مصطفي نصر؟
وكنت أعلم أن اسمي ذكر أمامه في جلساته في الإسكندرية.
ظننته لن يقرأ الرواية. وبعدها بقليل حصل علي جائزة نوبل، واهتم العالم كل به، واهتمت أجهزة الدولة به وإن حاول أن يكون عاديًا وألا يغير عاداته التي يرتاح إليها.
وفوجئت به يتحدث عن روايتي الهماميل في برنامج إذاعي اسمه «سمار الليالي». أبدي إعجابه بالرواية وبالطريقة التي كتبت بها.. واتصل بي أكثر من صديق ليخبرني بذلك.
اللقاء الثالث: حديقة سان استيفانو مرة أخري:
ذهبت إليه في سان استيفانو فإذا بالجو قد تغير عن لقائي الأول معه. عدد الزوار أكثر من المرة السابقة. أردت أن أحدثه عن روايتي الهماميل فظن أني أريد أن أهديه رواية ليقرأها.
قال: بعد نوبل.. هذا صعب.
وعندما أحس بارتباكي وعدم قدرتي علي توصيل الكلمات إلي أذنيه قال: لن يفلح هذا.
وأشار إلي صديق له قائلاً: قل له وهو ينقل إلي ما تريد.
وعندما وقفت مودعا دق علي يدي مداعبًا ومبتسمًا

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:33
شهــادة من قـارئ
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////

الأستاذ محمد سلماوي
«رئيس اتحاد الكتاب»
الكاتب والمفكر
تحية طيبة

وبعد في ليلة الخميس الموافقف 1979/11/17 وفي ركن داخل كازينو قصر النيل بناء علي موعد محدد داخل رسالة مكتوبة بخط يد أستاذنا الأديب العالمي نجيب محفوظ «رحمه الله» موجهة لي شخصيا بعقد جلسة خاصة بيني وبينه وكان عمري لا يتجاوز واحدا وعشرين عاما وبعد حوار امتد أكثر من ساعة انضم إلينا المرحوم الدكتور لويس عوض ولكنني انصرفت في الحال عائدا إلي مدينتي السويس.. وقد دار الحوار حول ثلاثة محاور: أولاً: عن معاناتي الشخصية بسبب اعتقالي في انتفاضة يناير 1977 حيث كنت وقتها طالبا في كلية الحقوق ـ جامعة المنصورة وكانت منذ سنتين وقت هذه المقابلة. ثانيا: أوضاع الوطن وأحوال المواطن المصري علي كافة المستويات الحياتية. ثالثا: عن الثقافة بوجه عام والإشادة منه بثقافتي في هذه السن الصغيرة وإلمامي بهذا الكم من المعلومات في المجال السياسي والاقتصادي في الشأن الداخلي والدولي وتمكني من الكتابة في هذين المجالين لحد الاحتراف، وقد قال لي حرفيا اكتب وأنا سأتولي النشر فقلت له ـ متجاوزا بعض الشيء ـ لا أملك ثمن قلم فضحك وأخرج من جيب بدلته السفاري قلم ماركة شيفر وأعطاني إياه وناولني مبلغ عشرين جنيها وقال هذا ثمن الورق. فإنني ألتمس لسيادتكم العذر لو اندهشت لماذا أكتب إليك؟، وفي هذا الوقت بالذات أقسم لكم بشرفي وأنا أعلم جيدا مدي الثقة والرابطة القوية التي كانت تجمعك بالأديب العالمي بل وصلت لحد المتحدث الرسمي عن كل أقواله وأفعاله حتي آخر يوم والمسئول أدبيا وفعليا عن كافة توصياته لتنفيذها، لذا رأيت أن أبعث لكم بهذه الشهادة وبالرسالة التي كتبها أديبنا الكبير بخط يده.

أخوكم

حسن علي حسين الحليلي


السيد الأخ حسن تحية طيبة وبعد

فقد قرأت رسالتك وأحزنني جدا ما جاء بها ولعلك لا تعلم أنه يصلني من أسبوع لأسبوع مثيلات لها مما يقطع بما يعانيه شعبنا الشريف الذكي من متاعب. ويزيد من حزني أنني لا أجد في إمكاناتي بطبيعة الحال حلا لها، وأظنك توافقني علي ذلك فالأديب أديب وليس مؤسسة ولا من الأثرياء، جعل الله من همتك ثروة تعينك علي بلواك. أما عن المقابلة فإني أجتمع مع أصدقاء من الأدباء مساء كل جمعة بكازينو قصر النيل ما بين 5.5إلي 7.5 فأهلاً بك في أي وقت تشاء في جلسة خاصة وشبه عامة.

ودمت للمخلص
نجيب محفوظ
1979/11/15

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:37
نجيب محفوظ
وأدبه الفلسفي

////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////


الدكتور عاطف العراقي
لا شك في أن أدب نجيب محفوظ سيبقي علي مر الزمان والعصور، أدباً خالداً . وإذا كان نجيب محفوظ قد غادرنا بجسده في الثلاثين من شهر أغسطس عام 2006 إلا أن الروايات والقصص التي تركها لنا وكتبها طوال حياته، كرائد للرواية العربية المعاصرة، ستبقي شاهدة علي المكانة الكبري لهذا العملاق، الذي سيتأثر بأدبه وفكره المئات من المهتمين بالأدب عامة، والرواية بصفة خاصة طوال ما سيأتي من زمان، وإلي أن تظل الحياة علي وجه الأرض .
ومن الأخطاء التي نجدها شائعة سواء أثناء حياته أو بعد وفاته، ظن الكثيرين أن أدبه قد جاء خالياً من الرؤية الفلسفية، وبحيث يقولون بأن نجيب محفوظ والذي تخرج في قسم الفلسفة عام 1934م، قد قال للفلسفة وداعاً من بداية كتاباته الأدبية، وبحيث اختار لنفسه مجال الأدب، تاركاً دائرة الفلسفة .
هذا الرأي يعد خاطئاً تماماً، ويتضمن الكثير من المغالطات . ويعنيني أننا لو كنا وضعنا في اعتبارنا وجود جذور فلسفة واضحة في أدب نجيب محفوظ، لكنا قد أصدرنا أحكاماً صحيحة حول أدبه. ولكننا للأسف الشديد قد باعدنا بين أنفسنا والأحكام الصحيحة علي أدبه وذلك حين ذهب بعض أشباه المثقفين وأنصاف الكتاب إلي أنه لا توجد صلة بين أدبه وبين الفلسفة .
لقد التقيت بالرجل مرات عديدة أثناء حياته، وقرأت كل ما كتب، وعرفت الكثير من أنواع قراءاته منذ كان طالبًا بقسم الفلسفة، وذلك من خلال سؤالي لزملائه في التخرج.
وأود في حدود النطاق المرسوم للمقالة، أن أركز علي الأبعاد الفلسفية في بعض كتاباته الأدبية، وأنا علي يقين بأننا سنجد العديد من المواقف والخصائص الفلسفية في أكثر ماكتب نجيب محفوظ، عملاق الرواية العربية المعاصرة بل إن خطاب نجيب محفوظ في الأكاديمية السويدية قد كشف عن بعض جوانب فكره والذي لا يخلو من تأثر بالأفكار الفلسفية أنه يقول:
" أنا ابن حضارتين تزاوجنا في عصر من عصور التاريخ زواجًا موفقًا أولاها عمرها سبعة ألاف سنة وهي الحضارة الفرعونية والثانية وهي الحضارة الإسلامية... وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات الإمبراطورية.. ولن أتحدث عن اهتدائها لأول مرة إلي الله سبحانه وتعالي وكشفها عن فجر الضمير البشري فلذلك مجال طويل فضلًا عن أنه لا يوجد بينكم من لم يلم بسيرة الملك النبي إخناتون، بل لن تتحدث عن إنجازاته في الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة الأهرام وأبو الهول والكرنك، دعوني أقدم الحضارة الفرعونية بما يشبه القصة طالما أن الظروف الخاصة قضت بأن أكون قصاصًا : تقول أوراق البردي إن أحد الفراعنة قد نمي إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية، وكان المتوقع أن يجهز علي الجميع ولا يشذ في تصرفه عن مناخ زمانه ولكنه دعا إلي حضرته نخبة من رجال القانون وطالبهم بالتحقيق فيما علمه وقال لهم أنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل.. ذلك السلوك في رأيي هو أعظم من بناء إمبراطوية وتشييد أهرامات وأدل علي تفوق الحضارة من أي آلهة، فقد زالت الإمبراطورية وأمست خبرًا من أخبار الماضي وسوف تتلاشي الأهرام ذات يوم ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان ما دام للبشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض"

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:39
هذا ما يقوله نجيب محفوظ عن الحضارة الأولي الحضارة الفرعونية، ونود أن نشير من جانبنا أن قوله هنا يكشف عن تأثره بجوانب فلسفية عديدة، أنه يسعي إلي الثابت وليس إلي المتغير أنه ينشد الحقيقة وراء الظاهر، أنه يركز علي الأفكار أكثر من إشاراته إلي الأشياء الحسية العادية، وإلا كيف نفسر حديثه عن الحقيقة والعدل، وإشاراته إلي العقل والضمير، إن هذا كله أن دلنا علي شئ فإنما يدلنا علي التزام أديبنا بخصائص الفكر الفلسفي إلي حد كبير وكم لعبت الفلسفة دورها الحيوي والنشيط في تنبيه أديبنا نجيب محفوظ إلي عوالم جديدة لم يكن بإمكانه اكتشافها ولا التوصل إليها بدون دراسته للفلسفة، إن أدبه يمثل أدب التفسير إلي حد كبير ومن هنا فإننا نجد موقفًا محددًا من خلال أعماله الأدبية وهذا الموقف يعد إلي حد كبير موقفًا فلسفيا.
يضاف إلي ذلك أن حديثه عن الحضارة الفرعونية باعتبارها إحدي حضارتين نشأ بينهما يدلنا علي تأثره بالعديد من الأفكار التي نجدها بيين ثنايا النتاج الأدبي والفكري والفني الذي تركه لنا رجال مصر القديمة، وهل كان من المصادفات أن يشير نجيب محفوظ إلي إخناتون صاحب أشهر قصيدة في التوحيد في العصور القديمة، وما تتضمنه هذه القصيدة من الدلالات الفلسفية صحيح أننا لا نجد فلاسفة في مصر القديمة ولكننا نجد العديد من الأفكار التي لا تخلو من دلالات فلسفية، ومن بينها أفكار إخناتون. وليرجع القارئ إلي روايات نجيب محفوظ وخاصة عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة، بل إلي عشرات الروايات الأخري وسيري كيف كان نجيب محفوظ متأثرًا بالعديد من الروايات والأبعاد التي نجدها في مصر القديمة. إن هذا كله يدلنا علي تفتح عقلية نجيب محفوظ وإيمانه بدور الفلسفة والتفلسف، فالفكر الفلسفي ليس مقصورًا علي زمان دون زمان، ليس مقصورًا علي شعب دون شعب، أو مكان دون مكان، وكم نبهنا إلي ذلك كثير من الدارسين الأعلام ومن بينهم بول ماسون أورسيل في كتابه " الفلسفة في الشرق " وإذا كنا نقول بقارة الأوراسيا التي تجمع أوروبا وأسيا، فكيف إذن نجيء بعد ذلك ونقول إن شعبًا يستطيع التفلسف وإبداع المناهج الفلسفية، وشعبًا آخر ليست لديه القدرة علي الإبداع الفلسفي. إن ذكر نجيب محفوظ للفكر الشرقي في مصر القديمة يدلنا علي اعتراف من جانبه بأهمية هذا الفكر وما فيه من دلالات وأبعاد ومجالات فلسفية. ولا أشك أن دراسة نجيب محفوظ لهذا الفكر قد ساعدته - كما أشرت - علي تشكيل بعض أفكاره الفلسفية - والتي لم تظهر في الروايات التي أشرنا إليها فقط، بل ظهرت في العديد من رواياته وذلك علي النحو الذي سنشير إليه فيما بعد.
ويستمر نجيب محفوظ في بحثه عن الثابت والخالد والجوهر وراء المتغير والزائل والمعرض، فيشير إلي الحضارة الثانية التي تأثر بها، فهو يقول في خطابه : "وعن الحضارة الإسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها إلي إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق تنهض علي الحرية والمساواة والتسامح... ولا عن المؤاخاة التي تحققت في حضنها بين الأديان والعناصر في تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد، ولكنني سأقدمها في موقف دراسي مؤثر يلخص سمة من أبرز سماتها، ففي إحدي معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسري في مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقي وهي شهادة قيمة للروح الإنسانية في طموحها إلي العلم والمعرفة رغم أن الطالب يعتنق دينًا سماويا والمطلوب ثمرة حضارية وثنية".

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:39
وما يقوله نجيب محفوظ في تلك الحضارة، وعلي وجه التحديد عن موقف من مواقفها إنما يكشف عن العديد من الأبعاد الفلسفية، إنه يبين لنا من خلال هذا القول كيف أن الفكر الدقيق ينبغي له أن يستفيد من كل التيارات الفكرية، كما نقول اطلبوا العلم ولو بالصين.
والدعوي التي يدعونا إليها نجيب محفوظ من خلال كشفه عن أهمية التراث الإغريقي قد دعانا إليها الكندي الفيلسوف العربي في المشرق وابن رشد فيلسوف المغرب العربي بالإضافة إلي أن تركيزه علي الربط بين الفكر والعمل، ودور الفكر في تشكيل قيمة العمل، إنما يدلنا علي اعتقاده بالدور الاجتماعي للفلسفة، وهنا ما نجده عند عديد من المفكرين أمثال الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل والفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر. ألم أقل لكم أيها القراء الأعزاء بأن الفكر الفلسفي كان له دوره في تشكيل بعض أراء نجيب محفوظ من خلال رواياته وبحيث يكون نجيب محفوظ صادقًا حين قال في إحدي لقاءاته بأن قراءاته للفلسفة كان لها تأثير كبير عليه، ومن قوله أيضًا بصواب بعض النقاد حين قالوا عن أدبه، إن الرؤية الفكرية تعد واضحة في أعماله، تمامًا كما تقول أن الأدب الأوروبي في القرن العشرين إنما غلب عليه الطابع الفكري.
إن ذلك يتضح تمامًا ليس في أعماله الأدبية فحسب، بل في خطابه الموجه لأعضاء الأكاديمية السويدية، لقد أشار إلي كثير من مشكلات العالم الثالث، مشكلات الدول النامية المشكلة الفلسطينية والمجاعة في أفريقيا، أنه يحدد لنا دور المثقفين كما فعل غيره من مفكرين وأدباء غلبت عليهم الاتجاهات الفلسفية وبحيث أدركوا أن الفلسفة لها وظيفتها التحليلية والنقدية والتركيبية أنه يقول في هذا المجال : " إن علي المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقي... اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره بالمسئولية نحو البشرية جميعًا، وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسئوليته نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة.
كما يوجه نجيب محفوظ نداء إلي قادة العالم المتقدم ويدعو باستمرار إلي الربط بين النظر والعمل، الفكر والتطبيق، وذلك علي النحو الذي نجده عند أكثر الفلاسفة المعاصرين، أنه يقول: " لا تكونوا متفرجين علي مآسينا، ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دورًا نبيلًا يناسب أقداركم أنكم من واقع تفوقكم مسئولون عن أي انحراف يصيب أي نبات أو حيوان فضلًا عن الإنسان في أي ركن من أركان المعمورة، فقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل، وآن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين، نحن في عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية، أنقذوا المستبعدين في الجنوب الأفريقي، أنقذوا الجائعين في أفريقيا، أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب بل أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحي العظيم أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة.
وعلي الرغم من أن نجيب محفوظ سواء في ندائه هنا أو في العديد من رواياته التي لا تخلو من بعض الاتجاهات التشاؤمية إلا أنه من خلال الكلمات الأخيرة في خطابه إلي أعضاء الأكاديمية يؤمن بروح تفاؤلية. روح آمن بها بعض الفلاسفة والمفكرين من أمثال ابن سينا وإن كان نجيب محفوظ لا يخفي قوة الشر وسطوته رغم إيمانه بالتفاؤل. إنه يقول رغم كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتي النهاية، لا أقول مع الفيلسوف كانت الخير سينتصر في العالم الآخر، فإنه يحرز نصرًا كل يوم بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير وأمامنا الدليل الذي لا يدحض فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذمة من البشر الهائمة علي وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والنائية أقول. لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتنتشر وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان، وغاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال: إن حزنا في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:40
ويمكننا أن نقول إن هذه النزعة التفاؤلية عند أديبنا نجيب محفوظ وترجيحها عنده علي النزعة التشاؤمية تبدو متناقضة عندنا ومع ما نجده مع بعض رواياته من نزعة لا تخلو من التشاؤم، نزعة تصور الحياة بما يسودها من عبث وضلال، ومن بين تلك الروايات ثرثرة علي النيل وميراما والشحاذ. أن تلك الروايات قد تؤدي إلي تصوير الحياة تصويرًا لا يخلو من حقيقة وواقع، فما يحصل عليه الإنسان لا يزيد عن كونه نوعًا من الهباء (الشحاذ) لا قيمة للحياة سواء في قصرها أو طولها (ثرثرة علي النيل) وأيضًا (ميرامار).
وإن كنت قد اختلفت مع الأديب نجيب محفوظ في بعض نزعاته التفاؤلية جملة وتفصيلاً قلبًا وقالبًا فإن هنا الاختلاف لا يظل من عمق نظرته وإن كنت أري أنه كان من الأجدر بأديبنا وقد تعمق في دراسة الواقع الاجتماعي أن يعتقد بأن التشاؤم هو جوهر الحياة والحزن هو أساس الوجود. إن نظرة التشاؤم تعد عندي أصدق وأعمق من نظرة التفاؤل والتي لا تخلو من سطحية وسذاجة.
والواقع أن نجيب محفوظ ركز تركيزًا كبيرًا علي دراسة الواقع والحياة الاجتماعية. لقد كان روائيا ومؤرخًا وسياسيا، لا تخلو رواياته من حس اجتماعي ومن حس نفسي واقعي إلي حد كبير. إننا نجد لديه تحولًا في مرحلة تاريخية لا تخلو من رومانسية إلي مرحلة واقعية نقدية اجتماعية، أنه يصور لنا الحياة الاجتماعية بخيرها وشرها. للزمان دلالة عند نجيب محفوظ وللمكان أيضًا دلالته الكبري وأهميته الظاهرة. وليرجع القارئ إلي الثلاثية: بين القصرين وقصر الشوق والسكرية.
بل إننا نجد حسًا نقديا متميزًا عند نجيب محفوظ ومجموعة من التساؤلات التي لا تخلو من دلالات فلسفية، وإثارة للشكوك حول بعض الأحكام التي ربما بدت عند أهل التقليد قضايا سلم بها أي يقينية، وهل يمكن أن ننسي رواية " السمان والخريف " وما فيها من إشارات إلي ما قد نجده في بعض أرجاء الكون أو العالم أو الوجود من نوع من العبث أو الصدفة والحظ والبخت، هل يمكن أن ننسي " الطريق " و" اللص والكلاب " وما فيها من بحث عن بعض القيم الكبري، كالمطلق والعدل وغيرها ؟ هل يمكن أن نقلل من لجوء نجيب محفوظ إلي التمييز بين الظاهر أو السطح من جهة والمطلق أو الحقيقي من جهة أخري (رواية الطريق ورواية حضرة المحترم).

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:41
هذه الجوانب كلها معبرة عن خصائص فلسفية كثيرة، إن من خصائص الفكر الفلسفي الشك، وهنا الجانب الشكي نجده في العديد من الروايات عند نجيب محفوظ ومن بينها " أولاد حارتنا، الطريق، الشحاذ، ثرثرة علي النيل، زعبلاوي، (مجموعة دنيا الله) وكم وجدنا عند العديد من الفلاسفة، إن لم يكن عند كل الفلاسفة روحًا شكية تعبر عن خصائص الإنسان بما ينبغي أن يكون عليه الإنسان تعبر عن التمييز بين المقلد والمجدد بين العامي والمثقف ثقافة حقيقية واعية، نجد ذلك عند السوفسطائيين وسقراط وابن طفيل وابن رشد وفرنسيس بيكون وديكارت، وأكاد أقول بأنه بالإمكان الربط بين بعض أفكار نجيب محفوظ في الروايات التي أشرنا إليها بل في روايات أخري وبين ما نجده من أفكار شكية نقدية عند كثير من فلاسفة العالم شرقًا وغربًا. لقد قمت من جانبي وكما سبق أن أشرت بقراءة كل ما كتبه نجيب محفوظ منذ رواياته الأولي وحتي رواياته التي صدرت مؤخرًا وحاولت أن أتجنب كل الأحكام التي صدرت علي أدب نجيب محفوظ وخاصة تلك الأحكام الهوجاء والمتسرعة التي يطلقها أشباه الأدباء في عالمنا العربي وأنصاف المثقفين، وقد وجدت أنه آن الأوان لكي ندرس أدب نجيب محفوظ دراسة موضوعية لا تقوم علي الرفض لمجرد الرفض أو تقوم علي المبالغة دون وجود أحكام نقدية دقيقة، أو تقوم علي تأويلات فاسدة قلبًا وقالبًا لقد حاول البعض منا تصنيف أعمال نجيب محفوظ تصنيفًا مذهبيا، وأعتقد من جانبي أن هذا يعد خطئًا من أساسه جملة وتفصيلاً، إذ لا يمكن الفصل بين مرحلة ومرحلة فصلاً حاسمًا.
بل حاول نفر من الدارسين أن يؤكد وجود تحولات جذرية في أدبه وأخذ يتحدث عن مراحل فكرية في مشواره الأدبي، وهذا غير صحيح تمامًا وحاول فريق آخر بدافع المبالغة والأحكام المتسرعة الهوجاء أن يصدر العديد من الأحكام علي أدب نجيب محفوظ وكأن أدباء العالم كله شرقًا وغربًا لم يفعلوا شيئًا مثل ما فعل. كلا ثم كلا إن نجيب محفوظ بعد الجائزة تحدث عن طه حسين وتوفيق الحكيم حديثًا معبرًا عن احترام لهما وتقدير كامل لأعمالهم الأدبية والفكرية.
وكما نجد جانب الشك والنقد في بعض روايات نجيب محفوظ وما فيها من دلالات فلسفية فإننا نجد أبعاد الشخصيات الموجودة في قصصه ورواياته تدلنا علي ذلك تمامًا وخاصة أننا نجد قدرًا كبيرًا من تنوع الشخصيات عنده ومحاولة للكشف عن أعمق أعماق المجتمع المصري ( زقاق المدق والثلاثية) وأيضًا نجد ذلك في أولاد حارتنا والحرافيش، يقول نجيب محفوظ : " إن الثلاثية وأولاد حارتنا والحرافيش أحب أعمالي إلي نفسي "، فهل هذا القول من جانب نجيب محفوظ يدل علي اعتزازه بالدور الاجتماعي للأدب وأيضًا بمحاولة الأديب الكشف عن أبعاد نفسية لا تخلو من دلالات دينية ؟ إن ذلك قد يكون صحيحًا إلي حد كبير، وإذا كان نجيب محفوظ قد ذكر أولاد حارتنا والحرافيش ضمن ما يعتز به وبصورة تؤدي إلي الربط بينهما فإن ذلك يعد صحيحًا إلي حد كبير، وبرؤية فلسفية نقول من جانبنا إن نجيب محفوظ في هاتين الروايتين يلجأ إلي أساليب رمزية نجدها عند كثير من الأدباء والفلاسفة وذلك علي النحو الذي سبق أن أشرنا إليه في بداية دراستنا لأدب نجيب محفوظ ومن المؤسف له صدور العديد من الأحكام من جانب أشباه الدارسين علي قصة أولاد حارتنا وكم في تلك الأحكام من أخطاء لا حصر لها فقد تكون تلك القصة معبرة عن نوع من الإيمان بالدين الطبيعي علي النحو الذي نجده عند بعض الفلاسفة في إنجلترا وفرنسا. وقد تكون معبرة عن نوع من القلق والبحث بالتالي عن نوع من اليقين، الذي يعتمد علي رؤية إنسانية أساسًا، إنها قصة تحاول التغلغل إلي محور الوجود، محور الإنسانية، ومن الأخطاء فصلها عن قصص أخري عديدة للكاتب وبحيث تكون معزولة عن روايات أخري كثيرة ( الطريق، ثرثرة فوق النيل، حكاية بلا بداية ولا نهاية).
وإذا كان الفيلسوف يهتم كثيرًا بالأبعاد السياسية من حيث علاقتها بالمجالات والميادين الاجتماعية، فإنه يمكن القول بأننا نجد العديد من الأبعاد السياسية في روايات نجيب محفوظ أنه يميل إلي حزب الوفد إلي حد كبير وإن كان ذلك يبدو واضحًا في المراحل الأولي أساسًا، لا نجد لديه تعاطفًا مع أحزاب أو فئات تحاول صبغ الدين بالسياسة وحسنًا فعل ذلك نجيب محفوظ. إن الأبعاد السياسية يمكن التعرف عليها من خلال عديد من الروايات كتبها نجيب محفوظ في مراحل كثيرة، ولا تخلو هذه الأبعاد من تعبير عن خصائص الفكر الفلسفي، وهل يمكن التقليل من الأعمال السياسية عند فلاسفة كبار من أمثال أفلاطون وأرسطو والفارابي وأخوان الصفا وتوماس هوبز وجون لوك وكانط وبرتراند رسل. الإحساس السياسي موجود في كثير من روايات وقصص نجيب محفوظ. نجد ذلك واضحًا غاية الوضوح في "القاهرة الجديدة، الثلاثية، ميراما، الكرنك، أهل القمة، الحب فوق هضبة الأهرام، يوم قتل الزعيم، السمان والخريف، ميرامار، تحت المظلة "، إننا نجد في هذه القصص وغيرها إثارة للعديد من القضايا السياسية ومن بينها الاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية والدكتاتورية والإسلام والليبرالية. نجد حديثًا عن المثقف اليساري وعن القمع (الكرنك) نجد تحليلات سياسية في الثلاثية والسمان والخريف وإن كنا كما نختلف مع نجيب محفوظ في الكثير من النتائج التي وصل إليها والتحليلات التي قام بها. وهذا لا يقلل من مكانة نجيب محفوظ لأننا يجب أن ننظر إليه علي أساس أنه يشر وليس قديسًا، وهل يمكن رغم حصوله علي جائزة نوبل أن نضعه في مصاف تولستوي وفولتير وطاغور ؟ كلا إننا لا يمكن أن ننسي وجود بعض أعمال له تقف عند الطابع المحلي ولا تتجاوزه كثيرًا. لا يمكن أن ننسي أنه في بعض أعماله يغوص في الواقع الاجتماعي وبحيث لا يخرج منه إلي الرؤية الإنسانية الكاملة والشاملة ولكن يشفع له اجتهاده الواضح يشفع له أن أدبه من نوع الأدب الراقي المستنير لا نجد رواية من رواياته تدعو إلي التعصب أو الأنانية، وكل منها يكشف عن قيم فلسفية عميقة ومشاعر إنسانية سامية.
إن أدب نجيب محفوظ لتأثره بالعديد من الأفكار الفلسفية كان أدبًا معبرًا عن الوعي بالواقع، وهل يمكن أن ننسي العديد من الشخصيات الموجودة في قصصه وقدرته الفائقة علي إدارة الحوار بينها ( كمال عبد الجواد وخديجة وعائشة وأمينة في الثلاثية، وحميدة في زقاق المدق، وزهرة في ميرامار، وزينب في الكرنك، ورنده في يوم قتل الزعيم ).. إلي آخر الشخصيات التي لا يمكن التغافل عنها من حيث عمق تصويرها وتباين ملامحها وثراء حوارها، إن هذه قدرة من جانب نجيب محفوظ من النادر أن نجدها عند أديب عربي معاصر في المشرق والمغرب

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:42
بل إن نجيب محفوظ يلجأ إلي الحوار أو المونولوج الداخلي ويكشف هذا عن تحليلات نفسية عميقة وتأملات فلسفية بلا حدود، إن حديث الإنسان إلي نفسه يكشف له عن جوانب من الصعب أن يعثر عليها في زحمة الحياة ومشاغل الأيام العادية، وهذا إن دلنا علي شيء فإنما يدلنا علي لجوء أديبنا باستمرار إلي إبراز أوجه التقابل بين الظاهر والباطن، أوجه التعارض بل التناقض بين ما يبدو علي السطح وما يغوص في الأعماق أنه يقدم حشدًا من نماذج وشخصيات عديدة لا يكتفي بذلك، بل يحاول الغوص في أعماق كل شخصية من الشخصيات، وهل يمكن أن نتغافل عن البطل في رواية "الطريق، التكية، الحرافيش" إنها أشياء تدلنا تمام الدلالة علي أن أدب نجيب محفوظ لم يكن من نوع الأدب السطحي الذي يقوم علي مجرد الوصف والرصد والذي لا يخرج عن الوظيفة التي يقوم بها المحرر الصحفي حين يسرد وقائع حدث من الأحداث في جريدة يومية أو مجلة أسبوعية معتمدًا علي دقة الحوادث في أقسام الشرطة، لا لم يكن أدب نجيب محفوظ من هذا النوع السطحي الزائف بل قدم لنا أبعادًا غاية في العمل لأنه كان متسلحًا بالثقافة الفلسفية الرائعة. لقد وضع نجيب محفوظ بصماته البارزة علي مسار الرواية المعاصرة ومن يحاول أن يتخطي قصصه ورواياته فوقته ضائع عبثًا.
نقول ونؤكد القول بأن نجيب محفوظ نتيجة لتزوده بالثقافة الفلسفية الواسعة والشاملة والتي تظهر في العديد من قصصه ورواياته. لم يكن مجرد صدي للأحداث التي مرت بعصر قبل عام 1952 أو بعده، بل إنه يحاول بلورة العديد من الأفكار والمشاعر يحاول تحليل وتوضيح أفكار تبدو في الظاهر معروفة ولكنها في الحقيقة ليست بهذا المستوي من السهولة واليسر، إنه إذا كان قد تأثر بالعديد من الظروف الاجتماعية والأنظمة السياسية إلا أنه لم يكن مجرد مستقبل بل كان عن طريق قصصه ورواياته مؤثرًا وفعالا ً إذا ما أكثر القيم التي فينا من خلال أدبه وسواء اتفقنا معه حولها أو اختلفنا، وليرجع القارئ إلي رواياته سواء ما يمثل منها أو يغلب عليها الجانب الاجتماعي كخان الخليلي وزقاق المدق والثلاثية وبداية ونهاية، أو ما يمثل منها الجوانب التاريخية الفرعونية علي وجه الخصوص كفاح طيبة ورادوبيس وأولاد حارتنا والسمان والخريف والطريق والشحاذ وثرثرة علي النيل وميرامار واللص والكلاب. إن القارئ لهذه الأعمال التي نذكرها علي سبيل المثال لا الحصر يستطيع إلي حد كبير إدراك وحدة عضوية، وجانب تركيبي في أعمال أديبنا نجيب محفوظ وكم سعت إلي ذلك الآراء والاتجاهات الفلسفية من خلال تحقيق الوظيفة التركيبية للفلسفة فكم أعطانا نجيب محفوظ صورًا عديدة للإنسان الذي يمثل عالمًا صغيرًا بالقياس إلي الكون أو العالم الكبير. كم تحدث في رواياته عن الحياة وهل هناك هدف وراءها؟، وما معني تلك الحياة والتفاؤل والتشاؤم إلي أخر حديثه عن جوانب تدخل دخولًا مباشرًا في إطار الفلسفة والتفلسف وما زلنا حتي الآن كأدباء ومفكرين تطرحها علي أنفسنا ونحاول الإجابة عنها.
وقد كان نجيب محفوظ حين طرح هذه التساؤلات الفلسفية متجهًا إلي لغة الحوار وإثارة الشكوك، إنه لم يقدم إجابات جاهزة قطعية ولعمري أن ما فعله أديبنا نجيب محفوظ يضعه في مكانة كبري. وإذا كنا نعجب كل الإعجاب بأشعار المتنبي وأبي العلاء المعري وبحيث نفضل هذين الشاعرين علي البحتري نظرًا لما نجد لديهما ( المتنبي وأبي العلاء المعري ) من أشعار تطرح العديد من القضايا، فإنه لابد بالتالي من الإعجاب بالعديد من قصص وروايات نجيب محفوظ فلم يجد الإنسان فيها نفسه، كم يجد كما هائلًا من التحليلات النفسية والفلسفية والتي يرددها بينه وبين نفسه وبحيث تحدد علاقته بذاته وعلاقته بالمجتمع بل تحدد علاقته بالله تعالي خالق الأكوان، صحيح أننا لا نجد فيها العمق الذي نجده عند شكسبير أعظم الشعراء والأدباء علي وجه الأرض قاطبة ولكن هذا لا يقلل من مكانة نجيب محفوظ فمن من أدبائنا القدامي والمحدثين وصل إلي ما وصل إليه شكسبير؟ إن المتنبي وأبي العلاء المعري علي ما في أشعارهما من عمق ودلالات فلسفية، لا يرقي واحد منهما إلي ما وصل إليه شكسبير.
لقد كان نجيب محفوظ عن طريق تعمقه في دراسة الفلسفة وتأثره بها مكتشفًا لعوالم جديدة لا أكون مبالغًا إذا قلت إننا لا نجدها عند أديب من أدبائنا المعاصرين في زمانه، أي من الأدباء العرب الذين يعيشون حاليا داخل مصر وخارجها، لقد أدرك نجيب محفوظ أن للأدب وظيفته الاجتماعية أنه لم يقم بتأليف رواياته وقصصه لمجرد اللهو والعبث لقد كان طوال حياته ملتزمًا بخصائص الأدب كما ينبغي أن يكون الأدب، لم يكن من هؤلاء الذين يحشرون أنفسهم في زمرة الأدباء والأدب، والبعد بينها وبين الشعر أو الأدب أبعد من المسافة بين الإنس والجن.
نعم لقد كان نجيب محفوظ عملاقًا من عمالقة الأدب والرواية. لقد أجهد نفسه إجهادًا شديدًا وقدم لنا أدبًا رفيع المستوي واضح القسمات وما أجدرنا أن نحتفل به في كل زمان وكل مكان.
هذه رؤيتنا الفلسفية لأدبه وقصصه أي تحليلنا لأدبه من خلال منظور فلسفي ولا يخفي علينا أن هذا المنظور الفلسفي يعد غير مقطوع الصلة بالاتجاه العظيم، الاتجاه التنويري العقلاني المستقبلي.
أقول وأؤكد القول بأن الدراسة لأدب نجيب محفوظ، ومن خلال أكثر رواياته إن لم يكن كلها، لا يمكن أن تكون دقيقة وتحليلية وعميقة، إلا بأن نضع في اعتبارنا دوامًا الدلالات الفلسفية أو الأبعاد والأهداف التي لا تقف عند الظاهر، بل تتخطي الظاهر إلي ما وراء الظاهر، بحثًا عن الفلسفة والتفلسف.
وأعتقد أن روح نجيب محفوظ تحلق الآن في السماء في سعادة، وذلك حين تدرك أثر أدبه وأثر فكره في ملايين الدارسين. لقد ترك لنا إنتاجًا أدبيا ضخمًا سيبقي منارة أمام كل الأجيال. إنه سيظل حيا بأدبه. سيظل في ذاكرتنا دوامًا، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ.

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:47
الروائي العالمي
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////


الدكتور حامد أبوأحمد

نجيب محفوظ واحد من أبرز المثقفين المصريين والعرب الذين جمعوا بين صفتي الأصالة والمعاصرة في آن، وقد امتزجت في شخصه وفي ثقافته وتوجهاته هاتان الصفتان امتزاجا حميما منذ أن بدأ الكتابة في الثلاثينيات حتي الآن، مرورًا بمسيرته المتطورة والمختلفة، وكان لهذا الامتزاج الحميم أثر في أن ما قدمه نجيب محفوظ منذ البداية يمثل مرحلة جديدة لتطور الفن الروائي العربي تميزت بالنضوج في الشكل والتقنية والأسلوب والمنظور الروائي بمستوياته المعروفة: المنظور الأيديولوجي، المنظور النفسي ومنظور الزمان والمكان والمنظور اللغوي أو التعبيري، وهذا النضج المبكر جعل أدب نجيب محفوظ مؤهلا لأن يفتح آفاقًا جديدة أمام الثقافة العربية، حتي جاءت اللحظة التي انتبه فيها العالم بقوة إلي أن هناك في مصر أديبا عربيا يصنع ثقافة عالمية فمنحه جائزة نوبل عام 1988، وهي الجائزة التي كانت بمثابة تتويج عالمي لهذه المسيرة الطويلة في تأصيل فن القص العربي والدخول في كفاءة واقتدار إلي ساحة العالمية، وكانت النتيجة المباشرة لذلك هي الإسراع بترجمة كل أعماله إلي كل لغات العالم، والنتيجة الواضحة الآن هي أن هذه الأعمال تحظي بتقدير الدوائر العلمية والأوساط الأدبية والمثقفين والقراء في جميع أنحاء الأرض، وهذا التقدير العالمي يشمل كل أعماله بدءا من روايات المرحلة الأولي حتي آخر مرحلة، بل إن رواية «زقاق المدق» وهي تنسب لمرحلته الواقعية الأولي، كانت أهم رواية حظيت بإقبال شديد من جانب جمهرة القراء في معظم بلدان العالم.
ويضاف إلي هذا الامتزاج الحميم بين الأصالة والمعاصرة في شخصية نجيب محفوظ بعد آخر يجعله قريبا جدا من القراء في أي مكان هو هذه الروح العالمية التي تتغلغل في شخصياته الروائية فنجيب محفوظ ليس مجرد روائي أو كاتب يعبر عن مكان معين وزمان محدد، ولكنه كاتب مهموم بقضايا الإنسان، وهو كاتب يشغله مطلب مهم هو البحث عن الحقيقة. وإذا كان كمال عبد الجواد هو الشخصية التي تمثل (1) نجيب محفوظ نفسه في «الثلاثية» فلنقرأ علي لسان كمال هذا قوله: «الأدب متعة سامية بيد أنه لا يملأ عيني، إن مطلبي الأول الحقيقة، ما الله، الإنسان، الروح، ما المادة؟ الفلسفة هي التي تجمع كل أولئك في وحدة منطقية مضيئة كما عرفت أخيرا، هذا ما أروم معرفته من كل قلبي، وهذه هي الرحلة الحقيقية التي تعد رحلتك حول العالم بالقياس إليها مطلبا ثانويا، تصور أنه سيمكنني أن أجد أجوبة شافية لهذه المسائل جميعا» (2)
ويقول نجيب محفوظ في حواره مع جمال الغيطاني: «بعد أن بدأت أقرأ المقالات الفلسفية للعقاد ولإسماعيل مظهر وغيرهما، وبدأت قراءاتي تتعمق، تحركت في أعماقي الأسئلة الفلسفية، وجدت أن هذه هي همومي، وخيل إلي أنني بدراستي الفلسفة سأجد الأجوبة الصحيحة، ألا يصبح الدارس للطب طبيبًا، والدارس للهندسة مهندسا؟ إذن فدراستي للفلسفة سوف تجيب علي الأسئلة التي تعذبني. خيل لي أنني سأعرف سر الوجود ومصير الإنسان، يعني بعد تخرجي سأتخرج ومعي سر الوجود، وكنت أدهش، كيف يتجاهل الناس سر الوجود في قسم الفلسفة ويدرسون الطب أو الهندسة» (3).

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:50
هذا الشوق الجارف إلي المعرفة، وهذا التطلع المستهام إلي استكناه أسرار الحياة والكون والوجود دفع نجيب محفوظ دفعا قويا إلي أن يغترف من ينابيع المعرفة، وأن يتساوي لديه التراث العربي والتراث العالمي، ومن ثم تعددت الروافد عنده: فهناك الرافد الفلسفي، وقد درس هذا الجانب دراسة أكاديمية منظمة بكلية الآداب جامعة القاهرة، التي تخرج فيها عام 1934 بتفوق جعله يلتحق بمرحلة الماجستير، ويختار موضوعه عن فلسفة الجمال، وهناك الرافد التاريخي الذي تبلور في رواياته الثلاث الأولي وهي «عبث الأقدار» (1939) و«رادوبيس» (1943) و«كفاح طيبة» (1944)، وهناك رافد العلم ورافد السياسة، وغير ذلك مما يدخل في نطاق ما يمكن أن يتثقف به الأديب وغيره حسبما ذكر في مقابلة أجريتها معه قبل حصوله علي نوبل بمدة قصيرة (4)
ولكن أهم رافد استقي منه نجيب محفوظ مكوناته الثقافية ورؤاه الإبداعية هو الرافد الأدبي، وسوف نري كيف يمثل كاتبنا شخصية الكاتب ذي الثقافة الموسوعية العالمية، فقد قرأ التراث العربي قراءة واعية متأملة، وتأثر بالرواد الأوائل من الأجيال التي سبقته أو عاصرته لكنها كانت بالنسبة له في مقام الأستاذية مثل مصطفي لطفي المنفلوطي، وأحمد لطفي السيد، وسلامة موسي، وطه حسين، وعباس العقاد، وإبراهيم المازني، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم، ويحيي حقي وغيرهم، وفي الأدب العالمي قرأ الروائيين الكبار من كتاب الواقعية الأوائل مثل بلزاك وديكنز، وإن كان قد تأثر أكثر بتلامذتهم مثل جوستاف فلوبير وستندال. وقرأ الكتاب الروس وتأثر بهم كثيرا وبالأخص تولستوي في رائعته «الحرب والسلام» وديستويفسكي في أعماله العظيمة وغيرهما، ولم يتوقف عند هؤلاء وأولئك وإنما امتدت قراءته إلي من أحدثوا منعطفات خطيرة في فن الرواية مثل جويس وكافكا وبروست، وقرأ هكسلي وملفيل ودوس باسوس وهيمنجواي قراءة واعية.. وهكذا نمضي مع قراءات نجيب محفوظ ومكوناته الأولي فنجد أنه كان قارئا عالميا بكل المقاييس، ويندهش المرء عندما يقرأ أحاديثه أو ما كتب عن مكوناته الثقافية كيف تكونت لديه حاسة قوية في إجادة الانتقاء، حتي استطاع أن يقف علي الإبداعات المهمة عند معظم كبار الكتاب العالميين. وبالطبع فإننا لا نريد في هذا المقام أن نشغل القارئ بتعداد الأسماء، ومن ثم نحيله علي معظم ما كتب عن نجيب محفوظ وفيه معلومات وفيرة في هذا الشأن لأن ما يهمنا هنا هو كيف تلاقت كتابات نجيب محفوظ مع كتابات هؤلاء الذين قرأهم بعمق وتأثر بهم، وكيف اختلف عنهم نتيجة للتطورات الكبيرة التي كانت قد حدثت في فن الرواية، وكيف استطاع أن يكون نسيج وحده ويقدم رواية عربية أصيلة ومتطورة.

جدل الأنا والآخر
من المعلومات التي تهمنا هنا أن نجيب محفوظ قد بدأ بقراءة الأدب الحديث، الذي كان قد تجاوز الواقعية في مرحلتها الأولي، في فترة مبكرة من حياته، وبالتحديد منذ عام 1936م أي بعد تخرجه في الجامعة بعامين تقريبا، فقرأ الأدب الواقعي عند الأدباء الذين أتقنوا أسلوبها وطوروه مثل جولسورثي وألدوس هاكسلي ود.هـ. لورانس، وفي ذلك يقول: «فلم يعد باستطاعتي بعد ذلك أن أقرأ ديكنز، وكذلك لم أستطع قراءة بلزاك بعد أن قرأت فلوبير وستندال مع أني أعلم أن بلزاك عبقري وهو خالق الواقعية كلها، ولكن لم يكن باستطاعتي أن أحتمله وهو يصف مشهدا في 80 صفحة مثلا.. لقد قرأت مذهبه واتجاهه بعد أن تهذب وتطور عند أناس غيره..» (5) وقرأ الطبيعية والقصة التحليلية، ثم اتجه إلي المغامرات الأدبية الحديثة كالتعبيرية عند كافكا، والواقعية النفسية عند جيمس جويس، حيث توقف عند روايته الشهيرة «أوليس» لكنه لم يحبه وأذكر أني عندما سألته في ذلك عام 1988 قال: «لأن الحَوْدة التي أحدثها جيمس جويس في الفن الروائي خطيرة جدا، وهو حتي الآن لا يمكن أن تعتبره كاتبا مقروءا» (6)، كما قرأ الكاتب الفرنسي الشهير مارسيل بروست، وأعجب كثيرا برائعته «البحث عن الزمن المفقود»، وهو يعتبره مع جيمس جويس عماد الأدب الحديث في القصة كلها (7)، وتعتبر هذه الرواية لبروست أحد أربع روايات حازت إعجابا خاصا من كاتبنا الكبير، وفي ذلك يقول: «لكن إذا سألتني عن الروايات التي أعجبتني جدا أقول لك «الحرب والسلام» لتولستوي، و«البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست، و«الشيخ والبحر» لهيمنجواي، و«موبي ديك» لملفيل(8).

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:50
ولكن إذا كان نجيب محفوظ قد عرف هذه التيارات الحديثة في فن القصة في فترة مبكرة من حياته فلماذا لم يبدأ باستخدام أسلوبهم وبدأ بالواقعية؟ والحق أن هذه مسألة شغلت نقاد نجيب محفوظ ومحاوريه منذ عقود طويلة سابقة، فقد طرحها عليه أحمد عباس صالح في حوار نشر بجريدة الجمهورية في 28 أكتوبر 1960 فرد نجيب محفوظ: «عندما بدأت الكتابة كنت أعلم أنني أكتب بأسلوب أقرأ نعيه بقلم فرجينيا وولف. ولكن التجربة التي أقدمها كانت في هذا الأسلوب.. وقد تبينت بعد ذلك أنه إذا كانت لي أصالة في الأسلوب فهي في الاختيار فقط.. لقد اخترت الأسلوب الواقعي وكانت هذه جرأة، وربما جاءت نتيجة تفكير مني. ففي هذا الوقت كانت فرجينيا وولف تهاجم الأسلوب الواقعي وتدعو للأسلوب النفسي والمعروف أن أوروبا كانت مكتظة بالواقعية لحد الاختناق. أما أنا فكنت متلهفا علي الأسلوب الواقعي الذي لم نكن نعرفه حينذاك، الأسلوب الكلاسيكي الذي كتبت به كان هو أحدث الأساليب وأشدها إغراء وتناسبا مع تجربتي وشخصي وزمني، وأحسست بأنني لو كتبت بالأسلوب الحديث سأصبح مجرد مقلد» (9).
وقد كتب نجيب محفوظ بهذا الأسلوب الواقعي رواياته التي جاءت بعد المرحلة التاريخية، وصدرت أول رواية منها وهي «القاهرة الجديدة» عام 1945، و«السراب» (1948)، و«بداية ونهاية» (1949) ثم كانت «الثلاثية» (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) التي انتهي من كتابتها عام 1952 لكنها لم تنشر إلا في عامي 56 و 1957، والحق أن نجيب محفوظ لو لم يكتب إلا هذه الروايات فقط لعُد أيضا من كبار الكتاب ولحظي بمكانة رفيعة في الأدب العربي والثقافة العربية، بل إنه بمقاييس الإبداع العالمي كان يستحق بهذا الإنتاج أن يحفر اسمه في سجل الخالدين. كان نجيب محفوظ خلال تلك الفترة يصدر كل عام رواية. وسوف يتوقف كاتبنا الكبير بعد ذلك لمدة خمس سنوات ثم يستأنف الكتابة بقوة ونشاط لا مثيل لهما، حتي ليصدر له كل عام تقريبا رواية أو مجموعة قصصية، حتي تربو أعماله علي الخمسين، وكلها من أفضل ما أنتجته قريحة الإنسان في كل العصور. ولو أن نجيب محفوظ ظهر في بلد غير بلادنا وظروف مختلفة عن الظروف التي شهدها لبلغت شهرته الآفاق خلال هذه المرحلة الواقعية الأولي.
وإذا قارنا بين نجيب محفوظ وكتاب الواقعية الأجانب الذين قرأهم وتأثر بهم فسوف نجد مجموعة كبيرة من النقاط تجمع بينه وبينهم، ومجموعة أخري كبيرة من النقاط تدل علي أن التيارات الحديثة في فن القص قد بدأت تظهر في أعماله منذ أول رواية واقعية، وهي «القاهرة الجديدة» ثم أخذت هذه التيارات تزداد كثافة ونموا حتي بلغت درجة كبيرة في الثلاثية.
ولعل أهم ما يجمع بين نجيب محفوظ وكتاب الواقعية هو أنه قد تبني القوالب الغربية في الكتابة، ولم تكن قد ظهرت بعد اتجاهات الدعوة إلي تأصيل فنون الكتابة العربية مثل الحكواتي في المسرح، أو استلهام التراث في القصة والرواية.. إلخ ولهذا سوف نجد نجيب محفوظ بعد ذلك مباشرة يلجأ إلي كتابة رواية علي غير مثال في «أولاد حارتنا» وبذلك يكون سباقا في الدعوة إلي الاتجاهات الأصيلة. وليس معني ذلك أن القوالب التي كتب بها نجيب محفوظ رواياته الأولي تخلو من الأصالة لأنها التزمت بالأشكال الغربية أونسجت علي منوالها، ولكنها أخذت هذه الأشكال وطورتها بما يتناسب مع البيئة العربية والثقافة العربية فجاءت أصيلة في المنظور وفي الزمان والمكان والشخصيات والأحداث، وعكست الفنون والتقاليد والقيم لمجتمع يختلف كل الاختلاف عن المجتمع الغربي، وما نعنيه إذن هنا هو المقارنة بالتيارات التي جاءت بعد ذلك وكان نجيب محفوظ أيضا من روادها وكانت تعني بالبحث عن طرائق جديدة وأشكال مختلفة لفن القص العربي.
كان الجيل السابق مباشرة علي نجيب محفوظ يري أن التراث العربي يخلو من فن القصة، أو لم يعْنَ بها، أو كما قال الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه «ثورة الأدب»: «إن ما كان موجودا في الأدب العربي من التراث الروائي تافه ولا غناء فيه» وكما قال توفيق الحكيم في كتابه «زهرة العمر»: «إن الأدب العربي فن ناقص التكوين، ولم تعاصره فنون أخري، وهو لذلك لا يختال للأنظار إلا في ثوبين معروفين، الرسائل والمقامات. فالأدب العربي الإنشائي قد عني باللفظ أكثر مما يجب، ولم يشأ أن ينزل عن تكلفه الذي يعتبره بلاغة وفصاحة، ليصور ما يجيش في نفس الشعب من إحساس ولا ما يهيجه من خيال» (10).
ووفقا لهذه النظرة تجاه التراث العربي لم يكن أمام تلك الأجيال إلا أن تمتَح من القوالب والأشكال الغربية لتأسيس خطاب روائي جديد في الثقافة العربية، ولكن الوعي بالجانب الروائي في تراثنا لم يبدأ في الظهور بصورة أكبر إلا علي يد نجيب محفوظ وأبناء جيله، وإذا بحثنا في المكونات الثقافية عند هذا الكاتب الكبير سوف نجد أن عناصر كثيرة بدأت تنصهر في بوتقته الإبداعية ومنها الأعمال التي يقول عنها إنها شبه قصصية مثل رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وحي ابن يقظان لابن طفيل، والسير الشعبية (11)، وعنها كتب يقول إن جيله لم يكن يقرؤها أو يعرف عنها شيئا مثل «الكامل» للمبرد و«الأمالي» لأبي علي القالي (12). وفضلا عن ذلك فقد بدأ يتكون منذ ذلك الحين وعي لدي الأدباء والمثقفين بأن الأدب العربي مليء بالكنوز التي لم يكشف عنها الغطاء بعد، ولهذا سوف نجد نجيب محفوظ في مرحلة السبعينيات يتجه اتجاها قويا نحو التراث العربي ويصدر عددا من الروايات التي تستلهم أول ما تستلهم الموروث التراثي. وقد شاعت خلال العقود الأخيرة أبحاث تدل علي أن العرب قد عرفوا من قديم الزمان ضروبا من فنون القص مثل الملاحم والقصص الشعبي والمقامات، وأن هذه الفنون أثرت تأثيرا كبيرا في ظهور فن الرواية في العالم العربي، وبخاصة عن طريق أسبانيا، التي شهدت خلال القرون السابقة علي عصر النهضة الأوروبي ترجمة عدد من هذه الأعمال العربية في مدرسة طليطلة وفي بلاط الملك ألفونصو العاشر الملقب بالحكيم، ومن بينها كتاب كليلة ودمنة، فضلا عن المقامات التي يقال إنها أثرت في ظهور نوع من القصة تعرف بالقصة البيكاريسيكية او قصص الصعاليك.

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:51
وقد برز تأثر نجيب مفحوظ بالقوالب الغربية في الثلاثية بشكل خاص لأنه استخدم فيها شكل تسلسل الأجيال، أو ما يسميه الإنجليز الرواية النهر، وهو نوع من القصص سبقه إليه الدكتور طه حسين في روايته شجرة البؤس التي صدرت عام 1944، وتبعه في ذلك عبد الحميد جودة السحار في رواية «قافلة الزمان». وهذا النمط الروائي كانت قد ظهرت منه إبداعات متميزة في أوروبا وأمريكا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نذكر من بينها في فرنسا «الملهاة الإنسانية» لبلزاك و«روجون ماكار» لإميل زولا، و«الرجال أصحاب الإرادة الصالحة» لجول رومان. وفي أمريكا ظهرت في الثلاثينيات من هذا القرن ثلاثية الكاتب الأمريكي جون دوس باسوس، وأجزاؤها الثلاثة تحمل العناوين التالية: «المتوازي الرابع والعشرون» (1930) و«1919» وقد نشر عام 1932، و«النقود العظيمة» (1936)، وهذه الثلاثية تتناول العقود الأولي من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس لها بطل محدد وإنما بطلها الحقيقي هو البيئة الاجتماعية للأمة الأمريكية، والموضوع الرئيسي الذي تدور حوله هو النمو والتدهور في المجتمع الرأسمالي المستغل. وفي الأدب الإنجليزي برزت في هذا اللون أسماء أرنولد بنيت (1867ـ 1931) صاحب رواية «المدن الخمس، وجالسورثي (1867ـ 1933) الذي أرخ لأسرة برجوازية إنجليزية هي أسرة فورسايت متناولا بذلك تاريخ إنجلترا منذ العصر الفيكتوري إلي العصر الذي عاش فيه.
ومن خصائص الكتابة الواقعية أيضا التزام الدقة والتفصيل في وصف المكان، فإذا كان الوصف يتعلق بزقاق المدق مثلا نجد الكاتب يقدم فكرة عن تاريخ هذا المكان من أنه كان تحفة من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري.. إلخ، ثم يتطرق إلي وصف حاضر هذا المكان علي نحو ما سوف يظهر في الرواية فيقول: «آذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شنق الغروب، زاد من سمرتها عمقا أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب علي الصنادقية، ثم يصعد صعودا في غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن، وتحف بالجانب الآخر دكان ووكالة ثم ينتهي سريعا ـ كما انتهي مجده الغابر ـ ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة (زقاق المدق ص5)... وهذه الإحاطة بتفاصيل المكان تكاد ترتبط ارتباطا وثيقا بعنصر آخر هو الإحاطة بالأوصاف المعبرة عن طبيعة الشخصية، فعم كامل بائع البسبوسة في رواية «زقاق المدق» «يقتعد كرسيا علي عتبة دكانه، يغط في نومه والمذبة في حجره، لا يصحو إلا إذا ناداه زبون أو داعبه عباس الحلو الحلاق. هو كتلة بشرية جسيمة، ينحسر جلبانه عن ساقين كقربتين، وتتدلي خلفه عجيزة كالقبة، مركزها علي الكرسي ومحيطها في الهواء، ذو بطن كالبرميل وثدي يكاد يتكور ثدياه، لا تري له رقبة.. إلخ إلخ» (ص6) وهكذا يمضي نجيب محفوظ في تعقب ملامح هذه الشخصية بعد أن أحدث نوعا من التآلف الحميم بينها وبين المكان الذي تجلس فيه. وقد بلغ هذا الاهتمام بالتفاصيل ـ كما يقول الأستاذ يوسف الشاروني ـ ذروته في «الثلاثية» حيث نجد الاهتمام بذكر تفاصيل الأمكنة وهيئة الأشخاص ودوافعهم النفسية والحياة الاجتماعية والسياسية والفنية حتي بلغ الوصف التسجيلي في بعض الصفحات درجة الإملال. وهذه هي طريقة المدرسة الواقعية التي تلجأ اليها حتي تم لها ما يعرف في الأعمال الأدبية بعملية «الإيهام بالواقع» (13).
أيضا من السمات المميزة للرواية الواقعية استخدام الحوادث التاريخية أو بعض ما له دلالة في السياق كخلفية للرواية، وهذا الأسلوب أجاد نجيب محفوظ استخدامه في كل رواياته الواقعية بدءا من القاهرة الجديدة حتي الثلاثية، ومعروف أن الأحداث التاريخية قد لعبت دورا كبيرا في تشكيل الاتجاه الواقعي في أوروبا وكان كبار كتاب الواقعية يسهمون إسهاما كبيرًا في كتابة الرواية التاريخية أو المزج بين أحداث الواقع وأحداث التاريخ علي نحو ما فعل الكاتب الواقعي الإسباني بينيتو بيريث جالدوس (1843ـ 1920) في روايته الضخمة «الأحداث القومية» المكونة من ستة وأربعين مجلدا.
ومن سمات الكتابة الواقعية أن الصلة بين الأثر الفني والواقع صلة قوية ومباشرة إلي حد كبير، بدءًا من الوصف التفصيلي الواقعي للمكان والشخصية علي نحو مارأينا، إلي تسلسل الأحداث، إلي النقل الفوتوغرافي للواقع في كثير من الأحيان، وإن كان كتاب الواقعية يختلفون فيما بينهم في رؤيتهم لهذا الواقع، وإحساسهم به، وتفاعلهم معه، فبعضهم ينظر إليه علي أنه مادة خام ينبغي للأديب أن ينقلها بصدق، وألا يتجاوزها أو يعبث بها كما يحلو له، وإنما تتفاوت القدرات في طرق التعبير عن هذا الواقع، ومدي نجاح الأديب في سبر أغواره الحقيقية، وبعض الأدباء يقيم علاقة جدلية بينه وبين الواقع بحيث يكون للذات دور كبر أم صغر في التفاعل مع هذا الواقع. وسوف نجد أن نجيب محفوظ كان دائمًا أقرب إلي هذا النوع الثاني، لأن تعبيره عن هذا الواقع ظل مرتبطا بما يمور في وجدانه من مشاعر وما يجري في ذهنه من أفكار ورؤي وانطباعات.

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:52
ملامح حداثية


ذكرنا أن نجيب محفوظ قد قرأ الاتجاهات الحداثية في الرواية منذ فترة مبكرة من حياته، ولكنه عندما بدأ يكتب انحاز إلي الأسلوب الواقعي لأنه كان أكثر الأساليب تناسبا مع تجربته. وحسنا ما صنع أديبنا الكبير لأنه لو اصطنع الأساليب الحداثية جملة وتفصيلا منذ البداية لأحدث صدعا لا يمكن رأبه في مسيرة الرواية العربية، وكان عمله في هذه الحالة سيظل في منطقة النقلة الفجائية بدون أساس أو مقدمات أو تطور طبيعي. لكنه باختياره للأسلوب الواقعي استطاع أن يصل بفن القص العربي إلي مرحلة النضوج الكامل في صورته الواقعية مما مهد الطريق بعد ذلك لدخول الاتجاهات الأخري التي كان هو أيضا من روادها كما أسلفنا، والتي أصبحت الآن تحظي بمساحات واسعة من التجريب في كل أنحاء العالم العربي، بدءا من الروايات التي تستلهم الموروث التراثي إلي تلك التي تغوص في المورث الشعبي إلي الأخري التي تجرب أشكالا بنائية تعتمد علي اللغة، أو علي الأساليب المستعارة من الفنون الأخري مثل القص واللصق والقطع وما إلي ذلك أو الروايات التي تصطنع أشكالا أخري من الواقعية مثل الواقعية السحرية، وهي نمط من فن القص انتشر خلال العقود الأخيرة في بلدان أمريكا اللاتينية.
وبالرغم من اعتماد نجيب محفوظ في هذه المرحلة الواقعية الأولي علي أسلوب المدرسة الواقعية الكلاسيكية، علي نحو ما فصلنا من قبل، إلا أن ملامح التيارات الحديثة بدأت تظهر بقوة في رواياته ابتداء من «القاهرة الجديدة» حتي أخذت هذه الملامح مساحات أكثر اتساعا في «الثلاثية» ومن ذلك استخدامه للغة قريبة من اللغة الشعرية في كثير من الفقرات والمقاطع، واقتصاده في وصف الأماكن والشخصيات مقارنة بما كان يفعله كتاب الواقعية الأوائل، واستخدامه لتيار الوعي لكن بعد تطويعه وجعله مفهوما (14).. إلخ، وحتي لا نتوه في خضم هذه الأساليب، وهو أمر لا يحتمله المقام يحسن بنا أن نتوقف بشكل موجز عند بعض هذه الملامح، لنري كيف استطاع نجيب محفوظ أن يقدم رواية جديدة تنسج علي منوال الواقعيين لكنها تختلف عنهم كثيرا، صحيح أنها تلتزم بأبنيتهم التقليدية المعروفة لكنها تضيف إليها كثيرا من الخبرات والطرائق والأطر التي عاينها نجيب محفوظ في قراءته لكتاب الرواية المحدثين الذين أحدثوا ثورات ضخمة في الفن الروائي لا تقل عما استحدثه بيكاسو وسلفادور دالي في الرسم، أو ما استحدثته المدارس الرمزية ومدارس الشعر الصافي في الشعر، واستحدثه العلماء في مجال العلوم مثل نظرية النسبية مما كان يعد بحق ثورة بكل المقاييس. وبالطبع فإن نجيب محفوظ وهو يكتب في أوائل الأربعينيات ما كان يمكنه أن يغض الطرف عما يسمع عنه ويقرؤه عند فرجينيا وولف وجويس وكافكا وبروست وفوكنر وهيمنجواي وغيرهم، خاصة أن أديبنا الكبير ـ كما أسلفنا بشأن قراءاته ـ لم يكن شخصا عاديا تجري الظواهر من حوله فلا يلتفت إليها، وإنما كان قلبه معلقا بكل جديد، يتأمله ويغوص في أعماقه، ويكشف عن وظائفه ويدخله ضمن مكوناته الثقافية والرؤيوية.
فقد عرفت الرواية الواقعية عند نجيب محفوظ ظاهرة الخلط بين الأساليب، فنجده ينتقل من المتكلم إلي المخاطب إلي الغائب في سهولة وتلقائية ظاهرتين، كما نجد المونولوج الداخلي يمتد ليغطي صفحة أو أكثر علي نحو ما يري في الصفحة الثالثة تقريبا من رواية قصر الشوق، عندما تغوص أمينة وهي أمام السيد أحمد عبد الجواد في رحلة مع الطريق الذي تطل عليه المشربية ويغوص هو مع جلسات الأنس التي تضم أصدقاءه الثلاثة محمد عفت وعلي عبد الرحيم، وإبراهيم الغار، وبينما هو كذلك تلتقي عيناه الحالمتان بعيني أمينة المستطلعتين فيدور بينهما الحوار الذي قطعه هذا المونولوج الداخلي عند كل منهما.
كما أن قراءة الثلاثية ـ كما ذكرت وحللت باستفاضة سيزا قاسم ـ تظهر بلا شك عملا متعدد الأصوات. وأوضح السمات التي تظهر هذا التعدد هو امتناع الراوي عن إصدار الأحكام العامة المنفصلة عن منظور الشخصيات الأيديولوجي، تلك الأحكام التي تشبه الحكم وجوامع الكلم ويمكنها أن تقف مستقلة عن النص ـ إذا انسلخت عنه ـ محتفظة بدلالة مطلقة، وتختلف الثلاثية بذلك عن تقاليد الرواية الواقعية (15)، وهذا يدل علي أن نجيب محفوظ قد أجاد استخدام «البوليفونية» أي تعدد الأصوات في البناء الروائي، واتجه بدرجة كبيرة إلي المنظور النفسي الذاتي. أو علي حد تعبير الدكتور علي الراعي، لقد رسم نجيب محفوظ الشخصيات بطريقة علمية موضوعية توازن تماما بين النمو الداخلي والخارجي للشخصية الواحدة، وقد أدي هذا إلي غني هذه الشخصيات في حياتها الداخلية والخارجية وتعدد أنواعها وتفرد كل منها بمميزات واضحة محددة تميزها عن باقي الشخصيات (16).
ويحسن أن نختم هذه الدراسة بكلمة لنجيب محفوظ تقول: «كانت كل الأساليب أمامنا في وقت واحد، فعندما نشرع في الكتابة قد نستفيد من أي من الطرق التي عرفناها ودخلت في آلية المشي عندنا بدون وعي. فعندما أكتب قد أستفيد من الواقعي التقليدي، من الواقعي الحديث، من تيار الوعي، من.. من.. لأنني قرأت كل هذا في فترة واحدة، بمعني أن التجارب التي عاشتها أوروبا مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة اطلعت عليها أنا في عشر سنوات، وبهذه الطريقة استفدت من أكثر من أسلوب روائي، ومن كل في لحظة أي في اللحظة المناسبة حتي لنجد في «الثلاثية» لحظات سريالية» (17).

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:54
أسطورة مصر

في القرن الـ 20
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////



الدكتور محمد عبدالمطلب

عندما نقترب من شخصية عادية لنتعرف عليها، من الضروري أن نهيئ أنفسنا لهذا الاقتراب بتجميع قدر كاف من المعلومات التي تجعل من هذا الاقتراب أمرا مفيدا ومجديا، لكن عندما نقترب من إنسان يفارق المألوف ويخرج علي (العادي) فإن التهيئة لا تكتفي بمثل هذه المعلومات السريعة العجلة، وإنما تحتاج إلي نوع من الإعداد العقلي والنفسي علي صعيد واحد، فإذا انتقلنا بالاقتراب إلي منطقة الأسطورة، فإن التهيئة يجب أن تصعد إلي أفق التخيل بكل طاقته في إدراك ما وراء الواقع، أو ما فوق الواقع.
كان هذا كله في الوعي ونحن بصدد مقاربة (نجيب محفوظ) أسطورة مصر في القرن العشرين، وهو أسطورة مدت أبعادها وتأثيراتها إلي العالم العربي والعالم الإنساني. لقد تحققت أسطورية محفوظ من عمره الإبداعي الذي كاد يستغرق عمره الزمني، ذلك أن الأساطير لا تقاس بمساحتها الزمنية، وإنما تقاس بمساحتها التأثيرية، وبقدر اتساع هذه المساحة، تزداد قامتها شموخا يوازي شموخ الآثار الخالدة.
ومن طبيعة الأسطورة أن تبدأ تجلياتها في دائرة زمنية بعينها، لكنها تتغلب علي الزمن المحدود، لتفرض وجودها في الزمن المطلق، وخلال هذا التحول تمتص إضافات وركائز في الأسس واللواحق الإضافية إلي أن تأتي لحظة التوقف الموازية للحظة الاكتمال، حيث تستحيل إلي كائن يعيش في الذاكرة الإنسانية، ويخايلها في كل مراحلها الحضارية.
لكن علي مستوي (الأسطورة الشخصية) يكون الزمن طوع هذه الشخصية، فيقدم لها عناصر الحيوية، ويفتح أمامها نوافذ التجربة والخبرة، ويسمح لها بالاستمرار في مرحلة شبابها لا تغادرها إلا لتعود إليها، أو لنقل: إن الزمن يتوقف بها في مرحلة النضج، ويعمل علي تعميقها رأسيا، وتوسيع مداها أفقيا، ومن ثم تصير إلي حالة دائمة من التحفز للاقتحام والمغامرة المحسوبة التي لا تعرف النكوص أو النقص، وإنما تعتاد التنامي الصاعد مع الحفاظ علي البكارة والنقاء.
وهكذا نجيب محفوظ يعيش زمن الشباب المقتحم الذي يلتحم بحاضره دون أن يحول نظره بعيدا عن أفق الآتي بكل احتمالاته المتوقعة أو غير المتوقعة، وبرغم استقرار محفوظ ـ بعمره الإبداعي ـ في زمن الشباب، فإنه ـ في عمره الفعلي ـ قد بلغ مراحل الكهولة والشيخوخة والكبر والهرم. بل إن بلوغ هذه المراحل المتتالية كان فاعلا بالغ التأثير في تشكيل (البصمة المحفوظية) بكل خصوصيتها في إطار العمومية، وبكل فرديتها في خضم الجماعية، فنجيب محفوظ المصري في إطار عروبته، والمصري العربي في إطار إنسانيته، وكأن الزمن مع محفوظ قد خرج عن قانون وجوده، فهو يتحرك حركة مزدوجة، للأمام تارة، وللوراء تارة أخري، أو لنقل إن حركته أصبحت حركة واحدة لا نتبين فيها وراء أو أماما، لأنها خاضعة لحركة محفوظ الذهنية والنفسية، فماضيه هو مستقبله، ومستقبله هو ماضيه بكل شموخهما الباذخ.
إن هذه المسيرة الممتدة زمنيا وإبداعيا ـ بطبيعتها الجدلية بين الماضي والحاضر والآتي، قد أكسبت نجيب محفوظ قدرة غير محدودة علي العطاء، وعظمة هذه القدرة في أنها لا تنتظر مردودا لعطائها، صحيح أن المردود قد يكون ـ أحيانا ـ من دوافع الاستمرار في العطاء لكن ذلك لا يكون إلا مع الشخوص المألوفة التي تمر عليها الحياة، أو تمر هي علي الحياة مرورا مألوفًا يتشابه بمرورها علي الشخوص العادية، لكن يتغير الموقف تماما مع الشخوص الأسطورية التي تطول بقامتها عنان السماء، حيث تمارس الأسطورية فاعليتها بين الناس دون أن تنتظر جزاء ولا شكورا.
لقد أتاحت الخصوصية والتفرد لمحفوظ إمكانية الرؤية الشاملة العميقة التي تعايش واقعها المباشر، ثم ترصد تحولاته الداخلية والخارجية، الجزئية والكلية، دون أن تعوقها هذه المعايشة الحميمة عن معاينة الواقع الإنساني في نماذجه العليا والدنيا، وفي تحولاته السياسية والاجتماعية والثقافية، فمحفوظ مصري وطني، وعربي قومي، وإنساني كوني علي صعيد وعيه الذاتي، وعلي صعيد وعيه الإبداعي.

اسبيرانزا
10/01/2008, 07:56
(2)
إن طبيعة الأسطورة أن تغيب شخوصها وأحداثها عن الواقع لتحتل الذاكرة التخيلية، ويغيب معاصروها، أو من عايشوها في تجليها المتخيل، لكن أسطورتنا تنفرد بحضورها المباشر الذي يلازم الواقع، ويصعد به إلي أفق التخيل، وكثير ممن عايشوها، مازالوا يعايشونها، ويتشبعون بحضورها وإن استحال معظمهم إلي كتاب مفتوح يسجل أحاديث الأسطورة أحيانًا، ويسجل ما يدور عنها وحولها أحيانًا أخري أو لنقل إن كل واحد من الحواريين قد تحول إلي ذاكرة محفوظية تسجل ماتراه، وتحفظ ما تسمعه، وتضيف إلي هذا وذاك انطباعها الذاتي في قدر كبير من الدقة والأمانة، ومن ثم فقد تراكم عن محفوظ سجل شفاهي حافل يقرب الأسطورة من الواقع، ويحيطها بكم وافر من الوثائق الشفاهية والكتابية التي تتساوق مع كثرة الصحاب والرواد، وأظن أن هذه الصفحات سوف تستمد من هذه الوثائق معظم معارفها عن أسطورة نجيب محفوظ الحياتية والإبداعية.
تقول الوثائق إن نجيب محفوظ ولد سنة 1911، وكان هذا المولد بشارة مرحلة التحول في الواقع المصري، فقد انفتحت نافذة الوعي الأكاديمي قبله بسنوات قليلة، حيث أنشئت جامعة فؤاد الأول (القاهرة) سنة 1908، وهو عام وفاة الزعيم مصطفي كامل الذي ظل صوته مدويا في أسماع المصريين بعد وفاته، وكانت أصوات شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وسواهم من المبدعين تملأ سماء الوطن، وكان سعد زغلول يقود حركة الوعي إلي ذروتها في سنة 1919، وكانت المرحلة إرهاصا بالفن الذي سوف ينبغ فيه محفوظ، إذ صدرت رواية (زينب) لهيكل سنة 1914.
لقد صاحب مولد محفوظ التحولات المصرية والعالمية بدءا من الحرب العالمية الأولي سنة 1914 ـ 1918، والحرب العالمية الثانية بعد ذلك سنة 1939ـ 1945، أما التحولات المصرية فقد كانت امتدادا لمرحلة التنوير التي وصلت ذروتها في ثورة 1919، وقد تابعها محفوظ في مظاهراتها وهو طفل من شرفة منزله (بيت القاضي) بحي الجمالية، وقد سجلها ببراعة معجبة في ثلاثيته الخالدة: بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية.
وتتابعت الأحداث العربية والمصرية، فكانت نكبة فلسطين سنة 1948، ثم ثورة يوليو سنة 1952، ثم تأميم القناة وحرب سنة 1956، ثم الوحدة مع سوريا وبناء السد العالي، ثم نكسة سنة 1967، وانتصار سنة 1973، ثم توابع حرب أكتوبر من الانفتاح الاقتصادي الذي أحدث انقلابا جذريا في المجتمع المصري بكل طوائفه، ثم مقتل السادات، وحرب الخليج الأولي والثانية، ثم انكسار الاتحاد السوفيتي وهيمنة القوة الامريكية علي العالم.
وخلال هذه التحولات المصرية والعربية والعالمية، جاءت تحولات محفوظ الإبداعية التي بدأت فاعليتها من أعماق الواقع المصري ملتحمة به علي نحو مباشر، لقد كانت بداية إطلالته علي الواقع المصري من شرفه بيته في حي الجمالية، ثم اتسعت نافذة الإطلال واقتربت أكثر من الواقع مع بداية ارتباطه (بالمقهي) سنة 1943، ثم دخول هذه البداية إلي شكل الندوة ابتداء من سنة 1945، وكانت أحداثها تقع يوم الجمعة من كل اسبوع في (كازينو الأوبرا)، وقد أصبحت المقاهي ركيزة أساسية في مسيرة محفوظ الحياتية، وهي مقاهٍ متعددة وقريبة من الواقع المصري في كافة مستوياته الاجتماعية: مقهي عرابي ـ الفيشاوي ـ قصر النيل ـ كازينو صفية حلمي ـ ريش ـ ركس ـ سفنكس ـ لاباس ـ جروبي ـ علي بابا ـ زقاق المدق ـ الفردوس ـ لونا بارك ـ بترو قهوة أحمد عبدالله.
ومن شأن الشخوص الأسطورية أن تنبئ مقدماتها عن نتائجها، وهكذا كانت طفولة محفوظ إشارات مبكرة لميلاد العبقرية الحكائية، وحنينها الفطري إلي دائرة السرد، فمما رواه حواريوه أنه كان ينسخ القصص البوليسية بخطه، بخط يجهد نفسه في دقته وتحسينه، ثم يضع اسمه علي المخطوط بوصفه المؤلف، وكأن هذا الفعل الطفولي نوع من النبوءة المستقبلية التي كانت تخايل الطفل في سنواته الأولي، وهي مخايلة تحولت إلي حقيقة إبداعية متواصلة لأكثر من سبعين عاما.
لاشك أن هذا الاسم الذي وضعه الطفل علي مخطوطه، كان اسما مشحونا ببعد أسطوري ـ أيضا ـ ربما لم يعه الطفل، إذ حمل الطفل اسم أشهر طبيب ولادة في مصر (نجيب محفوظ) وأصبح اسمه كاملاً: (نجيب محفوظ عبدالعزيز أحمد الباشا) لكن الذي شاع هو الاسم المركب (نجيب محفوظ) بطرفيه الفريدين.، ذلك أن (نجيب) من النجابة وهي النفاسة والتفرد في النوع، وهي نجابة (محفوظة) برعاية الله أولاً، ورعاية المجتمع ثانيا، ومصداق ذلك: أن محاولة الاعتداء عليه بكل طابعها الوحشي الإجرامي باءت بالفشل والخسران المبين.
ولكي تكتمل للأسطورة مكوناتها الجوهرية، كان التحاقها بكلية الآداب ـ قسم الفلسفة سنة 1930، حيث تخرج فيها سنة 1934، وقد صاغ القسم محفوظا صياغة عقلية ونفسية من طراز خاص، هذه الصياغة التي شكلت رؤيته للعالم بكل عمقها وشمولها، وبكل توجهاتها في البحث عن الجوهر الذي لا تحجبه الأعراض والهوامش، صحيح أن العرض والهامش قد يكونان مطلوبين ـ أحيانًا ـ عند محفوظ ـ لكنهما مطلوبان لخدمة الجوهر الأصيل بوصفه المادة الأولية للوجود.

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:01
وفي مرحلة مبكرة من العمر أخذت العبقرية الأسطورية لمحفوظ تمارس تجلياتها في الكتابة، حتي إنه ترجم (كتاب مصر القديمة) لجيمس بيكر عن الإنجليزية وهو طالب في المرحلة الثانوية، وقد نشره سلامة موسي بوصفه نوعًا من التشجيع لهذه الموهبة المبكرة التي بدأت أولي خطواتها في كتابة تاريخها الإبداعي العظيم.
لكن التجلي التنفيذي لهذه الأسطورة كان في كتابة (المقال) الذي بدأه سنة 1930 وعمره تسعة عشر عاما، واستمرت عملية الإنتاج حتي سنة 1952، حيث قدم في هذه الفترة مايقرب من سبعة وأربعين مقالاً، وقد تداخلت مرحلة المقال مع مرحلة (القصة)، حيث كانت بدايتها سنة 1932، ثم تداخلت المرحلتان مع زمن (الرواية) التي كانت بواكيرها سنة 1939.

(3)
ومن سمات الأسطورية الإبداعية أن تتوازي مسيرتها الحياتية ومسيرتها الثقافية، فمنذ الصغر دفع والد محفوظ بابنه إلي رحاب المعرفة الأولية في (الكتاب) لتكون منابعه الأولي في (القرآن)، وكانت قراءة القرآن وحفظه من مهيئاته لاستقبال الثقافة العربية من منابعها المركزية التي كان يزداد إقباله عليها في شهر رمضان، فقرأ كتب السيرة والتراجم، وقرأ الشعر الجاهلي، ثم أقبل علي أبي نواس وبشار بن برد والبحتري والمتنبي وأبي العلاء، ثم أقبل علي التصوف وقرأ ابن عربي والسهروردي والنفري، وطبيعة التداعي أن يقوده التصوف إلي الفلسفة التي أصبحت ركيزة معرفية حرة، ومعرفة أكاديمية منهجية بعد التحاقه بقسم الفلسفة.
لقد كانت قراءة الفلسفة ودراستها نوعًا من الإضاءة المبهرة، وأكسبته طبيعة منهجية في مسلكه الخاص والعام، وكان هذا كله ذا أثر بالغ في مسيرته الإبداعية، لأن المبدع الحق في حاجة أساسية للثقافة الشاملة، ومن أهمها الثقافة الفلسفية، لأنها تؤسس المنهج من ناحية، وتنظم الفكر من ناحية ثانية، وتوسع دائرة الرؤيا من ناحية ثالثة.
ونعتقد اعتقادا يقينيا أن الوعي الفلسفي كان الركيزة لمشروع نجيب محفوظ الروائي من حيث النسق المعرفي، والتنظيم المنهجي، والحرص علي القيم والأعراف والتقاليد، وإعطاء الرؤيا قدرًا وافرًا من الشمول والاتساع، وإكسابها كما وفيرا من الوعي التأملي الذي يلاحظ مفردات العالم في مصيرها المعقد، وسيرورتها الغامضة.
ولا يمكن الادعاء بأن الفلسفة بوصفها علما ظلت حاضرة ومسيطرة عند محفوظ في مسيرته الثقافية، لكن المؤكد انحسارها بوصفها علما بعد أن شكلت المنهج والرؤية، وحددت أطر الوعي، كما نلاحظ في ملامح الشك المنهجي الديكارتي، وكما نلاحظ في مضامين أعماله الإبداعية، وفي كيفية رسم الشخوص بنماذجها المتباينة، وتحديد مصائرها المرئية وغير المرئية.
وهذه الذخيرة الثقافية الكثيفة تم رفدها من منابع معاصرة، حيث أقبل محفوظ علي قراءة طه حسين والعقاد والمازني والحكيم وسلامة موسي، وقد أضافت قراءتهم أبعادا جديدة في التكوين الثقافي والتكوين الشخصي، فقد اكتسب من طه حسين الاحتكام إلي العقل الناقد، والنظر إلي الثقافة الغربية بوصفها ضرورة حتمية لضبط الوعي المعرفي علي وجه العموم، كما أفاد من العقاد قدرا كبيرا من تمرده واعتداده بنفسه، وقدم الحكيم له نماذجه الروائية التي شدت انتباه جيله بأكمله، فقد قرأ (عودة الروح) وهو في السنة النهائية بالجامعة، ثم اتبعها بـ(يومات نائب في الأرياف)، وتكفل سلامة موسي بتهيئته تهيئة فكرية واجتماعية تقدمية.
ومن الواضح أن هذه القراءات المبكرة لمحفوظ رسخت عنده يقينا بالدور التنويري العظيم الذي أداه هؤلاء الرواد الأفذاذ، وهو دور يجب أن يأخذ حقه من التقدير والاحترام، ورفض محاولات الانتقاص منه أو تشويهه، ومن ثم رفض محفوظ كثيرا من آراء الشيخ محمود شاكر التي نسب فيها الفساد لأيام طه حسين والعقاد، وأرجع آراء الشيخ إلي تشدده من ناحية وانغلاقه علي آراء ذاتية بعيدة عن الموضوعية من ناحية أخري.
وربما كانت هذه التأسيسات الثقافية التراثية والمعاصرة وراء تحفظه أمام ما تنتجه الأجيال الجديدة من إبداع، ولأنه يؤمن بحرية المبدع، ويرفض أي نوع من أنواع الحجر عليه، فقد برر تحفظه بأنه لا يكاد يستوعب هذا الإبداع الجديد، وكأنه يرجع القصور في عدم تقبل هذا الإبداع لنفسه لا لخصوصية ما في هذا الإبداع، وهو نوع مما كان يسميه البلاغيون القدامي (حسن التعليل).
وعظمة ثقافة محفوظ أنها خصبت نفسها بالانفتاح علي الثقافة الغربية في مستوياتها وأشكالها المختلفة، وقد بدأت مرحلة التخصيب مبكرا، حيث يقول محفوظ إنه في سنة 1930 اقتني كتابا أجنبيا هو (المعرفة الجديدة) وكان أشبه بدائرة للمعارف، وكان به شغوفا، لأنه يحيط بكافة الأنشطة الإنسانية التي كانت تلح عليه بالأسئلة، وقد نقله هذا الكتاب من حالة اللامعرفة إلي حالة المعرفة، وقد دفعه هذا الكتاب إلي قراءة سواه من كتب القمم الثقافية والفكرية، والعجيب أن يقول محفوظ: إنني كلما قرأت كتابا أشعر بأن الجهل يطاردني، فأتغلب عليه بالاستزادة من القراءة، وبخاصة في مجال القراءة الإبداعية، فقد قرأ (بيكيت)، وأحب (ديستويفسكي) و(بروست) و(كافكا) و(شكسبير) و(يوجين أونيل) و(باسترناك) و(توماس مان) و(طاغور) و(حافظ الشيرازي)، كما قرأ (جويس وتشيكوف وهمنجواي وفوكنر).
واللافت أن هذه الخبرة الثقافية النظرية قد تم تخصيبها بالخبرة الثقافية العملية التي امتاحها محفوظ من مجموع الوظائف التي تولاها، فقد كانت وظيفته في وزارة الأوقاف بمثابة مصدر معرفة أدبي واجتماعي علي صعيد واحد، وذلك أن الوظيفة قدمت له (المعمل الواقعي) بكل محتوياته من القيم والأعراف والعادات والتقاليد، وبكل محتوياته من النماذج البشرية المتباينة، وقد اتسع هذا (المعمل) بمجموعة الوظائف اللاحقة، فقد عمل مديرا للرقابة، ومديرا لمؤسسة دعم السينما، ورئيسا لمجلس إدارتها، ثم رئيسا لمؤسسة السينما ثم مستشارا لوزير الثقافة لشئون السينما، حتي أحيل للمعاش سنة 1971.
لقد أمده كل موقع وظيفي بمجموع المكونات البشرية التي تعامل معها او التقي بها، كما أمده بكثير من الأحداث والحكايا، وكشف له كثيرا من أبعاد الواقع المحيط به، أي أننا يمكن أن نعتبر هذه الوظائف نافذة أطل منها وعي محفوظ علي عالمه المباشر، خاصة إذا أدركنا أنه كان بعيدا عن العمل السياسي والحزبي، وربما كان انتماؤه الحزبي الوحيد هو حزب الوفد قبل الثورة.

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:02
(4)
إن نمط الحياة ومكونات الثقافة كان لهما أثر بالغ في مسيرة نجيب محفوظ، ولا شك أنهما قد ساعدا علي إكساب هذه المسيرة طابعها الأسطوري الذي افترضاه بداية، وذلك أن الأسطورة تكتسب إنسانيتها وعمقها من الواقع الذي تلتحم به أولا، ثم ترتفع بهذا الواقع إلي منطقة التخيل ثانيا، وسواء ظلت الأسطورة ملتحمة بالواقع، أو حلقت به إلي منطقة التخيل فإنها تحتفظ لأسطوريتها بقدر هائل من الانتظام، أو لنقل: إن الأسطورة تستحيل إلي بنية نظامية لا تعرف العشوائية، ويستوعب هذا النظام الذات في مسلكها الخاص والعام، ويستوعب مجموع الأحداث التي تعايشها أو تحولها إلي بناء حكائي، كما يستوعب مجموع الشخوص وما يغلفها من أبعاد مكانية وزمانية، والذات المتكلمة تأتي في مقدمة الشخوص المنضوية في بنية النظام.
وقد كان نجيب محفوظ (بنية نظامية) في أساسياته وهوامشه، وربما كانت الهوامش أوغل في الدلالة علي هذه البنية من المتون.
ومن هوامش النظام عنده التزامه في مسيرته اليومية للرياضة، فكان يلزم طريقا محددا لا يحيد عنه، حريصا أن يمر علي الأماكن التي يمر بها كل يوم ويدور حولها كعادته، كما لو كان هذا النظام المروري طقسا مقدسا لا يجوز الانحراف عنه.
إن مثل هذه الإشارة الهامشية لارتباط محفوظ بالمكان، تنبئ عن أمر بالغ الأهمية هو أن هذه الأسطورية الإبداعية قد توحدت بالمكان، سواء علي مستوي المكان المحدود، أو علي مستوي المكان غير المحدود، وهذا التوحد بالمكان قد حال بينه وبين الرحيل المؤقت أو الدائم إلي أرجاء العالم، برغم أن ذلك كان متاحا له بصفة دائمة، فلم يغادر مصر إلا ثلاث مرات، المرة الأولي عندما سافر إلي يوغوسلافيا في عمل يخص وزارة الثقافة، والثانية عندما سافر إلي اليمن ضمن وفد الأدباء المصريين أثناء حرب اليمن، والثالثة سنة 1991 عندما أجري عميلة جراحية للقلب في لندن.
ويمكن القول إن جغرافيا المكان كانت ركيزة أساسية في إبداع نجيب محفوظ، حيث استحوذت عليه أماكن بعينها في أحياء القاهرة الشعبية، وكثير من رواياته تتخذ مدخلها من (العنوان) لأحد الأماكن مثل: (كفاح طيبة) (القاهرة الجديدة) (خان الخليلي) (زقاق المدق) (بين القصرين) (قصر الشوق) (السكرية) (الطريق) (ثرثرة فوق النيل) (ميرامار) (الكرنك) (حكايات حارتنا) (الحب فوق هضبة الأهرام) (قشتمر) (أولاد حارتنا).
والمقهي بين حقل المكان ـ احتل مساحة واسعة في معظم أعمال محفوظ الروائية، ولا نبالغ إذا قلنا إنه (ابن المقهي) و(عاشق المقهي)، ويكاد المقهي ينافس (الحارة) في هذه المساحة، فإذا قلنا إنه (عاشق المقهي)، فإننا نقول إنه (معشوق الحارة) الحارة المصرية بعالمها الفريد، وهذه العلاقة المعجبة أتاحت له أن ينقل المكان من بعده المادي المحدود إلي بعد نفسي واجتماعي غير محدود، فالمقهي عنده ليس مجرد مكان للقاء الأصدقاء، والحارة ليست مجرد مكان لسكانها أو المارين بها، وإنما استحال هذا أو ذاك إلي فضاء اجتماعي مزدحم بالحياة الإنسانية، والتقلبات الاجتماعية والسياسية، وإلي ذاكرة ثقافية لا تنفد.
لقد امتلك محفوظ قدرة مدهشة علي تحرير الأماكن من قيودها الجغرافية، ومن حدودها الفيزيائية، وفتح نوافذها لتنطلق معبآتها من العادات والتقاليد والأحداث والشخوص، ولم تنحصر الأماكن في حدود المقهي والحارة، بل اتسعت لتستوعب أماكن إضافية مثل: الوقف والتكية والزاوية والسبيل والقرافة والحانة.
وبنية النظام المكاني تلتحم ببنية (النظام الزماني)، وكما استوعبت البنية الأولي المتون والهوامش، فكذلك استوعبت الثانية المتون والهوامش أيضا، والهوامش بطبيعتها أكثر تعبيرا عن حقيقة البنية النظامية، ومن هذه الهوامش عادة التدخين عند محفوظ التي بدأت في الأربعينيات، ومنذ بدأت وهي مرتبطة بالنظام الصارم، فقد كان يلتزم بمرور ساعة كاملة بين كل (سيجارتين).
أما الصورة النظامية الأدق، فكانت في التزامه بمواعيد العمل الوظيفي، والعمل الإبداعي، فلا يخلط زمن هذا بزمن ذاك، فعندما يحين وقت العمل، يعطيه حقه كاملا، و عندما يحين وقت الكتابة يتفرغ له بكل كيانه ويحتشد لزمنه دون نقص أو زيادة، وعندما ينتهي الوقت المحدد يتوقف تماما مهما ألحت عليه الأفكار والخواطر.
ولا ينحصر زمن الكتابة في المساحة اليومية، بل يمتد إلي الزمن السنوي، حيث يتوقف عن الكتابة في نهاية شهر أبريل من كل عام، وكان يردد دائما: أنه أديب شتوي، أما في الصيف فهو موظف فقط.
وإذا كنا قد لاحظنا توحد محفوظ بالمكان، فإن التوحد أيضا كان مع الزمن، فقد كانت النتيجة اليومية ركنا أساسية في مسلكه، وكانت ساعته ضابطة لتوحده بالزمن. وقد كانت (ساعة الجيب)، ثم تغيرت إلي ساعة اليد مع رواية (أولاد حارتنا).
ومن طبيعة التكامل في هذه الشخصية الأسطورية أن يتوحد المكان والزمان في مسلكها الخاص والعام، فقد كان يلتزم بلقاء أصدقائه (شلة الحرافيش) كل خميس عند صديقه (محمد عفيفي) بالهرم، وقد التحم المكان والزمان بالشخوص الذين شكلوا (شلة الحرافيش) في هذا الموعد والمكان الأسبوعي وهم: عادل كامل وأحمد مظهر وثروت أباظة وإيهاب الأزهري وصبري شبانة وتوفيق صالح ومصطفي محمود وصلاح جاهين. وفي وسط هذه الكوكبة من المثقفين والمبدعين كان له مقعد محدد لا يبدله بحال من الأحوال.
ويتنامي توحد المكان بالزمان في التزام محفوظ بالانتقال صيفا إلي الإسكندرية ابتداء من أول سبتمبر حتي نهايته، حيث يكون هناك رفقاء الإسكندرية وفي مقدمتهم توفيق الحكيم الذي كان يلقاه في قهوة بترو.
وقد نتصور أن دخول محفوظ في هذه البنية المزدوجة (المكان والزمان) دخولا مطلقا وحتميا، يجعل من اليسير علي عشاقه ودارسيه أن يرصدوا مسيرته الحياتية والثقافية، وهذا ما ينفيه محفوظ نفيا قاطعا، حيث كان يقول: إن حياتي أوسع مما نشر وعرف عني بكثير علي المستوي الخاص، والمستوي العام، وهذا الاتساع هو الذي حال بينه وبين كتابة سيرته الذاتية علي عادة كثير من المثقفين والمبدعين، فضلا عن أن وجهة نظره أنه لا يري في سيرته ما يستحق أن يتفرغ لكتابته، وشغل القراء بها، ثم إنه يري أن واقعنا لا يمكن أن يتقبل مثل هذه المواجهة او المصارحة الكاملة في كتابة السيرة، والعربية لا تكاد تعرف أدب الاعترافات، والمجتمع العربي ـ بطبعه ـ حريص علي مجموعة التقاليد والأعراف، وملتزم بقانونه الأخلاقي، ولا يتقبل ـ أبدا ـ أي خروج علي تلك أو هذه.
ويبدو أنه استطاع بمهارة التغلب علي كل هذه العوائق، فبث جانبا من سيرته في إبداعاته خلال مجموعة من الأقنعة التي تعفيه من كل حرج، لكنه ـ علي وجه العموم ـ راض بمسيرته الحياتية والثقافية والإبداعية، ويردد كثيراـ أنه لو عاد به الزمن إلي بدايته لسلك نفس الطريق، وسلك نفس المسلك، وإن كان لا يتحرج من أمنية مضمرة عنده في أن يكون موسيقيا، وعدم إقبال محفوظ علي كتابة سيرته، دفع بعض حوارييه إلي طرح جانب من هذه السيرة فيما يشبه الحوارات وتسجيل المذكرات اليومية معه، كما فعل رجاء النقاش، وجمال الغيطاني، ومحمد سلماوي. فضلا عما رواه هؤلاء الحواريون عن ملاحظاتهم ومتابعاتهم لهذه الأسطورة المحفوظية.

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:04
(5)


لا شك أن المحاور السابقة كانت تتلاحق لتبلغ هدفها الرئيسي عن (أسطورة نجيب محفوظ) الإبداعية، وهي أسطورية لا تنحصر في إنتاجه من حيث الكيف، فهذا ما يكاد يكون حقيقة وجود، وإنما الأسطورية المدهشة كانت ـ أيضا ـ من حيث الكم، فقد أبدع محفوظ ما يربو علي خمسين رواية، وثلاثمائة وخمسين قصة، وخمس مسرحيات من ذوات الفصل الواحد، فضلا عن مقالاته التي بلغت سبعة وأربعين مقالا.
أي أن هناك توازيا بين الإنتاج الكمي والكيفي، وكلاهما يتوازي مع الامتداد الزمني، ومن ثم كانت تأثيرات هذا الإنتاج ممتدة في الزمان والمكان والشخوص داخليا وخارجيا، وهذه التأثيرات تستمد فاعليتها من عظمة المادة الروائية وقدرتها علي الاقتحام الفني والجمالي للمناطق الممنوعة أو القابلة للتفجر، وقدرتها علي تحريك الراكد وهز الثوابت، وقدرتها علي إنطاق المسكوت عنه، وفتح النوافذ لانطلاق المكبوت والمقموع السياسي والاجتماعي والنفسي، وكل ذلك أتاح للمجتمع المصري أن يتأمل نفسه في حالة من الانكشاف والتعرية، حتي ولو جاء الانكشاف خلال الأقنعة والرموز، لأنها أقنعة شفافة تسمح لمن يواجهها باختراقها إلي ما وراءها، وهي رموز فصيحة، تكاد من الإفصاح تتكلم بما تهدف إليه علي المستوي الفردي أو الجماعي.
لقد كان إبداع محفوظ كتابا مفتوحا للواقع المصري بكل تحولاته في القرن العشرين، لكنه كتاب يستوعب قضايا الإنسان علي وجه الإطلاق، قضايا الظلم والعدل، القيود والحرية، والتخلف والتقدم، ويمكن القول علي نحو من الأنحاء إنه اخترق المحرمات الثلاث: الدين والجنس والسياسة، لكنه اختراق محسوب بدقة ومهارة فنية لا تجرح ولا تعتدي.

مشروعه الروائي


لقد كانت بداية الأسطورة المحفوظية متلبسة ببداية مشروعه الروائي الذي تمثلت بشائره في الحس التاريخي الذي لا يعرف إلا منطقا واحدا هو منطق التقدم للأمام، ومنطقه هذا يعني أن التغير ضرورة حتمية، وأن أي توقف، هو توقف مؤقت يواصل بعدها التاريخ حتميته الحاكمة، وخاصة إذا كان تاريخا ممتلئا بالعظمة والعراقة كالتاريخ المصري الذي استلهمه محفوظ في إطار من الرومانسية، حيث قدم رواياته: (عبث الأقدار) سنة 1939 و(رادوبيس) سنة 1939 و(كفاح طيبة) 1943.
وبرغم انتماء هذه الأعمال الإبداعية إلي التاريخ الفرعوني، فإنها تكاد تلتحم بالواقع المعاصر خلال هذا القناع التاريخي، وكأن محفوظا كان يستجير من الحاضر بالماضي، فمجموع شخوص هذه الأعمال هي نوع من الإسقاط الفني الذي يحميه من ظلم الاحتلال وفساد السلطة آنذاك، ومن الواضح أن المرحلة التاريخية برغم محاولات ربطها بالحاضر، وبرغم تحولها إلي نوع من الإسقاط، كانت ـ في حقيقتهاـ ابتعادا عن مباشرة الواقع المعيش، ومن ثم احتاج اكتمال المشروع الروائي تعديل المسار لمقاربة الواقع من ناحية، ووضعه تحت طائلة المساءلة من ناحية أخري.


مراحل مشروعه


والنظرة الكلية لمشروع نجيب محفوظ الروائي، تؤكد أن هذه المشروع قد مر بثلاث مراحل متشابكة تسلم فيه كل مرحلة لما يليها، أو تتداخل معها. وقد أشرنا إلي المرحلة الأولي، مرحلة السرد الرومانسي المشبع بعناصر التاريخ المصري القديم، والمغلف بخيوط من الحس الوطني، وخطوط من المغامرة العاطفية.


أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة الواقعية التي بدأت تجلياتها بروايته (القاهرة الجديدة) سنة 1945، وقد صدرت إحدي طبعاتها تحت اسم (فضيحة في القاهرة) وأخذت في السينما اسما ثالثا (القاهرة 30).
ولا شك أن دخول هذه المرحلة كان إشارة بالغة علي النضج الفني للمشروع وصاحبه، لأن محفوظا لم يكن ـ في هذه المرحلة ـ مجرد أداة لتسجيل الواقع، بل كان بمثابة (المشاهد) بالمعني الصوفي، لأن هذا المشاهد هو الذي يدرك ـ في مشاهداته ـ المادة الأولي (الخام) لمكونات هذا الواقع، كما يدرك تحولاتها الداخلية والخارجية، الظاهرة والخفية، ومن ثم كان صاحب حق شرعي في إبداء الرأي، وتحديد وجهة النظر خلال النص، سواء تم ذلك بوصفه شخصية مشاركة من الداخل، أو مطلة من الخارج، وسواء تم ذلك علي نحو مباشر، أو عن طريق الأقنعة والإسقاط، أي أن السرد لم يكن مجرد رصد وصفي، وإنما هو تعرية وكشف لمفارقات الواقع الطبقية والاجتماعية، وتناقضاته الاقتصادية والسياسية، وتصادماته الفكرية والثقافية.

المضمون

إن أعمال محفوظ ـ في هذه المرحلة ـ كانت فضاء واسعا لمجموعة الأيديولوجيات السائدة، وبؤرا عميقة لمجموعة التوترات بين الجمود والتطور، وبين ما هو كائن وما يجب أن يكون، كما كانت الأعمال عالما مزدحما بمفارقات الأجيال والأحداث والشخوص ومفارقات الثورية والانتهازية، والاستقرار والقلق والاستواء والشذوذ، والانتظام والفوضي.
وإذا كانت (القاهرة الجديدة) هي باكورة المرحلة الواقعية، فإن الأعمال التالية قد أدخلت الواقعية في تحول حاسم للمصارحة والمواجهة نلاحظه في (زقاق المدق) سنة 1946، و(بداية و نهاية) سنة 1948، ثم أخذت الواقعية صورتها الأكمل في الثلاثية: (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) من سنة 1949 إلي سنة 1957، ويقول عنها أحد حوارييه (يوسف القعيد) إنها كانت عملا واحدا يجاوز ألف صفحة، وقد طالبه الناشر بتقسيمها، فجعلها علي ثلاثة أجزاء كما هي بين أيدينا اليوم.

الرمزية

وتأتي المرحلة الثالثة ملتحمة بالثانية في (الواقعية الرمزية) والتي تلتحم بمرحلة التجريب الشكلي، ونقل السرد إلي نوع من الوعي التأملي والفلسفي، وهو ما نلمح صداه في روايات مثل (أولاد حارتنا) سنة 1962، و(اللص والكلاب) سنة 1963، و(الطريق) سنة 1965، و(الشحاذ) سنة 1967، و(حكاية بلا بداية ولا نهاية) سنة 1971، و(قلب الليل) سنة 1975، ثم (الحرافيش) سنة 1977، و(رحلة ابن فطومة) سنة 1983.
لكن التأمل الفلسفي يكاد يكون مسيطرا في (الطريق) و(الشحاذ) حيث اتسع التأمل لإدراك المطلق إدراكا عقليا.

أصداء السيرة

وبعد العدوان علي نجيب محفوظ سنة 1994، دخل في طور طارئ خلال كتابة (أصداء السيرة الذاتية) في نصوص قصيرة متعددة الملامح يصعب إدخالها في نطاق مفهومي محدد، وهي نوع من التوافق مع المرحلة السنية التي بلغها بكل ما تحمله من ضعف في الحواس والجسد لا يسمح بكتابة النصوص الطويلة. لكن من المؤكد أن دخول هذه المرحلة الطارئة يرسخ الاعتقاد بأن المبدع إذا بلغ مرحلة الأسطورية، فإن حياته تصبح قرينة الإبداع، وتوقفه نوعا من الموت التقديري.
الصوفية
وفي هذه المرحلة يمكن إدراك ملامح الإشارات الصوفية التي ظهرت بوادرها في أعمال سابقة، لكن الإشارات كانت أوضح في (أحلام فترة النقاهة)، ويبدو أن هذه الإشارات كانت موازية لإحساس الفقد، حيث غاب كثير من رفاق العمر، وغابت كثير من أحداث الماضي القريب والبعيد. ويقول محفوظ (إن الأديب عندما يتقدم به العمر، ينحصر تفكيره في الزمن والموت وقضايا الفلسفة، وتشعر في كتاباته بالشجن والرغبة في العودة إلي الماضي).
ثم ينضاف إلي ذلك أن الحاضر ملبد بالغيوم، وآفاق الآتي يغطيها الضباب، والقوة الجسدية لم تعد قادرة علي اختراق كل ذلك وتأمل المستجدات القادمة.

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:06
(6)
لا نجاوز الصواب إذا قلنا إن أعمال محفوظ الإبداعية تمثل لوحة حية لمصر خلال القرن العشرين، وفي الوقت نفسه تمثل خريطة جغرافية وتاريخية لها، لكنها الخريطة التي لا تعرف التوقف أو التجمد، بل هي متنامية مع حركة التاريخ وامتداد الجغرافيا، ومن يقرأ ثلاثيته الخالدة يستوثق من هذه الحقيقة الفريدة، فقد رصدت تحولات أجيال ثلاثة في أسرة واحدة، بدءا من سنة 1919، ومن يتابع (زقاق المدق) يلحظ تحولات الأزمنة ومصائر الشخوص، ثم تأتي (الكرنك) سنة 1974 لترصد سلبيات المرحلة الناصرية، أما تاريخ السلطة، فقد سيطر في (الحرافيش) سنة 1977، وفي (يوم مقتل الزعيم) سنة 1985 تم رصد المرحلة الساداتية، و سجلت (أهل القمة) و(الحب فوق هضبة الأهرام) مرحلة الانفتاح بكل سلبياتها.
إن هذه اللوحة الحية التي يمتزج فيها التاريخ بالجغرافيا بالشخوص شكلت كما هائلا من التوافقات والتصادمات، امتدت خطوطها لتلتحم بالفلسفة والاجتماع وعلم النفس، من ثم كان من العسير حصر أعمال محفوظ في مجموعة من الأطر المحفوظة، بل يمكن القول إن كل عمل من أعماله كان يستدعي الإطار الذي يلائمه، ويحتكم إلي الإجراءات التي تفرضها خصوصيته، ومن ثم يمكن تلقيه بوصفه نصا (حمال أوجه) يقوم متلقيه بإعادة إنتاجه علي النحو الذي استقبله في أفقه، فـ(حكايات حارتنا) يمكن تلقيها بوصفها نصا روائيا واحدا، وبوصفها مجموعة قصصية متعددة الركائز والأركان، ويمكن تلقيها بوصفها نوعا من السيرة الذاتية نتيجة لسيطرة ضمير المتكلم عليها، و(الكرنك) يمكن تلقيها بوصفها نصا روائيا، ويمكن استقبالها في أفق مسرحي نتيجة سيطرة الحوار علي متنها، واستحواذه علي قطاع كبير منها إذ تبلغ سطور هذا النص ألفين وثمانية وستين سطرا، يستحوذ الحوار علي ألف وواحد وسبعين سطرا، وفي إطار التلقي يمكن استقبال النص في أفق السيرة ـ أيضا ـ حيث بلغت ضمائر الذات المتكلمة خمسائة وسبعة وسبعين ضميرا، بمعدل ضمير لكل سطرين تقريبا.
وهذا التلقي الاحتمالي يصلح لكثير من أعمال نجيب محفوظ لأنها ـ أحيانا ـ تعمد إلي المعاينة المباشرة، وأحيانا ـ تقود المعاينة إلي تجريدات فلسفية كما في (الطريق)، وكثير من الأعمال يمكن اعتبارها نوعا من (الكناية) حيث تقول شيئا علي السطح، وتشير إلي غير المقول في العمق مثل (الشحاذ) و(اللص والكلاب) و(حضرة المحترم)، أي أن قراءة محفوظ تحتاج إلي قدر من اليقظة والتنبه، فكل بناء صياغي ـ عنده ـ له أهدافه المحددة، وكل بناء نصي له فضاؤه الاحتمالي الفسيح، وهو فضاء يحوج المتلقي إلي استحضار المعادل الموضوعي حينا، والفلسفي حينا آخر.
إن هذه المسيرة الأسطورية لمحفوظ تفسح له مكانة عظيمة في مسيرة الإبداع الإنساني العالمي، وهذه المكانة قد احتوته سواء فاز بجائزة نوبل أو لم يفز بها، فمكانته تضعه في مصاف الرواد العظام في لغته، وتضعه في مصاف المبدعين العظام في اللغة العالمية، إذ إن بداية مشروعه الروائي في (التاريخية الرومانسية) يوازي المشروع الروائي لـ(والتر سكوت) رائد التاريخية الإنجليزية، وتوجهات محفوظ إلي أعماق المجتمع وتحولاته، تتصل بتوجهات (بلزاك)، وغوصه في النفس البشرية يقربه من (ديستويفسكي)، ورهافته الشاعرية تضعه في أفق (تشيكوف)، ومقاربته عالم الميتافيزيقا والموقف الوجودي يوازيه مع (ألبير كامو).
معني هذا أننا في مواجهة عبقرية إبداعية متعددة المداخل، متعددة الفضاءات، وقمة عبقرياتها في أنها لم تكن ترغم نصها علي تقبل إجراءات فنية معينة، بل إنها تسمح لكل نص أن يستدعي أسلوبه، ونسقه الفني، ومن يع قراءة أعماله ذات الطابع النفسي مثل (همس الجنون) و(السراب) يستوثق من هذه الحقيقة الفنية، وهي حقيقة لا يصلها إلا الأفذاذ الذين تتعدد مواهبهم، وتتكاثر قدراتهم، حيث تدخل نصوصهم في منطقة (تعدد الخواص).
عالميته
إن أسطورة محفوظ قادها الهم الخاص إلي الهم العام، وقادها الهم الوطني إلي الهم القومي، وقادها الهمان إلي الهم العالمي، فهو أديب كوني بكل ما تحمله الكلمة من معان، وبرغم هذه المكانة الكونية، فإن أهم سماته هي (التواضع)، وأولي سمات هذا التواضع هو الاعتراف بأصحاب الفضل عليه، فكثيرا ما كان يتحدث عن (طه حسين)، ثم يقول: إن مقالته عن رواية (بين القصرين) قد بعثت في نفسه سعادة وبهجة أكثر من سعادته بجائزة الدولة التقديرية، وكثيرا ما كان يردد أن العقاد هو أول من تنبأ له بجائزة نوبل.
وبرغم أن تأثير إبداعات محفوظ هي أكثر التأثيرات حضورا في إبداع الأجيال التالية له، برغم ذلك لم يحاول ـ يوما ـ أن يحجب غيره من المبدعين، وعندما يتردد عنده هذا الكلام، يبدي عجبه لأن هذا يعني أن الأجيال اللاحقة لا تملك قدرا مناسبا من الثقة في النفس، إذ لا يمكن لأديب مهما ارتفعت قامته أن يحجب سواه، أو أن يغلق الطريق أمام الآتين بعده.

ـ7ـ
ويبدو من متممات هذه الأسطورة الإبداعية، عروبته المتجذرة في ذاته، وسكناه في اللغة العربية سكني العاشق المتوحد بمعشوقه، وربما لهذا كان علي يقين ثابت من المقولة التراثية (الشعر ديوان العرب)، وهذا اليقين جعله يتحفظ علي بعض المقولات الطارئة: (الرواية ديوان العرب)، (المسلسل التليفزيوني ديوان العرب)، ولا شك ان إيثار المقولة الأولي مؤشر علي وعي محفوظ بالحقيقة الجوهرية للإبداع ـ علي وجه العموم، فالشعر فن اللغة بكل جمالياتها، واللغة فيه أداة وغاية معا، أما الرواية فإنها تستخدم اللغة بوصفها أداة، ثم تقدم إضافات وهوامش علي هذه الأداة.
ونعتقد أن عشقه للغة وسكناه في دروبها هو الذي باعد بينه وبين كتابة (الحوار) للسينما، لعدم قدرته علي التعامل بالعامية تعاملا فنيا، وذلك برغم أنه كتب ما يقرب من مائة (سيناريو) لأفلام سينمائية أولها: (عنتر وعبلة)، وأكثر من ثلاثين سهرة تليفزيونية، واثني عشر مسلسلا تليفزيونيا، لكنه كان حريصا علي أن يردد: (إن أدبي في كتبي، وليس في السينما أو التليفزيون).
وعظمة محفوظ الإبداعية تتمثل في تجدده وتناميه، حتي إننا ونحن نتابع مقولات الحداثة وإجراءاتها النقدية، سوف نجد كثيرا من وثائقها التطبيقية وفيرة في نصوصه، سوي مقولة واحدة هي مقولة: (موت المؤلف)، فهذه العظمة حاضرة في إبداعها حضورا مبهرا بذاكرتها اليقظة التي تحارب النسيان أو التناسي، ووعيها المتفتح الذي يحارب الانغلاق والتجمد، ولعل هذا بعض ما أسست عليه جائزة نوبل عندما قالت:
«نجيب محفوظ يكتب منذ 50 عاما، وهو الآن في السابعة والسبعين.. يواصل الإنتاج وأعظم إنجازاته في الرواية والقصة القصيرة، لقد أعطي إنتاجه دفعة كبري للقصة كمذهب يتخذ من الحياة اليومية مادة له، كما أنه أسهم في تطوير اللغة العربية كلغة أدبية، ولكن ما حققه نجيب محفوظ أعظم من ذلك، فأعماله تخاطب البشرية جمعاء».

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:09
ملامح أدب المقاومة
في روايات نجيب محفوظ
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////


الدكتور السيد نجم

(خلال شهر أغسطس عام 2006م، كان رحيل رائد الرواية العربية المعاصرة «نجيب محفوظ»، وهو ما شغل كل المحافل الأدبية والثقافية في مصر والعالم العربي. هكذا أصحاب العطاءات الكبري و الإنجاز المتميزة. لقد شغل الكاتب في حياته ولقرابة الستين سنة، عقول وأقلام القراء والنقاد، حتي يخال لمن يتابع ما كتب عنه أنه لم يعد هناك ما يمكن الكتابة حول أعماله الروائية.
فلما كان له من خصوصية التعدد، فضل كاتب تلك السطور إعادة النظر في مجمل رواياته من خلال البحث عن ملامح أدب المقاومة، وهو ما يتوافق مع ما تمر به المنطقة العربية من أحداث، وما أحوجنا الي ما يعضد عزم الأفراد والجماعات معا.)
ملامح عامة:

شاع استخدام مصطلح «أدب المقاومة» خلال العقود الأخيرة، وهو لا يعني أن دلالته جديدة ونحت المصطلح من فراغ، سبقه مصطلح «الحماسة»، «أدب الحركات» وهو المصطلح الذي عُني بدراسة الحركات المتمردة في التاريخ الاسلامي القديم.. ثم مؤخرا «أدب الحرب» و«أدب المعارك» و«أدب أكتوبر»، وكلها تتداخل معا للتعبير في بعض الدلالات المشتركة، وإن بدت مختلفة في بعض جوانبها وربما قاصرة أيضا، ليبقي مصطلح «أدب المقاومة» أكثر شمولية، ومتضمنا ما سبقه وأكثر.
مصطلح «أدب اكتوبر» يجعلنا نشعر وكأن الأدب المعبر عن معارك حرب أكتوبر 73م سقط بالباراشوت أو المظلة العسكرية لمناسبة بعينها. كما كان مصطلح «أدب المعركة» و«أدب الحرب» قاصرا علي التجربة الحربية، وهو ذاته ما يدعونا للقول إن الموضوعية تجعل من «أدب المقاومة» أكثرهم رسوخا وتعبيرا عن تلك الحالة الخاصة/ العامة التي يعيشها الأفراد والجماعات والشعوب في مواجهة «الآخر» المعتدي. فهو لا يقتصر علي تجربة الحرب، ولا للتعبير عن القهر والاستبداد. إنه الأدب المعبر عن العمل من أجل تفجير الطاقات الإيجابية والواجبة للمواجهة. إنه الأدب المعبر عن وجهة النظر الإنسانية/ الشمولية وليست العنصرية الضيقة. كما أنه الأدب الذي يسعي دائما لتهيئة الأفراد والشعوب والرأي العام لفكرة «المقاومة». إنه ليس أدبا تحريضيا انفعاليا بقدر كونه يهيئ العقول والنفوس بالوعي أن تكون يقظة منتبهة.
«أدب المقاومة»، يسعي لتحقيق أهدافه من خلال التركيز علي الظروف الصعبة التي يعيشها الناس، مع بيان عناصر القوة والضعف في الجماعة، ثم إبراز ما يملكه الآخر المعتدي من عناصر القوة والضعف، والذي قد يسعي لإضعاف قوتهم، وبالتالي يحث هذا الأدب علي العمل والأمل بالوعي وليس بالدفع العصبي المنفعل.
«أدب المقاومة» مهم في إذكاء روح المقاومة بالوعي والفهم للقضية التي تدافع عنها الجماعة.. أن تكون عبدا واعيا لعبوديتك، أفضل من أن تكون عبدا جاهلا سعيدا.
«أدب المقاومة»، أدب الحث علي العمل، وأن المقاومة ليست حالة ذهنية، لأنه يعلي القيم العليا بين الناس. وهو ليس التعبير عن صراع «الأنا» الفردية خلال سعيها لتحقيق رغباتها، بل هو للتعبير عن «الأنا» الفردية الواعية بذاتها وذوات الآخرين لتحقيق أهداف مشتركة.
«أدب المقاومة»، هو الأدب الذي يرسخ لقواعد الوجود (الأنطولوجي) الإنساني الحق في مقابل الحياة التي تقوم علي الصراع «العدواني» بدوافع الاقتتاء والجشع والهيمنة.
يمكننا تقديم تعريف اصطلاحي:
«أدب المقاومة هو الأدب المعبر عن الذات (الواعية بهويتها) والمتطلعة إلي (الحرية)، في مواجهة (الآخر المعتدي)، ليس من أجل الخلاص الفردي، بل لأن يضع المبدع: جماعته/ عشيرته/ قبيلته/ دولته/ أمته، موضع اهتمامه، محافظا علي القيم العليا، أي من أجل (الخلاص الجمعي).
فالمقاومة بالمعني الشامل تتغلغل في سلوكيات الحياة اليومية للأفراد وحتي مواجهات الشعوب. تبدأ بالوعي بالذات وبالآخر وليس إلي نهاية لأنها «المقاومة» تتجدد في أطرها وتشكيلاتها بالوعي واكتساب الخبرات.
إذا كانت «المعرفة» ذات طابع اجتماعي في المنشأ والتوجه وتسعي لكشف المجهول. وإذا كانت المجتمعات تتشكل بفعل أزمنتها (الماضي: بكل خبراته وتجاربه، والحاضر: المتشكل بفعل الماضي، فالمستقبل هو المحصلة، هو رؤية الجماعة لتشكيل الواقع الحاضر)، يبقي «الوعي» هو المحرك لتلك المعرفة المتزايدة والمتوارثة والخاضعة للحذف والإضافة. فهي ليست هكذا آلية الحركة، بل قادرة علي إعادة تشكيل نفسها بفعل «الوعي».. الذي هو مبعث المعرفة، ولا يبقي إلا استخدامه وتحويله إلي طاقة قادرة علي التحريك.
لقد تبني المبدعون الملتزمون ومنهم «نجيب محفوظ» الهدف، متضمنا ملامح ومفاهيم «أدب المقاومة» عن قصد أو غير قصد للمصطلح، فالكاتب المبدع غير ملتزم بمصطلح ما علي كل حال.
ففي وقفة سريعة أمام الرواية العربية وحدها كاف، ويفسر مقولة أن الوعي بالهوية والحرية يولد المعرفة المقاومية المناسبة. فقد شهد النصف الآخر من القرن التاسع عشر، مرحلة ميلاد جنس الرواية بالترجمة والنقل والاقتباس فضلا عن الاجتهاد.. توالت الأجيال، وراجت «الرواية»، حتي إن المتابع يكاد يخرج بنتيجة أساسية، هي: أن ميلاد الرواية كشكل أدبي جديد، ولد وترعرع من أجل القضايا العامة والوطن، وقد انشغلت الرواية في مهدها بالاستبداد السياسي، والتحرر من الاحتلال، ونقد الذات، والبحث في «الهوية».
لم تكن روايات «جورجي زيدان» إلا تأكيدا علي إيجابيات التاريخ العربي والإسلامي، حتي بدت الرواية عنده وكأنها تؤرخ لفترة زمنية ما، من خلال حدوتة حب تقليدية، وكانت المرأة دائما رمزا للبطولة والوطن والإخلاص مع البطل «الأنموذج».

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:10
كان «فرح أنطون» واعيا في حواراته مع الشيخ «محمد عبده» في الدعوة إلي البعد عن التعصب وكره الرذيلة ومحاربتها بالفن الجميل، وهو ما عبر عنه «أنطون» في روايتيه: «الدين والعلم والمال» عام 1903م، و«أورشليم الجديدة» عام 1904م. وكانا للدعوة المحذرة من الصراع بين الطوائف والطبقات والفئات داخل المجتمع، وإلا أصبح الهلاك واقعا.
كأن «الهوية» هي الهم والغاية وأساس لبناء المجتمع القوي الجديد والمنتظر. اللافت أن تكون خاتمة روايته الأولي: ليس لنا الآن أمل (بعد الله) إلا فيك أيها العلم، ولا رجاء إلا في الطبيعة الإنسانية وهي الأقوي، لأنها الفاعل.
أما الكاتب «يوسف أفندي حسن صبري» فكتب رواية «فتاة الثورة العرابية» عام 1930م، التي جعلت من مذكرات أحمد عرابي أساسا في بناء وتشكيل روايته، مع قصة حب رومانسية للجندي الفلاح القائم علي خدمة الزعيم، هذا المزج بين الحب الذاتي وحب الوطن أبرز فكرة الهوية والتحرر من المحتل مباشرة.
كما كانت رواية «في الحياة قصاص» للكاتب «عبدالحميد البوقرقاصي» عام 1909م، وروايتا «محمود خيري» المسماة: «الفتي الريفي» و«الفتاة الريفية» عامي 1903 و1904م، وأيضا الرواية الشامية «الساق علي الساق» للكاتب «أحمد فارس» عام 1913م.. كلها نماذج تدعو إلي تعميق مفهوم الهوية والانتماء والدعوة للتحرر.
إلا أن الرواية العربية لم تعط نفسها للكاتب بشكل جيد فنيا، طوال الفترة السابقة للحرب العالمية الأولي، حتي كانت الكتابات الجديدة للرواية علي يد.. «نجيب محفوظ»، «حنا مينه»، «يحيي حقي»، «سهيل إدريس»، «فتحي غانم»، «محمود المسعدي»، «محمد الديب»..وغيرهم.
مع ذلك أليس السؤال عن الهوية والحرية بهذا الإلحاح يعبر ضمنا عن الإحساس بالخوف من الغياب في مقابل الآخر الأقوي؟! يبدو أن فترات التحول الحضاري هي الأكثر استثارة عند الشعوب والكتاب بالذات للبحث عن الموضوع والتعبير عنه، لأنه تساؤل يحمل قدرا من الطموح والرغبة في تأكيد الذات لتحقيق حلم جمعي من أجل مستقبل أفضل.
أما ونحن في بدايات الألفية الثالثة، حاصرتنا «العولمة»، كأننا أمام كائن مفترس غريب يغزو مضاجعنا. يكفي الإشارة إلي الأسئلة: هل هي نهاية التاريخ كما يقول «فوكوياما» الياباني؟ أم هي صدام الحضارات المتوقع كما يقول «صامويل هنتينجتون»؟ ولا إجابة إلا القول بأننا نعيش عصرا جديدا، بحيث يجب ألا ننشغل إلا بالبحث في المزيد من عوامل الربط من أجل المزيد من الانتماء بالقبض علي قيم الهوية والتحرر.
السؤال: هل البحث عن الهوية والتحرر والمقاومة بالتالي، يعتبر دعوة للانغلاق في مقابل العولمة والانفتاح؟ لقد أجاب «نجيب محفوظ» وحقق المعادلة الصعبة.. بقدر التمسك بمحلية المكان والشخوص والأحداث في رواياته، كانت عالمية الإنسانية جمعاء، فكان حصوله علي جائزة «نوبل» في الآداب عام 1988م تتويجا لقيم «أدب المقاومة» الحقة.
أما أن أهم ملامح أدب المقاومة هي: التعبير عن الذات الجمعية والهوية.. الوعي بالجوهر الأصيل للذات الجمعية، والحث علي تجاوز الأزمات الشعبية وآثار الحروب والاضطهاد والقهر.. الوعي بالآخر العدواني وكشف أخطائه وأخطاره، من أجل المزيد من الوعي بالذات والمواجهة.. إذن فهو أدب إنساني من حيث هو دعوة لتقوية الذات في مواجهة الآخر، وليس دعوة للعدوان أو الانغلاق.
وتكثر الملامح وتتعدد في روايات نجيب محفوظ، ليس بتعزيز القدرة علي مواجهة الآخر فقط، ولكن بتعزيز الذات (الجمعية) وتعظيم عناصر قوتها.

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:11
كيف تحققت «المقاومة» في روايات محفوظ؟
سنحاول أن نرصد هذه العلاقة المركبة المعقدة من خلال قراءة الملامح العامة للمتغيرات الاجتماعية ثم الملامح العامة للنص الروائي عند «محفوظ» رصدا و تعبيرا عن تلك المتغيرات، وبذلك أصبح إبداعه مبعثا للوعي بالذات الجمعية.
أولا: الملامح العامة للمتغيرات الاجتماعية وانعكاساتها علي الإبداع الروائي
فكانت هزيمة ثورة (عرابي) الاحتلال الإنجليزي عام 1882، ثم اندلاعها في شكل ثورة 1919 وحصارها، ثم اندلاع ثورة 1952، ثم انكسار المشروع القومي بعد هزيمة 1967م، شكل الخلفية التاريخية والاجتماعية الأساسية في روايات الرائدة ثم روايات محفوظ.
بداية نشير إلي حركة (الإحياء الأدبي) التي برزت في الشعر عند سامي البارودي وإسماعيل صبري ثم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم.. (إبان حكم الخديو إسماعيل ومن بعده) كما رصدت المحاولات الروائية تلك المتغيرات الاجتماعية. ونشير هنا إلي ثلاثة أعمال ظهرت في تلك الفترة تقترب من الشكل الروائي:
«علم الدين» لعلي مبارك: حاول المقارنة بين بعض العادات الشرقية والغربية، اختار لهم في روايته شيخا أزهريا وسماه (علم الدين)، وفي تسميته (علم الدين) يتضح أنه كان يقصد بأن شيخه هذا هو العالم الديني المثالي في نظره كما أن تسميته لابن علم الدين (برهان) الدين دلالة علي نفس هذا المعني، وعلم الدين شيخ أزهري متفتح يقبل السفر إلي الخارج مع سائح إنجليزي عالم يرغب في تعلم اللغة العربية، وهو متفتح العقل يسأل عما لا يعرفه ويقتنع به، ولا يقبل كل عادات الأوروبيين، ولكنه يرفض بعضها الآخر التي لا تتوافق مع تقاليده وشرقيته.
حديث عيسي بن هشام للمويلحي: اتخذت شكل المقامة، وهي رحلة وجدانية متخيلة، بطلها باشا تركي يقوم من قبره فيلتقي (عيسي بن هشام) ويتجولان وسط معالم الحياة الجديدة، فيصطدم الباشا بالأنظمة الجديدة التشريعية والتعليمية والعادات وما فيها من تناقضات. ينقسم الكتاب إلي فصول، كل فصل يتعلق بقطاع من قطاعات المجتمع. وهو يتسم بالنقد الاجتماعي والدعوة التعليمية الإصلاحية ورفض تقليد التقاليد الغربية.
«ليالي سطيح» لحافظ إبراهيم: وهي محاكاة لحديث عيسي بن هشام، الراوي هو (أحد أبناء النيل) يلتقي مع «سطيح» (أحد الكهنة العرب القدامي). يتخذ الكتاب شكل المقامة أيضا، فالمكان ثابت والحوار هو السمة الغالبة بلا أحداث حقيقية أو فاعلة. فصول الكتاب بين مشاكل اجتماعية مختلفة.. فتارة هي الامتيازات الأجنبية، وتارة هي قضية أدبية إلي غير ذلك من ألوان النقد والنقد الاجتماعي.
وأيضا كانت محاولات الرواية العربية التي قام بها أدباء الشام ومنهم (أحمد فارس الشدياق) و(سعيد الشامي) و(سليم البستاني) و(لبيبة هاشم) و(زينب فواز) ومن تلاهم من (جورجي زيدان) و(فرح أنطون). دارت هذه الروايات عند محاور ودلالات قومية كما أنها تأثرت بشكل الرواية الغربية الأوروبية، في حين أن الأعمال المصرية الثلاثة التي توقفنا عندها حاولت التأصيل بالرجوع إلي شكل المقامة.
ثم كانت ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول لتجد التعبير عنها في إبداعات الرواية عند (توفيق الحكيم) وهي (عودة الروح) و(يوميات نائب في الأرياف) و(عصفور من الشرق).. وفي إبداع طه حسين ومحمد حسين هيكل باشا، والمازني.. غير أن رواية (عودة الروح) كانت تعبيرا ناضجا فنيا وأكثر تعبيرا عن روح الثورة الوطنية وبداية التقاط الطبقة البرجوازية الصغيرة في المدينة وهي البذرة التي ستنمو في ثلاثية نجيب محفوظ الملحمية: بين القصرين وقصر الشوق والسكرية.. التي أرخت لثورة 1919 حتي 1946.
الا أن المتغيرات الاجتماعية بعد ثورة 1919م، تبدت جليه في مجمل الإبداعات الروائية سواء في ملامح الأماكن (الشعبية)، وطقوس الأحياء العريقة وعبق الحياة الشعبية. تنعكس علي تشكلات السرد والبناء الأسلوبي فكانت ما تسمي اللغة الثالثة (بين اللغة الفصحي والعامية) اللغة العامية الفصيحة العذبة في سهولتها وإيقاعها، وقدرتها اللافتة في رصد التحولات الثقافية والاجتماعية للطبقة المتوسطة الصغيرة، وتماسكها الذي سيبلغ اكتماله باندلاع الثورة الوطنية وتحديد ملامح ومكونات الشخصية المصرية.. مع التخلص من الأسلوب الخبري، والمحسنات اللفظية، وتماسك الفصول، ورسم الشخصيات بتصميم وتلقائية، وتشكيل وقائع الأحداث.
وكانت رواية (قنديل أم هاشم/يحيي حقي) حيث زيت قنديل الإنارة في مسجد «السيدة زينب» الذي يستخدمه المرضي بعيونهم، والشاب (إسماعيل) طالب الطب الذي عاد من بعثته متشبعا بالعلم والطب الحديث ليعالج به عيون ابن عمته فاطمة فتصاب بالعمي، ويوشك أن يكفر ويحطم القنديل ثورة علي تخلف المصريين. إنه صراع الشرق مع الآخر الأوروبي الغربي، حيث الحضارة الحديثة وقيم الروح الشرقية.. وتنتهي بمعادلة توفيقية بين الدين والعلم بعد عالم التصوف الشفاف، حيث يمزج الطبيب إسماعيل بين أدوات العلم الحديث وزيت قنديل أم هاشم في علاج مرضي الرمد والعيون.

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:13
ثانيا: ملامح المتغيرات الاجتماعية والمقاومة في روايات محفوظ
جاء «محفوظ» بعد تلك الفترة ليكتب مضيفا عما سبقوه، بأكثر حنكة وتقنيا، فضلا عن تجربته الخاصة/ العامة. لقد شيد نجيب محفوظ عالمه الروائي المكاني حول أعرق أحياء القاهرة.. سواء حي الجمالية، أو حي الحسين وهي أحياء شعبية، تمثل جوهر ملامح القاهرة القديمة، وقاهرة العامة والفقراء.. حيث بقايا العمائر والمساجد والخانات.. رصد «محفوظ» التحولات السياسية التي حدثت منذ نهاية الأربعينيات خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، ورصد تحولات العالم وصراعات القوي الكبري، مدي تأثيرها علي سياق وتطورات الحياة المصرية.. ثم اتخذ من الأسرة البورجوازية الصغيرة بؤرة تعكس كل هذه التغيرات بشموليتها السياسية والثقافية والروحية والأخلاقية. وقد تميزت كتاباته بحرصه علي تسجيل معظم تغيرات طراز المعمار والأزياء والعادات وفنون الغناء المصري.. لذلك بدا الخاص والعام، الجزئي والكلي، في جوهر بناء الرواية عنده، موازيا ومعبرا عن المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية.
وإن بدا ممثلا لمفاهيم المثقف البورجوازي الصغير المتعاطف مع فكر المرحلة الناصرية بعد ثورة 1952م، يرفع من شأن «الحرية»... في الرأي والتعددية الحزبية ويحترم وجهات نظر الآخرين، رافضا الديكتاتورية والنظم الشمولية. (التحولات المجتمعية وأثرها علي النص الأدبي ـ عبد الرحمن أبو عوف).
إن ملامح أدب المقاومة في عناصرها العامة والخاصة، تمثلها: رصد «الهم العام» وانعكاسه علي الشخصيات في العمل الروائي.. مع إبراز محوري «الهوية والحرية» من خلال الأحداث الحياتية/ اليومية/ الآنية.. ثم ردود الأفعال والاستجابات وهي التي تشكل بناء الرواية أو حكائية الرواية، أو النص الروائي. وهو ما برز في معظم أعمال محفوظ الواقعية النقدية والواقعية الرمزية، ولعل أبرزها (زقاق المدق) واكتمالها في (ميرامار) و(ثرثرة فوق النيل).. وغيرها.
تجلي ذلك في اختيار نماذج شخصياته الروائية، ثم رصد الأحداث والملامح السياسية والاجتماعية، وإن لزم عدم إغفال حقيقة أن «محفوظ» بدأ كتابة الرواية بأربع روايات من وحي التاريخ المصري القديم، وهي: «همس الجنون»، «عبث الأقدار» ، «رادوبيس»، «كفاح طيبة» حيث أبرز بطولات الإنسان المصري العادي البسيط، وليس لتمجيد الملوك وسكان الأهرامات، وهو وحده ما يشي بدلائل انتماءات الكاتب منذ بداياته.
يمكن التوقف أمام ملمحين في روايات محفوظ للكشف عن البعد المقاومي فيها، وهما اختياراته للشخصيات الروائية، ثم اختياراته للأحداث والوقائع والتصوير المكاني.

بعض النماذج البارزة لشخصياته
(1) نموذج الوفدي..

حيث كان «عيسي الدباغ» صاحب الصولجان والتاريخ النضالي قبل ثورة 52، وقد أزاحوه في التطهير بعيدا عن العمل السياسي أو الاجتماعي بعد الثورة، تعرف علي «ناني» تلك فتاة الليل التي انتهي عندها كل طموحاته السياسية والشخصية، دخل محل شقته التي هاجر إليها جسديا ونفسيا بالإسكندرية.. رواية «السمان والخريف».

(2) نموذج المثقف اليساري.. وقد تكرر في أكثر من رواية، ذلك الذي آمن بكل القيم العليا الرافضة لقهر الإنسان وظلمه، الحالم بالمجتمع المتنامي القادر علي إسعاد أهله وناسه، هذا المناضل سقط في يم من الانحطاط بعد عدد من الهزائم، التي بدأت ولم تنته.. رواية «القاهرة الجديدة»، ورواية «ميرامار». ويلاحظ المتابع أن تكرار هذا النموذج يرتبط علي الجانب الآخر بوجهة نظر «محفوظ» في التغيير والتطوير والتقدم كأفكار عامة.

(3) نموذج الأصولي الديني الإسلامي.. واللافت هنا أن «محفوظ» رصد هذا الأصولي منذ أعماله الروائية المبكرة، مع بيان قدر من تعدد ملامحها وسطوة وجودها في الرواية (المجتمع)، وهو ما يحتاج إلي (دراسة خاصة).. تشير فقط الي «عبد المنعم» في رواية «السكرية»، والذي بدأ يساريا ضمن الفاعلين في انتفاضة الطلبة والعمال عام 1946م، ونشير إلي أن هذا النموذج وبمتابعته في مجمل أعمال «محفوظ» يبدو وكأنه يرصد تاريخ الفكر الأصولي المعاصر بمصر «صوره وأفكاره».

(4) نموذج الانتهازي المساوم، فكان عضو لجنة الاتحاد الاشتراكي «التنظيم السياسي بمصر خلال فترة الستينيات والسبعينيات» ذلك المدعي وقد عمل علي سرقة المصنع الذي يعمل به، مستعينا بسلطات التنظيم داخل المصنع.. رواية «ميرامار».

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:14
بل أضاف محفوظ العديد من الشخصيات «المقاومة» بملامحها وقدرتها الخاصة والمتواضعة، حتي أصبحت في ذاتها، ومنها (1) «نفيسة» تلك الفتاة الفقيرة في رواية «بداية ونهاية»، ويصلح أن نطلق عليها لقب «المومس» الفاضلة»، حتي إنها تتخلص من حياتها بإلقاء نفسها في النهر وانتحرت حفاظا علي وجاهة وسمعة أخيها الضابط الذي تربي وتعلم من فيض عطائها.
(2) «سعيد مهران» ذلك السفاح أو الذي بات سفاحا بفعل أفاعيل الانتهازيين والأحوال الاجتماعية القاهرة، حتي شعرنا بالإشفاق عليه، وتعاطف القارئ معه، في رواية «اللص والكلاب» تلك الرواية التي اعتبرها النقاد نقلة مهمة في تاريخ الرواية العربية.
(3) «عباس الحلو» الذي عاش في «الزقازق» فقيرا، ذلك الذي بدا منعزلا عن العالم، مكتفيا بما فيه، اقتحمه العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فخرج «عباس» ليعمل في «الكامب» أو المعسكر الإنجليزي حتي يوفر ما يجعله قادرا علي الزواج من «حميدة». قهرتهما الأحداث ولم يلتقيا بعد خروجهما من الزقاق إلا عندما ضاعت «حميدة» في ليل الرذيلة حتي قتلت أخيرا.
(4) «عاشور الناجي» وقد بدا في أعمال «محفوظ» الرمزية علي أكثر من اسم فهو الفتوة المدافع عن الحق والحقيقة مقاوم الظلم والظالمين.
وتتعدد الشخصيات المقاومة، فمنذ نموذج «فهمي» ابن السيد أحمد عبدالجواد في «بين القصرين» وهو نموذج الوفدي المحب لسعد زغلول قائد ثورة 1919 حتي «عامر وجدي» في رواية «ميرامار» ويدعي النقد المتابع أن تلك الشخصيات تعبر عن تجربة وفكر شخص «نجيب محفوظ» نفسه لنقل انتماءات محفوظ السياسية.
كما تجلت ملامح المقاومة في أعمال محفوظ بعد رصد الشخصيات رصده للأحداث ونقده المباشر وغير المباشر للواقع المعيش من خلال الالتفات إلي جزئيات الحياة اليومية، هذا بجانب رصد تغيرات الزمن وانعكاسها علي النص الروائي.
ففي رواية «زقازق المدق» مع بدايات العمل رصد الكاتب تخلي المقاهي بالقاهرة عن خدمات الراوية الشعبي الذي يغني بالربابة بعد استخدام المذياع، ذلك الاختراع السحري الجديد لتسلية الرواد، كما تجلت مظاهر الخلل في القيم الاجتماعية وفي عادات أهل الزقاق، فتواجه أثر ما أحدثته الحرب علي معيشة وحياة المصريين نتيجة الحرب العالمية الثانية وأزمات الحكم وتجار السوق السوداء، وهو تجلي في مصير شخصياته الروائية، وفي تقنيات الفن الروائي.
بدت الثلاثية وحدها في رصدها الكلي لمظاهر الحياة اليومية لأفراد الشعب قبل ثورة 1919 وحتي عام 1946 ببليوجرافيا لمجمل ملامح الحياة المعيشية بمصر «خصوصا الطبقات الدنيا» فبرز الجانب المعتم منه وأسبابه، مما يكسب الوعي بالذات ويدفع إلي الرغبة في التغير والتقدم، وهو ما يعد أهم ملامح أدب المقاومة، بل وتبرز أهميته الحقيقية بلا صوت زاعق أو افتعال صارخ.
لقد بدأت البورجوازية المصرية في الظهور من خلال عائلة متوسطي التجار «السيد أحمد عبدالجواد» تابعت أجيالها لرصد مسارات التحولات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، فكان ولده «كمال عبدالجواد» الذي يعد النموذج للمثقف الجديد ابن نتائج ثورة 1919، وثمرة كل التفاعلات الحضارية الجديدة نتيجة احتكاك الشرق بالغرب. زاد التعليم وأعلن عن اتفاقية الاستقلال عام 1936، وتعددت المذاهب الفكرية وتعددت الأحزاب، بل وبدأت قاعدة للصناعات المصرية والمعاملات البنكية المصرية، وغيرها، لذا لم يكن غريبا أن يدرس الفلسفة، «وهو ما كان محل سخرية الأب» إلا أنه جيل آخر لهموم أخري أولها البحث عن طريق جديد للخلاص.
كما كان ابن شقيقته «خديجة» أحمد عاكف الشيوعي امتدادا له، ولكنه اتخذ من الصراع الطبقي موقف الماركسي الثوري، إن النص الروائي في الثلاثية بما يحمل من عوامل الكشف عن السلبي في الذات الجمعية، والبحث عن طريق للخلاص الجمعي من خلال تبني فكرتي الهوية والحرية نموذجا لمجمل أعمال «محفوظ» التي تتبني خصوصية ملامح أدب المقاومة.
لا يفوتنا اختيار نمط شخصية «المومس» في العديد من روايات محفوظ، لكل ما حملها الروائي من دلالات، حتي أصبحت «نموذجا» للعديد من المفاهيم المقاومية، فهي غالبا تسقط بسبب الفقر والقهر الاجتماعي، ودوما تبدو مضحية نبيلة السلوك إلي حد قد لا يتوافر عند غيرهن.
هكذا كانت «مومس» زقاق المدق والقاهرة الجديدة وبداية ونهاية، أما «نور» مومس «اللص والكلاب» فهي أكثرهن تعبيرا عما نعانيه من دلالات مقاومية، نظرا لدورها الجوهري الفاعل والتي أضافت جانبا مكملا لدلالات شخصية السفاح/ الضحية

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:16
لعله من المناسب التوقف قليلا أمام آخر ما كتبه محفوظ «أصداء السيرة الذاتية».. تري هل عمد «محفوظ» إلي إسقاط نظرية «فيليب لوجون» التي تقول بأن مرجعية الأنا في السيرة الذاتية معصومة من الوقوع في دائرة التخييل متي تحقق التطابق بين الهويات الثلاث: هوية المؤلف والراوي والشخصية؟
ربما عمدا خلط «محفوظ» بين المرجعي والمتخيل، وتنصل من مسئولية السير الذاتية التي يلزمها قدر غير قليل من الجرأة والصراحة والوضوح ربما إلي حد التعري!
يتذكر المتابع لأحاديث الكاتب الصحفية مقولته في صحيفة «أخبار الأدب» إن سبب الإقبال علي جنس «السيرة الذاتية» أن أصبح الأدب معقدا غير مفهوم للقارئ، بينما السيرة كلام واضح عن حياة الناس.
فيما يقول «محفوظ» مرارا إن شخصية «كمال» في «زقازق المدق» هي شخصيته وآراؤه، وأن ما كتبه من رواياته حول بعض الأماكن والشخصيات، هي في الحقيقة جزء من سيرته، ورجم لحيرة وقلق يثقلان الكاتب من خلال علاقته بتلك الأماكن والشخصيات فتبدو لك الروايات بما تتضمنها من شخصيات هي سيرة ذاتية بمعني ما.
أما وقد هم الكاتب لكتابة «السيرة»، الطريف أن بدت أكثر غموضا ولم يفصل بين الذاتي والمرجعي والتخيلي والوهمي.. بدا وكأنه عمدا لا يريد أن يكون هكذا صريحا وواضحا، وكأنه بدا جريئا في قوله أثناء الكتابة الروائية أكثر منها وهو يكتب السيرة، خصوصا أنه يعلم أن قارئ السيرة لا يضع احتمالات الصدق أو الكذب فيما يستنتجه أو يقرؤه.
لقد أبدع الكاتب شخصية «عبدربه التائه» لتلعب دور الرابط والروائي في العمل/ الأعمال. كان أول ظهور بالرقم أو الحكاية رقم 5:
«ولد تايه يا ولاد الحلال
ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال:
فقدته منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عني جميع أوصافه»
ثم نتوقف أمام الحكاية رقم 9 التي تعطي مؤشرات كثيرة لكل السيرة وهي بعنوان «الخلود».
«قال الشيخ عبدربه التايه:
وقفت أمام المقام الشريف اسأل الله الصحة وطول العمر. دنا مني متسول عجوز مهلهل الثياب وسألني: هل تتمني طول العمر حقا؟ فقلت في إيجاز من لا يود الحديث معه:
ـ من ذا الذي لا يتمني ذلك؟
ـ فقدم لي حقا صغيرا مغلقا وقال:
إليك طعم الخلود لن يكابد الموت من يذوقه.
فابتسمت باستهانة فقال:
ـ لقد تناولته منذ آلاف السنين ومازلت أنوء بحمل أعباء الحياة جيلا بعد جيل.
فغمغمت هازئا.
ـ يالك من رجل سعيد.
فقال بوجوم:
ـ هذا قول من لم يعان كر العصور وتعاقب الأحوال ونمو المعارف ورحيل الأحبة ودفن الأحفاد.
فتساءلت مجاريا خياله الغريب.
ـ تري من تكون في رجال الدهر؟
فأجاب بأسي:
ـ كنت سيد الوجود ألم تر تمثالي العظيم؟ ومع كل شروق أبكي أيامي الضائعة وبلداني الذاهبة وآلهتي الغائبة.
تبدو الحكاية وكأنها حلم يكابد التلاشي، وتحمل في مضامينها مفاهيم «الخلود»، «نمو المعارف»، «أعباء الحياء»، في مقابل «دفن الأحفاء» إنها المكابدة بين طريقين يعيشهما الإنسان علي الأرض، معهما وبهما يكون الصراع والمقاومة.
وإذا أضفنا بعض المقولات المبعثرة هنا وهناك.. أمثال أقواله:
«لقد فتح باب اللانهاية عندما قال «أفلا تعقلون» من رقم 10
«إن مسك الشك فانظر في المرآة نفسك مليا» من رقم 12
«جوهران موكلان بالباب الذهبي يقولان للطارق تقدم فلا مفر هما الحب والموت» رقم 15
«عندما يلم الموت بالآخر يذكرنا بأننا مازلنا نمرح في نعمة الحياة» رقم 16
ثم إذا ما تأملنا عناوين الحكايات بالأرقام: دعاء ـ رثاء ـ دين قديم ـ السعادة ـ الطرب ـ الفتنة ـ الأشباح ـ المرح ـ التحدي ـ المطر ـ التوبة ـ التسبيح ـ ليلة القدر ـ الحياة ـ الفتنة ـ الندم ـ الذكري ـ الندم ـ السؤال..


ففي الفقرات أو الجمل المنتقاة عفوا والعناوين قدر واضح من التأمل، الوعي بالمخاطب وثقافته، النزعة الصوفية والتي هي غالبة علي كل النزعات فكرا وسردا، الألف ولام التعريف التي تعني التحديد والقصيدة لعناوين أغلب بل معظم العناوين، وغيرها من الملامح والشواهد، والتي نري معها أن «نجيب محفوظ» كان مدركا لعنوانه «أصداء السيرة الذاتية»، فلم يكتب «السيرة الذاتية» وهو المدرك تماما لخصائصها ولكنه لم يشأ أن يكتبها بل يكتب يحول الخبرة العمرية وأصداء التجارب التي عاشها، فلم يكن «التخييل» الذي قالت به الناقدة «جليلة طريطر» محاولة واعية من الكاتب للتجاوز، بقدر أن منهجية الكاتب أصلا لم تكن «كتابة السيرة الذاتية»!! وما حكاية «الخلود» إلا نموذجا مختارا لتأكيد ذلك، بل واختيار تلك الشخصية الدرامية الرامزة «عبدربه التايه» كرابط درامي وإطار تتحرك حوله وبه الأفكار التي تبناها الكاتب للتعبير عنها من وحي حكمة الأيام وخبرة السنين، والتي تحمل في ثناياها حكمة الأيام وخبرة السنين التي تري وتفعل للمقاومة وإن علت روح الإيقاع الصوفي، أليست الصوفية في مرحلة ما وبفهم ما، هي طريقا ما للمقاومة الفردية وشكلا من أشكال «المقاومة السلبية»؟ (فكم من المجموعات الصوفية ترفض العزلة وتدعو للعمل بين الناس)


أخيرا..


لقد تساءل البعض ذات مرة «الأدب المقاوم» أدب فاعل أم أدب منفعل؟ إذا كان «أدب المقاومة» هو الأدب المعبر عن الذات الجمعية، الواعية بهويتها، المتطلعة إلي حريتها في مواجهة الآخر العدواني.. أي أن المقاومة هي تعضيد الذات الجمعية والبحث عن عناصر قوتها، ثم البحث عن عناصر ضعفها لتلافيها، وبالتالي الاستعداد لمواجهة الآخر المعتدي. أدب المقاومة يبدأ قبل ممارسة العنف أو الصراع مع الآخر العدواني.. يبدأ بالذات، لذا كان أدب المقاومة معنيا بقضايا: الهوية والحرية والأرض والانتماء، وبقضايا الحياة الكريمة للإنسان وفي جانب منه الاهتمام بالتجربة الحربية (التي توافرت في عدد من روايات محفوظ من خلال معايشتها مع المدنيين، وأثرها علي الناس العادية، وهو جانب مهم في التعبير عن التجربة الحربية، كما في رواية «خان الخليلي»).
إذا كان الأمر كذلك فتعد روايات «نجيب محفوظ» كاشفة عن البعد المقاوم في الأدب، وفاعلة من أجل تقوية الذات الجمعية بكشف الخفي والمسكوت عنه والسلبي، وبالتالي رصد الأحداث وإبراز أكثرها تأثيرا علي الناس، هي دعوة للانتباه، والانتماء، والحرية، والخلاص.. أليس من صفات أدب المقاومة أنه ذاكرة للأمم والشعوب.

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:36
بين التاريخ والدين..

أولاد حارتنا.. والرموز المثلية
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////


محمد قطب

تثير الرواية التي تستقي مادتها من التاريخ عددا من التساؤلات قد تتضمن تنوعا في الرؤية وقد تتعارض لكنها لا تتصادم لدرجة الإزاحة أو الإدانة، وتلك طبيعة الأعمال الأدبية الكبري.. فما بالنا بالأعمال التي تتناول قصص الأنبياء وحركتهم التاريخية والدينية. إن علي الأعمال الروائية التي تتخذ من تاريخ الأنبياء مادة لها تعج بالحياة والحركة، وتحتدم كالملاحم، وتبرز وجهة النظر ـ كالجدل التاريخي ـ في تطور الأجيال والأفكار، والصراع بين العدل والظلم، والحرية والاستبداد.. والإيمان والفكر المادي أن تلتزم بالقيم والرموز الكلية بما تمثله من معانٍ سامية تسعي إلي إصلاح الذات والمجتمع معا، وتكشف في النهاية عن المعني العظيم الذي يختزل تلك القصص جميعًا في عمل واحد.
والإقدام علي مثل هذا التناول الأدبي تكتنفه محاذير كثيرة لعل أخطرها تفسير الرموز تفسيرًا معاكسا لما هو حقيقي، ذلك أن الإفادة من الحقائق تختلف عن الإفادة من الفولكلور الشعبي مثلا، أو من الأساطير، وعلي هذا فلقد أصبح الجميع يخشون الاقتراب من قصص الأنبياء ـ تلك الكنوز العظيمة ـ خشية الوقوع في المحاذير وفضلوا استيحاء شخصيات من التراث أو الأساطير.
لكن الكاتب الكبير نجيب محفوظ أقدم علي خطوة جريئة واختزل هذا العالم كله في رواية واحدة هي (أولاد حارتنا).
ولقد كتب المبدع روايته بعد فترة انقطاع طويلة بدأت منذ قيام الثورة 1952 وحتي عام 1959 سبع سنوات كاملة توقف فيها عن الإبداع ثم بدأ بعد هذا الانقطاع التأملي مشروعه الروائي المتجدد، والمتجاوز.. لقد كانت فترة نشر الرواية مسلسلة في «الأهرام» فترة يتم فيها التحضير إلي التحول الاشتراكي ثم إعلانه وسيطرته علي أجهزة الإعلام والثقافة.. ونفي أو تضئيل الفكر الحر والديني معًا.
ونحن إذا نرصد زمان الإبداع نؤكد السياق التاريخي الذي ظهرت فيه الرواية كما أن الإطار المرجعي للأديب الكبير يتمثل في فكره الفلسفي وتأثره بالمذهب الطبيعي وبآراء سلامة موسي التي كانت تدعو إلي الاشتراكية ونظرية التطور وحرية المرأة.. وكذلك الإلحاح علي فكرة الحرية والعدل الاجتماعي والشوق إلي العدل والحرية يتسرب عبر الرواية في مواقفها وشخصياتها.. وجسدت الرموز الإبداعية هذا المعني الكبير.. فالرواية عمل ملحمي مصوغ علي مستوي الرمز الكلي صياغة أدبية منذ الخلق الأول وحتي عصر التنوير الحديث. وهي تتضمن رموزًا مثلية ـ إن صح التعبير ـ والتاريخ مصدر هائل للكاتب قديما وحديثا. وهو مع هذا يحمل في زخمه الثر خطورته إذا ما تلون الاستدعاء التاريخي بلون مغاير لموضوع حركة التاريخ الحقيقي والممثل في الرموز الكبري أو رضخ لتعسف فكري ما.
سئل نجيب محفوظ عن الواقعية الجديدة عام 1962 وعن إفادته التاريخية فقال: (الباعث علي الكتابة أفكار وانفعالات معينة تتجه إلي الواقع لتجعله وسيلة للتعبير عنها. فأنا أعبر عن المعاني الفكرية بمظهر واقعي تماما).

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:38
ولقد خضعت الرموز المثلية في الرواية لفكر الكاتب ورؤيته ومرجعيته الفكرية، دون أن يلتزم بما ورد في الحقيقة. وتتأكد المغايرة فيتحطم المرموز الديني ويفرّغ من جوهره في إتقان حرفي باهر ـ وليس ذلك عيبا ـ وسرد روائي مؤثر، وواضح كأنما يخشي الكاتب ألا يفهم ـ يربط بين الأحداث والأشخاص ربطا محكما يوحي بوجهة النظر فتتحول الرواية إلي رواية مقنّعة، تقنّع التاريخ وتورّيه رمزا، ولفظا وسياقا، مما يعني أن القراءة للنص الروائي تصبح ذات بعدين بحيث يقارن المتلقي بين ما يقرؤه وبين ما يقابله تاريخيا وإذا كان الكاتب ـ عموما ـ يلجأ إلي التاريخ كحيلة فنية حين (لا يتمكن من قول ما يريده مباشرة خصوصا إذا كان هذا القول يمس وضعا قائما تحرص السلطة علي ألا يمس. ومن ثم ينتقل بالعمل الأدبي إلي زمان آخر أو مكان آخر..)

فلا يحق له قلب الحقائق أو تغيير الثوابت حتي لا يضحي التاريخ مدانًا، وتتحول الحركة الدينية من خلاص إلي عبءـ ويصير المضمون النهائي الذي يختزل حركة الأنبياء مجرد هباء.. و من ثم يتأكد التوجه نحو فكر مغاير يعْلي من العلم وأبحاثه ومعامله، ويعتبره الوريث الصحيح لحركة التاريخ.

وقد يتصور ـ فنيا ـ أن المجاز يستر هذ التوجه ويقنّع وجهة النظر، انطلاقًا من أن الرواية المجازية ـ كما يقول ألبير يس في كتابه تاريخ الروايةـ (تشاد في المدي القائم بين الحقيقة العامة والحقيقة الجوهرية.. بين الوجود والماهية، بين العالم المعاش وعالم الفكر المثالي.. إن الرمز الثابت والمقصود يكون صلة الوصل بين الأفكار وعالم الظواهر)

وتجدر الإشارة إلي أن عدد فصول الرواية يبلغ 114 فصلا بعدد سور القرآن الكريم مما يشعر بأن التماثل الحسابي مقصود. كما جاء في مجلة القاهرة سبتمبر 1988. ومع أن الرواية تحتوي علي رموز كثيرة ومتنوعة إلا أننا نشير ـ فقط ـ إلي الرمز الأدبي ومثاله الديني وما ورد في الرواية مما يعارض النص الديني دون أن نتعرض لبداية الخلق.

> تقول الرواية عن الجبلاوي/ «هو لغز من الألغاز ضرب المثل بطول العمر اعتزل ولم يعد أحد يراه».

وتقول أيضًا «كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أشار إلي البيت الكبير وقال في حسرة: هذا بيت جدنا.. جميعنا من صلبه».

وتقول عن الوقف الكبير (علينا أن نحسن استغلاله حتي يكفي الجميع ويفيض) وتشير إلي طرد إدريس (رفع الجبلاوي رأسه صوب نوافذ الحريم: طالقة ثلاثة من تسمح له بالعودة).

وتقول علي لسان إدريس (إنني عدت قاطع طريق كما كان الجبلاوي).. لقد أنشأت الرواية صفات وعلاقات باطلة بالجبلاوي، وأشارت إلي موته مما يعني أن الدلالة تعارضت بين الفن والدين.

والنص الديني ينفي ذلك انطلاقًا من أن الجبلاوي يحتوي علي رمز كلي وديني واضح.. وهو ما يؤدي الي إفراغ المرموز إليه من الكمال والجلال.

قال تعالي في سورة الأنعام: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار».

> وتقول الرواية عن رفاعة/ إنه ثمرة لقاء بين شافعي النجار وزوجته عبدة. يدعو رفاعة إلي تطهير النفوس عبر مداواة الروح. يتزوج من ياسمين وزهد في المتاع فلم يقربها. وتلاقت مع بيومي وخططت لقتله ثم أخرجه الجبلاوي وحمله إلي بيته الكبير.

وليس رفاعة/ الرمز.. ثمرة زواج وإنما هو نوع من ترديد ما يشيعه اليهود عنه بحيث يصبح الفكر اليهودي مرجعا في الرواية.

قال تعالي علي لسان مريم: (قالت ربي أنَّي يكون لي ولد ولم يمسسني بشر).

أما عن قاسم.. فقالت الرواية إنه ولد في أفقر الأحياء، عاش يتيما، كفله عمه زكريا بائع البطاطا، عمل بالرعي ثم تزوج من قمر الثرية. يبلغه قنديل (جبريل) باختيار الجبلاوي له لرفع الظلم ويقول قاسم: (إذا نصرني الله فإن الحارة لن تحتاج إلي شخص بعدي) ويترك الحارة مهاجرا ثم يعود ويستقبله أتباعه قائلين (يامحني ديل العصفورة) ويردد قاسم قائلا ويشير إلي البيت الكبير (هنا يعيش الجبلاوي.. أوقافه تخصكم جميعا.. علي قدم المساواة ، لن تكون هناك إتاوة تدفع إلي طاغية) ثم يوجه إليهم تعليماته (راقبوا ناظركم، فإذا خان اعزلوه).

ولقد أعجبت به الحارة لحبه للنسوان . وتصف الرواية عرس قاسم فتقول: دارت أقدام البوظة وعشرون جوزة.. وتعالي الآهات من الأفواه المخدرة.

ويسأل قاسم: هل يمكنني أن أصبح مثل رفاعة؟ فيسخر منه «العجوز» قائلاً كيف وأنت مولع بالنساء وتتصيدهن في الصحراء عندما تغيب الشمس.. ولا أدري كيف تعاطت «الرموز المثلية» كل هذا الكم من الحشيش في الرواية.،. حتي لاحوا مغيبين وهم رموز لرسالات كبري.. ربما جاء ذلك توطئة لظهور عرفة!

قال تعالي: (وإنك لعلي خلق عظيم).

>> أما عن عرفة فهو ابن جحشة العرافة وهو رمز للعلم.

يقول عن نفسه «أنا عندي ماليس عند أحد ولا الجبلاوي نفسه.. عندي السحر)

وجاء علي لسان إحدي الشخصيات (لو خيرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر).

ولعل أغرب ما قامت به الرواية ـ مما لا يغيب عن عقل المتأمل المدرك ـ أنها وصفت عرفة بالوعي الكامل وبالابتعاد عن المخدرات، وأنه لا يتعاطي الحشيش حتي لا يغيب وعيه وتتخدر مداركه، وحتي لا تأخذه الأوهام؛ لأن ما يقوم به وهو العلم يحتاج إلي اليقظة وحدة البصر والمشاهدة، في حين أنها وصفت أهل الحارة برموزها الدينية بأنهم يتناولون المخدرات ويشربون الجوزة ويحششون.

هل يعني هذا أن هذه الرموز قد استنفدت أغراضها؟

قال نجيب محفوظ بعد فوزه بجائزة نوبل في حوار معه عن الحرية والفن في مجلة آخر ساعة أكتوبر 1988: (لا حياة للفن إلا في ظل الحرية، وأي نظام يقوم علي قهر الرأي مهما سمت أهدافه فإنه يكون عبئًا علي الفكر والفن والأدب).

وفي ظل هذه الحرية..

اسبيرانزا
10/01/2008, 08:40
تظل القضية مثارة دائما.. كلما جاء عمل فني أو أدبي واخترق عن عمد ـ أحيانا ـ بعضا من الثوابت ـ أو أزاح رداء القداسة عن بعض الرموز .. أو تجاوز في التعبير قيما في الدين أو مس ـ في مواقف تخييلية بحتة ـ بعضا من الرموز الدينية المقدسة.
إن الأعمال الأدبية التي تتخذ من التاريخ مادة فنية لها، تتطلب أن تكون الحرية المتاحة للكاتب محدودة ومحكومة بسياقات التاريخ وحركة المجتمع، دون الوقوف في ولع قلب الصورة المعروفة للشخصيات الكبري ـ كالأنبياء ـ أو نقض القيمة التي تمثلها لحساب قيم أخري. وللكاتب حرية اختيار المواقف واختراع شخصيات لإبراز الفكر الذي يتغياه.
ويبقي أن اللجوء للمصادرة يأتي بهدف معاكس.. وعلي النقاد أن يوضحوا بالدرس الموضوعي والفني الخلل الفكري الذي تنبني عليه مثل هذه الأعمال الأدبية دون التعلل بقداسة أو تابوهات راسخة

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:25
«ميرامار».. البنسيون والرواية

////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////شوقي بدر يوسف

الإسكندرية أخيرا

الإسكندرية قطر الندي، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع.

عامر وجدي في «ميرامار»

عندما أقامت مكتبة الإسكندرية احتفالية الريشة والقلم وفاء لقمم الأدب والفن «نجيب محفوظ وصلاح طاهر» في مستهل شهر أكتوبر 2001، حضر هذه الاحتفالية عدد كبير من نقاد وأدباء العالم العربي للمشاركة في فاعلياتها الأدبية والفنية وفاء منهم لهذين العلمين الكبيرين اللذين أثريا الحياة الأدبية والفنية بأعمالهما الخالدة، حيث أقامت المكتبة هذه الاحتفالية الرائدة في مستهل الإعلان عن بدء أنشطتها الثقافية والأدبية في أول الألفية الثالثة من التقويم الميلادي، بعد الافتتاح التجريبي للمكتبة والذي تم في أبريل من نفس العام، وكان من بين من حضروا هذا التجمع الكبير لأدباء وفناني العالم العربي الناقدة اللبنانية الدكتورة يمني العيد والكاتب محمد دكروب رئيس تحرير مجلة «الطريق» البيروتية. ومعرفتي بالدكتورة يمني العيد جاءت من خلال كتاباتها النقدية المتميزة التي ظهرت في العديد من الدوريات، وأيضا من كتبها النقدية التي كثيرا ما كنت أرجع إليها للاسترشاد بها في بعض الدراسات النقدية، كما كانت معرفتي بالأستاذ محمد دكروب فقد جاءت من خلال متابعتي الدائمة لمجلة «الطريق» البيروتية الذي يرأس تحريرها، وقد تقابلت معهما أكثر من مرة أثناء فاعليات الاحتفالية.

وقد طلبت مني الدكتورة يمني العيد والأستاذ محمد دكروب زيارة بعض معالم الإسكندرية ومواقعها الأثرية المهمة للتعرف عليها عن قرب، ومشاهدة أهم ملامح تميزها، فقمنا بزيارة بعض الأماكن السياحية والشعبية المعروفة بها المدينة، مثل قلعة قايتباي، والسوق الشعبي الشهير بالمنشية والمعروف بـ «زنقة الستات»، ومنطقة كوم الدكة مسقط رأس فنان الشعب سيد درويش، كما قمنا أيضا بزيارة بعض الأماكن التي ارتبطت بإبداعات بعض كبار مبدعينا وكان أهمها البناية التي كان موجودا فيها بنسيون «ميرامار» الذي استوحي منه الكاتب الكبير نجيب محفوظ روايته الشهيرة التي تحمل نفس الاسم وكلمة «ميرامار» هي من أصل لاتيني، ولكنها حاضرة اليوم في اللغة الأسبانية، وتتركب الكلمة من الفعل «ميرا» ويعني يشاهد بإعجاب، ومن الاسم «مار» ويعني البحر، ومعني الكلمة أيضا ينسحب علي بعض المفردات مثل المسكن، والفندق الجميل، وأيضا المكان الجميل القائم علي الشاطئ، والتجارة والسياحة، والحياة السهلة، وبنسيون «ميرامار» يحتل الطابق الثاني من البناية التي تقع في مكان قريب يتوسط المنطقة بين محطة الرمل والسلسلة، وهو يواجه شاطئ البحر مباشرة، ويطل علي كورنيش الإسكندرية. وقد وصفه «عامر وجدي» أحد شخصيات الرواية باعتباره أول صوت يتحدث في الرواية ضمن الأصوات الأربعة التي تحكي الرواية بقوله: «العمارة الضخمة الشاهقة

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:26
تطالعك كوجه قديم، يستقر في ذاكرتك فأنت تعرفه ولكنه ينظر إلي لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك، كلحت الجدران المقشرة من طول ما استكنت بها الرطوبة. وأطلت بجماع بنيانها علي اللسان المغروس في البحر الأبيض. يجلل جنباته النخيل وأشجار البلخ، ثم يمتد حتي طرف قصي حيث تفرقع في المواسم بنادق الصيد، والهواء المنعش القوي يكاد يقوض قامتي النحيلة المقوسة، ولا مقاومة جدية كالأيام الخالية».. وقد وقفت الدكتورة يمني العيد والأستاذ محمد دكروب طويلًا أمام هذه البناية الضخمة المبنية علي الطراز الإنجليزي والمعروف بفسيفسائه الحمراء التي تمثل طرز المباني الإنجليزية الكلاسيكية، وكانت تأملاتهما لهذا المكان وانبهارهما بموقعه المتميز، وتداعي خواطر الدكتورة يمني بين ما تراه وما سبق لها أن عبرت عنه في كتاباتها النقدية عن نجيب محفوظ وأعماله الروائية قد أثار شهيتي لمناقشتهما عن الرواية بأحداثها وشخوصها وكل ما يحيط بها من ظروف أدبية ومكانية وفكرية، خاصة وأني أعرف أن الدكتورة يمني العيد سبق لها أن قامت بدراسة الرواية في كتابين من كتبها النقدية صدرا في بيروت. الدراسة الأولي كانت بعنوان «تعدد المواقع في ميرامار» ونشرت في كتاب «الراوي.. الموقع والشكل» الصادر عن مؤسسة الأبحاث العربية، والدراسة الثانية كانت بعنوان «لعبة البدائل» ونشرت في كتاب «في الرواية العربية بين الخصوصية وتميز الخطاب» الصادر عن دار الآداب البيروتية. ولعل التأمل الذي مارسته د. يمني العيد وهي تقف أمام هذه البناية الضخمة التي شهدت الأيام الغابرة التي عاشها بنسيون «ميرامار» في هذه المنطقة قد أعاد إلي خواطرها في نفس الوقت ما سبق أن تناولته في كتبها النقدية عن شخصيات الرواية «زهرة، عامر وجدي، سرحان البحيري، طلبة مرزوق، حسني علام، باهي منصور، مدام مريانة صاحبة البنسيون» حين قالت «ستة أشخاص في الرواية يمثلون مجتمع البنسيون العائلي، ينتمون إلي جيلين، إلي زمنين سياسيين: زمن الملكية، وفيه الوفد وسعد زغلول، وزمن الثورة الناصرية، ومع الست شخصيات تبدو الفتاة زهرة واسطة العقد. صبية صغيرة. زهرة، هربت من القرية متمردة علي جور جدها وشقاء حياتها، وجاءت المدينة راغبة في «الحب والتعلم والنظافة والأم»، فقصدت البنسيون الذي كان يقصده والدها ليبيع لصاحبته ما يبيعه فلاح من جبن وبيض ودجاج، لكن هي جاءت لتعمل، ولم يكن أمامها سوي أن تكون خادمة، خادمة للجميع». وقد صرح نجيب محفوظ عن ظروف كتابته لهذه الرواية بقوله: رواية «ميرامار» كانت بدايتها في الإسكندرية في أثناء زيارتي لبعض الأصدقاء، وقد أعجبت بشخصية خادمة كانت تعمل لديهم وهي التي ظهرت في الرواية باسم «زهرة»، وبعد ذلك بعشر سنوات تبلورت لدي فكرة الرواية، فجلست وكتبتها».

وتبدو «ميرامار» كما قدمها نجيب محفوظ وكأنها تشكيل مكاني له سطوته الخاصة، وله خصوصيته الذاتية بما يضمه من شخصيات تمثل المجتمع المصري بفئاته المتعددة، في فترة محددة من تاريخه السياسي والاجتماعي المعروف بصراعاته الطبقية وتناحره النفعي، ومشاعره، ومواجهاته التي تعبر عن موقف كل فئة تجاه الأخري، لهذا قدم المؤلف بناء روائيا له تصميم خاص يعتمد علي طرح أربع وجهات نظر متباينة تمثل أهم أربع فئات من تكوينات المجتمع المصري، وكاشفا من خلالها عن موقف كل فئة من هذه الفئات تجاه نفسها وتجاه الوطن.. لهذا يمكننا أن نطلق علي رواية «ميرامار» أنها بمثابة رواية صوتية تستهدف تعرية المجتمع المصري، وإدانة مظاهر الفساد المستشرية في جسده بكل صوره.. وهي تعكس وجوها من الحياة، وجها مختارا بعناية، وقد صقل هذا الاختيار وتكثف من خلال الصراع الدائر في جسد المجتمع، وأصبح غنيا بالمعاني الإيحائية التي تساعد علي بلورة نفسها، وتأويل ما وراء السطور وإيضاحه تمامًا.. إننا لا نواجه في «ميرامار» قطاعًا مستويًا من الحياة العادية التي يمكن أن نجدها في روايات أخري لنجيب محفوظ مثل الثلاثية، وغيرها من الروايات، إنما نواجه قطاعًا أفقيًا تحكمه الأصوات التي تعبر عن وجهة نظرها الخاصة أولاً، ثم تنسحب بعد ذلك إلي العموميات، لذا نجد أن الإيقاع الروائي في هذه الرواية يتسم بمعدل السرعة الذي يتماشي مع معدل سرعة وإيقاعات الحياة فيها، وهو أمر ينسحب أيضًا علي الحياة داخل البنسيون، فالجميع في لهاث دائم نحو تحقيق تطلعاتهم النفعية وغير النفعية.. ونجد أيضًا أن كل شيء في «ميرامار» يلهث، ويستوعب في فترة وجيزة ما يمكن أن يستوعب في عمل واقعي، في حياة بأكملها. يدل

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:26
علي ذلك أن السكينة الظاهرة عند «عامر وجدي» أو «مريانا» أو «طلبة مرزوق»، تعكس في الواقع سفرًا داخليًا حافلاً بالحركة، وسريعًا ومضنيًا، يذكيه وقود الذكريات الذي لا ينفك يقتلع الحاضر حركته بين وقت وآخر، كما يقويه أيضًا اختيار الكاتب للبنسيون كمكان مناسب تجتمع فيه طبقات المجتمع لتعبر عن الحيرة التي يعيشها الجميع. والأحداث في «ميرامار» مروية من وجهة نظر أربع شخصيات من مجموع شخصياتها. وكل شخصية تروي نفس الأحداث بضمير المتكلم، وعلي النحو الذي تراها عليه. ولا تختلف هذه الأحداث من شخصية إلي أخري إلا بمقدار ما يتاح لهذه الشخصية أو تلك من مجال رؤية غير متاح للشخصيات الأخري، وإلا بمقدار اختلاف المشاعر الخاصة أو الفهم الخاص الذي تضفيه كل شخصية بالضرورة علي مجري الأحداث.

والمكان في رواية «ميرامار» وهو البنسيون من الداخل يذخر بالحركة المستمدة من الذكريات عند بعض الشخصيات وبالواقع الملموس عند البعض الآخر، لذا نجد أن عامر وجدي يعود إلي «بنسيون ميرامار» الذي عادت الحركة تنتعش فيه والزمن يتكرر: تقتل الثورة الأولي (ثورة 1919) زوج مريانا الأول، وتجردها الثورة الثانية (ثورة 1952) من مالها وأهلها ومع ذلك فهي تتمسك بالحياة بشدة من خلال هذا العالم المتبقي لها وهو عالم البنسيون، والبنسيون عادة يمتلئ بالنزلاء، يخلو ثم يمتلئ «كان بنسيون السادة» ينعمون فيه بالراحة والرفاهية والهدوء، يتاجرون ويربحون، يأتون من الخارج ليلتقوا علي شاطئ المتوسط في الإسكندرية، في «ميرامار» عند مريانا وتحت تمثال العذراء. وها هو المسكن الجميل يستقبل اليوم وبعد خلائه، ممثلي الثورة المصرية، ومعهم من يمثل العهد السابق، جاء الجميع إليه ليس في غياب الرفاهية، ولكن طلبًا للراحة والهدوء، وبحثًا عن سبل الحصول علي المال، يلتقون أيضًا، وعلي خلاف انتماءاتهم الاجتماعية والسياسية والفكرية علي شاطئ المتوسط، في «ميرامار» عند مريانا.

لا شك أن نجيب محفوظ باختياره لبنسيون ميرامار المواجه للبحر مباشرة مكانا لروايته التي تمثل بالنسبة له نموذجًا جديدًا من الفن الروائي، كذلك هي تعبير عن رحلة إلي المجتمع الجديد بأكمله، بمختلف نماذجه القديمة الباقية والانتقالية والجديدة، ولعل هذا يفسر لنا استعانته بتنوع الشخصيات والمواقف التي أحيانًا تكون ذاخرة بالصراعات الغاضبة، ولعل تأثير المكان أيضًا علي مواقف الرواية قد صوره الكاتب علي أنه نابع من تأثير المكان ومناخ الإسكندرية، والبحر التي يقع البنسيون في مواجهته مباشرة.. لا في صفائه وإشعاعاته الذهبية الدافئة.. ولكن في غضباته الموسمية.. عندما تتراكم السحب وتنعقد جبال الغيوم.. ويكتسي لون الصباح المشرق بدكنة المغيب.. ويمتلئ رواق السماء بلحظة صمت مريب، ثم تتهادي دفقة هواء فتجوب الفراغ كنذير أو كنحنحة الخطيب.. عند ذاك يتمايل غصن أو ينحسر ذيل.. وتتابع الدفقات ثم تنقض الرياح ثملة بالجنون.. ويدوي عزيفها في الآفاق.. ويجلجل الهدير ويعلو الزبد حتي حافة الطريق.. ويجعجع الرعد حاملاً نشوات فائرة من عالم مجهول.. وتندلع شرارات البرق فتخطف الأبصار وتكهرب القلوب (ص 182)، لقد عبر منصور باهي بهذه العبارة التي جاءت علي لسانه بنفس الجو الموجود داخل البنسيون والذي يكون أحداث الرواية علي لسان أبطالها تمامًا، إنه جو يشبه إلي حد كبير جو البحر حين يكشر عن أنيابه، وتتلاطم أمواجه ويعلو الزبد وتصارع فيه الأنواء.

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:27
وتسري الأحداث الرئيسية في نسيج الرواية من شخصية إلي أخري بتوهج خاص، مما يمنح الشكل الفني للنص وحدة عضوية قل أن توجد في الروايات التي تتبع نفس التكتيك الهندسي الدقيق، حيث تبدو «زهرة» وهي الشخصية التي اختارها الكاتب لتمثل بؤرة الحدث كنقطة مركزية في الرواية، فهي في حركة التكرار التي يمارسها الرواة، الشبان الثلاثة، الثلاثة يحبون «زهرة» لكن لا للزواج منها، «زهرة» نقطة في دائرة، وفضاء الدائرة تنسجه مجموعة من العلاقات التي تنهض بين هذه الصبية من جهة ونزلاء البنسيون من جهة أخري، بمن فيهم مريانا صاحبة البنسيون، وطلبة مرزوق بهوية انتمائه إلي نظام العهد القديم، وعامر وجدي نفسه. تكشف مجموعة العلاقات هذه عن هوية ما يربط كلا من الشخصيات بـ «زهرة»، وعن علاقة «زهرة» بهذه الشخصيات وموقفها منها، داخل المكان الواحد نفسه «البنسيون»، وتبدو «زهرة» رمزًا لشعب مصر في زمن الثورة، رمزًا لبدايات التحول والنمو، وللتطلع نحو الأفضل. إنها الرغبة لبناء زمنها القادم في إطار المدينة وما تعنيه من شروط عيش ومستوي حياة، لكن «زهرة» تبدو في مجموعة العلاقات هذه، ضحية للجميع، مأساتها تنهض علي حد علاقتها بشكل خاص بـ «سرحان البحيري»، فهو كما نقرأ في الرواية وعلي لسان منصور باهي «التفسير المادي للثورة» (ص 107). «زهرة» ضحية للجميع، ما عدا «عامر وجدي»، لأن الجميع يستغل «زهرة»، أو يفيد منها دون أن يفيدها. والإحساس بنهاية المجتمع الذي تمثل في «بنسيون ميرامار» لا يعني نهاية الحياة، فالحياة قادرة علي التجدد ومقاومة عوامل التحلل والتعفن والاندثار، ولكن كمية الصراعات التي جسدها نجيب محفوظ في هذا النص جعلت الشخصيات تتخيل وكأن الحياة علي وشك التوقف، لذلك كان وجود «زهرة» في البنسيون بمثابة النغمة المناقضة لكل النغمات الأخري الموجودة في حيز البنسيون وما حوله، والتي تمثلت في سلبية عامر وجدي واندثاره، وشماتة طلبه مرزوق واجتراره لأمجاد الماضي، ونقمة حسني علام ومحاولته التمشي مع الأوضاع الجديدة دون جدوي، وانتهازية سرحان البحري ونرجسيته إلي حد الاستهانة بكل الأخلاقيات، وتعلق مدام «مريانا» بتلابيب أمجاد الماضي أيام الإنجليز والاحتلال والملكية، وتطلعات محمود أبوالعباس الطبقية ونجاحه في شراء مطعم بنايوتي وإيمانه بأن المرأة مخلوق ناقص. كل هذه النغمات المناقضة لوجود «زهرة» اندثرت أو كادت بنهاية الرواية لأنها كانت تحمل في داخلها الكثير من عوامل الانهيار والتحلل. أما «زهرة» فهي الشخصية الوحيدة التي تعرف طريقها دون تردد أو حيرة، واستطاعت أن تقاوم هجمات ومحاولات كل من طلبة مرزوق وحسني علام ومحمود أبو العباس، حتي عندما مال قلبها إلي سرحان البحيري لم تسلم قيادها إليه عندما اكتشفت أن كل ما يريده منها هو اللذة الوقتية والمتعة الحسية، رغم أن «مدام مريانا الأجنبية» كانت تزين لها الاستسلام لنزوات سكان البنسيون حتي ينعموا بإقامتهم ويزداد دخلها في الوقت نفسه. ولا شك أن تجربة الحياة في البنسيون لم تضع هباء بالنسبة لزهرة، فقد استفادت الكثير من الخبرة وسعة الأفق وبعد النظر ونضوج التفكير بحيث حصلت علي أسلحة جديدة تواجه بها المستقبل، وتضاف إلي أسلحتها القديمة المتمثلة في الذكاء الفطري والإرادة القوية والثقة في النفس واحترام الذات والتمسك بأهداب العلم والمعرفة، لذلك يضع «عامر وجدي» اللمسة النهائية من الرواية: «ها هي زهرة كما رأيتها أول مرة لولا مسحة من الحزن أنضجتها الأيام الأخيرة أكثر مما أنضجتها أعوام العمر السابقة جميعًا. تناولت الفنجال من يدها وأنا أداري انقباضي بابتسامة».

ولعل المنهج الرمزي الذي اتبعه نجيب محفوظ في «ميرامار» يمتاز بالخصوبة الدرامية بمعني أن الرمز لا يفرض علي الشخصية أو الموقف بقدر ما يسهم في بلورتها وتجسيدها، فالقارئ يدرك تمامًا أن «زهرة» ترمز إلي مصر رغم أن الكاتب لم يذكر هذا صراحة أو تلميحًا، ولكن منهجية الرمز من خلال الصراعات والمواقف الدرامية تؤكد لنا هذه الدلالة.

إذ إن «زهرة» كانت السبب الكامن وراء كل هذه الصراعات الموجودة داخل البنسيون وخارجه، أو كما يقول «عامر وجدي»: كان الجميع يميلون إليها فيما اعتقد، كل علي طريقته (ص 65)، حتي إن سبب وجود زهرة نفسها داخل البنسيون كان هو طبيعتها الريفية العفوية التي كانت سببًا في طمع الجميع فيها، ومحاولة جدها أن يزوجها لرجل في سن أبيها، وفي الحوار التالي بينها وبين شقيقتها وزوجها عندما حضرا إلي البنسيون في محاولة لإرجاعها للقرية مرة أخري، دليل علي الرمز المتجسد في شخصية «زهرة»:

كان الرجل يقول:

ـ حسن أن تذهبي إلي المدام ولكن عار أن تهربي.

وقالت أختها:

- فضحتنا يازهرة في الزيادية كلها.

فقالت زهرة بغضب وحدة:

ـ أنا حرة ولا شأن لأحد بي.

ـ لو كان جدك يستطيع السفر.

ـ لا أحد لي بعد أبي.

ـ يا للعيب.. هل كفر لأنه أراد أن يزوجك من رجل مستور؟

- أراد أن يبيعني.

- الله يسامحك.. قومي معنا.

- لن أرجع ولو رجع الأموات. (ص68).
في مثل هذا الحوار تبدو شخصية زهرة القوية وإرادتها الحديدية التي رفضت الرجوع إلي مجتمع القرية العفن، وهي الإرادة الحديدية التي كانت الشرارة التي اندلعت منها كل الصراعات حتي نهاية الرواية. فمثلاً نجد منصور باهي يقول: «إن الأحداث التي تقع في البنسيون تكفي قارة بأكملها، وحدث قلبي بأن زهرة محورها كالعادة» (ص 183).

لعل هذه الإطلالة الخاصة برواية «ميرامار» والتي فجرها الموقف التي وقفته الدكتورة يمني العيد والأستاذ محمد دكروب وأنا أمام المكان والبناية التي كان موجودًا فيها بنسيون «ميرامار» كان هو الذي أعاد إلي الأذهان شخصيات الرواية والبحر والبنسيون وهذا العالم الزاخر من الصراعات والمواقف الباحثة عن القيم الحية في حياتنا الاجتماعية، وفي تقديري أن شخصية «زهرة» وهي نموذج فريد في أدب نجيب محفوظ بل إنها أول فلاحة تتحرك في رواياته تبحث عن الاستقرار والأمان علي كثرة النماذج النسائية في أدبه، إنما كانت تمثل الرمز الحي لنفس المكان المستوحاة منه الرواية وهو الإسكندرية.

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:32
الأنثروبولوجي
في أدب نجيب محفوظ
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////

عماد الدين عيسي

تمثل البيئة الشعبية القاسم المشترك الأعظم في أغلب إبداعاته الأدبية، فالبيئة الشعبية كذلك في زحام الحياة بكل ما تحتوي من معالم وأبعاد وأعماق، فالبساطة تسود المظاهر المحيطة، كما أنها تجمع السواد الأعظم الممثل لنمط الشخصية المصرية، سواء في أصالتها أو دلائل انتمائها، فهي تشمل أولاد البلد، والطبقة المتوسطة، كما يكون في قيعان الأحياء الشعبية حياة الطبقة الدنيا.

«وقد وطد نجيب محفوظ نفسه منذ البدايات علي ارتياد هذه البيئة وعايشها، ورصدها رصدًا لماحًا يستشف المعني والفكر وراء الظاهرة الحديث والشخوص» (1).

ولذلك الرصد تأثير بالغ علي إبداعاته ـ عند استرجاعها ـ سواء في الرواية أوالقصة القصيرة.. ولقد أمضي «نجيب محفوظ» مراحل حياته الأولي معايشًا لحي شعبي إلي آخر أكثر أصالة وعراقة في شعبيتها وسماتها الأخلاقية إلي العادات وأساليب....

«كذلك قد استوعب نجيب محفوظ أخلاق البيئات الشعبية، الكرم وإكبار الشيوخ وتوقيرهم والسماع عن تفوقهم ثقافة ودروسًا، والقناعة بالموجود واحتمال الأذي والطاعة لكلامهم والإسراف في الشهوات وإيثار أولادهم وزوجاتهم، وذريتهم علي أنفسهم، كما تبرز في الأحياء الشعبية العادات والتقاليد الدخيلة علي الإسلام، فتكثر الأضرحة والدراويش والموالد، وأصحاب الطرق الصوفية ومظاهر الاحتفال بالمواسم والأعياد ومجالس الظرفاء والسمر والمتأدبين وشاعر الربابة ونافخ الأرغول، إلي ظهور الجرامفون والراديو» (2).

ولذلك فإنه يمكن ـ في مناخ الحارة ـ رصد الفكر الإنساني مجسما، فإن المعاني المطلقة المجردة مثل الخير، والشر، الفضيلة، الرذيلة، الملائكة، الشياطين، يمكن تحسسها مباشرة في مواقف تستحق الجزاء، أو العقاب، الحسنات والسيئات، الشرف والخيانة، ومن ثم يمكن تقديم الأنماط بمدلولاتها التي لا يختلف عليها أهل الحارة.

التوظيف المحفوظي للحارة

بل إن نجيب محفوظ عندما يستلهم بنائية الحارة الاجتماعية والثقافية ويوظفها لأفكاره ومعتقداته فهو يطبعها في قالب أدبي تعني بالفكر وتعني بالرؤية الشمولية.. التي تجعل الحارة في مصر الحي الخلفي في مدينة عالمية.. بل عندما يغوص إلي أعماق الحارة حيث الخرائب، لا يبعد بها هذا عن الغجر في أوروبا وإفرازاتهم علي البيئة الدنيا في المدن العليا.

وإن استعراض القوة السائدة في تلك البيئات أمر لم يغفله نجيب محفوظ، فالنزال في الحارة ومعاركها في فتواتها مادة جاهزة لتلعب الشوم والنبابيت دورها في الإجهاز علي الخصوم، وهي أيضا الصورة للمعارك في الأحياء الخلفية المظلمة في المدن العليا في العالم المتقدم، وهذا ما نراه في ملحمة الحرافيش، وغيرها، كما لعبت فيه «الفتونة» هذا الدور، وكانت المقاهي مسرحا لمثل هذه المعارك والخصومات.

إنها التوظيف المحفوظي لما ذهبنا إليه، ألا وهو إبراز المعاني المطلقة في أخلاقيات الحارة.. بل المجتمعات الإنسانية ككل، ومن ثم فهو يقول «المعارك في رواياتي ضرورية لأنها تعكس الصراع بين الخير والشر وهو جوهر الحياة».

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:33
وهكذا نجد أن الحارة مكان شمولي، بل عالمي في أدب نجيب محفوظ، إنها شريان الأحياء الشعبية، ولذلك فإنها في حي الحسين لعبت هذا الدور سواء في الثلاثية وغيرها.

ولذلك فإن الحارة المصرية بمعناها الشمولي لا تكون بهذا النمط إلا إذا كانت كائنا شعبيا أصيلا.. وتمثل عينه عشوائية للسلوك الإنساني بطبيعته المتسمة بالتلقائية.

ومن ثم لعبت الحارة المصرية في أدب نجيب محفوظ دورًا مؤثرا في أعماله الأدبية البارزة «حكايات حارتنا» التي صدرت عام 1975 والتي سبقها بروايته «الكرنك» عام 1974 تلعب الحارة دورًا رئيسيا في المجتمع المصري، بل أرادها نجيب محفوظ البديل الموضوعي له لأكثر من سبب... أولهما كما ذكر أنها تمثل التركيبة الشمولية البنيوية للمجتمع المصري في نواته الأصيلة.. ثانيا أنه قد عاش هذه البيئة، ولم ينفصل عنها خلال مراحل إبداعه... ومن ثم فهو قد مضي برؤيته الخاصة ليرصد مؤشرات التغيير الاجتماعي داخل هذه البيئة، خصوصا أنه يتلقف منها أنماط الشخصيات الروائية المألوفة للمتلقي مثل «عباس الجحش، الصعلوك، والمتسول، ابن عيشة».

وأن تأمليات نجيب محفوظ في البيئة الشعبية، ورصد المستجدات والمتغيرات، هو ما حقق ما عرف به نجيب محفوظ كصاحب مذهب في الإبداع الأدبي، وهو الواقعية الجديدة، والتي يبسطها مقاربا بينها وبين الواقعية التقليدية.. فيبرزها اتجاهه:

«الواقعية الجديدة الباعثة علي كتابه أفكار وانفعالات معينة تتجه إلي الواقع لتجعله وسيلة للتعبير عنها (3) ومن ثم فإن الحرية عند نجيب محفوظ هي الوسيلة والغاية تكمن فيما تتفجر عنه المعاني والأفكار التي تستغرق شتي المسائل والقضايا الثقافية بالمعني الشمولي للمصطلح: الدين والسياسة والاجتماع إلخ....

فالحارة تقدم زحفا لعلاقات أصيلة لا تنسي، وهذا ما نلمسه في روايته «قلب الليل»

«قلت وأنا أتفحصه باهتمام ومودة:

ـ إني أتذكرك جيدا.

انحني فليلا فوق مكتبي وأحد بصره الغائم، وضح لي من القرب ضعف بصره نظرته المتسولة، ومحاولته المرهقة لالتقاط المنظور. وقال بصوت خشن عالي النبرات يتجاهل قصر المسافة بين وجهينا وصغر حجم الحجرة الغارقة في الهدوء:

ـ حقا!!.. لم تعد ذاكرتي أهلاً للثقة، ثم إن بصري ضعيف.

ـ ولكن أيام خان جعفر (4) لا يمكن أن تنسي.

ـ مرحبا، إذن فأنت من أهل ذلك الحي (5)!

قدمت نفسي داعيا إياه إلي الجلوس وأنا أقول:

ـ لم نكن من جيل واحد ثمة أشياء لا تنسي فجلس وهو يقول:

ـ ولكن أعتقد أنني تغيرت تغيرًا كليا وأن الزمن وضع علي وجهي قناعًا قبيحًا من صنعه هو لا من صنع والدي!».


وما لمسناه في «حكايات حارتنا» وفي «قلب الليل» يستوقفنا أيضًا في روايته «زقاق المدق» (6)

فكما جعل نجيب محفوظ الزقاق عنوانا لروايته الشهيرة، فأيضًا جعله مكانًا تنطلق منه ـ برغم محدويته المكانية ـ السلوكيات وردود فعل الحياة عند الطبقة المتوسطة، التي تكمن في ذلك الزقاق، ففيه تناقضات المجتمع أو الصراع بين واقعين الأول تقليدي والثاني بواقعه الجديد.. وتصبح قهوة «المعلم كرشة» ساحة بما يدور فيها من حوار وعلاقات للكشف عن التغيير الذي يأتي سريعًا علي المجتمع المصري إبان الحرب العالمية الثانية، بل جعل نجيب محفوظ من الزقاق مسرحًا يجمع بين المتناقضات الاجتماعية والاقتصادية، إلي أنماط تتورط مع سائر أشكال الفساد والإفساد داخل الزقاق.

ونجد أن نجيب محفوظ لا يكاد يفلت نمطًا يتلاءم مع مناخ الزقاق، أو قل إنك لا تجد هذه النوعيات إلا في الأزقة مثل زيطة صانع العاهات للشحاذين، وفرج القواد، والمعلم كرشة.

كما تلعب الحارة دورها في إعداد الساحة التي تدور فيها رواية «بداية ونهاية»(7) وكذلك نوعية شخوصها، فإن «عطفة نصر الله» مثل «زقاق المدق» تحفل بأنماط الطبقتين الشعبية والمتوسطة وكلتاهما تحاول التوحد، خصوصا في فترة تاريخية اقتصادية طاحنة.

وإذا عدنا لملحمة الأجيال في الثلاثية سنجد أن جزءها الثالث يحمل عنوان «السكرية»، هو اسم حارة قدم من خلالها الجيل الثالث للسيد أحمد عبد الجواد، ففيها بيت خديجة.. حيث تدور أبرز الأحداث في المجتمع المصري في الفترة من عام 1935 حتي عام 1944.

وشاء نجيب محفوظ أن نري سائر التحولات الفكرية من خلال أبناء حارة السكرية، فتنمو الأفكار الجديدة وتبرز عن جيل، منه من يتبني أفكار الإخوان المسلمين، وآخر تجذبه الأفكار الشيوعية، ونوع ثالث يجعل من السياسة لعبة ليحقق مأربه.

إنه خضم الأفكار التي تتصارع في مناخ يتجه نحو التغيير والتجديد...

وأمر طبيعي أن يكون حال الشباب علي هذا الوضع، فالحرب العالمية لم تجعل لمصر دورًا تحرريا حقيقيا، حتي تبدأ مرحلة بناء المجتمع الجديد، فالانتصار للمتبوع وظلت حقوق التابع في الحرية معلقة، فما أسهل أن ينغمس الشباب في خضم صراعات الفكر.. هذا ما نرصد في حارة «السكرية».

ولعل أروع أنماط الحارة المصرية ما حفلت به ملحمته «الحرافيش» فتحتشد بنوعيات بشرية ترعرعت في حواري مصر القديمة فجاءت نماذجه الشعبية مصداقًا لهذه البيئة من خلال حكايات هذه الملحمة.

وإطلالة علي حرافيش نجيب محفوظ، خصوصًا حكاية عاشور الناجي سنجد أنها دعوة للثورة علي التسلط بدأت من الحارة أيضًا.. فلنتأمل هذا الحوار الذي يدور بين أولاد الحارة.

«وذات يوم طرح عاشور هذا السؤال علي الحرافيش:

ـ ماذا يرجع حارتنا الي عهدها السعيد؟..

(يقصد مواجهة الفتوة المتجبر شيخ الحارة حسونة السبع).

وأجاب أكثر من صوت:

ـ أن يرجع عاشور الناجي.

فتساءل باسما:

ـ هل يرجع الموتي؟

فأجاب أحدهم مقهقها:

ـ نعم.

قال بثبات:

ـ لا يحيا إلا الأحياء.

ـ نعم أحياء ولكن لا حياة لنا.

سأل:

ـ ماذا ينقصكم؟

ـ الرغيف.

ـ بل القوة.

ـ الرغيف أسهل منالا.

ـ كلا.

وسأله صوت:

ـ إنك قوي عملاق فهل تطمح إلي الفتونة؟

فقال آخر:

ـ ثم تنقلب كما انقلب وحيد جلال وسماحة.

وقال ثالث:

ـ أو تقتل كما قتل فتح الباب.

فقال عاشور:

ـ حتي ولو صرت فتوة صالحا.. فما يجدي ذلك؟....

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:34
إننا نري خلال هذه البانوراما للأنماط الشعبية في حوارها الجمعي.. ليست مجرد الحارة الخاصة كما زعموا، ولكنهم كل حارة وكل حي وكل مكان من أرض مصر..

وتصلح الحارة أيضًا ـ عند نجيب محفوظ ـ ليترجم من خلالها رؤية الحاكم للشعب، وذلك من خلال سلوك «مراد عبد القوي» شيخ الحارة مع أهل الحارة (8) فهم في نظره ليسوا غير مجرد أرقام ونسب إحصائية في ماكينة العمل والإنتاج، أما القلب، والعقل.. فلايقاس إليهما شيء ولنتابع هذا الحوار عندما راح عبدالقوي يحاور عبد الله كصديق:

ـ الحارة شيء وأهلها شيء آخر..

ـ ...........

ـ............

وبعد الصمت يعاود عبدالقوي:

ـ الحارة كل لا يتجزأ وليس من العسير أن أعرف ما ينقصها وما يضرها، أما أهلها فأفراد لا حق لهم وتتعدد مشكلاتهم بتعدد أهوائهم.

يقول عبدالله:

ـ ليس ثمة يقين؟

ـ بلي.

ـ مجرد احتمال؟

ـ نطقت بالصواب.

واذا كانت أمريكا اللاتينية ـ اليوم ـ تعد من دول العالم الثالث تصنيفا، وثقافيا بالمعني الاصطلاحي العام، فإنها شقيقة لكل دول العالم الثالث في تلك السمات.. ومنها إفريقيا، وبما يحمله تاريخ أمريكا اللاتينية يؤصل وجودًا للثقافة الإفريقية يعود إلي القرن السادس عشر.. ومثل ذلك جذورا وروافد في الأدب اللاتيني.

فهنا وهناك قد تأثر الأدب بعالم الفقراء وهو المعني المراد للعالم الثالث، والتفسير المباشر لمغزاه وهذه الثقافة عمومًا في جذورها العميقة لن تنفصل عن الروافد التي نجحت الحضارة الإفريقية في بثها.

في إطار الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا التطبيقية.. فالإنسان أثنولوجيا (9) ما هو إلا قوة وهذه القوة قد وعتها فنية الإبداع المحفوظي، فكانت دينامكية بالمعني الشمولي للإنسان بغض النظر عن الجزئيات والتفاصيل المحلية، وهكذا جاءت أبرز شخوص رواياته، فإن محجوب عبد الدايم نظير لنمط في ثقافات أخري، والسيد عبد الجواد نظير لنمط نلقاه في المرحلة الرعوية للمجتمعات التقليدية.

القوة الكامنة في الزمن

وهذا المفهوم أيضا يصدق علي الأشياء المادية، فهي قوة فاعلة مثل ظاهرات الحضارة المتمثلة في الموروث والمبتكر منها، كما أن المكان والزمان قوتان، وهذا المفهوم الضارب في أعماق الحضارات بدءًا من البدائي والقبلي، متغلغل بأنماط مهذبة بفعل التطور والتغيير، وهكذا نجد أن المكان والزمان (الحارة والحدث الأول شاملاً المناخ الحيوي والمكاني). والثاني هو التقلبات، فإن الزمن كقوة أيضا هو عنصر حيوي لعب به نجيب محفوظ لإبراز التغيير وعدم الثبات، هكذا حدث في «حضرة المحترم» وقد سبق عليه، عندما لفظ المجتمع عازف الربابة كما في «خان الخليلي» فقد جاء عصر الراديو.

إن الحدث يوازي الزمن، والزمن يعني وقوع الحدث إن لم يكن صيرورته...

ـ وبالنسبة المئوية لكلا الاحتمالين؟

ـ نقل 50%

ـ 50%

وهكذا يصل بنا نجيب محفوظ إلي الحقيقة البشعة، كما وصل بها إلي عبد الله، وكشف عن مأساة الشيخ مروان والأستاذ عنتر...

لذلك إذا سئل عبد الله:

ـ وهل أنت سعيد؟.

فابتسم عبد الله ابتسامه لا تخلو من حزن وقال:

ـ بنسبة لا تقل عن 50%

والحارة أيضًا مسرح لأفكار مطلقة (10)، من قصته الحوارية «التركة» يوظف الحارة لها.. فهي التي يمكن أن يكون فيها ولي الله ويعود الابن، بعد زمن باحثا عن تركة الولي الصالح، ليجعل أكداسًا من الكتب تمثل الإرث المعنوي أو الروحي، وأموالاً تشغله عن الموروث الديني، وبينما هو في غمرة الانشغال بالمادة، يقتحمه رجل يدعي أنه من الشرطة، ويدور الصراع، ويقبض عليه وفتاته ويثبتهما بالقيد، ثم ينهب الأموال والكتب أيضا.

ولذلك مدلول وظفت فيه عناصر بشرية تنسجم مع عناصر المكان ويكشف عن المدلول البعيد.. رجل الشرطة بهيأة اخري ليحول بيت ولي الله إلي مصنع إلكترونيات.

وبذلك فالسلطة قد استولت علي كل شيء: التراث الروحي، المادي، العلم... والكل مجرد حالات فردية لا وزن لها...



هوامش

1ـ مواليد عام 1912 في درب القرمز ـ حي الحسين.

2ـ يوسف السباعي فلسفة قلم وحياة ـ عمادالدين عيسي ـ هيئة الكتاب ـ 1987 .

3ـ مجلة المجلة ـ عدد يناير 1963 .

4ـ حارة متفرعة من شارع بين القصرين.

5ـ يقصد حي الحسين الذي عايشه نجيب محفوظ.

6ـ صدرت عام 1947 .

7ـ صدرت عام 1949 .

8ـ حارة العشاق. قصة قصيرة.

9ـ في إطار الثقافات الإنسانية الحالية معتمدة علي الأنثروبولوجيا.

10ـ نشرت ضمن مجموعة «تحت المظلة»

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:38
التحليل الإبداعي
للنص الأدبي
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
نموذج تطبيقي: رواية قلب الليل

الدكتور مصري حنورة

التحليل الإبداعي للنصوص الأدبية هو منحي أو اتجاه حديث في دراسة الظاهرة الإبداعية من خلال استثمار نتائج دراسات السلوك الإبداعي في تحليل المنتجات الإبداعية باعتبار أن المنتج الإبداعي هو عينة صادقة وممثلة للكفاءة الإبداعية للأديب، خاصة إذا كان الأديب ذا قامة كقامة نجيب محفوظ.

(حنورة 998:2002)

وعالم نجيب محفوظ عالم متسع الجوانب فسيح الأرجاء، كما أن شخصيته (وما يتعلق منها علي وجه الخصوص بسلوكه الإبداعي) علي درجة من الخصوبة والثراء بما يغري ببذل الجهد للاقتراب من أوجهها ذات التأثير المباشر علي مسار العملية الإبداعية لديه، وهذا الأمر هو الذي يجعل للحديث الذي يقترب من نجيب محوفظ مبدعًا مشروعيته ووجاهته، ولكن ربما من الملائم ـ قبل الاقتراب من نجيب محفوظ مبدعا ـ أن نحدد ماذا نقصد بالإبداع علي وجه التحديد في هذا السياق.

والإبداع ليس مجرد كلمة نطلقها علي شخص أو علي منتج لنصف بها هذا الشخص أو هذا المنتج، إن الإبداع أعقد من ذلك، وأكثر تركيبا، وأشد عمقاً، وهو ـ كما أشرنا إلي ذلك في أكثر من دراسة سابقة ـ له أبعاد متعددة، وخصائص متنوعة، كما أنه يمكن أن يكون رحلة يقطعها المبدع، سواء علي مدي عمره كله، أو وهو بإزاء الإعداد والإنجاز لعمل من الأعمال الفنية أو العلمية أو غير ذلك من أعمال (سويف، 1970، حنورة، 1979، 1990، 1998، 2000، 2002، 2003).

وسوف نلاحظ أن الأبعاد التي تدخل في التأثير علي فعل الإبداع، والتي سبق أن قمنا باستعراض خصائصها في مواضع أخري، هي أبعاد معرفية ووجدانية وتشكيلية جمالية واجتماعية وثقافية (فضلاً عن الخصائص الفسيولوجية للإنسان المبدع)، ولكن ما العلاقة بين هذه الأبعاد؟ وكيف تتفاعل فيما بينها لتنتج في النهاية هذا العمل الإبداعي أو ذاك؟ هذا ما يفسره لنا مفهوم الأساس النفسي الفعال.

الأساس النفسي الفعال لدي المبدع هو محور العملية الإبداعية:

في اعتقادنا أن محور العملية الإبداعية هو المبدع نفسه، وما يتفاعل داخله من خصائص ومقومات وإمكانات، صحيح أن هذا المبدع ولد في بيئة معينة، وورث عن ذويه خصائص بعينها، وتشرب من المجتمع قيمًا ومبادئ وعادات خاصة بهذا المجتمع الذي نشأ فيه، كما أن التدريبات التي يتلقاها هي كذلك ذات ملامح اجتماعية.. إلخ، إلا أن كل ذلك ينصهر في النهاية في بوتقة هذا المبدع ويخضع ـ إلي حد كبير ـ لإرادته وممارساته، ومن ثم فإن المبدع يصير مسئولاً مسئولية مباشرة عن كل ما يصدر عنه من إنتاج، خصوصا إذا ما كان لإنتاجه وجه إبداعي.

وليس ثمة مبالغة منا في هذا القول، خصوصا إذا ما أخذنا في الحسبان أن هناك من يربط ربطا مباشرا بين الإبداع والحرية من ناحية، وبين فعل الإبداع والوعي الكامل لدي المبدع من ناحية أخري، وبإيجاز أقول: إن هناك إجماعا علي وجود علاقة وثيقة بين وعي المبدع وسلوكه الإبداعي: (Barron, 1958 عيسي 1979، حنورة 2003).

وإذا نظرنا إلي السلوك الإبداعي المتكامل، ذي الوحدة المتفاعلة غير المتجزئة، إذا نظرنا إليه نظرة ميكروسكوبية، فإننا سوف نميز فيه علي كل بعد من الأبعاد الأربعة الأساسية عدة وحدات صغري تشكل في مجموعها طبيعة هذا البعد أو ذاك.

والمحاور الأساسية في السلوك الإبداعي، بل في جميع أنواع السلوك، هي أبعاد توجد بوصفها إمكانات للفرد منذ بداية عمره، وتظل تتطور معه من طور إلي طور، ومن مرحلة إلي مرحلة، إلي أن يتقن نوعا ما من أنواع الأداء الإبداعي.. ومن نقطة هذا الإتقان يبدأ التركيز علي امتلاك مساحة من مملكة الإبداع، يسيطر عليها، ويسوس فيها رعيته، ويخاطب منها أولئك الذين يحاول استمالتهم ليكونوا ضيوفا أو رعايا أو حلفاء لهذه المملكة، وحين يحكم المبدع سيطرته علي مملكته، فإنه يكون قد مر برحلة من الكفاح والمعاناة والسقوط والارتفاع، ولكنه دائما ملك مهدد، لأن الرعايا دائما بحاجة إلي ملك جسور يرتاد بهم آفاقا جديدة، يأتيهم بالجديد والمثير، وإلا هجروه إلي ملك آخر، فيكون هذا الهجر سببا في السقوط الدرامي للمبدع الذي لا يوفق في المحافظة علي ولاء رعاياه.

نجيب محفوظ ومملكة الإبداع:

نجيب محفوظ كان جسورا، دائمًا يرتاد بنا مهجور الآفاق وأبرز مثال علي ذلك ما قادنا إليه في روايته «رحلات ابن فطومة»، وعلي الرغم من أن الآفاق التي يقودنا إليها نجيب محفوظ آفاق مهجورة، أو قل إنها آفاق جديدة، فإننا ـ لدهشتنا ـ نفاجأ حين نقتاد إليها، أنها ليست آفاقا غريبة، وأنها ليست إلا بيوتا عشنا فيها زمنا، بل يخيل إلينا أننا لم نبرحها قط، ونتعجب كيف أمكن لهذا الكاتب أن يعلم عنا ما لا نعلم، وكيف زار ربوعنا القديمة نفسها التي نسينا أننا عشنا فيها يوما. وهذا هو دافعنا إلي محاولة الاقتراب من هذه المملكة، في محاولة للكشف عن إحدي خصائص السلوك الإبداعي عند نجيب محفوظ، ألا وهي خاصية الأصالة: تلك الخاصية التي تمثل موقعًا بارزًا علي امتداد البعد المعرفي من وحدة الأساس النفسي الفعال الذي سبقت الإشارة إليه. فلنقترب معًا قليلاً من هذه الخاصية، بقدر ما تكشف عن نفسها في رواية «قلب الليل».

الأصالة وإعجاز الإيجاز في رواية قلب الليل:

لنتفق مبدئيا علي أن نجيب محفوظ مفكر قبل أن يكون فنانًا، ولكنه لا يكتب أساسًا بحثا عن قيم جمالية، أو استعراضا لأساليب بلاغية، وإن كان هذا يتم دون عمد منه، كذلك هو لا يهتم في المقام الأول بأن يقدم تطويرا لتكنيك فني، حيث إن كل ذلك خارج عن دائرة اهتمام هذا المبدع، فشاغله الأساسي هو قضايا مجتمعه وهموم الإنسان، أي أنه ـ وفقا لمنظورنا ـ يغلب عليه الجانب المعرفي ومن ثم فإن العائد الإبداعي غالبا ما يحمل مضمونا فلسفيا. وهو يحاول ـ من خلال أعماله الإبداعية ـ أن يطرح علينا قضية ويدعونا إلي أن نعيش معه رحلة البحث عن إجابة عن سؤال هذه القضية، أي أن الكاتب يعمل من خلال وسيط معرفي أقرب إلي تجريدات الرياضة وقضايا المنطق، لا تزيّد فيه ولا نقصان. وتكمن براعة الكاتب في أنه يصب هذا كله في إطار فني أخاذ، يحطم أسلحة مقاومتنا ويعبر فوق بعض القصور العقلي لدي بعضنا بحيث يغيرنا، فنجد أنفسنا وقد عشقنا العمل علي الرغم مما فيه من تفلسف وتعاطيناه علي الرغم مما لطعمه من مذاق غريب، وهنا تكمن براعة خاصية إعجاز الإيجاز التي هي جوهر خاصية الأصالة عند نجيب محفوظ.

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:39
الأصالة وإعجاز الإيجاز والإبداع:

العمل الفني حين يبدأ لا يبدأ واضحًا بكل أبعاده وتفصيلاته في ذهن المبدع، فليس كل ما يخرج من قلمه يكون جاهزا في ذهنه منذ البداية، ولو أمكن العثور علي وسيلة نرصد بها مقدمات تفكير هذا المبدع كما توجد داخل عقله لوجدنا أن الصورة التي نحصل عليها ليست متطابقة تمامًا مع ما أفرزه الكاتب وتحقق علي الورق بعد ذلك في عمل فني، فمن بين فيض لا أول له ولا آخر من التهويمات والأخيلة والصور والأفكار.. إلخ، نجد أن ما تحقق في الواقع علي الورق أقل من القليل. وحين يتمكن المبدع من اختصار المقدمات المطولة، والتفصيلات الكثيرة التي يقدم بها بين يدي عمله لكي يتمكن من خلالها من الاقتراب من موضوعه، أو لاستحضار الخيط الأساسي حين يوفق إلي اختصار كل هذا الحشد الهائل من الأفكار الجزئية والتفصيلات الثرثارة، فإننا سوف نجد أنفسنا أمام كاتب مقتدر، لديه الجرأة علي تخليص عمله مما لا يخدمه، غير آسف علي اللحظات التي ضيعها في البحث والتجريب واستنبات الأفكار وطرح القضايا. وجزء كبير مما يحذفه الكاتب ـ سواء حذفه من فكره قبل أن يسجله، أو حذفه من الورق بعد أن سجله ـ كان من الممكن أن يقود خطاه إلي طريق آخر غير ما تحقق وأنجز، وهذا الجزء المحذوف إنما يتم حذفه أو استبعاده بصعوبة وأسف، والكاتب المبدع هو الذي لا يأسف طويلاً علي ما استبعد، ولا يندم بعمق علي ما حذف، لأن ما يتبقي بعد ذلك سوف يكون كالذهب الخالص من الشوائب، النقي من التزيد والحشو غير المفيد.

Amabile,1982,Bournoet.al,1979,Schaffer,1975,Sternb erg,1982:(Gulford,1978).

ونجيب محفوظ في أعماله المتعددة كاتب لا يحب التزيد، وهو حين يصوغ أفكاره، فإن هذه الأفكار تطل موازية تماما للقوالب اللغوية التي وضعت فيها، ومن هنا يأتي ما نطلق عليه في هذه الدراسة مصطلح إعجاز الإيجاز.

والإيجاز الذي نتحدث عنه في هذا السياق ليس مجرد اختزال أو تلخيص أو قفز فوق التفصيلات الأساسية التي تشعرنا برائحة المعاني ومذاقها وملمسها، كلا، فإن نجيب محفوظ من أكثر المبدعين حفاظًا علي هذا البعد الجوهري في الإبداع الفني اللغوي، إنه ـ كما يقرر روزنبلاتة وجوزيف كونراد (حنورة، 1981) ـ واحد من أولئك الذين يجعلونك تحس بما تقرأ فتري شخوصًا لهم رائحة وملمس.

إن الكلمات ـ عنده ـ تلامس حواف الأشياء ملامسة لا تقف عند مالا يفيد ولا تغري بالانسياق وراء أحلام اليقظة، ولا تصرف القارئ عن جوهر الموضوع المطروح، وإذا قدم شيئًا من ذلك (أعني التفصيلات والحواشي والجزئيات) فهو إنما يفعل ذلك عامدًا إلي تعميق الإحساس وليس إلي تشتيت التركيز الذهني، وهي مهمة من أصعب المهام لكاتب روائي مهمته الأساسية هي السرد وإيراد التفاصيل.

الجمع بين تعميق الإحساس والتركيز الذهني حول المعني المطروح ـ ذلك هو المفتاح الجوهري في تقديرنا للكفاءة الإبداعية عند نجيب محفوظ، وهو المفتاح الذي أطلقنا عليه اسم إعجاز الإيجاز ـ بالمصطلح السيكولوجي ـ مفتاح الأصالة التي تعني الجدة والطرافة وعدم التكرار والملاءمة لمقتضي السياق Guilford,1971:Stein,1975)) وبهذا المعني فإن مفهوم الأصالة يصبح مرادفًا في السياق الحالي ـ إجرائيًا ـ لمفهوم إعجاز الإيجاز، وسوف يكون استخدامنا لهذين المفهومين تبادليًا.

نموذج تطبيقي: رواية قلب الليل:

أصدر نجيب محفوظ هذه الرواية سنة 1975، وهي تقع في نحو 27 ألف كلمة، ومن ثم فمن الممكن أن نسميها قصة طويلة قصيرة، أو رواية قصيرة.. وعلي الرغم من قصرها فإنها تحلق بنا في آفاق شاسعة، وتغوص بنا إلي أعماق سحيقة.

وخلاصة القصة أنها ترسم بنوع من التكثيف والإحاطة شخصية شخص متمرد طيب، واحد من الملايين الذين يعيشون مأساة الاغتراب النفسي Alienation في هذا العصر، يحمل بين جنبيه قلبًا لا يكف عن التمرد، وعقلاً لا يتوقف عن المشاكسة، إنه شخصية لا تقنع بما هو قائم، وتتطلع دائمًا إلي عبور اللحظة الراهنة.

الماضي لا يهمه، وإن كان ما يحدث له هو من معطيات هذا الماضي من غير أنه يترك هذا الماضي وراء ظهره وينظر إلي الأمام، وله منطقه الخاص في التعامل مع وقائع الحياة، ذلك المنطق المرن الذي يلائم ما يرغب إسكانه فيه من تهاويم.

وعلي الرغم مما أصاب جعفر الراوي، بطل القصة، من كوارث، وما تعرض له من أهوال، فإنه كان دائمًا قافزًا فوق الأسوار، متحركًا خارج الحدود، صلبًا لا يلين أمام خوف، غير هياب أمام المخاطر، لا يوافق حبًا في الراحة أو طمعًا في الاستقرار.

تحكي القصة عن شخص وجد نفسه بلا أب ولا أم، فالأب تزوج برغم أنف أبيه من امرأة بلا حيثية، ولا أسرة لها، فطرده أبوه (جد جعفر الراوي)، وبعد مدة مات الأب (والد جعفر) ثم ماتت أيضًا أمه، وبقي جعفر بلا أم وبلا أب ولكن جده يضمه إليه، ويحاول أن يصوغه علي هواه، ويحاول الولد، الذي كان قد تشبع بجو العلم والأسطورة والتهويم، قبل أن يلحق بجده ـ يحاول أن يتكيف مع جده ومع رغباته، ولكنه حين يصل إلي مرحلة البلوغ يجد نفسه في مثل موقف أبيه، يترك جده وثراءه، وما يحيط به نفسه من طقوس، ليتزوج بنتًا بلا حيثية، تنتمي إلي جماعة هامشية متنقلة، فينجب منها طفلاً، ولكنها بعد مدة تمله فتهجره وتتركه، لكن جعفر لا يعاني كثيرًا، حيث إنه كان قد بدأ يعمل سنيدًا في جوقة للغناء، وإن كان بلا موهبة، وفي إحدي الحفلات تعجب به سيدة ثرية فتصطفيه وتتزوجه. عند ذلك يبدأ حياة جديدة، يتعلم، ويحصل علي شهادة الحقوق، ويفتتح مكتبًا للمحاماة، حيث يبدأ ينخرط أو يتورط في الاهتمامات العامة، فكرية كانت أو سياسية، ويصل به الحال إلي أن يؤلف نظرية جديدة في تعاطي الحياة لا تعجب واحدًا من أصدقائه الشباب، كان هو يكبره بعشر سنوات، كان يشعر أن زوجته معجبة به وفي إحدي نوبات الجدل يقتل جعفر الراوي صديقه، ويدخل السجن ليقضي عقوبة السجن المؤبد، ويخرج ليحكي قصته لموظف الوقف، الذي ذهب إليه يطلب مساعدته في الحصول علي نصيبه من أملاك جده التي حرمه منها، إذ أوقفها علي أعمال الخير، ويتضح آخر الأمر أنه لم يبق له من ذلك إلا الخرابة التي اتخذ منها سكنًا وملاذًا. هذه هي قصة قلب الليل.

وحين ننظر في سياق القصة وتفصيلاتها يمكن ملاحظة ما يلي:

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:40
ـ أن الإطار المعرفي للقصة حافل بالأفكار الصور والذهنية التي يسوقها المؤلف علي لسان بطله، دون حاجة منه إلي الاعتذار عن تقديمها، حيث إنها تجيء مطابقة لمقتضي الحال، دون تقصير أو إسراف (بعد معرفي).

ـ العواطف والانفعالات تتخلل العمل، بداية من معرفتنا لجعفر الراوي في مكتب الأوقاف، ومرورًا به رفيقًا لأمه، تطوف به كل حي بحثا عن لقمة العيش بعد وفاة أبيه، وانتهاء بقتله صديقه، وهو في حالة توسل واندهاش (بعد وجداني).

ـ البعد الجمالي، وإن كان غير مسرف في التزين والتأنق إلا أنه الجمال الهادئ الوديع، كالموسيقي الحالمة وهو يحاول أن تكون علاقتنا بالعمل علاقة مودة وصداقة، فنجد أنفسنا وقد أقبلنا علي هذا العمل، تتحقق لنا المتعة الذهنية التي هي إحدي غايات السلوك الاستطيقي.

ـ البعد الاجتماعي في القصة واضح تمام الوضوح في النشأة المضطربة للبطل، وعلاقته بجده، وبالغجر، وبمجتمع المطربين، ومجتمع الانتلجنسيا (المثقفين)، وفي التنبيه إلي أفكار معينة، بحثًا عن حلول لما تعانيه البشرية من انهيار.

هذه هي الأبعاد التي تشكل مفهوم (الأساس النفسي الفعال)، في المنتج الإبداعي نتبناه دعوة لتفسير السلوك الإبداعي، سواء في أثناء قيام المبدع بإنتاج العمل، أو بعد أن يبدعه ويتركه لنا كي ننظر فيه، لنري ما تخلف عن هذا (الأساس النفسي الفعال) من معطيات.

وسوف نهتم في السياق الحالي بالاقتراب من نقطة واحدة علي (البعد المعرفي) هي خاصية الأصالة في التفكير الإبداعي، والأصالة التي نقصد إليها، هنا نشير إلي الجدة وعدم التكرار والملاءمة لمقتضي السياق والسلوك الأصيل، والعمل الفني الأصيل بهذا المعني هو سلوك غير مكرر، لا يقلد ولا يجاري، يقف شامخًا معلنًا عن تفرده وأصالته (نسبة إلي أنه أصل وليس تقليدا)، ومن هنا جاء مصطلح الأصالة، والأصالة أيضًا تشير إلي القدرة علي اختزال التفصيلات وإبراز الجوهر، دون إخلال بالمضمون ولا بالشكل، ومن هنا فهي مرادفة في السياق الحالي لمفهوم إعجاز الإيجاز، ومن ثم فإننا سوف نستخدم المفهومين بالتبادل، إشارة إلي الجدة والطرافة والاختزال والعمق والشمول والنفاذ إلي قلب الأشياء .

إعجاز الإيجاز والأصالة في رسم شخصية جعفر الراوي:

سنكتفي في الدراسة الحالية بالتوقف عند شخصية جعفر الراوي، وهو الشخصية المحورية في رواية قلب الليل، التي عرضنا لها بإيجاز فيما سبق، وقد شخصنا حالته بأنه شخص اغترابي السلوك بالمعني السيكولوجي للاغتراب Alienation

الملامح العامة لشخصية جعفر الراوي:

يقول جعفر الراوي (5، 6):

ـ صدقني سأكافح، لقد حملت حياة لا يقدر علي حملها الجن، فلتكن معركة لن أكف عن القتال، حتي أنال حقي الكامل من تركة جدي اللعين.

ـ ليرحمه الله جزاء ما قدم للخير.

ـ لا خير فيمن ينسي حفيده الوحيد.

ـ ولماذا نسيك؟

ومن هنا يبدأ جعفر الراوي يقص قصته:

نجيب محفوظ يقدم لنا جعفر الراوي في هذا الحيز الضيق بإيجاز معجز، مستخدمًا لغة شاعرية تعتمد علي الاستعارة والتشبيه، ولكنها غير مسرفة في التأنق الأسلوبي.

وهذا النوع من التعبير الفني تم الكشف عنه بوصفه وجهًا من وجوه الأصالة في سياق السلوك الإبداعي، بل إن هناك من الباحثين من يعتبر ـ أصالة الاستعارة وإعجاز الإيجاز ـ هما جوهر السلوك الإبداعي.

(Schaffer,1975,Sternberg,1982)

وجعفر الراوي الذي يقدم نفسه لنا في هذا الحيز الضيق، وبهذا الإيجاز المعجز، يمكن أن نلمح فيه ما يلي:

1) الإصرار والتحدي في الوقت الراهن.

2) تاريخاً حافلاً بالمقاومة والتحمل والعناد.

3) استعدادًا للشجار مستقبلاً.

4) عدم المجاراة أو الخضوع لمعايير المجتمع في احترام الأسلاف أو توقير الموتي ولنلاحظ هنا شخصية الإنسان الاغترابي Alienated

ويقول (ص9):

«لي أبناء قضاة وأبناء مجرمون.. رغم ذلك فإني وحيد.. أسمع، رد إلي الوقف وأعدك بأن تراني محاطًا بالأبناء والأحفاد، وإلا فستجدني دائمًا وحيدًا طريدًا.. إني أحب والوقف كما أحب لعنة الواقفين.. لي أصدقاء قدماء أعترض أحدهم فيمد يده بالسلام ويدس في يدي ما يجود به.. إنني أتمرغ في التراب ولكني هابط في الأصل من السماء.. هي الحياة الإنسانية الأصيلة، جربها بشجاعة إن استطعت، اقتحم الأبواب بجرأة، لا تتمسكن فكل ما تحتاجه هو حق لك، هذه الدنيا ملك للإنسان، لكل إنسان، عليك أن تتخلي عن عاداتك السخيفة، هذا كل ما هناك».

ويمكن ملاحظة الأبعاد نفسها، التي أشرنا إليها من قبل، في شخصية جعفر الراوي: التحدي والإصرار والتفرد وعدم المجاراة، والرغبة في التشاجر، وتبني فلسفة خاصة، ووجهة نظر مستقلة (وهو يصل إلي هذه الفلسفة بعد أن يمر بجزئيات متعددة، تفضي في النهاية إلي حكم كلي يريد المبدع أن يكرسه ولو علي لسان البطل)، اقتحم الأبواب بجرأة، لا تتمسكن، فكل ما تحتاجه حق لك، هذه الدنيا ملك للإنسان، لكل إنسان، عليك أن تتخلي عن عاداتك السخيفة ولنلاحظ هنا أحد أهم ملامح السلوك الاغترابي.

اسبيرانزا
11/01/2008, 08:41
التنشة الاجتماعية لجعفر الراوي:

حين نمضي مع المبدع متابعين شخصية جعفر الراوي سنلاحظ أنه بإيجازه المعجز يقدم إلينا شخصيته منذ البداية، وبأجلي وضوح، فلا نعثر علي كلمة زائدة، ولا نجد تعبيرًا يحتاج إلي مزيد من التفصيل أو الإضافة، وهذا هو جوهر الأصالة، ومحور إعجاز الإيجاز.

وإذا ما كانت الأصالة بالمعني السيكولوجي هي: الجدة والطرافة وعدم التكرار والملاءمة لمقتضي السياق، فإن شخصية جعفر الراوي شخصية أصيلة لا نجدها مكررة بذات الخصائص عند المبدع، إذا تتبعنا أعماله السابقة، كذلك فإن معالم هذه الشخصية وتفصيلاتها، كما وردت في سياق العمل، هي معالم وتفصيلات أصيلة وغير مكررة، وملائمة للسياق وللاتجاه الأساسي للشخصية.

ومع تقدم العمل يزيد نجيب محفوظ الشخصية أصالة وتفردًا، وها هو ذا، مثلاً، حين يتحدث عن أمه يتناولها من الجانب الثري الذي أخصب رؤاه وخبراته منذ الصغر يقول بعد أن يصف موت أبيه وبقاءه وحيدًا مع أمه بلا مورد رزق، طريدين من رحمة جده الثري ـ يقول:

ـ أحيانًا أحاول أن أتذكر صورة أمي، فلا أعثر علي شيء ذي بال، يدها فقط التي بقيت معي، أحس حتي الساعة بها وضغطها وشدها وانسيابها، وهي تمضي بي من مكان إلي مكان خلال طرقات مسقوفة ومكشوفة، وتيارات من النساء والرجال والحمير والعربات أمام الدكاكين، وفي الأضرحة والتكايا، وعند مجالس المجاذيب وقراء الغيب وباعة الحلوي واللعب، تقودني من جلبابي، وعلي رأسي طاقية مزركشة تتدلي من مقدمتها تعويذة كالحلية، وكانت أحاديثها متنوعة ذات صبغة شعرية، تختلط بها الكائنات جميعًا كلا بلغته الخاصة به، فهي تخاطب الله في سمائه، وتخاطب الأنبياء والملائكة.. حتي الجن والطير والجماد والموتي، وأخيرًا ذلك الحديث المتقطع بالتنهدات، الذي تناجي به الحظ الأسود.

الرحلة شاقة ومضنية، وعملية التنشة الاجتماعية المبكرة ترسم إلي مدي بعيد جزءًا جوهريًا من خصائص شخصية البطل، كما أنها سوف تكون بمثابة مقدمات تفضي حتمًا إلي نتائج سوف ننساق إليها مع سياق العمل في الأجزاء التالية:

ونجيب محفوظ يقدم لنا هذا الرسم السيكولوجي السوسيولوجي لمكونات شخصية جعفر الراوي، لأنه بعد ذلك سيضطر إلي أن يتصعلك كما تصعلكت به أمه من قبل، ولكي يكون قادرًا علي التصعلك وراغبًا فيه، غير هياب منه أو متوجس من مغبته، فلابد أن يكون قد عاش ولو علي هامشه من قبل.. هكذا بإيجاز ملائم ومفيد، وبشكل لا يخل أبدًا بسياق العمل ولا يخرج عليه.. بل نحس ونحن نقرأ، قبل أن نتقدم معه ونشعر بأهميته لما سوف يأتي من أجزاء ـ نحس أننا محتاجون إليه (هنا والآن)، من أجل معرفة المزيد من خصائص شخصية جعفر الراوي.

لنمض مع نجيب محفوظ في رواية قلب الليل، من أجل مزيد من معرفة أهم مفاهيمه الإبداعية، أعني إعجاز الإيجاز، يقدم لنا الكاتب جعفر الراوي من أكثر من زاوية، قال بكبرياء: (ص 20).

ولا تتخيل أنك تعرف من الدنيا نصف ما عرفت.. لا توجد خرافات وحقائق، ولكن توجد أنواع من الحقائق تختلف باختلاف أطوار العمر، وبنوعية الجهاز الذي ندركها به، فالأساطير حقائق مثل حقائق الطبيعة والرياضة والتاريخ، ولكل جهازه الروحي.

إننا في هذا الموضع أمام جعفر الراوي المتفلسف، الذي يتعامل مع الأشياء وفقًا لنسبيتها.. وهذا ما يتأكد في أكثر من موضع، ففي (ص 22) مثلاً يقول: إن الجن تختفي من حياة الفرد مع اختفاء عهد الأسطورة، وسرعان ما ينساه تمامًا، بل إنه ينكرها، رغم أنه يلقاها كل يوم في صور جديدة من البشر.

التكيف النفسي والقدرة علي النسيان: يصف لنا نجيب محفوظ أيضًا بإيجاز محكم حقيقة علي جانب كبير من الأهمية، من ذلك التكيف النفسي، والتوافق مع الموضوعات الجديدة في حياة الإنسان خصوصًا صغار السن، يقول: كانت الحياة الجديدة حلمًا بديعًا، نسيت الماضي كله، نسي القلب الحنون أمي الراحلة التي لم أزر لها قبرًا، حلمت بها ذات ليلة، ولما استيقظت شعرت بثقل قلبي وبكيت، ولكن القلوب الصغيرة تتعزي بسرعة.

ويزيد نجيب محفوظ الشخصية إيضاحًا من حين إلي حين، ولكن بأصالة فيها إعجاز الإيجاز ـ يقول: رتب لي جدي منذ أول يوم مدرسًا.. كنت قوي الحافظة حسن الفهم.. مارست الصلاة كما مارست الصيام، لم ينسني ذلك ديني الأول، فتراكم الجديد فوق القديم، ولم يسكت صوت أمي المتردد في أعماقي.. قال لي المدرس أثناء المناقشة الضريح مبني من المباني والوالي جثمان فقلت بإصرار بل لكل شيء حياة لا نفني أبدًا.

اللامبالاة: لم يزل المبدع يقدم لنا هذا النوع من التراكم أو التباين والثراء الذي أدي إلي إثراء الشخصية، متقدمًا معها من موقف إلي موقف، حتي ليمكن للشخصية أن تنقلب في لحظة من اللحظات إلي نقيض ما هي عليه، دون أن يكون في ذلك أي خروج علي منطق الشخصية.

نلحظ ذلك عندما يتقدم جعفر الراوي في السن ويقترب من مرحلة الرشد في بيت جده، دارسًا للدين في الأزهر، ولكنه يحب البدوية (أو الغجرية)، وهي امرأة من الشارع، كما كانت أمه، ويترك جده خارجًا علي كل منطق للاستقرار باحثًا عن الحلم في سديم الأسطورة، ويتزوج الغجرية، ويعمل سنيدًا في تخت. وتهجره الغجرية، ولكنه لا يندم ولا يأسف، ولا يرجع إلي جده ذي الثراء والاستقرار، ويستمر في العمل مغنيًا، ثم تعجب به امرأة غنية، تتزوجه وتعلمه، فيستقر ويحصل علي ليسانس الحقوق، وتفتح له مكتبًا للمحاماة، وسرعان ما يصبح مكتبه وبيته مستقرًا لندوة المثقفين.

حتمية النهاية: