-
PDA

عرض كامل الموضوع : كل يوم .. قصة سورية


butterfly
28/09/2007, 02:28
كل يوم رح ننزل قصة ... لكاتب سوري ..
بزحمة الوقت اكيد فينا نخصص عشر دقايق باليوم لنقرا قصة ..


بس بدي ادعوكم " لنتشارك : يعني يا ريت كل يوم حدا يتبرع وينزللنا قصة "
وما يضل الموضوع على عاتقي بس :fsad:
.. بس في كام شرط صغار :
1) القصة تكون حصرا ً لكاتب سوري
2) ما تكون مكررة بالقسم او بالموضوع
3) قصة وحدة بس باليوم

:mimo:

butterfly
28/09/2007, 02:42
ألف باء الحب

ابتسام تريسي


تتوجع كفراشة أحرقها الضوء فتكومت فوق رمادها .يحتضر أمسي القريب على أعتاب الذاكرة ، ألهث محاولة تمزيق شرنقة عبيرك المحيطة بقلبي ، أنجح أحيانا في مدّ رأسي المتعب من خلل خيوطها القاسية ، وتغلق منافذ الهواء غالبا في وجهي ، فيسرع القلب بالارتماء في أحضان الحلم ..
تربكني ثوانيك ، فأتعثر بمشاعري المتناقضة ما بين مد وجزر ..
يسحبني الطريق الذي تتناهبه عجلات السيارة لتصور أيامي القادمة في الخليج ، سويعات مرّت على ارتعاش صوتك واحتضاره عبر سماعة الهاتف وأنت تتلقى قراري بالسفر (( جاءني عقد عمل ، أظنه سيكون حلا مناسبا لأزماتي كلها ))لم تقل شيئا .. فحيح .. تنهيدة مرة ، وصمت بغيض في سماعة صماء

صمتك ذاك جعلني أتردد ، ( هل أرمي أوراقي وقراري وراء ظهري وأعود إليك معتذرة ككل مرّة ؟ ) سئمت مراوحتي بين كره وحب ، سئمت تمزقي بينك وبين الحلم ... إلى متى يسلبني الحلم إرادتي ويتخذ عني القرار ؟ إلى متى أطير وراء فراشه الملوّن متعثرة بأمنياتي المستحيلة ! قلت لي : (( أحبك صدقيني )) أكان يجب أن أعيش معك جسدا باردا يتحرك بآلية الحلم وسيطرة رجل يقطن الذاكرة لتفهم أن ّ الحب ما أريده ؟ أتحتاج هذه الكلمة الصغيرة إلى زمن من المدّ والجزر لتكتشف سحرها ؟ أم أنك وعيت اللعبة التي تدور حولها عواطفي الذبيحة أخيرا ؟ أشكّ بحبّ احتاج لسنوات من الخطبة ليفصح عن وجوده بمنتهى العقل والحياد !
تمتد ّ نظراتي عبر الأفق الممتد بين غابات حمص ، والهواء الرطب الثقيل الممزوج بضباب خانق .. يتسرب صوتها هامسا من مسجل السيارة :حيرى أنا يا أنا والعين شاردة ٌ أبكي وأضحك في سري بلا سبب
الضحك يتغلغل في مسامات الجلد الباردة .. البكاء يغسل بدمع ٍ ساخن قلبا ً لم أعد أستطيع السيطرة على نبضه .. انفصل عني بإيقاعه المضطرب ، وانضم ّ لقافلة التمرد والمشاكسة . همهمات ، مؤامرات .. تحطم ، وارتطامات ، وأشياء تتكسر في أعماقي .. ووجهه لا يزال ملتصقا بأنفاسي ، هل يمكن بعد هذا .. أن أحبك ؟الطريق إلى دمشق ممل ، طويل ، ينتحب تحت عجلات السيارة ، يئن شاكيا ، يتجاوب مع نحيب أحلامي ..
سويعات مرّت على لهاث أنفاسك عبر سماعة الهاتف في أذني .. أمدّ يدا مرتعشة ، أتحسسها ، لا زالت تنبض .. تمضغني الدهشة بقسوة .. لازال وجهه ينفر ساخنا عبر مسامات وجهي ، يحتلّ ملامحي ، فأبدو مضحكة في مرآة نفسي .. !
إلى متى يحتلني الآخر مستبيحا إحساسي بالأمن معك ؟ إلى متى يجتاح شواطئي بقسوة قرصان ولدته موجة عاتية من التحامها بغيب مجهول ، يتسلل إلى فراشي ، يعبث بأشيائي ، يقبع في تفاصيل يومي منذ استيقاظ الشوق في ضلوعي إليه ، حتى ارتمائي في موج النوم القلق في ظلّ ذكرياتي معه ، ينتقي ملابسي بذوقه المتطرف ، يمدّ يده لانتقاء طعامي المناسب لمعدته ، يتأمل هيئتي في مرآته قبل خروجي إلى العمل ، يصاحب الخطوة المتخاذلة بنظرته الصارمة ، يبرز من المرآة (( لا أريدك أن تضعي كحلا في عينيك المتوحشتين ليراه غيري ، اتركي شفتيك بدون أصبغة ، أحبّ أن أراك لي .. لي فقط بتلك الرائحة المثيرة تفوحين ياسمينا وحبقا ))
في الطريق أجده ملاصقا لخطواتي ، يرتفع صوتي محدّثا طيفه ، يلتفت المارّة إليّ بذهول !
و تسألني باستغراب :
ـ ماذا تعنين بسؤالك أنا لم أقل ذلك ؟
أشهق ، وانتبه إلى شفتي ّ تحدثانه . !

butterfly
28/09/2007, 02:46
لم أبدأ بمعرفته مبكرا ، كنت على وشك أن أتخطى عتبة الجامعة حين اهتز قلبي واقعا بين قدمي ، لمروره بقربي تاركا رائحة عطر خفيف سكنت خلايا أنفي .
حين دخلت قاعة المحاضرات رأيته يجلس أمامي محتضنا غموضه وحفنة ياسمين ، تجاهلت ابتسامته المغرية بحوار ثقافي حار ..
وأنا أنحدر باتجاه كلية الهندسة ، صدمتني نظراته ، فتكسرت ضلوع الروح ، وغادرني تحفظي ، انهلت بالشتائم على الساعة التي تعثرت فيها بدرجات الكلية المهشمة ، فوقعت كتبي بين يديه .
ضمتنا صالة معاوية ذات ليلة ، كان المسرح يضجّ بالحركة والحماس ، يتدفق حارّا متوهجا ، وهو بجانبي كتلة لا مبالاة مستفزة .
كنّا نلهث وراء سطر شعري في أمسية دافئة ، نزار يتألق قمرا على شرفة ، وهو يحتضن سواده وينزوي داخلي بهمس مبهم ! انخلع كعب حذائي ، وعدت إلى البيت عرجاء الروح وهو غارق في ضحك مستهزئ .
حين دخلت ا لفصول الماطرة ، تلبست رغباته جلدي رداء من نار الرعشة والتوق ، دخلت أفقا غريبا ، اقتحمتني أناشيد فجر يتسول دموعي وألقي ، عندما فكرت ذات لحظة أن أمتطي مراكبه مبتعدة إلى جزيرة نائية يرتجف شذاها ، فتمطر صحوا ، قلت : هنا نهاية مطافي .
بعد بعده الأخير ، نظر إلي ّ ، قلب شفتيه : لقد انتهت صلاحيتها . ! ابتعد ، فازددت التصاقا بترابه .
تجسد أمامي بعريه ، غامت الرؤية أمام عيني ّ فلجأت إلى معطفه البارد أستثير دفئه ..
لم أكن بحاجة لفكر يخرجني من لحظة البوح الأبدية ، لم أكن بحاجة لإنارة داخلي ، هناك حيث الوجع يقيم محتلا أنفاسي ، هناك حيث الوجع يرتعش على مخدتي ، هناك حيث كان واحدا فصار ألفا ، غامضا ، متقلبا ، متلونا كحرباء !
أتهجأ حروفه من جديد .. .. تضحك عيناه رامقة ً ذعري من عاصفة قادمة...... تتدحرج صلابتي وتستقرّ عند قدميه .
مذ كنا على عتبة أول حرف ، حذرتني نظراته : ( إياكِ والتوغل في حزني )
عشقت ذلك الحزن وظننته الرابط بين وحدتي وحصاره ، لكنه انكمش مبتعدا عن وهجي !
قبل أن أتجاوز الثلاثين ، كنت أنظر إليه كتموز عائد من دورة الأبدية ، بعد أن أحبّ زميلتي .. صرت أركض وراء سرابه في الرجال الذين أعرفهم ، ولا أقبض إلا على الوهم ..!
حتى حين التقيتك أيها الوهم الأكبر في حياتي ، وقبضت على مائك بأصابعي ، هزّني شيء عنيف ساخرا :
ـ لن تستطيعي أن تعشقي شخصا غيري ...
في مواجهة عنيفة مع الريح ، كشفت صدري لاجتياحها ، وتخليت عن مراوحتي في زمنه المر ، وتجاوزت نفسي بقرار لا عودة فيه ،(( سأتزوج )) .
حين رأيت الزهور تملأ الصالة وأنت بجانبي ، انهار تماسكي ، وصرخت الشرايين (( لن تعشقي غيره )). يشبك الياسمين عقدا ً حول عنقي ، يشبك أصابعه قيدا ً حول معصمي ، تشبك رغباته القلب وتعصره بقسوة .
في محاولة للالتفاف على مشاعري ، هادنت زمني ، ورضيت لجسدي دورا غبيا ، أصبحت خطيبة شخص ، وعشيقة آخر .
أنت تسير معي في الطريق ، تحتضن يدي في المساءات الدافئة ، ترافقني إلى المسرح ، ودور السينما ، تتناول الغداء معي ، وتمضي ..
الآخر يحتلني في الحلم ، يجردني من مشاعر الهزيمة والانكسار ، ينبش أنوثتي ، ويقدمني عارية من شكلي الاجتماعي على طبق رغباته ..
تلهث لتحقيق ما أريد ، تسند بيدك ضعفي ، والآخر يضحك مقهقها : (( أنا أريدك ، أنت عشبي ونداي ، وأرقي الطويل ، آه كم أريدك ! )) أنت تلازم صحوي ..الآخر يعيدني إلى حيث بدأت معه ألف باء الحب ، بنظرة غامضة على حدود العشرينات من العمر .
ترسم المستقبل ، تخطط شكل البيت والنوافذ ، والأثاث .. والآخر يرسم جسدي شهيا على قماش ذكرياته ، يبدع في إبراز مفاتنه ، يتقن وضع الابتسامة على وجهي ، يفجر برودي حمما ، وينقضّ ممزقا اللوحة ..!
أنت لم تقتحم حواسي كبركان ، لم تصدمني عيناك بالرغبة ، لم تنسف توازني بكلمة ، كنت واضحا كشمس فجة في يوم قائظ :
ـ أنا أريد الارتباط بك لأننا نناسب بعضنا .. أنت لن تجدي مثلي وأنا لن أجد مثلك .
الآخر ، انسلّ تحت خيمة العتمة وبوح المطر ، أعلن اتحاده بألقي ، فتح مسامات الجلد بلمسات خبيرة ، أيقظ توهجي ، سكب كلماته شلال فل على شرفات روحي ، ولم ينتظر ردّا ، كان يسير بي إلى الهاوية واثقا أني وراءه كظله ، ألازمه على رصيف نزواته ، يقرأ فأصمت ، يتحدث فأسمع ، يرغب فألبي ، يسير فأتبعه ظلا مرتعشا خائفا .
طلبت مني تحديد موعد الزفاف !
الآخر نظر إليّ من زاوية الحلم (( تتزوجين خيال مآتة ! أنت تريدين رجلا يفجر أنوثتك ، رجلا يوقظ فيك الحلم ، ويطرح الرغبة أسماكا في شباكك الغائصة في عمق البحر ، تتزوجين ! ))
السخرية تغوص رمحا باردا في أحشائي ، يهزني ، أتساقط رغبة ً ، جنونا ً ، حنينا ً ، أتهاوى صراخا ً :
ـ لا .. لا أريد ، لن أتزوج .
تتجمد للحظات ، تنبس بفتور :
ـ كيف ؟ !! لكني أحبك .
الآخر يبتسم بشماتة ٍ مبرزا نصره بنظرة تخدر دماغي وتدخلني في الغيبوبة !
أخلع حذائي ، أسير إليه حافية ، على مذبح رغباته أقف ذاهلة صامتة .. تفاجئني ابتسامة زميلتي الشامتة :
ـ ألا تعرفين أنه تزوجني ؟
أنت تلقفت عودتي إليك بحزن :
ـ هل أنا لعبة بين يديك تحطمينها وقت تشائين ، و تحاولين لصق أجزائها المتناثرة حين تحتاجينها ..
دموع حيرتي جعلتك تتراجع ، مسحتها ظنا ً منك أنها دموع استغفار وندم ! وعدت إلي ّ .
حين قررت الذهاب إلى المحكمة لتثبيت الزواج ، اقتحم الآخر مسائي غاضبا (( استطعت نسياني!!!! هكذا تقولين وداعا ؟ وهل يقول الإنسان وداعا لياسمين روحه ؟ )) تراجعت منكمشة على نفسي ، امتزجت بعشبه ، تمرغت بترابه ، شممت بعمق عطر شرفاته الغارقة بالياسمين ، واستسلمت لذراعي الحلم .
في الصباح كلمتك هاتفيا :
ـ لقد قررت السفر ،.. أريد اختبار عواطفي بعيداً عنك .!
طريق المطار الطويل أشعرني بلذة الوصول إلى النهاية ، القاعة الغاصّة بالمسافرين والعائدين تختصر الكلام بضجيج غير مفهوم .. ينظر الموظف المسؤول إلى وجهي بشك :
ـ جوازك ؟
تنطق شفتاي بحياد :
ـ نعم
تدقق نظراته فيه متمتما ، الاسم والشهرة تاريخ ومكان الولادة ، المهنة ! يرفع رأسه محدقا في وجهي :
ـ تعملين في الحكومة ؟
بضيق نفثت اختناقي حروفا متكسرة :
ـ لا
أتناول الجواز ، يستقرّ على البلاط الناعم بعيدا عن يدي المرتعشة . أمسح غبار الروح عنه تطالعني صورتي التي التقطت منذ سنوات ، أفهم نظرات الموظف ، أبتسم لنفسي بمرارة ، وأنا أحاول إغلاقه تلسعني جمرة التواريخ والأمكنة بقوة ، الولادة ، المهنة ،الإقامة ، كلّ ما في جواز سفري من معلومات باردة حيادية ، تغسلني بمياه الصحو الباردة ، ويصفعني السؤال :
ـ ماذا تريدين من الزمن بعد وأنتِ على أعتاب الأربعين ؟
بأصابع أحرقتها الحقائق فتحت جوازي ثانية ، دققت فيه بحثا عن تاريخ الحب ! الجواز الأصم بصق بروده في وجهي ، لا وجود لهذا المسمى الغريب الذي تبحثين عنه !
حين أوشكت الطائرة على الإقلاع ..
رميت جواز السفر ، ودموعي ، وارتعاشي ، وأحلامي في قاع الحقيبة المظلم ، أغلقتها بحياد ، وخرجت مع العائدين ، تنفست هواء المطار البارد بعمق ، ملأت رئتي ، وسرت باتجاه السيارة


:mimo:

The morning
29/09/2007, 00:48
ما قاله مذيع النشرة


ران السكوت فجأة، كما لو أن السيارة تسير بدون ركاب او سائق. صوته فقط هيمن على المكان فانطلق مخترقا الحدود، وأطلّ مثل معلم متجهم إقتحم فصلا علا ضجيجه. إنطلق الصوت فقطع جملا من الثرثرة الهادئة الدائرة في حينها، وأعلن أسراره المرعبة " هنا إذاعة .." ثم قدّم موجز النشرة ، وفيها خبر عن هذه البلاد. رمى الصوت الاذاعي بطعمه مستدرجا خمسة أشخاص في سيارة أجرة، خمسة غرباء ألقوا بشجاعتهم من نوافذ الخوف وانشدّوا الى صوته منتظرين النشرة المفصلة.
قبل عشر دقائق على الخوف، كان التاكسي الذي يحمل راكبا في المقعد الامامي قد توقف لفتاتين في شارع مزدحم بالمحلات بمركز المدينة. اجتازتا الباب الخلفي الايمن باتجاه المقعد، كما لو أنهما تستعدان للنوم فوقه من شدة التعب. كادت السيارة ان تتحرك فاستوقفها شخص رابع: " طريقكم الى شارع النصر؟". أجابه السائق بنظرة أحالته الى الفتاتين: "هل تسمحان؟".. ردّت احداهما وهي تنظر باتجاه الراكب الامامي: " لم يعد إسمه تاكسي .. ثلاث توصيلات؟". إسترحمهما الشاب: " ساعة بأكملها ولم أعثر على تاكسي.. ينوبكم خير ". تبادلت الفتاتان النظرات واتخذتا القرار: " تفضل".. فتح الباب وحشر جسده في مقعد ضم بالاضافة للفتاتين، مشترياتهما. تحركت السيارة، ثم علا حوار مشترك حول أزمة سيارات الاجرة في المدينة التي تزداد حرارة وسكانا. و راح الحوار يتفتت ويتوزع. السائق ومعه الراكب الى جواره، إنشغلا في حديث عن أعباء إقتناء سيارة ، أعطال لا تنتهي وكذلك المصاريف. وكان الراكب الخلفي يشاركهما الرأي أحيانا. الفتاتان في المقعد الخلفي إنشغلتا في حوار هامس ، وبدا أن إحداهما تعاني من مشكلة خاصة.
على أية حال لم تتعارض الأصوات، ولم ينزعج أحد من الاشخاص الخمسة من أصوات الآخرين، فقد كان صوت أم كلثوم يشكل حاجزا، أو خلفية مناسبة لتلك الثرثرة الهادئة. كان ذلك قبل أن ينطلق صوت مذيع النشرة مشيرا إلي أحداث هامة تقع في البلاد "إعتقالات سياسية واسعة، ومنظمة العفو الدولية تقدم إجتجاجا على إعتقال عدد من الافراد دون محاكمة..و...".
قد لا يبدو أن هذا الصمت مبررا، أعني أن يخرس سكان ركاب السيارة وسائقها لمجرد أن مذيعا في مدينة أخرى بعيدة يتحدث عن هذه البلاد. لنحاول إذن تصور سيناريو مقنع لهذا لهذا الصمت: تردد السائق في تغيير مؤشر الراديو لأنه منذ سنوات فقد السيطرة على حساب العواقب بحس سليم، ما هو الصح وما هو الغلط. فماذا عن فعل هذه اللحظة .. هل يغيّر المؤشر مطلقا شتائمه ، واصفا الإذاعة بالكذب والتلفيق؟.. لكنه يعلم تماما أن المذيع الغريب يعلن الحقيقة الغائبة. إذن هل يتركه يسترسل فيشي به أحد الركاب، ويتهمه بالمساهمة في ترويج إشاعات مغرضة تمس مصالح البلاد؟. الركاب الأربعة أداروا رؤوسهم باتجاه النوافذ ، متمنين لو انهم كانوا هناك، في أي هناك. بعيدا عن هذا المكان المأزق كي يحتموا من أي ردة فعل تسجلها مرآة السائق، أو تلتقطها عيون زملاء التاكسي. حتى الفتاتان صمتتا عن مناقشة مشكلة إحداهما، وأشاحت كل منهما بوجهها عن الاخرى، خشية ان تفضحهما نظراتهما في حوار الصمت المشترك. الشاب المجاور لهما في المقعد، تذكر شقيقه الغائب في مكان ما منذ أربع سنوات ، فوضع يديه في جيوبه، وراح يضغط على محتوياتها، علها تمتص توتره.
حسنا هل تشعرون أن هذا الحدث لا يصلح مادة لقصة؟.. أعني أن يجتمع خمسة أشخاص في سيارة أجرة، وفجأة يتبادلون الاتهامات السرية الصامتة، شبهة الخيانة وكتابة التقارير المباحثية، بافتراض غير مبني سوى على الخوف.. ولمجرد أن صوت مديع نشرة أخبار في إذاعة بعيدة إندس بين أرواحهم، فجمّد إنشغالاتهم اليومية وأطلق المخفي والخوف معا؟..

غالية قباني
دمشق \أيلول \1990

butterfly
29/09/2007, 00:58
ما قاله مذيع النشرة


غالية قباني
دمشق \أيلول \1990



رهيبة .
جدا ً
17 سنة وما زال نفس النشرة .. :( للأسف ...

Abu ToNi
29/09/2007, 02:30
لسع طولي بالك حتى تقري كتاب كولييت خوري من 1980 مانه متغير شي لا بلبنان ولا بسوريا :lol:

The morning
30/09/2007, 10:03
ما يشبه الحنين و اكثر


أمي مشغولة دوماً. لم تغيّر عاداتها كثيراً. وما تغير من أحوال لم يكن لها فيه إرادة أبداً، رغم أنني لا أعتقد أنّ أمي كانت مسلوبة الإرادة لسبب بسيط وأولي: أمي تمتلك حديقة أنيقة ومزدهرة
حديقة أمي تبدأ من رقعة بمحاذاة غرفة الأولاد العتيقة في المالكية، تمتد بخفة بهيجة للتغلغل في حدائق حلب، ترفع معدل الياسمين المنثور على أكتاف السياج والشرفات وبين أصابع العشاق، وعيون المارة في أرجاء المدن الأخرى
حديقة أمي لا تخضع لهندسة عصرية
حزينة تقترب من المطارات، تقيم وتغادر بلا بطاقة رسمية مختومةٍ بزمن الأنطلاق وزمن العودة
حديقة أمي لا تنتهي في تورنتو، وتوزع أشجارها بلا مقابل. بين كريات دمي يعشعش مجهولٌ يشبه الحنين وأكثر
أمي منشغلة عني كعادتها، من خصالها العتيقة أنها مازالت تستيقظ قبل الحديقة وقبل الندى.
تعرف كم زراً من الورد تفتح في الليل وتبتسم. تعرف كم ساعة وليلة يحتاج هذا البرعم الآخر للتفتح، لمعانقة الصباح.
أمي لا يفوتها أن تنقّي فستان حديقتها من الأعشاب الدخيلة، تعرف الكائنات المتطفلة، الضارة والأليفة. بينها وبين تراب الحديقة أسرار وبوح ومعرفة، تربكني!
أفتحُ الأطلس، أقيس بالنظر المسافة العمودية والأفقية مابين تورنتو وحديقة أمي، أجتهد أن أبتسم، أن أقلدّ أمي في مهاراتها، أعبر الفصول والحدود والشوارع بلا بطاقات وأختام ودعوات لقهوة الصباح، للطين مختلطا بروح الياسمين وزهر رمان وكروم حبلى بالنبيذ.
وأما تلك الشتلة، وزهرها الخمري، فلم أكن أحبها، كانت أمي تعتني بها وتسميها "عرف الديك"!
صديقتي الفضائية، حنونة أيضاً ويشغلها غيابي، تدلق رسائل إلكترونية في صندوقي، تفاجئني بكلمتين: أين أنتِ؟
أجيب: هنا، أجمع شظايا الوقت، واقفة على مشارف قصيدة وحكاية لم تكتمل منذ الصباح.
انشغلتُ أيضاً طويلاً عن أمي، وكلما أردت ُ أن استحضرها، أراها خلف التنور العتيق، أرى عدداً كبيراً من الأطفال – لم يكن كلهم أخوتي – ينظرون أمي ورغيفها. التقطُ صورة وجهها الوردي مغسولا بحزن جليل وتبتسم.
وصلتُ اليوم، وربما البارحة... بل لا أذكر متى، كانت أمي قد أنجزتْ كل شيء كعادتها، تكبّد نفسها عناء شديدا كي تقطع عن الجارات وشوشاتهن وكي تسمع مديحاً: أنيق، نظيف بيت السيدة ( س ) دوما.
أمي لا تنسى أن تمسح الغبار عن صور أحفادها الصغار الذين لم ترهم، ويصعب عليها حتى النطق بأسمائهم، تبتسم لهم وتكلم نفسها: هذا لوراندو ، وهذا مايكو وهذه سيلفانا الجميلة ....
يردّ أبي متهكما: يا امرأة، كم مرة سأعيد عليكِ كيف تلفظين أسماء أحفادنا؟
يعلو صوت أبي، فجأة وبعصبية: هذا ليوناردو، وهذا مايكل وهذه سيلفيا وهذا سلام..
يغمغم، يتهرّب من النظر في وجه أمي، يمدّ يده إلى " الريموت كونترول" يرفع صوت التلفاز جداً. يده الهرمة تمتد إلى علبة السكائر.
أمي تحدق في البعيد كأنها لم تسمع شيئاً، وأعتقد أنها لم تعالج آلام أذنها وأسنانها بعد، رغم أنها لا تقصّر في خدمة الحديقة.
أمي متعَبة ككل الأمهات الجميلات، وحين أصل تكون نائمة، تشبه طفلة أعرفها!
بصمتٍ أقطف فرعاً من شجرة في الركن، شجرة أطلقتْ عليها اسم " جاكي "
أقبّل وجه أمي، حديقتنا، والصباحات التي لا تحد
أطيل الوقوف أمام مدرستي، أنتظر حبيبي، أدمدم مع فيروز " يا عاقد الحاجبين / على الجبين اللجين / إن كنت َ تقصد قتلي.... " (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)
جاكلين سلام
تورنتو 2002

Abu Guzef
30/09/2007, 15:18
بدكون مساعدة هلق القصة لازم حصرا لكتاب ولا بيصير اذا الواحد مخترع قصص مشان نعرف يعني :lol:

The morning
01/10/2007, 05:40
بدكون مساعدة هلق القصة لازم حصرا لكتاب ولا بيصير اذا الواحد مخترع قصص مشان نعرف يعني :lol:

اهلين ابو جوزيف
تـفرج شو مكتوب باول مشاركه :krimbow:

كل يوم رح ننزل قصة ... لكاتب سوري ..

.. بس في كام شرط صغار :
1) القصة تكون حصرا ً لكاتب سوري

:D

Abu Guzef
01/10/2007, 16:17
اي هلا كيفك

انا سوري وبكتب = كاتب سوري :lol:

:D

سرسورة
02/10/2007, 20:34
جلطة د.ناديا خوست


انعقد يومذاك بيني وبينه الحوار . ولم أفهم أني بذلك كنت أعبر البوابة إلى هنا من هناك.
وجدت يومذاك على طاولتي بطاقة باسمي من المدير، تدعوني إلى اجتماع . وقبل ذلك اليوم، كانت حتى رسائلي الشخصية تضيع في غرفة البواب. قرأت اسمي على البطاقة وتساءلت دهشاً : ماذا جرى؟ وسمعت الجواب! يقيم المدير احتفالاً مصوراً يجب ألا يغيب عنه أحد.
مشيت إلى الإحتفال. ورأيت لأول مرة صالون المدير الذي كان محجوزاً للضيوف الكرام . أدهشني أن المدير كان واقفاً عند الباب يستقبل كل واحد منا، يصافحه ويستوقفه ليسأله عن صحته وأسرته وحاله. جلست مع الجالسين في حلقة كبيرة ، وجلس هو في الصدر. قدمت لنا القهوة المرة، وسلال السكاكر . ثم بدأ مديرنا الكلام فقال:
اغفروا لي ما مضى! لنقل معاً: طواه العالم القديم! كان لابد لي ، كرؤساء المؤسسات، من حاجب يمنع وصولكم إلي. كان لابد لي من سكرتير ينقل لي صورة الواقع كيلا تشوشها الآراء. ولابد من سائق يفتح لي باب السيارة وباب المصعد وينحني فتنحنوا لي مثله. كنت في سياق ذلك الزمان!
من حظنا جميعاً أن ذلك العالم البيروقراطي انهار، كما انهار سور برلين، وأشرق عصر الديمقراطية ، وأصبحنا مجتمعين معاً فيه.
ألتقي بكم اليوم، لأطلب أولاً اعتراف كل شخص به، ولأعلن ثانياً أن مكتبي سيكون كالبيت الأبيض، تستطيعون أن تجتمعوا أمامه رافعين ما تشاؤون من يافطات. بل تستطيعون أن تدوروا أمامه دورات كما يدور المواطنون في تلك البلاد. الحرية شعار هذا الزمن! فلا تخافوا أحداً، ولا تخافوا من شيء! سندخل بجرأة العصر الجديد، وسنبرهن للعالم على مستوانا الحضاري ! فلنقتلع العداوة والكره من القلوب ! أعلن لكم على مسؤوليتي: لا يوجد عدو!
كان مديري الذي ألقى علينا تلك الخطبة بصوت عميق حنون، واقفاً أمامنا ثم أمر لنا بالمشروبات ، قد سجن مرة أحد الموظفين في الحمام، وحسم رواتب كثير من الموظفين ، وفرض أن تكون جدران مكاتبنا من الزجاج ليرانا ولا نراه . كان يرفض اللقاء بنا، لكنه يفتح بواباته للرجال المهمين أكانوا تجاراً أم سياسيين . وقد صادفه سكرتيره مرة ينحني للتلفون كأنه ينحني لمن كلمه به. كان ذا أعاصير. وقد عانيت شخصياً منه يوم قصف حلمي كما يقصف الورد. كنت مرشحاً للسفر بمنحة لم تتوفر شروطها إلا لدي: لست متزوجاً، وعمري هو المطلوب، اللغة التي أعرفها هي المرغوبة، والخبرة نفسها تماماً. لكنه رشح مكاني ابن أخته من فوق السطوح دبر له المنحة وأبعدني. قبل أن أتذمر أرسل حاجبه فقال لي: لا نريد كلاماً لا طعم له! تذكر أن مصير الإنسان في لسانه! ما حدث هو القانون في المؤسسات والأحزاب والمنظمات والهيئات، وهو سنة في الشرق أكثر مما هو في الغرب، وفي الجنوب أكثر مما هو في الشمال. أيمكن ألا يفضل الواحد قريباً يعرفه على الغرباء الذين لا يعرفهم ولو كانوا أبناء حزبه ومؤسسته وبلده؟! فافهم أنه لا يوجد أحد تشكو ما حدث إليه!
بعد تلك الحادثة لم أرشح نفسي لأمر أبداً، ولو كان السفر إلى الواق الواق. فهمت أن السفر والمنح والوفود والرحلات ليست كما تصورتها، بل لجني المال والفائدة الشخصية. ويوم أدركت ذلك كنت قد فهمت قوانين الحياة.
قلت لنفسي وأنا أسمع كلام مديرنا، انقلب العالم عاليه أسفله إذن، فلم لا ينقلب مديرنا مثله! مع أن ما رأيته حتى الآن هو التحول من الأحسن إلى الأسوأ! لعل صاحبنا جمعنا ليستنجد بنا كي نحميه من الإعصار!
كان زملائي حذرين فأظهروا أنهم يتلقون كلماته كما يتلقون السكاكر. لكنهم من الحذر اكتفوا بتعبير الوجه وتفادوا التعليق. أنا تهورت! قد يكون سبب اندفاعي فوضى العالم التي أكلت صبري. وكنت كثيراً ما أردد في تلك الأيام مهزوز القلب: فليكن! أكثر من القرد ما مسخ الله! فسألته: نحن أحرار إذن كالعصافير، في هذا العالم الجديد؟ ضحك: طبعاً، أعني ما أقول! وهل تظنني دون شغل كي أبعثر وقتي وأوافق علي هدر وقتكم!
كدت أضحك، فقد خطر لي أن قوات الأمم المتحدة وممثلي الدولتين سيؤكدون بالضمانات كلماته. وكثيراً ما كان يخطر لي كلما وقع خلاف بين الجيران أني سأرى قوات الطوارىء تنزل بمروحياتها بينهم، وأن المفاوضين سيتدخلون ويجعلون الخلافات الصغيرة مسائل عظيمة. وقد تشترك في ذلك شركات السلاح! لكني كبحت ضحكتي وقلت في جد: اذن سأجهر بما في النفوس. أعلن في هذه المناسبة التاريخية: لا يستهيويني هذا العالم المولود! افتتح بالكذب والتدجيل. ولأنقل لك ما يقوله الناس: حروب جديدة، فيها ما في القديمة من قتل واحتلال. العالم أسوأ مما كان. عالم وحشي، تقصف فيه المدن وتغتصب فيها لنساء. فيه قتل على الهوية، على الفكر، أو العنصر، أو الدين، أو الضمير. يحاسب الانسان حتى على ماضيه. ويفرض عليه أن يخلع جلده ويرميه. والعرب في هذا العالم في أردأ حال، تقصف مدنهم، يقتلون، يحاصرون بالنار والجوع والبرد، ويحكم عليهم بأن يعلنوا أن القاصفين الغرباء أصدقاؤهم الحكماء. أمس كنت في التعزية بصديق، فتبينت أن الحاضرين نسوا الميت وجعلوا التعزية بما هو أعظم منه . حتى تصورت أنهم يهزون الأعلام السوداء. وأشد ما أغضبهم أن يبدو المهزومون كالمنتصرين وقالوا غاضبين: زمن لا جغرافية فيه ولا تاريخ! الجديد أن يطلب منا أعداؤنا وأصحابهم من أقربائنا، أن نعلن: العار شرف، والاحتلال تحرير، والوحشية حضارة، والعدو صديق . باختصار: أن نقول اللبن أسود! وهذا ما لن نفعله!
رويت ذلك لمديري أمام الجمع، وقبل أن ألاحظ أنه أصفر، قلت له:أنا مثل اولئك الرجال !ردد بعد أن فكر زمناً: مستحيل!ذلك مستحيل! سألته: ما هو المستحيل؟ قال: تصور أننا على شاطىء والمركب الذي انتظرناه وصل. وأنا مدير رحلتكم، فهل أترك بعضكم يتخلف عنها؟ فيصبح جزء منا في البحر وجزء على البر؟ قلت له: كأننا لم نكن كذلك حتى اليوم!
جرى بيننا حوار متوتر، تابعه زملائي وهم يخفون ابتسامتهم مرة وينظرون إلي مرة نظرتهم إلى متهور أو مجنون، ويشجعونني مرة خفية كأني أعبر عن المخبأ في نفوسهم. ودفعني ذلك فقلت إن المركب الذي وصل ليس المركب الذي انتظرناه. المهم أن نعرف مسار الرحلة قبل أن نقفز إلى الزورق! والمهم أن نفحصه قبل أن نتراحم عليه ونندفع إليه! يحتمل أن يكون مثقوباً، وأن نحشد فيه كي نغرق! إذا صح أننا في زمن الحرية فلكل منا الحق في أن ينتظر رحلته التي رغب بها طول عمره، لا أن يربط على مركب الشيطان!
ارتبك مديري وقال لي: أنت أفهم من المؤسسات العالمية، والأحزاب العربية والكونية، ومن البارلمانات المحلية والغربية، ومن مجالس الوزراء الدنيوية، وشخصيات العالم القديم التي هرولت إلى بوابات العالم الجديد راجية الدخول إليه؟ أنت أفهم من المنظّرين الذين كتبوا مئات الصفحات في مدح الاصلاحات، وبحثوا في أسسها الفلسفية والاقتصادية، في ثمارها الإنسانية والفنية وبينوا آفاقها الملونة، وتسابقوا في سبل استدانتها واستلهامها في أنحاء الأرض؟ لن ترغمني أن أكون خارج الإجماع العظيم الذي لم يسبقه مثيل في التاريخ!
قلت له: تسمه إجماعاً ويسميه الناس مثلي "هوبرة" لكنه لم يسمعني، بل قال: لن أسمح لك بأن تشوه سمعتنا! لن أربط قدميك وساقيك كيلا تستخدم صورتك وثيقة ضدنا! لكنك ستسير إلى المركب كما نسير إليه. فلو عرف العالم المتحضر أني أسمح لك بمعارضة قضية الحرية والسلام لقصف بيتك الذي يقع على بعد خطوتين من بيتي أو لكلفني بأن أقصفك بيدي. ولا أظن أنك ترغب لي بمثل هذا الموقف بعد حياتنا المشتركة في مؤسسة واحدة!
انقلب الموقف فأصبحت أنا الذي يجب أن أشفق عليه، وأنقذه من ورطته! قال: كي يمتنع التشويش، ستوقعون مجتمعين على هذا الدفتر فنكون معاً متعاونين متعاضدين. ولم يترك برهة الحوار.

سرسورة
02/10/2007, 20:37
نشر سكرتيره دفتراً مزيناً بشرائط مذهبة، مغلقاً بجلد أزرق، دفتراً ثخيناً لكل منا فيه خانة تعرف به، فيها صورته وفيها مكان بارز لتوقيعه. استل السكرتير القلم، فارتعشنا. قال في حزم ووقار ومهابة: سيتقدم من أعلن اسمه ليوقع بخط واضح أمام اسمه وصفته. قلت: هذا إذن احصاء! أو إلزام! أجابني: هذا من تحديات الحضارة والحوار والسلام! وستوقع عندما يحين دورك! غضبت: أين حرية الرأي إذن؟ متى باليتم بتوقيعي إلا في لائحة الدوام؟! رماني بنظرة سامة: توقيعك كان ضرورياً في الانتخابات والاستفتاءات! نسيت؟ هذا أيضاً استفتاء! أعلنت في تهور: لن أوقع إلا على ما أختار! لم أختر هذا العالم ولم أسع إليه بل سجل أني ضده! وأني لا أوافق على هذا السلام فإلى جهنم وبئس المصير! هذا ليس تحدي الحضارة بل تحدي الضمير!
قال مديري في هدوء: أعرف أنكم تحتاجون زمناً كي تألفوا الحرية وتتربوا على استعمالها دون أن تضيعوا صوابكم! أعرف ذلك من تجربتي الشخصية! كان عندي مرة طير جميل خطر لي أن أطلقه في الغرفة، فضاع صوابه. كسر الأكواب الثمينة والثريا الجميلة، ووسخ الأرائك المخملية. جن! ولم يعد عقله إليه إلا عندما أعدته إلى القفص. لا أقفاص في العالم الجديد! لكننا يجب أن نتدرب على استعمال الحرية فلا نشمت بنا العدو.
انسحب في مهابة بعد ذلك الكلام . أسرع موظف ففتح له الباب، وانحنى له آخر كما كان ينحني في الزمن القديم. انسحب لأنه يخشى أن ينقل أنه سمع ما أقول! بعد خروجه استقام السكرتير وأعلن في قسوة باردة: تحسب أنك ستسجل اسمك في حلم بعيد؟! لا، لن نسمح بأن يقال أنا تهاونا أو زللنا أو خفنا من الغوغاء! لن نسمح بذلك لمن هو أكبر منك ولا لمن هو أصغر منك! مشكلتك أنك تفكر بعقل العالم القديم. لم تفهم حتى الآن أنه اندثر!
قرر السكرتير أن يقدمني على الآخرين في التوقيع. التفت إلى رجاله المخلصين فدفعوني إلى الدفتر الأزرق ذي الشرائط المذهبة. وعندئذ وقعت. سمعت زملائي يرددون: جلطة! وخلال جنازتي سمعتهم يحصون من سكت قبله في ذلك اليوم. تحدثوا هامسين أحاديث فيها حزن علي وعلى الراحلين. لكن المكبرات كانت تعلن أن قلبي لم يتحمل أفراح الاحتفال بنهاية أكبر صراع في هذا القرن، وبالانتقال من عالم التوحش إلى عالم الحضارة والسلام. حاولت أن أدفع غطاء التابوت كي أعلن الحقيقة للسائرين في الموكب، فوجدته مغلقاً بالمسامير والأقفال. وتذكرت القول الذي كانت أمي تردده: الكذب على الموتى وليس على الأحياء! وقررت أن أصحح لها مثلها عندما نلتقي.
ولهذا وجدت نفسي أفتش الشواهد باحثاً عن اسمها. لم أجده! فطرقت القبور متسائلاً هل سرق مأواها؟ ثم سمعت همس جارتها: أمس طلب من الموتى التوقيع في دفتر ذي شرائط مذهبة يعلن نهاية أطول صراع في القرن! حاولت أمك الانتحار. لكنها لم تستطع الموت مرة ثانية فهربت. وما زالوا يبحثون عنها بالأنوار الكشافة والكلاب. أنصحك يا ابني، لا تذكر اسمها!

The morning
04/10/2007, 07:21
حـكايه قـديمه ..


كان يا ما كان في حاضر وقديم الزمان، كانت تعيش بلدة صغيرة حلوة في أحدِ سفوح الجبال أو في أحد السهول الواسعة الغنية بخيراتها، وكان جميع أهل البلدة متحابون طيبون، يحترم الصغير فيهم الكبير – وطبعاً – يعطف الكبير فيهم على الصغير. كما أن الأغنياء منهم ينظرون بعين المحبة والإيثار، إلى الفقراء منهم، فما يقدِّمونه لهم بيمناهم من أعمال خير لا تعلم به يسارهم..
وكان الفقراء بالمقابل، أناس قانعون بما يملكون، راضون بقسمتهم في الحياة، وليس للجشع "مطرح" في أرواحهم. أما البصَّاصون والعسس، فكانوا لا يبرحون أماكنهم خوفاً على أمن البلاد والعباد، وضماناً لراحتهم. وتجار البلدة، تعجز الكلمات عن إعطائهم حقهم لما يتمتعون به من صدق الكلمة، وجودة البضائع وقناعة بالربح البسيط، وذلك لعلمهم وإدراكهم أن أهل البلدة ما هم إلا أهلهم، وأولادهم ما هم إلا أولادهم. أما الصنَّاع والحرفيون وأصحاب الكارات، فكان لشرف المهنة القول الفصل، حيث إن الجودة العالية والأسعار المنخفضة، والأمانة والاستقامة، هي الشعار المقدَّس الذي لا خروج عنه ولا بديل. أما معلم المدرسة، فله من الإجلال والاحترام القدرُ الكبير، لما يقدِّمه لأولاد البلدة من مفيد المعلومة، ورفعة الأخلاق، وصدق التعامل، فهو أنموذج يقتدي به الكبير قبل الصغير. حتى بيوت هذه البلدة، هي بيوت لطيفة بتصاميمها بسيطة جميلة غير متكلفة، وقد وزَّعت أصص الورود على أسطحتها وشرفاتها برفيع الذوق والأناقة. ولن ننسى هذه الشوارع الصغيرة والزواريب الضيقة الحلوة، التي تفوح منها رائحة النظافة والترتيب، والناس يسيرون فيها باسمين لبعضهم البعض بكل صفاء ومحبة، تسمع همهمات من هنا وضحكات ناعمة من هناك لأناس يقفون أمام المحال يتجاذبون أطراف الحديث بهدوء واحترام. لن أبالغ إذا قلت بأنه حتى حيواناتهم وماشيتهم وقططهم وكلابهم وحميرهم وبقرهم وغنمهم، هي حيوانات أليفة لطيفة نظيفة، لما تلاقيه من عناية ورأفة من قبل أهل البلدة وأطفالهم. لن أستفيض أكثر من ذلك، عما تحتويه هذه البلدة من أسباب العيش الهانئ وطيب المقام.
لكن الشيء الوحيد الذي لوَّث هذا الصفاء والتناسق والجمال، هو أحد الرعيان الذين يسوقون الغنم والماعز من طلوع الشمس حتى غيابها ـ أظن أنكم تعرفون حكايته ـ كان يرعى الخراف والماعز ويعزف على شبابته، وأحياناً ينظم الشعر المحكي، ويغنيه لماشيته ليسليها، وليفتح قابليَّتها بتناول العشب النضر المنشور عند أطراف البلدة، كما أنه بغنائه هذا يمكن أن يردَّ عنها الضواري والذئاب.
وفي يوم من الأيام، لم تدر البشرية حتى الآن لماذا – انضرب على قلبو- وأوقع الدنيا في حيرةٍ لا مثيل لها، عندما أحبَّ أن يتسلى أكثر، فقرَّر أن يبعد الضجر عنه، وبدأ بالصراخ جهة البلدة وأهلها مستغيثاً طالباً النجدة، لأن الذئب قد هاجمه وبدأ يفتك بالقطيع – تعرفون الحكاية- وعندما سمع أهل البلدة صراخه، حمل كلُّ واحد منهم، نساء ورجالاً وأطفالاً، ما استطاع حمله، من فأس وعصا وحجر، وهرولوا باتجاهه صارخين زاعقين مغيثين، ليقضوا على الذئب الغدار... وعندما وصلوا إليه وجدوه يجلس بجانب صخرة، أو تحت شجرة- لم أعد أذكر- وكان يضحك ويقهقه ملء شدقيه، ساخراً من أهل البلدة ومن سذاجتهم...
فسألوه: لماذا كذبت علينا؟ فأجابهم ساخراً –وأعتقد أنه لم يجبهم بشيء- وظلَّ يضحك منهم. زعل الناس وطلبوا منه عدم تكرارها وعدم الكذب عليهم، وعادوا إلى منازلهم وإلى حياتهم الوردية. وفي اليوم التالي، وبينما كان القطيع يرعى الأعشاب النضرة الخضراء، والراعي يعزف على شبّابته، قفزت اللعبة الشيطانية إلى رأسه مرة أخرى، فوقف على صخرة أو شجرة – لم أعد أذكر- وبدأ بالصراخ والعويل: يا أهل النخوة لقد هاجمني الذئب، يا أهل الحميَّة سيأكلني الذئب...
حمل الجميع عدَّتهم وهرولوا راكضين باتجاهه حتى وصلوا إليه منهكين متعبين، فوجدوه ممدَّداً بقرب صخرة أو تحت شجرة – لم أعد أذكر- وهو يقهقه ضاحكاً ساخراً منهم. فسألوه معاتبين: لماذا كذبت علينا؟ فأجابهم ساخراً- وأعتقد أنه لم يجبهم بشيء- وظلَّ يضحك منهم. وهكذا ظلَّ الراعي يفعلها، في اليوم الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن، والألف والمليون.
كان يصرخ مستغيثاً وطالباً العون من أهل البلدة بأن ينقذوه من الذئب الغدَّار، وعندما يصل الناس إليه يجدونه منبطحاً بجانب صخرة، أو تحت شجرة- لم أعد أذكر- وهو يضحك منهم ساخراً. حتى الآن لم يأكل الذئب هذا الراعي الكذاب، وبقي الناس يلبُّون طلبه ودعواته لهم، ولكن هذه الدعوات والمناجاة، أخذت أشكالاً مختلفة وطرقاً أخرى. فقد طوَّر هذا الراعي أدواته ولم تعد بالصراخ والغناء والشبابة فقط، بل وصلت عبر الفضائيات والأرضيات والإذاعات، ولافتات القماش الملوَّن، والصور الباسمة المعلقة في كل زوايا الشوارع والحواري، وعبر الخيم والقهوة المرة والجُعالات والهدايا والتقدمات.
بــسام كـوسا

butterfly
05/10/2007, 08:22
الرأس المائل
أسامة حويج العمر

ذات صباح، وبعد ليلة مشحونة ببروق الكوابيس، استيقظت من نومي بقرفٍ ، وبدأت بتدليك رقبتي التي أصابها التصلُّب ربما لأني نسيت إغلاق نافذتي المطلّة على الشتاء والبطالة. رأسي كرحم امرأةٍ حبلى بأربعة توائم مشوهة! أسير باتجاه النافذة بعدما زررت ياقة البيجامة جيداً، أتأمل الأشجار المنتصبة على جانبي الطريق، السماء تلقي برذاذها المتسرب من الشلال الأبيض المتجمد، طفل يركض خلف قطةٍ صغيرة لا تلبث أن تختبئ تحت إحدى السيارات، من بعيد يظهر قاسيون معانقاً الأفق، بدا كماردٍ أجلسه التعب.. خُيّل إليٌّ أنه يلهث.. ولكن ما الذي يدفعه للهاث؟ فجأة، يُزلزلُ رعدُ صوتٍ يهز أركان الحي: غاز.. غاز!
أنظر ناحية اليمين بذعر، كانت سيارة سوزوكي فيها اسطوانات الغاز وفوقها رجل ضئيل الحجم أسمر الوجه يضع على رأسه طاقية سوداء لاكها الزمن، ينظر في جميع الاتجاهات ولا يلبث أن يتابع بصوتٍ أعلى من ذي قبل: غاز.. غاز.. ياللهول! أيها الرجل الضئيل.. من أين تأتي بمثل هذا الصوت الذي يبدو وكأنه قُدٌّ من جبال همالايا؟!! وشعرت بشيء من الغيرة أنا الذي يبدو صوتي ضعيفاً حتى مع استعمال مكبّر الصوت!
لفحتني نسمة باردة حركت راكد المشاعر المختلطة، صاحب المنزل الذي بعث إليٌّ آخر تهديداته ليلة البارحة : لقد تأخرت ثلاثة أشهر عن دفع الإيجار.. سأمنحك مهلة يوم واحد وإلا..، زوجي التي هجرتني بسبب فقري ومرضي، ابنتي الصغيرة هبة، هذه الطفلة الجميلة التي اشتقت إليها كثيراً.. والبطالة! هذه الساحرة الشريرة التي تقف لي بالمرصاد أينما ذهبت وأنىّ تحركت.. هذه العجوز الفاجرة التي تطاردني في صحوي ومنامي، لم أتمكن من إتمام أسبوع واحد قي أي عمل استلمته، صاحب متجر الملابس طردني لأنني متكبر وبطيء الحركة، وصاحب المزرعة العجوز طردني ولم يلبث أن طاردني حول المزرعة حاملاً العصا لأنني كنت آكل من التفاح والأجاص والخوخ أكثر بكثير من الكمية التي أقدمها له ولعائلته، أما أبو أحمد صاحب أكبر محل لكيّ الملابس في المدينة فقد وصل به الأمر لمطاردتي والمكواة المحمّاة على نار جحيمه بيده لأنني أحرقت ما يزيد عن أربع قطع ملابس ما بين بنطال وقميص وسترة، الأمر الذي عرّضه لألسن أصحابها المحمّاة ورغم الوساطات الكثيرة لم أتمكن من العودة للعمل لديه.
نسمات باردة تتقاطر إليّ ، تتغلغل في خيالي المتشرد في كل مكان فتجمده عند أيكةٍ من أيكات الماضي الفاتنة والحزينة، فدوى.. تلك الفتاة الحالمة ذات العينين الخضراوين والبشرة الحنطية، ما أكثر ما كنت أنهل من كوثر ضحكاتها، لكنها هجرتني فجأةً ودونما سبب.. دون حتى أول حرف من كلمة" وداعاً". نسمات شديدة البرودة.. رياح قطبية تجمّد خيالي وتحركه كيفما تشاء، يحطمه فجأة زعيق البائع المتجول: بطيخ.. بطيخ..! ترتسم على شفتيّ ابتسامة باهتة: أمِن أجل كلِّ هذا الحزن خلقتني يا إلهي؟! الكرة الأرضية بطيخ.. المستقبل بطيخ لا يعلم أحد ماذا يخبئ بداخله، القدر يجلس على أريكة وثيرة وينظر إلينا بعينين نصف مغمضتين حيناً.. وبعيون مفتوحة عن آخرها أحياناً.
رأسي منفضة سجائر في قبو يقطنه مراهقين نبذهم المجتمع.. هل أنا إنسان فاشل؟ ربما.
أغلقت النافذة جيداً بعد أن بدأ المطر يتساقط بغزارة، أرهقني البرد الممزوج بحرارة الحزن، أشعلت نار المدفأة ثم توجهت إلى المغسلة لغسل وجهي بالماء والصابون، لكنٌّ وجهي ظهر على المرآة بوضعٍ مائل! حدّقت جيداً.. تملكني الذهول، تحسست رأسي ورقبتي بذعر: ليس فيهما ما يدعو إلى الريبة، فحصت إطار المرآة.. ليس فيها أيُّ ميلانٍ فسألتها بصوتٍ شوهته الجروح: ما هذا.. ما الذي حدث؟ أجابتني قائلة: أنا أنقل الواقع بأمانةٍ تامة

butterfly
06/10/2007, 06:57
هاربة من منبع الشمس
للرائعة:oops: .. غادة السمان

ما زلت في أعماقي..
تمسح الطين عن جسدي بأهدابك !
مازلت في أعماقي...
النجوم تفور من منابت شعرك فوق الجبين الأسمر وتنهمر فوق صدرك وهديرها أبداً يناديني .. يهتف باسمي ذائباً ملهوفً ..
وأسرع في مشيتي، أشد كتبي إلى معطفي، وتظل أنت تتمطى في أعماقي، والشتاء يتأوه في قطرات المطر التي تلعق وجهي .. وتظل أنت تهتف باسمي، والريح تعول وتدور حول الأذرع الرمادية لأشجار متعبة تسندها ظلالها إلى جانبي الطريق .. والرعد يتدفق في أذني كصرخات دامية التمزق لامرأة ضائعة في صحاري شاسعة.
مازلت في أعماقي تتمطى!
وأنا أنزلق فوق ظلمة الشارع، ويخيل إليّ أن برك الماء المتجمدة قد ابتلعت أنوار الجامعة التي خرجت منها قبل قليل ..
وألتفت ورائي وكأنني أريد أن أتحقق من أنها فعلا هناك .. المكتبة، والمقاعد الخشبية في الحديقة، والنادي المزدحم حيث التقيت زرقة عينيك الضالتين أول مرة، يوم جئت تبحث عن أختك، زميلتي في الصف، وتطوعت أنا لأشاركك التفتيش عنها .. وأحسسنا بسعادة مبهمة ونحن ندور معاً من مدرج إلى مدرج ومن باحة على باحة فلا نجدها .. ونتبادل الحديث بعفوية لذيذة كأي صديقين قديمين ..
كم كانت أختك رائعة وكريمة ذلك اليوم! .. لقد اختفت .. لم نجدها بالرغم من الساعة التي قضيناها منقّبين، والتي انتقل البحث في دقائقها الأخيرة من القاعات إلى وجهينا ..
وشدتني إلى عينيك كآبة حنون، مغرية الدفء كلهيب موقد يلوح لضائع بين الثلوج من وراء زجاج نافذة .. تنهدت بارتياح لما لم نجدها، وعرضت عليّ تناول كأس من الليمون في النادي ريثما نستريح ونعاود البحث من جديد .. وجلست أمامك .. أشرب من ملامح وجهك وأخزنها في أعماقي بحرص بينما أنت تحدثني ببساطة وانطلاق عن رتابة ساعاتك .. عن جلستك البلهاء كل أمسية وراء زجاج المقهى وتشابه أيامك .. كيف أن السبت يمكن أن يكون ثلاثاء أو أربعاء بالنسبة إليك .. الأشياء التي فقدت طعمها ولونها والأيام التي أضاعت مدلولها ..
وظللت أعب من كأسي وفرحة جديدة تعربد فوق المنضدة وتنثر شعرها إشعاعات سعادة في كل ما حولنا .. حتى في نظرات زملائي المرتابة التي بدأت تنتقل من وجهي إلى وجهك بحدة وفضول ..
قلت لك ضاحكة لأخفي بعض ارتباكي: " إنهم يحدقون إلينا وكأننا .. حبيبان!! " والتقت نظراتنا بصورة غير عادية لما نطقت بكلمتي الأخيرة "حبيبان" .. لا أدري لماذا ارتعش صوتي مع انتفاضة أهدابك، بينما رددّت أنت عبارتي شبه حالم وكأن حجب الغيب قد انتهكت أمام عينيك : " كأننا حبيبان " . !
وظللت أتأملك مفتونة نشوى، وكأنني اكتشفت في أعماق عينيك مغارة مسحورة ياقوتية الجدران، تومض كنوزها المكدسة قوس قزح وديع الهدوء، يترسب في حواسي، ويغمرها بخدر لذيذ .. لا يعكره سوى همسات الزملاء الذين ركزوا اهتمامهم على التيارات اللامرئية الهادرة بين مقلتي وشفتيك .. لذا لم أتردد في للخروج معك حينما اقترحت عليّ بصوت مبهم النبرات أن نستمر في " البحث عن أختك " خارج الجامعة !
وارتمين شبه حالمة في زرقة سيارتك لنضيع معا في شوارع المدينة التي لم تبد كئيبة كعادتها .. وأدركت أنك بدأت تتسلل إلى أعماقي ..
ولما جئت مع مساء اليوم التالي، عرفت أنك لم تأت باحثاً عن أختك .. وأسندت وحشتي إلى سأمك وانطلقنا بهما إلى الغوطة حيث وأدناهما قرب خيمة ناطور أغرتنا نيرانه بالاقتراب منه وإلقاء التحية عليه .. وجلست ترقب رقصة الوميض على جانب وجهي، بينما أنا أعبّ القهوة العربية، والقمر يستند على جانب الخيمة حينا، وتختطفه أرجوحة الرياح الغمامية حينا آخر ...
مازلت في أعماقي !! .. تضحك زرقة عينيك لكآبتي . المنحنى قد غيّب الجامعة عن أنظاري .. والوحشة ترتّل أنات الفراق في دبي .. وأنا اسير إلى غرفتي الباردة وأهذي ..
أمواج المساء لم تعد تنحسر عن ضياء عينيك.
بحاري الكئيبة لم تترقب رنين مرساتك الذهبية في أبعادها السحيقة .. أسير .. وأتعثر وحيدة كطفل جائع في معبد مهجور، مازالت رائحة دم حار تسيح من جدرانه المرعبة .. وأنت .. مازلت في أعماقي ! تمسح الطين عن جسدي بأهدابك .. وصوتك الذائب، صوتك الملون مازال يعربد في عروقي مبتلا بالمطر .. مطر دافئ كان يغسل نوافذ سيارتك " الهائمة في غوطة دمشق " وتتمسك قطراته بالزجاج، وتحدق بفضول على الداخل .. إلى حيث الدفء .. إلى حيث أنا وأنت ذرّتا رمل جمعتهما العاصفة في شاطئ صخري .. وتظل حبات المطر تنزلق ببطء منصتة لهمساتنا ..
- اقتربي مني يا رندة .. اسكبي الألوان في الأشياء التي أضحت باهتة كالأشباح .. اضرمي النيران في وحشتي ففي نفسي جوع إلى النور .. ضمّي وحدتك وتشردك إلى لهفتي وفراغي ..
وأقترب منك .. ألتصق بذراعك الأيمن وأرمي بأثقال رأسي إلى كتفك :
- مذ حضرت من بلدتي الصغيرة وانتسبت إلى الجامعة ومدينتكم وحش يخيفني ..
- ماذا يخيفك فيها يا حلوتي ؟
- لكل شيء طابع لا إنساني هنا .. أسمع ضجيجا وعويلاً أرى مصدره .. تنبع من الزوايا المظلمة صرخات بلا شفاه .. تتفجر من شقوق أحجار الشارع دماء بلا جراح .. الزيف يلون كل شيء بكآبة باهتة صفراء ..
وفجأة توقف سيارتك وتلتفت إليّ وكأنما روّعتك حرقتي وأثارت حنانك .. وتتجمع قطرت المطر بفضول حول النوافذ كلها وتظل تنصت بينما أنا أهذي شبه باكية :
- كنت أخرج من الجامعة مساء، أدور في الشوارع وأبحث عبثاً عن ظلي . واكتشفت أن كل شيء في مدينتكم مزيف، حتى النور الأبيض الفاجر محروم من الظلال من الظلال التي تكسبه مسحة حزن إنساني مستكين ..
- يا غجريّتي الصغيرة الضائعة ..
- كنت أصرخ بوحشية كلما كفّنني صمت غرفتي لعلّي آنس بصدى .. ولكن الجدران بخيلة حتى بالصدى !! .. وأضربها بقبضتي .. أحاول أن أغرس أظافري في أحجارها الصلدة .. وأنشج .. وعبثاً أنتظر أي وتد حقيقي في عدمي المريع .. لا ظل .. لا صدى .. لا شيء .. لا شيء حتى وجدتك ..
وتزداد اقتراباً مني .. ويخيل غلّ أنك تريد أن تلتقط بشفتيك كلماتي المتعثرة فوق عنقي وذقني قبل أن تتناثر في فضاء السيارة الدافئ ..
- كنت أتشرد كل ليلة في دربي المقفر .. أحس بملايين الأيدي الخفية تضغط على عنقي .. تسمرني في الشوارع عارية تحت أسياخ المطر الباردة .. تحملني من شعري بقسوة وتدلي بي في البرك الموحلة .. وتظل تنقلني بين الآبار المتجمدة و أتخبط في الهواء، لا أقبض إلا على حزم الريح، لا أقبض على شيء !
لا شيء حتى وجدتك .. ولن أفقدك لأي سبب في العالم ..
وأشدد قبضتي على ذراعك بينما تتحسس يداك ظهري وتبعثان رعدة دافئة في جسدي المنهك .. وتهتف بي :
- أنت ترعبينني بهذه الأفكار ! ..
- بل إنها ترعبني أنا بالذات .. لم أجرؤ قط على الاعتراف بها لنفسي وأنا وحيدة .. أما الآن .. وأنا أمام صدرك ..
وقاطعتني هامسا بحرارة :
- بل أنت تغفين في صدري .. تتبعثرين في الدم الذي يتدفق في كل ذرة من كياني ..
ويسعدني دفء أهدابك التي تمسح الطين عم جسدي وأنا أهذي :
- كم تعثرت في برك الطين ولطختني الأوحال .. وأنا أحسن أن قطرات المطر مدببة الجوانب وخّازة الحواف .. تنغرس في خدي بينما بردها الكاوي يلهب عذابي ..
- والآن يا رندة ؟ ..
- تبزغ شمس في كل قطرة مطر ..
وأشدك إلى صدري بكل قواي .. أفتّتك ذرّات، وأسحقك ذرّات، وتنسلّ كل ذرة من إحدى مسامي إلى أعماقي .. إلى حيث ينضم بعضها إلى البعض الآخر من جديد .. وأحس أنك حي تعربد في الحنايا والضلوع .. وتهتف بنشوة :
- أيتها الغجرية الهاربة من منابع الشمس .. ألا ترين أن الصقيع أدماني ؟؟ ..
وأحدق إلى الشعيرات البيض التي تسلّلت إلى شعرك، ويخيّل إليّ أن ثلجاً لئيماً يتمسك بها .. وأحاول إذابته بشفتي الملتهبتين وأنا ألثمها شعرة إثر شعرة ...

butterfly
06/10/2007, 07:00
وتبعدني عنك ضاحكا، وتمسك بوجهي بكلتا يديك، فتتألق حلقة ذهبية في بنصر يدك اليسرى طالما رأتها من قبل ..
وأسألك بكثير من اللامبالاة :
- منذ متى تزوجت ؟
- منذ سبع سنوات ..
ما يهمني سواء كنت متزوجا أم لا ؟ .. أنا وحيدة .. وحيدة .. يدي المتخبطة في فراغ الذعر لن تسأل اليد التي تعلق بها : كم عمرها ؟ لمن كانت من قبل .. حسبي أنها يد إنسان .. حسبي أنها يدك يا أغلى غالي ..
ويخيّل إليّ أن ذرّات الظلام تتفجر حول شفتي، وأن قطرات المطر تقفز مذعورة عن النافذة وأنا أسألك :
- هل لك أولاد ؟؟
- صبي وبنت !!
حاولت أن أرسم في ظلمة السيارة صورة لصبي وبنت يتعلقان بثيابك كلما دخلت دارك .. وزوجة تكشف لك طبق الطعام على المائدة، ويتصاعد البخار فيغطي وجهها بينما تحوط يداك خصرها كأي زوج .. لم أستطع .. حاولت أن أخجل من نفسي أن أتذكر ما تعلمته في بلدتي المنعزلة .. لم أستطع .. خيّل إليّ أن جميع أطفال العالم قد ذهبوا في حلقات متماسكة الأيدي إلى كوكب سحيق البعد .. وأن الطعام بارد على منضدتك .. وأن زوجتك لا تغري بالتقبيل .. وأن يديك لم تخلقا إلا لتضماني هكذا .. هكذا ..
وتظل قطرات المطر تتمسح بزجاجنا منصتة .. وأبخرة الدفء تتكاثف في الداخل حتى لا تعود القطرات الفضولية ترى شيئا .. وحتى لا تعود تسمع شيئا بعد أن تخفت همساتنا، وتستحيل إلى قبل مكتومة .. فتهوي إلى التراب وتمتزج به في عناق وديع الاستسلام ..
وتنفض عن عشنا الأزرق ذرّات المطر ونحن ننطلق من جديد إلى أعماق الغوطة، إلى حيث تلوح خيمة الناطور ذي الوجه الباش والكلب الأبيض الودود .. وتوقف هدير المحرك وأنت تسألني ككل ليلة :
- ما رأيك بفنجان دافئ من القهوة ؟
ويتلوى شبابي طربا ً .. وأجيبك بفتح باب السيارة والقفز منها غير عابئة بالمطر .. وتركض يدي في يدك إلى الخيمة ونجلس أمام نيران الناطور طفلين في الغاب هربا من مذبح مرعب نذرا فيه قربانين لإله أحمر العينين .. وتتعانق نظراتنا بين أحضان اللهب الذي يزداد تأججاً .. والناطور يرقبنا ببهجة فطرية طالما افتقدتها في أعين العابرين من أهل المدينة . حتى إذا ما سرى في عروقنا دفء قهوته العربية، عدنا إلى عشنا الأزرق حيث تلتقط بشفتيك حبات المطر العالقة بأهدابي .. ويغيبنا المنحنى الرمادي .. لماذا أستعيد هذا كله الليلة مادمت قد مضيت ؟ ..
أنا أعرف أننا لن نعود نلمّ الحنين .. لن نشرب القهوة العربية عند خيمة القمر .. لن تلتقط بشفتيك حبات المطر عن أهدابي ..
مضيت .. دون أن نتشاجر مرة واحدة .. دون أن نختلف في رأي .. كان كل شيء على حاله يوم افتراقنا ..
الطريق ينزلق بهدوء تحت عجلات عشنا الأزرق .. والاطمئنان يسبل جفنيه النديين على قلبينا، وأنا أدفن قُبلي بين عنقك وياقة معطفك، وأغمغم ببساطة : لم تعد المدينة ترعبني منذ تمددت في زرقة عينيك .. ستكون لي أبداً، أنت والمطر، والقهوة عند خيمة القمر ..
- نكاد نصل يا رندة، ارتدي معطفك . لا أريد أن يصيبك البرد .
وأنهض على ركبتي، ووجهي متجه نحو المقعد الخلفي كي ألتقط معطفي الذي رميته هناك كعادتي كل ليلة .. وفجأة .. أراها هناك ! ..
فردة حذاء طفل تبسم في وجهي بسخرية ممزقة ! .. فردة حذاء طفل منسية سقطت من قدم ابنك بينما زوجتك تحمله وهي تهبط به من سيارتكما .. أجمد ! .. يغمرني خجل مذعور مفاجئ ..
وكعادتك تظل قابضاً على المقود بيدك اليسرى بينما تحوط خصري باليمني وتجذبني إلى صدرك ضاحكاً مداعباً .. لا أغمر وجهك بقبلي اللاهثة .. أظل زائغة التعبير مجمدة النظرات إلى الوراء، حيث ترمي ببصرك متسائلاً .. وتراها كما أرها .. لا شيء .. مجرد فدرة حذاء طفل تبسم بسخرية ممزقة !! ..
وأدرك أنك تفهمني تماماً .. لا حاجة بي إلى الكلام مادمت تسمع هذيان صمتي المحموم ..
توقف سيارتك ويخيل إليّ أن صوتك انبعث متعبا هدته الليالي وأنت تقول :
- لقد وصلنا .. هل أنتظرك غدا كالعادة ؟
وأجيبك ونظراتي مشدودة إلى فردة حذاء طفلك الساخرة :
- لا .. لم يعد ذلك ممكنا .. أليس كذلك ؟ ..
كان ذلك آخر نقاش دار بيني وبينك .. لكني أحسست ساعتئذ أن الرياح قد حطمت نوافذ عشنا إلى الأبد .. ونظرت على صدرك، إلى حيث تسحقني كل ليلة مودعا، وخيل إليّ أن جميع أطفال العالم عادوا منشدين من كهوفهم السحيقة، وتبعثروا على صدرك، بأطرافهم الشفافة وأجسادهم الهشة ورؤوسهم الدقيقة .. يكفي أن أحاول لمسهم حتى يتناثروا أشلاء بريئة بين أصابعي الدموية ومخالبي المرعبة .. وأردت أن تضمني مودعاً لكنني هربت .. هل كنت تريد أن نسحق صرخاتهم بين جسدينا ؟؟؟ .. أن نلطخ أكتافنا وأذرعنا بطفولتهم الشفافة الدقيقة ؟ أما يكفينا عذابنا ؟؟ ..
ومددت يدي أصافحك، وكان الصمت يهذي، وكانت أعيننا تنضح دموعها إلى الداخل .. إلى الأعماق .. وكانت ثورة شعري المبعثر تبكيك .. وكان عذابي ينشج بسكون ..
واختطفت معطفي وأنا أتحاشى النظر إلى فردة حذاء الطفل المنسية التي ظلت تبسم بوداعة دافئة حينما هبطت من العش الكسيح .. إلى الأبد ..
ولما ضمني برد غرفتي، رأيتك بين أشباح السقف تدخل دارك الدافئة .. أطفالك يتمسحون بثيابك وأنت تنحني إلى الأرض لتدخل في قدم ابنك فردة حذائه الضائعة بحنان دقيق .. وتُقبل زوجتك سمينة متدحرجة .. فتقبّل خديها اللذين تفوح منهما رائحة طعام شهي ..
ورأيتكم جميعا بوضوح .. وأدركت أنني لم أعد أستطيع انتزاعك من إطارك الحقيقي لأطير بك إلى مغاوري الفضية في جبال القمر .. لم أعد أستطيع .. ولكنك مازلت في أعماقي !
تتمطى وتحدثني وأنا أخرج من الجامعة كل ليلة .. يبتلعني بحر الظلام الكئيب وتحملني أمواجه إلى غرفتي الباردة . أدرس أحياناً، وأكتب الرسائل المطولة إلى أمي وأبي .. وأنت تنزلق بين الكلمات .. تستلقي على الحروف وتقفز فوق النقاط وتهمس بين السطور .. وأنت تتسلق الصفحات وتظل زرقة عينيك تبسم ..
مازلت في أعماقي .. تمسح الطين عن جسدي بأهدابك !
وأنا أسير وقد اختفت الجامعة تماماً .. البرق يلتمع ويضيء البقعة التي كنت تربض عندها بسيارتك منتظراً أن أصل إلى البوار ..
أسير بحذر وأشد كتبي إلى صدري والمطر يتسلل على جسدي .. وأنت مازلت في أعماقي تهمس " اقتربي يا رندة، في نفسي جوع إلى فجور النور " .. الدموع تتفجر في عيني وتضيع مع المطر المتدفق .. موضع عجلاتك الراحلة يهذي .. ينهش من قدمي وأنا أمر وأمزق الذكريات مع ضربات حذائي .. وتصرخ يدي .. تريد أن تمتد لتفتح الباب كما كانت تفعل .. وتصرخ قدماي .. تريدان الصعود على دفئك الملون .. ويصرخ جسدي حيث طحنتك ذرّات تسللت من مسامي إلى أعماقي وتتلوى نظراتي .. تحن إلى التمسح بالشلال الأزرق الهادر من العينين .. ويظل صوتك يهمس من أغوار سحيقة مرعبة : " غجريتي الهاربة من منبع النور، ألا ترين أن الصقيع أدماني ؟ " وأحسن أني ظمأى .. ظمأى لشفتيك تجمعان المطر عن أهدابي .. ظمأى لخيمة القمر وقدح القهوة الدافئ وضحكاتنا الغجرية في كبد الليالي .. أنا ظمأى إليك وأنت تتمطى في أعماقي ببساطة مرهقة !
غربان القدر تنهش عيني الناطور قرب خيمته الممزقة .. رياح الشتاء تذرو رماد نيرانه .. والأمطار تغسل الحمرة عن جمراته حيث تترسب ليالي العذاب سوداء فاحمة .. الرمال أفاع تزحف لتغطي كل شيء .. الكلب يعوي في الخواء منتحبا . وأنا هنا .. وقد عادت الأيادي الخفية تضغط على عنقي .. تسمّرني في الشارع عارية تحت أسياخ المطر .. تحملني من شعري بقسوة وتدلي بي في البرك الموحلة والآبار المتجمدة .. وأشد وشاحي إلى رأسي .. أشده .. وأظل أشعر أن الأيدي تجذبني من شعري .. وأمضي إلى غرفتي .. لا أحلم بأكثر من جدران لا تبخل على وحشتى بصدى .

butterfly
06/10/2007, 07:03
القصة تبع غادة من كتاب

عيناك قدري (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)

:mimo:

امرأة من ورق
07/10/2007, 12:17
شجرة الشّط


أنيسة عبود



... وأنا على الشط..‏
البحر يلعب معي مرة. ومرة يضربني بقوة غاضباً أو جارفاً ثيابي ومرات يهدر. يهدر. ويملأ المكان بالضوضاء. هي ليست ضوضاء. بل إنه إله الحزن على تفتته وتمزقه والحزن على سجنه الأبدي.. يريد الخروج ولكن كيف..؟ إنه كالحوت المربوط إلى صخرة.. كالتنين المحبوس في خرم إبرة..‏
لماذا أيها البحر كل هذا الغضب وكل هذا الحزن.. في جوفك الحوريات واللآلئ والأسرار.. أيها البحر كم مرة تمنى السجين العودة إلى سجنه..‏
أصدقاء نحن.. أنا والبحر والمدينة.. لا أحد يعرف اسمي. ولا أحد يجزم باسمي.. منذ عقود كثيرة أقف شاهدة على المدينة وعلى أفراحها وأحزانها.. منذ عقود وأنا وحدي ألوح للشمس عندما تغرب وأحزن عندما تنام المدينة ويبقى البحر بجواري يصرخ..‏
سأكتب اسمك على شجرة البحر..‏
قال محمود لحبيبته وهو يمسك يدها ويتجه إلى الشجرة القابعة بصمت على الشط.. ابتسمت ليلى خجلة وسألت:‏
-ما عمر الشجرة يا محمود..؟‏
-لا أعرف... يقولون إنها أقدم من المدينة..‏
-سأظل أحبك طالما أسمي على الشجرة.‏
أخذ محمود سكيناً حادة وراح يحفر اسم ليلى بين آلاف الأسماء المزروعة على الشجرة هذا اسم هند وعارف.. وهناك اسم لامرأة صارت عجوزاً.. وهناك اسم لشاب.. غرق في البحر.. وهنا تاريخ ولادة ابنة الباشا... تقرأ ليلى الكثير من الأسماء ثم تهمس.. سيقرؤنا الآخرون أليس كذلك..؟؟..‏
-لن يعرفنا أحد.. إنها مجرد أسماء.‏
-ولكن الشجرة تعرف..‏
-أجل.. تعرف..‏
يأتي الصيف ويرحل.. تغادر النوارس.. ويخلو المكان إلا من بعض العشاق يبثون أشواقهم قرب الشجرة.. صارت رمزاً للحب ولحفظ الأسرار.. وصار العشاق يقسمون بالشجرة.. البحر يرنو إليها.. والقوارب تأتي وتروح.. تلوح لها الغيوم والمصابيح وشوارع المدينة..‏
هذه الشجرة مقدسة يا أم كامل.. لم يستطع البحر رغم جبروته أن يقتلعها..‏
لقد فاض منذ خمسين سنة وجرف البيوت القريبة والمقاهي ولم يستطع أن يجرفها..‏
لقد شاهدت في منامي أنني أشرب منقوع أوراقها كي أشفى من الروماتيزم.. ما رأيك؟.‏
-الله قادر على كل شيء..‏
لنذهب غداً ونجرب.. نقطف الورق ونغليه.‏
-لنجرب يا أم كامل..‏
كل يوم تنام تحت الشجرة.. يا محمود..؟؟‏
-استغفري ربك يا حرمة.. أكون متعباً ويائساً من قلة السمك.. أو تكون شباكي ممزقة أصلحها تحت الشجرة..‏
-لا بل تذهب لأن الفتيات يقصدنها باستمرار.. يعلقن بها حجب الحب والغرام..‏
-وأنا ما علاقتي..‏
علاقتك أنك تراقبهن لعل واحدة تقع في غرامك..؟‏
تنهد محمود وهو يرنو إلى الشجرة.. مد يده.. تلمس جذعها بحنو.. كاد أن يبكي.. لم يعد له من لحظات السعادة إلا الجلوس تحت هذه الشجرة يراجع حسابات الزمن ويشكو أوجاعه إلى هذه الظلال الكثيفة.. البحر صامت.. والشجرة صامتة ومحمود صديق هذه الشجرة منذ خمسين سنة.. منذ أن كان طفلاً، لقد هرم والشجرة لم تهرم.. إنها كما هي يوم رآها لأول مرة.. ويوم كتب اسمه واسم حبيبته ليلى.. لكن الزمن فرقهما وتزوج غيرها.. "أتذكرين يا شجرة البحر".‏
طفرت دمعته وهو يخاطب الشجرة.. كان حفيف الأوراق كافياً بالنسبة له ليستمر بالشكوى والشجون.. نظر إلى يديه.. جلدهما متشقق.. مترهل، تجاعيد كثيرة تتشعب على سطحهما... شتم الزمن الذي هو سبب الشقاء. استدرك.. وشتم الباشا الذي يحكم المدينة وهو ينهض عائداً إلى المنزل..‏
وأنا على الشط.. خلفني الزمن كصخرة.. أشهد الدموع والتنهدات.. وأسجل بين أوراقي كل ما يدور في المدينة.. مرة فاض بي الصمت.. أردت أن أقول رأيي، والأزمنة تعبرني.. والناس يتغيرون –والملوك يظلمون- ولكن زجرني البحر وقال:‏
كوني مثلي.. إني استذكر الذين رحلوا والذين سيأتون.. أستذكر الأيدي الملوحة والدموع النافرة.. وتعتريني نهدة حزن لا أعرف عمرها.. أرسل بالموج يصفع الصخور.. يفتتها وهي لا ذنب لها إلا أنها قانعة صامتة صابرة..‏
-ماذا في المدينة..‏
أصبغة تراق على الشوارع والجدران.. أطفال يحملون المكانس ينظفون المدينة.. عسس يتجولون.. هنا يقطعون الأشجار وهناك يزرعون.. يحفرون أيضاً وهناك يبنون.. أي حدث جلل في المدينة ينتظرون.. أيها الغارقون في النوم.. ماذا تقول أحلامكم.. وماذا أنتم فاعلون..؟‏
الباشا سيزور المدينة.. الباشا المبجل المعظم سيأتي هذا العام ليصطاف في المدينة.. وهو بحاجة إلى كرسي فاخر ليجلس عليه في قصره الجديد....‏
هيا أيها النجارون...‏
وراحت الفؤوس والرؤوس تبحث عن شجر مناسب لفخامة الباشا ليكون مقعداً وملاذاً وسريراً..‏
تسلل محمود من فراشه و كان نائماً قرب زوجته وراح باتجاه قصر الباشا.. راودته أفكار كثيرة.. قلب صفحات كثيرة من الزمن.. وقف عند باب الباشا وكان الصباح غسقاً والنجوم تتهيأ للنوم.. قرع الباب بقوة فأفاق الحراس..‏
-ما الذي أتى بك أيها المجنون في هذه الساعة..؟؟‏
-أمر جلل أريد أن أحدث.. الوالي به.‏
-الوالي سهران مع جارية..‏
-قل لنا ونحن نقول له..‏
-لا. أريد أن أقابله..‏
ودخل محمود وهو يتخبط بين الدخول والخروج وعندما شاهد الوالي أراد أن يخرج لكن الوالي نهره وقال: تعال هنا.. ما الأمر.. اقترب محمود وقال متلعثماً..‏
سمعت يا مولاي أنكم بحاجة إلى خشب نادر وخاص لصنع كرسي العرش وسرير وطاولة لتكون طاولة الشورى.. وبما أني ابن هذه المدينة البارة لذلك أريد أن أخبرك عن شجرة فيها الصفات التي تريدها..‏
-أعطوه مكافأة ألف دينار.. لكن أي نوع من الأشجار..؟‏
-إنها شجرة البحر يا مولاي..‏
-شجرة البحر..؟؟ أجل..‏
هيه.. أيتها الشجرة.. ماذا يفعلون..؟؟‏
نادى البحر الشجرة فلم تجب.. ها هي ترى كيف يهيئون لها السيوف والبلطات والفؤوس عروها من أغصانها واحداً.. واحداً ثم أتوا بحصان الدالي الذي راح يقضم الأغصان والأوراق..‏
ها هي عبارة عن ساق تكسوها الأسماء ووراء كل اسم قصة.. آلاف القصص مكتوبة على جذعها شرعت وجهها للسماء عارية..‏
ها هو المنشار..‏
راح المنشار يحز جذعها.. تقشرت بعض الأسماء.. سقطت على الأرض.. هبت رياح قوية وذرت القشور والأوراق.. خاف الوالي وراح بعيداً.‏
كانت الدموع تسيل من الأغصان المقطوعة وهم يحاولون نشر الجذع.. لم يستطيعوا جرح خاصرة الشجرة.. تفتت قطعاً صغيرة.. بكت الشجرة.. صمت البحر، وتحرك الموج بطيئاً.. إنه يسمع أنين الشجرة ويسمع نحيبها الذي ملأ الفضاء الرحب على شكل هبات ريح قوية.‏
كانت أم كامل في منزلها تمشط شعرها الأبيض.. طار المشط من يدها.. دهشت زمجر منقوع ورق الشجرة في زجاجة أم كامل.. أدركت العجوز أن الشجرة في خطر فاتجهت تركض إلى البحر.‏
اتركوا الشجرة.. إنها مباركة. مقدسة.‏
قالت أم كامل..‏
لم يكترث أحد لذلك..‏
اتركوها.. قالت وراحت ترمي نفسها عند جذوع الشجرة.‏
نهرها الرجال.. جروها بعيداً: "مجنونة".‏
كل الأشجار قابلة للقطع".‏
وأخذ المنشار يحز. يحز.. تكسرت أسنان المنشار وجرحت يد أحد الرجال..‏
فأتى آخر يحمل فأسه وراح يتحدى بقوة (يضرب ويضرب.. والريح تشتد..)‏
كان الأنين يتعاظم ويشتد وقره في أذن العجوز. وكان البحر صامتاً صابراً..‏
وقف الرجال عاجزين يتنهدون منهكين... وما أن اقترب محمود الصياد حتى نهرهم وقال: ابتعدوا هذه الشجرة أعرفها كما أعرف زوجتي.. إنها تحتاج إلى فارس قوي هاتوا الفأس.‏
فأس تعلو.. تهبط.. تعلو.. أنين.. نثرات تطير وتدخل العيون.. نثرات.. ومحمود يتلوى وينحني.. والشجرة تئن.. كأنها بشر سوي.. وكأنها تعاتب محموداً.. "خمسون عاماً من العشرة يا محمود".‏
"اخرسي.. ومكافأة الوالي ورضاه..؟!".‏
وهدرت الريح.. والمدينة كلها ترنو.. وتشهد شجاراً حاداً بين محمود والشجرة..‏
أتتحدينني..؟؟‏
وأخذت الشجرة تتهاوى.. بكت أم كامل.. وبكى عشاق آخرون.. أخذا يجمعون النثرات.. صعد البحر إلى أعلى.. أعلى.. ابتعد الوالي ومع ذلك ذهب حذاؤه مع الموج..‏
ركضوا كلهم باتجاه الوالي يقدمون أحذيتهم له.. الشجرة تميل. والعيون ترنو. محمود يتصبب عرقاً وهو يضطرب كثور هائج.. راح المنشار يأكل الجسد القديم.. يأكل الأسماء والأزمنة.. والشجرة تهوي. ثم.. ثم بكل ثقل زمن الصداقة مع محمود.. بكل ثقل ظلالها التي خبأت أجساداً وأسراراً سقطت على رأس محمود فدوى انفجار وتصاعد غبار وانشق رأس محمود.. سال دمه حتى وصل الموج فصنع مع الموج المتحرك خطاً أحمر عريضاً يتعرج مع الصخور.. زغردت أم كامل ومضت يتبعها عشاق وأسماء..‏

سرسورة
08/10/2007, 18:04
الست شفوق...... كوليت خوري
-مات جارنا العجوز!
وتناقل أهل الحي النبأ...كما هي العادة في حينا القديم الذي يشبه القرية الصغيرة....
وتوالت التعليقات..
ونطق أحدهم:-مات اخيرا؟ رحمه الله!
فتمنت واحدة:- ليتنا جميعا نعيش بقدر ما عاش...
-نعم...مائة وخمس سنوات....
ووصل الي الخبر وأنا في بيتي ,فأحسست بالغصة تنغرز في صدري ,ومشيت صوب النافذة وطارت منها نظراتي الى بيت جارنا العجوز , وشردت أفكاري..
كنت دائما أقول لجدتي شفيقة, وكنت أدلعها باسم"الست شفوق" و أمازحها ضاحكة:
-مارأيك بجارنا. هل تقبلين به عريسا؟
وكانت "تتغمى" كما نقول بلهجتنا الشامية في غنج وحياء وهي تهمس:
-اخجلي ...عيب....
وكنت أصر:-أين العيب يا ست شفوق؟ أنت أرملة منذ ستين سنة ومازلت جميلة..وجارنا أيضا أرمل ...وهو يكبرك بعشرين سنة...!
وكانت تحمر وجنتاها كما قبل ستين سنة وتقول:-"تقبريني"... اسكتي...لئلا يسمعك أحد...عيب!!
جارنا العجوز!!!!أنا لم اكن أقابله...لكن معرفتي به قديمة تعود الى ولادتي...
ففي حينا القديم,يعرف كل واحد جيرانه مذ يفتح عينيه للنور....
وأنا ابنة هذا الحي...وكنت صديقة أحفاده وحفيداته....
ولطالما تناقلنا ,نحن الأحفاد ,أخبار أجدادنا و جداتنا, وقصص عطاءاتهم لنا, ومواعيد زياراتنا لهم...
حتى أن أحفاده قبل أشهر أخبروني بأن جدهم على أحسن حال, وأنهم ذاهبون اليه ليحتفلو بعيد ميلاده الخامس بعد المئة...
قبل أشهر....
أواه كم يبدو هذا التاريخ بعيدا....سحيقا...
أواه كم يبدو الماضي القريب بعيدا ......حين يكون الفاصل رحيلا.....
قبل أشهر أرسلت جدتي في طلبي..
امتثلت أمامها فقالت للاخرين بلهجتها المهذبة دائما:
-اعملو معروف اتركوني معها...
وخرجت امي وخالاتي وبقية أفراد الأسرة من الغرفة ,وبقيت مع جدتي ,وحدي....
فقالت: -اسمعي..أنا أريد أن أتحدث معك في موضوع جدي وهام..بعثت وراءك لأني أتكل عليك أنت وحدك...فأنا أعرف أنك قادرة على تحمل المسؤولية....
قاطعتها مستغربة:-ماذا هنالك؟.....أخبريني....
قالت: -اصغي الي جيدا...اقتربي مني...واصغي الي......
اقتربت وأنا أردد:-ماذا هنالك؟
فقالت: - استمعي جيدا...أنا عشت حياتي مستورة كريمة...فقدت زوجي ..جدك ,كما تعلمين وأنا في الخامسة والعشرين..ومررت بأيام بل بسنوات قاسية عصيبة...ماديا ومعنويا....صعبة جدا ومرة كانت تلك الفترات...لكن أحدا لم يسمع مني شكوى طوال هذا العمر....
دمدمت : -صحيح....فتابعت: -هذا الفم لم ينفتح في يوم من الأيام الا ليعطي نصيحة أو ليدعو الى الله أن يحفظكم....في الأيام الصعبة كان الصبر صديقي...وفي ايام الفرح كانت دموعي هي التي تعبر عن سعادتي....
ازداد عجبي من كلامها وسألتها:
-مالقصة؟ ماوراء كلامك؟ هل جرى شيء؟
قالت بلهجة متأثرة رزينة:
-انتبهي لي يا كبدي....
كانت دائما تناديني يا كبدي .....واه كم اشتاق الان لأن اسمع هذه العبارة بصوتها....واه كم اشتقت اليك يا ست شفوق.....
وتابعت: - كم قلت لك ...عشت حياتي كريمة مستورة ...أريد أيضا أن اكون كريمة في مماتي...أريد أن أوصيك بجنازتي...
صدمت فقاطعتها:- ماهذا الكلام الان؟؟
قالت: - لأنني أعرف أن بامكاني الاعتماد عليك..انا اتحدث اليك الان ...أنت الوحيدة التي استطيع ان اتحدث معها بهذا الموضوع...فلا تخذليني...أمك مريضة بالقلب و لاتحتمل مثل هذه الأحاديث...وخالتك التي أوصيك بها طيبة و عاقلة و انما ضعيفة لاتستطيع أن تقوم بمثل هذه المهمة...أما أنت......

سرسورة
08/10/2007, 18:06
قاطعتها وأنا أحاول أن تكون لهجتي ممازحة:- لا تخافي ...ستكون جنازتك ممتازة...فلا تشغلي بالك....
ابتسمت وتابعت:
-تقبريني..هذا مااريده...واحفظي الان...أن هنالك في الخزانة ,في الدرفة اليمنى, بقجة...وضعت فيها الثياب التي يجب ان أرتديها عندما اموت...يجب ان ابدو مرتبة....مشطي لي شعري و اعقصيه الى الخلف كمافي العادة...تقبريني لا أريد أن اتبهدل في موتي....
وابتدأ ينشغل بالي:
-ولكن...ماذا خطر لك لتفتحي الموضوع الان؟ هل تشكين من شئ ؟هل انت مريضة؟ هل تشعرين بشئ؟ ماذا هنالك؟
قالت:- لا لا......أنا لا اشكو من شئ ...أنا فقط تعبانة قليلا....انما يجب ان اتحدث في هذا الموضوع لارتاح...الموت ات في يوم...فلماذا...لا اهئ له نفسي سلفا فأقضي باقي أيامي مطمئنة؟
قلت في ضحكة مفتعلة:
اطمئني....اطمئني....هذا موضوع فهمناه...والان يجب ان نتحدث في موضوع اهم...أنت على أحسن مايرام..ومازلت في نظري شابة.......فهذا جارنا الذي يكبرك بعشرين عاما يحتقل بعيده اليوم....ألن تغيري رأيك وتقبلي به عريسا؟
ابتسمت في حياء وعياء وتمتمت:-اسكتي...عيب!
ولم اسكت..وبقيت اتحدث معها واضحك...ولكن قلقا موجعا كان يتمدد ويحتل اعماقي....
وفي الواقع ..غادرتنا جدتي بعد شهر ..
في هدوء وأناقة ومحبة ....رحلت...رحلت وهي تبتسم لنا ..
كانت تستند الى ذراع خالتي و تمسك بيد ابنتي ...وتنظر الي باطمئنان....
كان وجهها مضيئا صافيا طاهرا....
رحلت وضل صوتها يتردد في أرجاء البيت :
-" تقبروني" ...أتعبتكم معي....وغرق أهل البيت بالبكاء...
أما أنا...فلم يجد الحزن يومها طريقة الى نفسي ...كان همي الوحيد أن أنفذ وصيتها لي....
أحسست بمسؤولية كبيرة حجبت عني الحزن....
لم أستوعب أن جدتي الغالية فارقتني الى الأبد وأن الأمر يحزن....
شعرت بالأحرى أنني مرتبطة معها بوعد وأن علي ألا أخيب ظنها بي...
ورحت أتصل بالمقربين والأصدقاء..وأسألهم عما يجب فعله في مثل هذه الأحوال...
أحسن ما يمكن فعله!!
اتصلت, وركضت, وتعبت, وهيأت.....وكانت الجنازة مهيبة....
مشينا وراءها كلنا ...رجال الدين والنساء والصبايا و الرجال....ولم أبك......
وفي الأيام التي تلت والتي غص البيت فيها بالناس, لم أبك....
كان فكري طول الوقت مشغولا بوعدي....
يجب أن يكون المأتم لائقا بهذه السيدة العظيمة التي نشأنا في أحضانها و كبرنا...
والتي علمتنا الصبر و الصمت والكبرياء...
هذه الكبيرة التي كانت في اللحظات الصعبة تردد علينا بلهجتها الشامية العريقة: -تقبروني. طولو باكم, الحياه بدها طولة بال....فالانسان يحفظ كرامته بطولة البال والصبر......
هذه الأم الحقيقية التي بقيت حتى اخر يوم في حياتها محتفظة بحيائها وكأنها عذراء في مطلع الصبا...
اه يا جدتي ...اه ياست شفوق...ياست الستات سيحمر خداك الان اذا قلت لك ممازحة ان جارنا العجوز لم يصبر على فراقك وأنه من فرط الهيام والوجد ...غادرنا ولحق بك....
نبهني من شرودي صوت ابنتي.: - هل سمعت أن جارنا العجوز مات؟
أومأت بالايجاب....فتابعت في تأثر: - لقد حزنت عليه كثيرا....
هززت رأسي وأنا أتمتم: - طبعا ...طبعا.....
وانفجرت فجأة أبكي وأبكي وأبكي......................................
واستغربت ابنتي: -ماذا أصابك؟
لم استطع أن أجيبها ...كنت غارقة في دمعي...فألحت وهي تقدم لي كأس ماء:
-ماذا جرى لك؟
فالتفت اليها ...وبين شهقات الدمع غمغمت:
-يبدو أنني الان.....الان فقط ...ابتدأت أبكي على جدتي......

دمشق 1992

سرسورة
08/10/2007, 18:08
القصة السابقة..من مجموعة الكاتبة طويلة قصصي القصيرة....

BL@CK
09/10/2007, 01:09
بكاء ولا دموع!


وسط هذا الممر الرمادي الطويل، الذي يبدو وكأنه لا ينتهي وسط الأكفان البيض المتحركة ممرضات وأطباء تتجوّلون بين جموع المرضى المتعبة التي تتجوّل وتثرثر، وكأنَّ الثرثرة بلسم لوجع القلوب الذي لا تنفذ فيه العقاقير...‏
وسط هذا السديم، كانت "شيرين" تقفز وهي تركض نحوي، فأفتح ذراعي لأستقبل جسمها الضئيل، وأتلقى قبلتها التي تفيض شوقاً ومحبة، وهي تصر أن تطبعها على وجنتي الواحدة تلو الأخرى...‏
كانت شيرين زهرة بنفسج صغيرة آسرة بفتنتها تبتسم وتثرثر، وكانت تحدثني دائماً عن بيتهم في حلب، بيتهم الذي يطل على حديقة واسعة تلعب فيها مع أولاد الحارة تحدثني عن الأراجيح والقطط الصغيرة والأزهار الملونة، وكانت تفيض حولي كرائحة زكية، فأحسها أقرب إلى الخيال بنظافتها وأحاديثها الملونة الزاهية كانت تنتشلني للحظات من عالم آلي جامد لتجعلني أطل على عالم طفولي، فأتمنى ولو لبرهةٍ أن أرتمي فيه وأبكي بفرح وأنسى عالم الإسمنت والأجهزة التي تبلغ قيمتها أضعاف قيمة الإنسان...‏
ماكانت شيرين تترك يدي حتى أعدها أني سأزور بيتهم في حلب، وأني سألعب في الحديقة معها ومع أولاد الحارة، وآخر ماكانت تقوله قبل أن تفارقني:‏
ـ هل ستأتين غداً؟..‏
فأجيب مؤكدة: "بالطبع يا صغيرتي الحلوة...‏
كانت شيرين تهب لي أشياء كثيرة، أعظم من الكتب الفلسفية أكبر من المحاضرات القيّمة أعمق كثيراً من جدلنا، وأحاديثنا التي لا تنتهي إلا بصداع وفراغ... كانت كلماتها المتناهية في البراءة والبساطة تحرك في نفسي المثقلة آلاف المشاعر...‏
كنت أحتويها بمسامي، بروحي، وبحواسي كلها، وعندما سألتني ببساطتها وابتسامتها الرقيقة هل صحيح سيستأصل الطبيب عيني؟...‏
ذهلتُ... حاولت أن أكذب، وهالني أن أكون كاذبة أمام ملاك صغير، كان سؤالها بالبساطة نفسها، والابتسامة ذاتها وهي تسألني كعادتها: هل ستأتين غداً؟..‏
ـ من قال لك هذا يا شيرين؟..‏
الطبيب قال لأمي أنه سيستأصل عيني هذه...‏
وأشارت بإصبعها الصغيرة إلى عينيها المغطاة بضماد كبير على الوجه الطفولي المتألم.‏
قلت بأسى عميق: بلى يا عزيزتي...‏
آه، يا طفلتي، أي عزاء أقدّمه لك؟.. هل أُريك معنى الحقد في نفسي هل أشرح لك أن السرطان يأكل عيون أطفال أبرياء؟!...‏
سمعتها تقول: داخل عيني دملة صغيرة، ألا تشفى بالقطرة؟...‏
ـ كلا، لا تشفى يا شيرين، لا تحزني يا طفلتي، فأنت سترتاحين من مرض متعب، ثم سيضع لك الطبيب عيناً من زجاج، عيناً "جميلة جداً"، لا أحد يحس أنها من زجاج...‏
ـ ولكن، أنا سأشعر أنها من زجاج ولن أرى بها...‏
ـ ابق سعيدة يا شيرين، أنت في عمر الفرح، وتملكين عيناً أخرى تبصر، والذين يبصرون قلة يا حبيبتي...‏
ـ هل ستأتين غداً؟..‏
ـ أجل يا صغيرتي...‏

في اليوم التالي لم تستقبلني شيرين، لفّني الرواق الرمادي الطويل، ضغط على روحي بروائح المرض والأدوية، ومشيت بلا بسمة... لم أطل اليوم على العالم الطفولي الرائع... كانت شيرين مُخّدرة في غرفة العمليات، وكانت عينها المتهتكة المتورمة تنزف لمغادرتها الوجه الحبيب لتترك هوة، حفرة، يملؤها فيما بعد زجاج بارد ميت...‏
بعد أيام رأيتُ شيرين تتجول كعادتها في الرواق، ركضت صوبي، ولكن هذه المرة كأنها تحتمي من شيء وحاولت ألا تظهر ما يعتمل في داخلها وهي لا تتبين تماماً ثقل مشاعرها...‏
قلت لها بفرح: لأغطي حزني العميق: الحمد لله على السلامة يا شيرين...‏
فإذا بصوتها يأتيني حزيناً كئيباً: ولكني متعبة... وعيني التي بقيت لي حمراء... أصابني هلع، خشيت أن أنظر إليها، فقد يكون المرض الخبيث انتقل إلى العين الثانية السليمة... وحدست أن شيرين سيجري لها عملية أخرى، وأنها لن تعود قادرة على القفز واللعب في الحديقة الغنّاء مع الأولاد...‏


يتبــــــع .. :D

BL@CK
09/10/2007, 01:11
هرمتُ، هرمت أنا يا شيرين، يثقبني الحزن، خرساء أنا، وتنبهتُ لها: تقول: ولكن لماذا عيني هذه حمراء؟!...‏
ـ لاتهتمي يا صغيرتي، ستشفى، يجب أن تفرحي الآن فقد تخلصت من عين مريضة، كانت ستؤذيك كثيراً...؟‏
فرحت.... صدقتني... دائماً نحن نكذب على الصغار، ودائماً هم يصدقون، وعندما يكبرون يكتشفون أننا كنا نكذب فيهرمون..‏
أسرعت تحضر علبة كبيرة، وتقدم لي شوكولاتات كثيرة أخذتها منها بامتنان وتركتها وأنا أعدها أنني سأزورهم في حلب...‏
اعتدتُ كلَّ صباحٍ على البلسم الرقيق، على العصفور الطليق، وكان الأمل يكبر ببقاء نظر شيرين في العين الأخرى سليماً... وجرت مباحثات حول تخريجها من المستشفى... وعادت تحدثني عن شوقها إلى حلب، إلى الحديقة، إلى أولاد الحارة، وأخذت تعرب عن لهفتها للسفر في القطار وسألتني بإلحاح:‏
ـ لماذا لم يضعوا لي عيناً من زجاج بعد؟!..‏
ـ ولكن الوقت لم يحن بعد صغيرتي، ألا يجب أن يندمل الجرح أولاً؟...‏
ـ آه معك حق...‏
راحت شيرين تأخذُ من كل مريض تذكاراً، وتعطي لكل من أحبته تذكاراً منها، أعطتني أسواراً نحاسياً عتيقاً وصغيراً، رفضتُ في البداية، ولكن أمام إصرارها قبلت... وأخذت مني قلماً ملوناً بالأخضر والأحمر والأسود... فرحتُ به لأنه يكتب ثلاثة ألوان معاً... وكانت كل يوم تستقبلني وهي تحمله مزهوة..‏
ذات صباح لم أر شيرين، ذهبت أتفقدها في سريرها رأيته فارغاً، هل رحلتِ بهذه السرعة؟.. هكذا... ودون أن تودعني، وجاءني صوت جاف:‏
ـ أدخلوها إلى غرفة العمليات...‏
وتمثل لي الجزع سرطاناً يغزو قلبي ولا أملك شيئاً تجاهه..‏
وتسمرت نظرتي جامدة بلهاء على السرير الضيق الفارغ، ونتحت دموع باردة من عيني بقيت معلقة كأنها تجمدت إلى الأبد غشاوة لن تزول...‏
وخرجت شيرين من غرفة العمليات... وجه طفولي حلو بلا عينين!!...‏
لم أصدق نظري... الطفل يشيخ، كيف يشيخ الطفل بهذه السرعة؟...‏
كان الحزن والإعياء يحطّمان كيانها الغض، وكدت أجن غير مصدقة أنها لن تراني، وتملكني شعور بالجريمة والذنب، كانت ساهية ليست من هذا العالم... كانت غارقة في بحر من السواد لا بصيص فيه، هربت لم أستطع أن أعمل شيئاً...‏
في المساء كانت روحي تهيم هناك حيث ترقد شيرين ووجدت نفسي أسارع إليها... بدا الرواق أضيق مما هو وأشد عتمة، وخيم الهدوء على كل شيء هدوء كئيب كصمت الجنازة، جنازة إنسان محبوب...‏
وترددت قبل الدخول إلى الغرفة التي تحتوي شيرين مع عدة مريضات من العجائز، رأيتها من بعد، جسداً معذباً... روحاً يئن بصمت ويهيم في لجة من السواد لا مخرج منها، ويداها مسدلتان فوق الغطاء الأبيض المتسخ بدا صدرها يعلو ويهبط بإيقاع ثقيل... خنقتني حلقة حديد من حنجرتي، وكانت الصراعات في داخلي تنعكس على وجهي ألواناً عابسة متتالية...‏
اقتربت من شيرين وأمسكت يدها، وقبل أن أتفوه باسمها، أحسستها تبتسم بكل الألم الذي يعتصر روحها، كانت تفهم أكثر منا نحن الكبار، ماكانت بحاجة لأية كلمة عزاء تافهة تسمعها مني، من أي شخص كان... كان صمتها مهيباً... فلم أجسر على خدشه بكلمة واحدة...‏
وعندما لفظت اسمها وأنا أحاول بكل جهدي أن أبدو طبيعية، لم تقل شيئاً، ولفنا صمت ثقيل كأنه يسبق إصدار حكم بالإعدام وقالت وقد كبر صوتها بالحزن:‏
ـ سأرحل غداً، سيأتي أبي ليأخذني...‏
ولم أتمالك نفسي أن قلت: غداً؟! كلا لن ترحلي...‏
وبكل هدوء جاء صوتها من بعيد محملاً بأسى لا يوصف...‏
ـ غداً سأرحل...‏
ووجدتها تمد يدها تحت المخدة كأنما تبحث عن شيء، وبعد لحظات أخرجت القلم الملون بالأحمر والأخضر والأسود ومدته أمامها في الفراغ وقالت: هذا لك... سأعيده...‏
واختنق صوتها...‏
هززتها من يدها وقلت كلا: إنه ذكراي يا شيرين...‏
ذكرى مني لك، وبكل رصانة قالت: لم يعد له لزوم، لن ألون به...‏
وأصررت، فأطبقت أصابعها النحيلة فوقه، وغرقت في السواد اللا متناهي، فاجأني سؤالها:‏
ـ أما زلت تحتفظين بسواري الصغير...‏
ـ سأحتفظ به مدى العمر..‏
ابتسمت هذه المرة، شعت روحها بابتسامة فاضت حولها وغمرتني... كان اللقاء موجعاً لكلينا طلبت إليَّ أن أفتح درجها المجاور للسرير، رأيت فيه كثيراً من أشياء شيرين وتذكارات عن المرض، قالت: تفضلي خذي شوكولا...‏
أجدر بك أن تقدمي لي خلا؟؟ يا صديقتي لأشربه...‏
حاولت أن أرطب الجو، قلت لها: كم أنت محبوبة يا شيرين، تملكين كل هذه الأشياء تذكارات من المرضى!...‏
وجاءني صوتها من وراء السحاب: وما الفائدة؟ هل سأراها بعيون من زجاج؟!..‏
كان الضباب يلفني ويعزلني، وحدثت نفسي: بل سترينها يا شيرين، ليس بعيون من زجاج، فأنت تبصرين يا عزيزتي، روحك تبصر، نحن الذين عيوننا من زجاج، وقلوبنا من حجارة، أنت تبصرين يا حبيبتي، أحسك ترين أكثر من هذه العيون المفتحة ببلاهة.‏
وتركتها بعد أن قبلتها مراراً، كانت شيرين تبكي، سمعت نحيباً، تبكي بلا دموع بلا عيون، بكاءً حقيقياً..‏
وقبل أن أترك يدها، سألتني بخيبة أمل وأسى:‏
ـ أما زلت تريدين زيارتي في حلب؟..‏
ـ سآتي خصوصاً لأراك..‏
واحتواني ا لرواق الرمادي الضيق، كان يبتلعني وسرت وحيدة وأنا أتألم... لن تقفز شيرين بعد اليوم، راكضة نحوي لتلقي بجسدها النحيل بين ذراعي، وتقبلني باهتمام وحب طفولي طاهر..‏


د.هيفاء بيطار

سرسورة
03/12/2007, 19:52
ليش وقفتو؟؟؟ انا شخصيا جاي ع بالي كمل.....

سرسورة
04/12/2007, 04:59
ستة ألوان
لوجه مدينة منسيّة

ابتسام ترسيسي
صباح الخميس 30/آذار/2000
1 ـ رمادي ...
استيقظت مذعورة ، كعادتي كل صباح ، عندما يخنق السعال طفلي بأصابعه الشرسة ، حملته بين ذراعيّ هززته قليلاً ، بللت فمه بقطرات من الماء محاولة مساعدته على طرد البلغم المتشبث بخلايا حنجرته ، امتدت الزرقة حول عينيه الجميلتين وفمه الصغير ، يرافقها صوت المؤذن في الجامع الكبير الملاصق لبيتنا : ــ (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) أخوكم المرحوم ياسين الحداد ، انتقل إلى رحمة الله تعالى . الصلاة على الجنازة الساعة السابعة .
تشنجت يد طفلي الممتدة إلى أنفه في محاولة يائسة لدفع الهواء إليه . يتابع المؤذن :
ـ (( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )) ... الفاتحة .
ارتديت ملابسي بسرعة ، وخرجت قاصدة طبيبة الحي ..
2 ـ أبيض ...
كان الصباح الربيعي يبسم في عيون الأطفال المتجهين إلى مدارسهم ، بقلوب تتقافز فرحاً وخطوات ترقص لمستقبل قادم من بعيد ، الشرائط الحمر والبيض في شعور الفتيات تضحك لزهرات المشمش الصغيرة في أوّل تفتحها .
الصبيان يتراكضون في مرح مشاكس ، يسبقون الزمن المقيت ، وأنا أحث الخطى حاملة طفلي باتجاه الساحة التي تبدو مزدحمة على غير العادة في الصباح الباكر .
عند بيت محمود السعيد كانت سلال الورد تقف في الطابور ، وابنه الشاب حسن يغسل السيارة ويلمعها استعداداً لزفة العروس هذا المساء ، أطلت أم حسن من النافذة ، نادت ابنها :
ـ أريدك أن تذهب إلى السوق ، ما زال لدي الكثير من الأعمال . والتفتت إلى المستخدمة التي كانت تنظف النوافذ ، أعطتها ملحوظة صغيرة بصوت عال ورفيع .. ودلفت إلى البيت .
3 ـ أخضر ...
عندما وصلت إلى الساحة المتفرعة إلى أربع جهات ، كانت الزمامير تعلو صاخبة والأعلام الخضراء والحمراء تزين السيارات ، وأعواد الورد والغار في أيدي الصغار المحتشدين لاستقبال زائر بيت الله الحرام ، كان الحاج محمد بلحيته البيضاء ، وقامته المهيبة يتوسط مستقبليه ، بينما فرقة السيف تقوم باستعراض راقص على أنغام المزاهر والدفوف ، بإيقاع منتظم بسيط ...
صوت قائد الفرقة ينادي : الفاتحة على روح النبي ، وعقبال العودة .
سارت قافلة المستقبلين شرقاً ، تداخلت أصوات الراقصين الفرحة بعودة الحاج مع صوت نائح :
ـ الفاتحة على روح المرحوم .
وعلا صوت قائد الفرقة الذي أصبح بمحاذاة القافلة التي تشيع المرحوم باتجاه الغرب :
ـ الفاتحة على روح النبي .
4 ـ أصفر ...
عركت الطبيبة هند عينيها من آثار النوم وتمطت ، أخذت الطفل من يدي ، فحصت الصدر بسماعتها و بكسل واضح ، نقلت خطوة متثاقلة باتجاه النافذة ، نظرت إلى البعيد ، لم يكن الطفل ولا أنا ما تنظر إليه :
طفلك بحاجة إلى أوكسجين , الأفضل نقله إلى المشفى سأعطيه مهدئاً ، لا أستطيع عمل شيء له .
قلبي ينتفض بين ضلوعي ، الصفرة تغطي وجه طفلي ، يداه الصغيرتان المرتعشتان استسلمتا ، وارتمتا بعيداً عن صدري ...
5 ـ أحمر ...
كانت أغرودة طويلة تمدّ عنقها الأفعواني من نافذة إحدى غرف المشفى ، تبعتها أخرى حلزونية منكمشة ، وثالثة كصافرة إنذار ..
صالة الاستقبال متخمة بباقات الورد الملونة التي يرقص الربيع في أجفانها الناعسة ، وتضج البهجة في وجناتها ..
استقبلتني الموظفة بابتسامة عريضة :
ـ إنه أول مولود لمدير المنطقة جاءه بعد سبع سنوات ...
ـ طفلي يعاني من تشنج في القصبات ، الزرقة تحتل وجهه وهو بحاجة لأوكسجين .
ـ لم يأت الطبيب بعد !
ـ الطبيب المقيم ؟
ـ في الخارج ...
أغرودة عالية تشق صدري .. سعال ، ضحكات ، تشنج صدر طفلي بقسوة ، اختلج بين يدي ، اجتاحه عرق بارد ... و ... تصرخ حنجرتي الذبيحة :
ـ أرجوكم أوكسجين .
ـ سيأتي الطبيب في التاسعة .
طفلي يتمتم بصعوبة : ما ...
6 ـ أسود ...
أنكفئ على درجات المشفى محتضنة طفلي محاولة إرجاعه إلى رحمي .. ! أصوات تدق رأسي بمطرقة نحاسية عتيقة ، أحذية ملمعة .. دفوف .. مزاهر .. طبول .. أغاريد .. صوت المؤذن : الفاتحة على روح .... خطوات أنيقة تطرق البلاط الناعم :
ـ ماذا تفعلين هنا أيتها السيدة ؟
أغص بالكلمات فتخرج تمتمة مبهمة من بين شفتي .
وجه الطبيب الشمعي المصقول يطالعني بابتسامة باردة مشيراً إلى الطفل : ما به ؟
ـ طفلي كان ... بحاجة ... للأوكسجين .
يمد يده المنشاة إلى شعره الأملس :
ـ آ ... على كلٍ هدئي من روعك لا يوجد لدينا في المشفى سوى حاضنة ، شُغلت هذا الصباح بابن مدير المنطقة ..تعلمين ... المشفى ذو إمكانيات متواضعة .
تستمر الدفوف .. دقات القلب تعلو .. تطرق أذني .. أعلام سوداء نساء متشحات بالسواد ... وباقات الورد في كل مكان !!

سرسورة
05/12/2007, 20:34
فستان الشيفون الأسود"
انيسة عبود
(1)
لاأعرف لماذا انزعجت.
(2)
كنت أرتدي فستان الشيفون الأسود. وكنت أعاني صداعاً نصفياً حاداً. الغرفة المحجوزة لي في الطابق الرابع، واسعة: سريران ونافذة تطلّ على ساحة المدينة. قرنفلة حمراء في الكأس، وحبوب الصداع على الطربيزة.
شراشف ملونة كأن خريفاً تساقط عليها. موعد الحفلة لم يحن بعد. مازالت الطريق التي اجتزتها عالقة بقدمي. أجرجره من الغرب باتجاه الشمال والشرق. ساحبة البحر معي إلى تلك المدينة الصحراوية.
يتنازعني صمتٌ وباب ونافذة وانتظار، وبهو في الطابق السفلي يخبئ لي الأسرار والمفاجآت، ومساء لا أعرف كيف سأطوي عتمته، وهاتف أخرس طيلة الوقت يرنّ فجأة، فيخربط الهدوء ويلمّني عن السرير.
(3)
أنا أتفقد الغرفة.
كل حطام روحي جمعته وجلبته معي.
نزق أمي، نزق الزمن، صراخ أبي، وجوه بعض الأصدقاء، ثم الصداع. إني لاأترك شيئاً حين أسافر، من فرشاة الأسنان إلى آخر الهموم.
الهاتف يرن. لماذا دعوني وأنا لاوقت لديَّ للفرح؟
الهاتف يرنّ. ثمة أحد يستعجلني النزول. أتكاسل في رفع السماعة، لارغبة لدي بالتحدث والمجاملة ونثر الأسئلة. الهاتف يرن. ولكن لماذا انزعجت؟
(4)
كنت متأهبة لملاقاته. لقد حدثني أحمد عنه كثيراً حتى قلت له مرة "صرعتني به" ابتسم وقال: "اسمعي" إنه رجل رائع. وهو صديقي جداً جداً.
سرد تاريخ معرفتهما. هززت رأسي. ماعلاقتي أنا؟ ومرة أعطاني السماعة وقال: سلمي عليه. إنه يعرفك، لقد حدثته عنك، كدت أغلق الخط.
لماذا أسلّم على رجل لاأعرفه؟ لم أحب هذه الطريقة، مع ذلك.
أخذت السماعة وسلمت.
"حدثني أحمد عنك كثيراً"
"وأنا كذلك. نحن نعرف بعضنا"
وإذ أغلقت السماعة لاأعرف لماذا اعتراني الفضول كي أشاهد هذا الرجل.
ثم تتالت حواراتنا عبر الهاتف في المناسبات. كان يعرف عني كلّ شيء من خلال أحمد. وكان قد شاهد بعض لوحاتي المرسومة على الخشب. وأنا بالمقابل عرفت عنه أشياء كثيرة، لكنّها لاتهمني. مع ذلك وجدتني مع كل هاتف أرسم له شكلاً معيناً.
مرة أعطيه شكل أخي الكبير. ومرة أعطيه شكل أبي، ولكن سرعان ماأعتقد أنه يشبه خالي كامل.. هكذا: طويل، وسيم، عريض المنكبين، له صوت جميل، وربما كان أجمل من خالي.
في مكالمة تالية، أعطيته شكل عمي: قصير القامة، ممتلئ الجسم، أسمر الوجه، بعد ذلك أمحو كل التصورات والملامح والأسماء زاعمة بأنها لاتعنيني.
(5)
كان أحمد صلة الوصل بيننا.
صرت أعرف متى يسافر عليّ، ماذا يحبّ، كيف يعيش تقريباً. ولكن كنت أثبت لأحمد دائماً أن اهتمامي بعليّ -الذي لم أره أبداً- يعني اهتمامي بأحمد.
وعندما كنّا نتحدث عليّ وأنا، كان أحمد محور الحديث. أحياناً كنت أدير ظهري لكل هذه المجاملات والطقوس وأتمرد على قوانين العلاقات المعتمدة على الزيف، في الوقت الذي نكون فيه نكاد ننفجر.
كنت أبرر لنفسي دائماً: لاشيء يقيدني، أنا أتحدث مع من أشاء، ساعة أشاء، وليس من أجل إرضاء أحد. هذا الـ -علي- لايعنيني كصديق.
إنه صديق صديقي وكفى. عالمه غير عالمي، وهمومه لاتشبه همومي. إنه لايقع ضمن دائرة تخيلاتي. والقواسم المشتركة بيننا قليلة.
أحمد عاتبني بشدة. قلت له: آن لنا أن نختار أصدقاءنا. ماعدت قادرة على المجاملة.
"آن لي أن أكون أنا. أنا"
"ولكن عليّ رائع"
"لا أحد رائع إلا بعد تجربة. كنت ملدوغة من الزمن، ومن الأصدقاء، لذلك كنت سريعة الحكم والهروب. "ولكن لماذا انزعجت عندما تقابلنا لأول مرة؟! "
"لا أعرف."
(6)
كان تشرين في أواخره.
هوى تشرين يحرر الورق الأصفر الحزين. الغيوم تتكدس وراء نافذة الغرفة في الطابق الرابع، تطلّ على ساحة المدينة.
الساحة واسعة، موحشة، غريبة، الباب مقفل وأنا غريبة ومتعبة لا اعرف كيف أرمي أكداس القلق من هذه النافذة في الساحة ليتشظّى ويتناثر والناس يقولون: امرأة بحرية رمت أسماءها ووجعها الساحلي في ساحتنا، فهل لأحدكم اعتراض؟!
كنت أسمع الجدران تتكلم: "سيعترض عمال البلدية. سيعترض رئيس البلدية، والمحافظ، سيقولون: من أين لنا بالعمال ينظفون هذا الكم الهائل من الحزن والهذيان المتناثر في الساحة.
الساحة للاحتفالات. للعروض التي تظهر قوة المدينة وعظمة المحافظ وضخامة رئيس البلدية. الساحة للفرح. يستعرض بها الناس مقتنياتهم النادرة وكتبهم العملاقة وسيوفهم الفتّاكة. إنها لاتخصّ فرداً يلقي بها أحزانه ويجلبنا لنتفرج عليها.
"ولكن أنا من الشعب. والشعب يعني أنا".
"الحزن كالفرح، نحتاج لنعبّر عنه"
"من أنت يا امرأة؟"
"أنا ..سيدي امرأة غريبة، تشيل همومها اليومية وإرثها القديم من البطش على كتفيها. رأيت الساحة خالية، وأريد أن أذهب إلى حفل صديقي. لم أستطع إيجاد مكان أفضل من الساحة الواسعة ألقي بهمومي كي أرتاح، وأذهب إلى الحفلة مبتجهة. كي.."
"..... "
"لا. لم يعترضني حراس المفارق. ولم يفتشوا رأسي في الطريق. آه" رأسي يؤلمني الصداع اللعين...آخ"
ينتشلني الهاتف الذي يرن. أركض إليه حافية. أتزحلق. أصطدم بحافة السرير. أقع. أظلّ على الأرض مكومة. ينتهي الرنين وأنا ماأزال كقطة خائفة، لا أقدر على النهوض.
ظننت أن صديقي يستعجلني. أتلمس صدري المرضوض. أعتقد أن ضلعاً قد كسر. نهضت بتثاقل. شتمت الفندق، وعماله الذين رفعوا الموكيت. شتمت الذي اتصل. عاد الهاتف إلى الرنين. رفعت السماعة. حاضر. سأنز.. ولم أكمل. كان الصوت هادئاً: أنا علي، علمت أنك موجودة هنا. هل أقدر أن أراك؟
"طبعاً"
تلعثمت: أنا في الغرفة "407" في الطابق.. وفي الجهة.. في المدينة التي تجرّدني من اسمي وعناويني ويبقى شكلي الخارجي فقط: أنثى سمراء، طولها كذا، وزنها كذا، أصدقاؤها هم كذا.. مرت هنا و.
قال: مسافة الطريق.
مسافة؟!
أي مسافة يقصد؟!
الآن سيأتي. يريد اجتياز الساحة التي تفصلنا. لن يقدر. سيرى الساحة مملوءة بالتماثيل الصغيرة التي فرّخها التمثال الكبير. لا . لن يستطيع العبور. عليه أن ينحني ويلتفّ. تماثيل القلق التي نثرتها في الساحة تشكل مطبّات وحواجز.
ولكن: كل هذه التماثيل أنا جلبتها؟!
لا أظن. ربما تشجّع غيري ورمى بعض تماثيله التي تثقل ظهره؟ أو كنسّ بيته الذي ضاق بهذه التماثيل وأراد أن يتخلّص منها؟!
لاأعتقد بأنها كلها تخصّني. أرقب الساحة وأنا أفكر بالحوار الذي سأديره مع علي. إنه حوار وجه لوجه. حوار مختلف عن حوارات الهاتف.

سرسورة
05/12/2007, 20:44
أوه..
مسافة؟!
أحاول اختراع حوارات لطيفة أحدّث بها عليّ" الصداع يشجّ رأسي. أستلقي على السرير. غيوم تتساقط في الغرفة. صَدري يؤلمني. لابدّ أن ضلعاً قد كسر. ليكنْ. أصير ناقصة ضلعين بدلاً من ضلع واحد. سيكون ذلك ميزة أنثوية فائقة بالنسبة لي. أتأوه وحدي. أتقلّب على السرير حتى لايتجعّد فستان الشيفون الأسود، المنسدل على جسدي.
"ترى كيف يتصورني عليّ؟!"
أنا أتصوره وسيماً. أنيقاً. أحمد قال: بأنه دار العالم. نهل من ثقافات كثيرة. وتعرّف على نساء كثيرات. إذن يجب أن يكون وسيماً.
بالتأكيد هو لايشبه فلاحي قريتي المشققة أكفهم بالمطر والوحل. لايشبه زملائي الموظفين الذي يرتدون القميص طيلة العام، يغسلونه ويكوونه ثم يعيدون الكرّة حتى تتنسَّل خيوطه ويجرد لونه. قد يشبه ابن عمي عامر الفنان. أو يشبه صديقي الجراح الكبير. أو. يُقرع الباب: انهض. أسدل ثوبي الأسود الشيفون. "من؟"
"أنا عليّ"
أدير قبضة الباب. القبضة لاتدور. أحاول شدّها. "لحظة من فضلك الباب لاينفتح" أشعر بالحرج. أحاول مرات حتى أجرح أصابعي.
يظنني مشغولة بوضع العطر. أعارك الباب مرّة أخرى. يديرُ أكرة الباب. أخيراً ننجح: هاهو أمامي. أتراجع إلى الوراء. تتلعثم أصابعي في كفّه الرقيقة. أهتدي إلى كلمة "تفضل".
جلس على حافة السرير. ظللت واقفة لا أعرف كيف أبدد خيوط الدهشة. تأملني. أطرقتُ رأسي. ساد الصمت. كنت خجلة جداً.
... ... ...
(7)
ماذا لو أن الباب لم ينفتح.
"أنا أعرفك جيداً.." قال كي يكسر زجاج الصمت. لم أستطع الكلام. أربكتني المفاجأة. وأحزنني الرهان الخاسر مع خيالاتي. للأسف هو لايشبه أبي أو عمي ولا أخي الكبير. إنه لايشبه خالي. ولايشبه عامر.. لماذا؟ لماذا انزعجت؟ ماعلاقتي به؟!
"أتشرب القهوة؟ "
"لا. لن أعطلك عن الحفلة"
اعتراني إحساس بالحزن والأسى. لقد خسرت مع نبوءتي. إذن الصوت لايحدد الشكل.
"ولكن لدي وقت كافٍ لنشرب القهوة"
لكنه يرفض. هكذا ببساطة يأتي، وببساطة ينسحب. "لن أعطلك" ما أثقل هذه العبارة! ليكن. أظنه جاء ليرى شكلي، وأنا كنت أريد أن أرى شكله بعد المهاتفات والحوارات. ولكن لماذا حضرَ الشكل وغاب الحوار؟
نزلنا معاً البهوَ. ودعني. كانت يده باردة، وكان صوتي بارداً. راقبته من بعيد. تكسر غصن برتقال في روحي. هل كنت أنتظر صورة أخرى لصوت أعرفه؟!
في السهرة نسيت اللقاء، وعاتبت نفسي كلما تذكرت انزعاجي. ليكن طويلاً، قصيراً، نحيلاً، شاباً، عجوزاً، بشعاً، ماعلاقتي به؟!
.... ... ...
(8)
لا. لم يغير لقاؤنا من طريقة الحوار. نبدأ بالطقس، وآخر لوحاتي، وننهي الحديث بالكلام عن أحمد وعن آخر أعماله. لكني صرت أستفقد هواتفه عندما يتأخر.
وقد أسال عنه أو أتصل به. وشيئاً فشيئاً صار وجهه يطغى ويحتل غرفتي. لم أكن أخطط لذلك، فأنا لاأميل بالتدريج. دائماً أخشى اللقاء الأول. ولقائي الأول به مرّ. لم يبق في ذاكرتي إلا لون ثيابه -طقمه الأخضر- أو الزيتوني. والباب الذي رفض أن ينفتح مباشرة كأن الأبواب تدرك ماوراءها؟ يضحك. "أتذكر ذلك؟"
غمرني بنظرة شفيفة وقال: أذكره، وأذكر ماذا كنت ترتدين. إنه ثوب الشيفون الأسود. الجميل. المثير. الـ.
وأنت كنت ترتدي اللون الزيتوني المخضّر. يومها لا أعرف لماذا انزعجت؟ لم أخبرك إلا بعد زمن طويل وكان الوقت ليلاً، والهواء الشمالي يعصف بالمدينة. كانت الآلهة خائفة، والأشجار خائفة، المدفأة تئن، وأنا أرسم، وإذ رنّ الهاتف وسمعت صوتك ارتبكتُ. رحت أهرب من ارتباكي بأسئلة عابرة عن الطقس والبرد والمكان الذي تتكلم منه.
"أكلمك من المدينة التي التقينا بها لأول مرّة.
"صحيح..؟ أتذكر تفاصيل ذلك اللقاء الآن"
"كيف الطقس عندك؟ برد؟ بردانة؟"
"جداً.. برد وهواء شمالي يصفرّ على النوافذ""
"عندك برد؟"
"لا.. المكان مدفأ. تعالي أدفئك بين ذراعي. ألو."
ساد الصمت. وجهك ملأ الغرفة. انصهرت ألوان ثيابك مع ثوبي الشيفون الأسود.
"لماذا قلتها؟
"ماذا قلت؟"
"قلت: تعالي أدفئك؟
"الحق على البرد" ابتسم.
كلمة واحدة حملتني إلى غرفتك. اجتزت مسافات وجبال صقيع وتكومت بين يديك. يبدو أن لكل حالة توحد كلمة واحدة. كلمة تكفي لتصير أنت كل الرجال وأصير أنا كل النساء. كلمة؟! قد نقضي العمر ولانجدها. وقد تنبجس فجأة من بين ركام الكلام والوجوه والألوان فتزيل تماثيل القلق من الساحات وتلغي البرد والمسافات وكل الوجوه والأسماء و. هناك أشياء تُحسّ ولاتقال.
(9)
غمرت رأسها في صدره وقالت: "ماذا لو لم ترتدِ أنت الأخضر" وأنا لم أرتدِ فستان الشيفون الأسود. أو أنني ماجئت المدينة لحضور حفلةٍ. ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟ كنت ستظلّ صديق صديقي لا أكثر”
طوقها بذراعيه. شعرت رائحته تتغلغل إلى مسام روحها.. تأملته. إنه ليس الذي رأته أول مرّة. إنه الذي تراه بقلبها. وهو لايشبه أباها ولا أخاها ولا... إنه يشبه كل الذين تحبهم. نظرت إلى عينيه "ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟
مرر أنامله في شعرها الأسود. همس. "مع ذلك كنّا التقينا"

ابو عمير السوري
05/12/2007, 21:05
لو سمحتوا يلي عندو للكاتب هاني الراهب ينزلوا كتبه صعب الحصول عليها أفيدونا

butterfly
05/12/2007, 21:07
شكرا سارة
جميلة جدأ
أخر قصة
:sosweet:

butterfly
02/01/2008, 19:59
هكذا أصبحت مدمنا ً

عندما حطت بنا الطائرة في أرض المطار أحسست بأني هبطت من عالم آخر..أو على وجه الدقة في عالم آخر، فللوهلة الأولى لم أستطع أن أصدق بأن أمريكا تقاسمنا مجرة درب التبانة واستغرق الأمر وقتا طويلا لأقتنع بأن أهلها يستنشقون هواءنا .
على الرغم من العيون التي رمقتني شزرا لحظة وصولي وكأنها تحدق بجرذ خارج من جحره ، فقد شعرت بالرتياح وأنا أجرجر أولى خطواتي على أرض العالم الجديد، وأحسست وقتها بأن الطائرة هي الرحم الذي نقلني من عالم العتمة إلى النور .
عندما تجاوزت أسوار المطار لأستقل سيارة أجرة راودتني رغبة لم أستطع كبتها. رغبة جعلتني أضحك من كل قلبي ذلك اليوم لم تكن تلك الرغبة سوى النباح، فنبحت نبحت وأنا رافع رأسي ، وأدركت آنذاك أن ثمة فرقا مابين واشنطن و... وطني .
وصلت الحي الصيني فاستعنت بالخريطة التي زودني بها صادق معروف ، وبفراستي البدوية لأتعرف على المنزل الذي سأقطن به . وراء الباب استقبلتني امرأة لم تختلف عما رواه عنها صديقي صادق إلا بكونها قد جاوزت الثلاثين قبل ولادتي وتحتاج إلى جرأة أو نبوءة لاكتشاف أنوثتها .
كانت هيلين قد أجّرت الغرفة المجاورة لغرفتي لشابة مكسيكية تعمل في ناد ليلي ، أما الغرفتان المقابلتان ، فقد استخدمت إحداهما ، وأجّرت الأخرى لعجوز فرنسي ، بينما حلّ هندي على السطح ،مما أشعرني بالغبطة وأنا أستمع إلى المعلومات من فمها . فما من أحد سينافسني على جارتي ..
قبلت الكأس التي قدمتها لي جارتي بالرغم من أنه لم يسبق لشفتي أن عاقرت كأسا من ذي قبل ، فاحتسيتها ووقتها اقتنعت بما قال غاليلو بعد أن دارت الأرض بي ، فشتمته .. ولكي لا يظن الأمر شخصيا ، فقد شتمت كولومبس .. وجورج واشنطن .. ولما تذكرت بأني لم أعد هناك في الوطن نبحت ، وشتمت الملوك والمحققين ورجال الشرطة والسجانين وكلّ من ألهمني الله شتمه ، ولما وجدت أن كأسا واحدة لا تكفي لشتم كل من يستحق، فقد طلبت كأسا ثانية ، وثالثة ، و ....


حسا م سفان

سرسورة
07/01/2008, 05:56
ثرثرة في المحطة أنيسة عبود
دون استئذان جلس إلى طاولتي.
فنجان قهوتي برد، والثلج يرخُّ وراء الزجاج المغبّش. نظرت إلى وجهه. لم أقرأ شيئاً. الوجه أول صفحة في جسد الإنسان، والوجه أوّل باب للدخول إلى العوالم الباطنية. مسافرون يغادرون. مسافرون يدخلون. القاعة الواسعة تتكسر فيها الأصوات والخطى والوجوه. دخانٌ وكؤوس وكراسي بلاستيكية بيضاء. عطور تمتزج بالزفير ورائحة الفطائر المحروقة. صوت ينفلش في القاعة كلها. الرحلة رقم كذا على البولمان كذا.
الرحلة؟!!
ورحلتي لم يعلن عنها، لابدّ أن عمراً ينتظرني الآن في المحطة..
-عمرو. سأكون في محطة الوصول الساعة الثانية عشرة.
ستنتظرني؟‍!
-طبعاً.. ألست حياتي؟!
-والله..؟!!
-...
أفتح كتاباً وأطلب شاياً بالقرفة، لا أريد أن أقرأ أي شيء. مللت قراءة الشعر -أنا أحبّ القصة أكثر ياعمرو- هذا الذي يحدق بي ويلتقط حركاتي يزعجني. لم يطلب شاياً ولا قهوة. فقط وضع رجلاً فوق أخرى وراح يحدق بي. لا أعرف لماذا أردت أن أسأله: أتعرفني؟!! الثلج يهطل بغزارة. ندف الثلج تتراكم على الزجاج. رياح قوية تركض في الشارع. رياح كسرت باب البولمان ثم شالته. بعيداً ميتاً على ضفة الطريق والطريق كانت مسرعة. وأنا أريد أن أصل لأرى عمراً واقفاً في زاوية المحطة محدّقاً بالوجوه، بالحقائب، ماذا سأقول له؟!
"لاأعرف". سيفاجئني بصمته وأنا أحبّ أن يثرثر. ليحدثني مثلاً عن صباحاته، عن المساءات، عن النساء اللواتي أحببنه، عن التي أحبّها وكانت أجمل امرأة، هكذا كلهم يقولون وعندما يحبون امرأة تكون هذه المرأة أجمل امرأة في المدينة، ماتت به، ثم تركها ليحبنّي، أليس كذلك ياعمرو...؟!
إذن ليحدثني عن غرفته، وسريره وأحلامه، عن ألوان قمصانه، ألوان خيباته. بعد ذلك سنملّ الحديث. سنترك الأحلام في مكانها على الطاولة. في فناجين القهوة، فوق كراسي المقهى، ثم سنهبط دون مراعاة إلى الطابق الأرضي، إلى القبو، إلى العالم ..الأسفل، حيث سنرى الأموات يتشاجرون حول الاتفاقيات والتقسيمات، حول جثة لينين إن كانت مازالت بلا ديدان وبلا نخر، حول المرأة البوسنية التي تحولت إلى رجل، حين مرَّت تحت قوس قزح...
-أتصدقين ذلك؟!!
لماذا لا أصدق ياعمرو؟ الله قادر على كل شيء. في قريتنا تحولت امرأة إلى شجرة بجذعين وبغصنين شاهقين. وتحول الرجل الذي يحبها سراً إلى شجرة بلوط كبيرة بجذع ضخم. التفت الأغصان ذات صيف، ومال الجذعان مقتربين من بعضهما، ولكن ما إن حلَّ الشتاء حتى قصفهما الرعد. فجَّ المسافة بين الشجرتين وخلخل الجذور وقصّف الأغصان المتعانقة. ألا تصدق ياعمرو؟ اسأل أهل قريتي إذاً...؟‍!
لابدَّ من الخصام في نهاية الحديث "عمرو.. أنا أكرهك بجنون" لماذا لاتصدقني؟ كلما حدثتك عن شيء تقول لي: خيالك خصب ياحبيبتي..؟!
ماذا تقصد؟!
أغضب وأثور، أتحول إلى طفلة. أريد أن أبكي. أريده أن يضمني ويطفئ ثورتي بينما تظلّ يداي تضربان ظهره وكتفيه، ثم أغمر رأسي في صدره وأشهق.
الرجل الذي يجلس أمامي يحدق بي. نظرته تشبه نظرة عمرو. أرتعش وأنا أنظر إليه. أهرب إلى قهوتي. أنفخ دخان سيجارتي في الهواء. يراقب الدخان الملتوي بصمت. أنظر حولي باحثة عن طاولة فارغة، فلا أجد، كل الطاولات محجوزة. أكرر النظر إلى عينيه: يا إلهي: عيون عمرو نفسها، وعمرو الآن في المحطة يطارد بعينيه النساء الهابطات من الباصات، يطارد كل الوجوه كي يصطادني، لكنه سيفشل، عند ذلك في سيتوه في المدينة. وسيقول عني بأني كاذبة ومعقدة، دائماً أخلف المواعيد.
سأعتذر له. سأخبره بأن باب الباص طار من شدة العاصفة، لن يصدقني، ماذا أفعل؟ هل أشرب البحر حتى يصدقني.؟! ليطق إذا لم يصدق. الرجل الذي قبالتي يثير غضبي. إنه لايتحرك ولا يطلب شيئاً. لايدخن ولا يتكلم. يظل محدقاً بي، يتابعني. أظنه يسمع صوت أسراري وأنا أتحدث إلى عمرو. سيقول: هذه المرأة مجنونة تحدّث رجلاً غائباً. لايهم. الجنون يخلصنا من السجن أحياناً. هذا الرجل يفرض وجوده عليّ. يتأمل بطاقته الشخصية ثم يعيدها إلى جيبه.
سأطلب إليه أن يترك الطاولة. أنا أول من جلس إليها. سأطرده، أو أقول له: معي ضيوف، معي أصدقاء سيأتون من حجرة الهاتف. سأقول...
-أتدخّن؟!
هكذا قلت له بتودد، لكنه لم يردّ، هزَّ رأسه بالنفي. ربما كان أخرس، ربما، لاأعرف. سأحاول ثانية أن أطرده أو أن أكسر السور الذي بيني وبينه. عطره يعجبني، نظرته، أصابعه تشبه أصابع عمرو، ومازال الباص معطلاً. البرد قارس، والصمت قارس. لارغبة بي إلا بالتحدث عن عمرو: ماذا يحبّ؟ ماذا يكره؟! حولت نظري بعيداً وقلت للرجل: تافهة هذه المرأة التي هناك، هناك في الزاوية، إنها تشرب القهوة وتقهقه بصوتٍ عالٍ -صوتها مزعج، أليس كذلك؟! زمَّ الرجل شفتيه وكأني لا أتحدث إليه.
-أتشرب قهوة؟! أيضاً هزَّ رأسه بالنفي. مع ذلك تابعت حواري دون اكتراث.
أنا أشرب قهوة كثيراً مع أن معدتي تؤلمني. عمر قال لي: حبيبتي أرجوك لاتشربي قهوة: أترى؟! إنه ينصحني وهكذا يقول: لكنه يريد أن يتحكم بي. أنا لاأقبل. الأمور المتفاقمة تبدأ بدايات صغيرة ثم تكبر وتصير تلالاً لاتقدر على إزاحتها. لن يجبرني أحد على شيء لا أريده. أحبّ القهوة، وسأظلّ أشرب. أصلاً الحياة الحالية لم تترك لنا إلا شربَ القهوة وتأمل خطوط الحظ في أيدينا. غيرنا يشرب بلداً بكامله. يشرب نظريات مثلاً، أو قل مبادئ!! لم يقل له أحد سيصيبك عسر هضم..
أوّل مرة شربت قهوة صفعني أخي. قال: القهوة للكبار، قلت له: أنا صرت كبيرة. شدني من شعري وربطني إلى الساموك- صرخت أمي "اتركها" لا، لن أتركها. هي فعلاً كبرت ويجب أن أؤدبها، إنها تكتب القصائد لابن رقية"
أمي مسحت على كتفي وقالت المرأة التي تشرب القهوة يصير لها شوارب وأخوك معه حق، ثم مامعنى القصائد؟!!
"معه حق؟! "
أتصدق..؟! أنا لم أكن أحب ابن رقية. كنت فقط بحاجة إلى رجلٍ أكتب له، كتبت له كثيراً حتى ظنّ أني أموت فيه. ولكن لم أكتشف نفسي معه. لم أجدني وهو يقبلني. كنت معه صخرة لاأكثر، لذلك صفعني وقال لي: أنت صخرة. قلت له لأنك لست رجلاً. تركته ومشيت: أتسمعني؟! ظل الرجل الذي أمامي صامتاً، ابتسم ابتسامة بلهاء، ثم عاد إلى وجومه وصمته وظلام وجهه.

"أنت تشبه عمراً" عمرو الذي ينتظرني الآن، أو أن ملَّ ورحل. كل شيء نملّه إلا الحياة. لانشبع منها أبداً. أعتقد أنّ زهير بن سلمى كان يكذب حين قال سئمت. أتعرف؟! صوتك مثل عمرو، انكمشت. لم أسمع صوته. صححتُ خطئي. قلت: أقصد عيونك، لونك الأسمر، قامتك. ابتسم الرجل ثم أشاح بوجهه. شعرت بالحزن. أدركت كم أنا وحيدة في هذه الزحمة والثلج يسقط في الخارج. المحطة تضيق على المسافرين وتكتظ بالدخان من كل الماركات.
الذباب يهرب إلى الداخل من شدة البرد. الروائح المخنوقة تشعرني بالغثيان. أشعلت سيجارة ثم أطفأتها. قلت متحدية صمت هذا الرجل.
عمرو ينتظرني الآن، سيأخذني إلى بيته، المدينة غريبة. لا أعرف فيها أحداً. عمرو رجلٌ طويل، طويل. أحبّ طوله. أشعر أمامه بالضعف.. لكن آخر مرة التقيته تشاجرنا. دائماً نتشاجر حين نتحدث عن الأدب والسياسة. لانتفق أبداً، أنا أقول له إننا نسير إلى الوراء وهو يقول: هذه حتمية الصراع. لابدّ من منتصر ومهزوم. أي انتصار؟! الانتصار نقرؤه ولانعيشه. نتوهمه ولانخلقه أليس كذلك؟!

حدق بي الرجل طويلاً مقطباً حاجبه. أزاح كرسيه بقسوة ثم حمل حقيبته ومضى. إلى أين؟! لم يردّ على سؤالي. يا إلهي: ظهره يشبه ظهر عمرو، قامته، مشيته، إنه هو.. هو. رحت أركض بين المسافرين. ناديته -عمرو. عمرو- لم يرد. قلت للمرأة التي تقف بعيداً: أرجوك: هذا الرجل الذي يمر أمامك أوقفيه. قهقهت المرأة وقالت: أي رجل؟! قلت هذا الذي يرتدي "جاكته" كحلية ويحمل محفظة رمادية.
"أين؟! "
ركضت وراءه. لم أستطع اللحاق به. أعاقتني الكراسي والطاولات والمسافرون. الثلج ينهمر. خرجت إلى الشارع. سياراتٌ تمرُّ... لوحت بيدي: عمرو.. أجل إنه هو، ينعطف، يغيب، يتلاشى، يذوب كقطعة ثلج، فأقف يعتصرني البرد، أقف، أدور حولي، مشدوهة، ووحيدة. أجرجر نفسي إلى داخل المحطة، أنفث هواء ساخناً، أعود إلى طاولتي.
"أين كنت.. طوّلتِ، بردت قهوتك"
نظرت إلى محدثي -أردت أن أسأله: من أنت؟! لكنه قاطعني وقال:
مايزال الباص معطلاً، بالتأكيد سنتأخر. لماذا تدخنين كثيراً وتشربين قهوة كثيراً؟!
لم أردّ.. تابع حديثه: رائع هذا الثلج، يعوضنا عن نقص الأمطار. أظن أن الأراضي مقبلة على جفاف مميت. أوه.. ألا تكفينا الحروب؟!! يقولون.. و. استمر الرجل بالحديث، بينما الثلج يتراكم والشارع يرتدي الندف الأبيض، وأنا لا أسمع شيئاً، وذاكرتي تمضي بعيداً عن المحطة، أدور بحثاً عن عمرو، والرجل يسألني: لماذا لاتريدين؟! ثم ينظر إليَّ بأسىً، يهزّ رأسه ويقول بصوت هامسٍ: للأسف إنها خر..ساء، لكنها جميلة.

butterfly
07/01/2008, 06:03
سيفاجئني بصمته وأنا أحبّ أن يثرثر. ليحدثني مثلاً عن صباحاته، عن المساءات، عن النساء اللواتي أحببنه، عن التي أحبّها وكانت أجمل امرأة، هكذا كلهم يقولون وعندما يحبون امرأة تكون هذه المرأة أجمل امرأة في المدينة، ماتت به، ثم تركها ليحبنّي، أليس كذلك ياعمرو...؟!
إذن ليحدثني عن غرفته، وسريره وأحلامه، عن ألوان قمصانه، ألوان خيباته. بعد ذلك سنملّ الحديث. سنترك الأحلام في مكانها على الطاولة. في فناجين القهوة، فوق كراسي المقهى، ثم سنهبط دون مراعاة إلى الطابق الأرضي، إلى القبو، إلى العالم .. .
رااااااااااائعة
حبيتا ..
:mimo:

سرسورة
07/01/2008, 06:08
رااااااااااائعة
حبيتا ..
:mimo:
عرفت انك رح تحبي هادا المقطع.....
:D

BL@CK
18/01/2008, 20:33
ألم برجوازي


تمنّت لو تقول له: "تعال أنت وأسرتك وعيشوا هنا. بيتي واسع رحب دافئ."‏
لكنها ظلت صامتة. كانت تعلم أنه لن يتقبل الفكرة بل سيعتبر دعوتها ودّاً مصطنعاً وخبثاً.‏
حين اعتذر لها عن تأخره بقوله أنه منهمكاً بتركيب المدفأة في البيت لأن البرد غداً قارساً والأطفال يقاسون، تحاشت أن تشهق استغراباً.‏
لم تكن تدري أن هناك أسراً تعيش في المدينة حتى هذه اللحظة دون مدفأة!‏
منذ شهرين والدفء يرفرف في أرجاء بيتها الواسع.‏
وأحست بوخزة في أعماقها.‏
لا شك في أنّ هناك طبقة تجهل آلام الشعب وهي منها!‏
لم تقل شيئاً بل اندمجت معه في الحديث:‏
-وهل اشتغلت المدفأة؟‏
قال:‏
-طبعاً.. وقد تركت غرفة الجلوس دافئة.. كالنار.. والأطفال يلعبون سعداء.‏
الفرح في لهجته جعلها تحسّ في أعماقها بشيء يشبه تأنيب الضمير.‏
مدفأة صغيرة تسعد أسرة بكاملها. وهي التي لم يخطر في بالها يوماً أن تشكر الحظ بل أن تدرك إنه حظ هذا الذي جعلها تجهل حتى الآن أن هناك أناساً يموتون كل يوم من البرد.‏
وتلفتت حولها.‏
وخيل إليها وكأنها قد ارتكبت جريمة بسكناها في هذا البيت الدافئ. هذا البيت الذي عرفته دافئاً منذ فتحت عينيها للنور.‏
وأرادت أن تغيّر مجرى أفكارها. فتململت في جلستها وسألته في لهجة عادية:‏
-إذن.... أنت لم تنم بعد الظهر؟‏
هز رأسه في حسرة:‏
-أنىّ لي أن أنام؟ بل متى كنت أستطيع أن أنام في البيت خلال النهار؟ الأطفال يزعقون وزوجتي عصبية المزاج تزعق هي الأخرى... والضجيج يملأ البيت..‏
استمرت في الحديث فقط لتهرب من شعورها بالذنب. فقالت:‏
-ادخل غرفة النوم واقفل عليك الباب واسترح ساعة.‏
رمقها معاتباً:‏
-ما بكِ؟ يجب أن تزورينا لتري بيتنا! غرفة النوم متصلة بغرفة الجلوس. وهي لا تحوي سوى سريرين حديدّين ضيقين. أنام أنا وزوجتي على أحدهما والأطفال على الآخر.. فكيف تريدينني أن أدخل الغرفة وأقفل عليهم الباب؟‏
لم تعد تدري ما تقول هي تجهل هذا النوع من العيش.‏
ومع أنها واثقة من أن الذنب ليس ذنبها إلا أن مضايقتها ازدادت. وظلّ هذا الشعور الذي يشبه تأنيب الضمير ينخز أعماقها.‏
لا! ليس ذنبها أنها نشأت في طبقة ميسورة وأنها ورثت عن أهلها مبلغاً من المال وهذا البيت الدافئ.‏
مات أهلها. ورحل من رحل. وظلتّ هي وحيدة في هذه المدينة لأنها تكره الاغتراب ولأنها منذ طفولتها كانت تنادي بالثورة.‏
ومرت سنوات‏
وتعرفت إليه.‏

شاب ريفي ملتزم. من أولئك النادرين الذين لم يعتبروا الثورة يوماً طريقاً لمركز أو وسيلة جميل الطلعة. صافي الملامح. يرى العالم من خلال منظار محدود ولكن نقيّ. يريد أن يبني الوطن من جديد وعلى الشكل الأحسن لكنه لم يدرس طرق البناء، مستعد بجدّ أن يموت من أجل المستقبل الأفضل.‏
وارتاحت لهذا الشاب المؤمن. وأحست بأنها قادرة على أن تقدم إليه صداقة ظلت مكبوتة في نفسها سنوات.‏
وأحبها هو.‏
كانت حلوة طيبة مرهفة. والأهم كانت ربيبة طبقة وابنة مدينة. وكانت هاتان الصفتان تثيران كل وافد جديد ينقم على المدينة. يريد إصلاح المدينة. يسكن المدينة. ويرفض أن يتعرف بأنه لا شعورياً يبحث في المدينة له عن جذور.‏
ونمت بين هذين الإنسانيين المختلفين صداقة متينة.‏
وصار يزورها كل مساء كل مساء، فيجدها كل مساء كل مساء في انتظاره.‏
لم يعترف لها بحبه. فقد علموه أن العواطف تقتل الرجولة وبالتالي تسيء إلى القضيّة... وصدّق.‏
ولم تخبره بارتياحها له. فقد اكتشفت خلال السنوات الفائتة كم أن خبراً كهذا يدع للتبجح وللمتاجرة. وخافت.‏
كل ما هنالك.. كان يعلم أنها تعيش في مدينتها غريبة. وكانت تعلم.... أنه يعلم.

قصة المدفأة أزعجتها. بل أزعجها شعورها بالذنب فنهضت من مكانها قائلة:‏
-سأهيئ له فنجاناً من الشاي.‏
وشعرت وهي تمشي في القاعات الكبيرة متجهة صوب المطبخ بحاجة لأن تقول له:‏
"بيتي كبير دافئ. ليتكم –أنت وزوجك والأطفال –تقيمون معي. أنا وحدي ووحيدة.‏
وأنا أكره الوحدة. أخاف الوحدة".‏
لكنها ظلت صامتة.‏
هل يستطيع هذا الصديق أن يقدر ما هي الوحدة؟‏
هل يستطيع أن يصدّق أن هناك صقيعاً نفسياً ذابحاً يجعل الإنسان يتخلى عن كل شيء ويبيع الدنيا بهمسة ودّ؟‏
لا! عليه أولاً أن يحصل على كل شيء.... ثم يصاب بأمراض الوحدة والملل والفراغ... لذا راحت وهي تقدم له الشاي تحدثه عن أمور عادية. عن بلاده غريبة بلاد باردة بيضاء زارتها في طفولتها.....‏
ومرّ الوقت.‏
ونظر إلى ساعته وابتسم قائلاً:‏
-الوقت معك يمضي بسرعة.‏
ونهض. فرافقته حتى الباب.‏
ودّعها. وخرج.‏

ظلت واقفة تنظر إليه حتى غاب عن عينيها.‏
دارت في بطء على نفسها ودخلت على مهل.‏
وبدا لها بيتها الواسع الدافئ موحشاً مخيفاً.‏
وراحت تدور في الغرف الرحبة، تبحث عبثاً في كل زاوية عن همسة ودّ.‏
وحين وصلت إلى غرفة نومها الأنيقة المبطّنة بالستائر المخملية والسجاد. وقفت على العتبة.‏
وسرت قشعريرة باردة في جسدها.‏
منظر سريرها العريض المغطى بالرياض والفرو أخافها. لقد بدا واسعاً مُوحشاً كالصحراء.‏
وبسرعة دارت لا شعورياً وعادت إلى حيث كانا جالسين. ووقفت محنية الظهر تحاول استحضار طيف الصديق الذي ذهب منذ لحظات.‏
وخيل إليها أنها تراه.‏
هاهو يصل إلى بيته الصغير البارد. إنه يدخل على رؤوس أصابعه. ويتمهل في غرفة الجلوس أمام المدفأة المطفأة. إنه يتحسسها بيديه وهاهو يبتسم وقد يشعر بآثار نيران رقص حولها الأطفال.‏
إنه يتأكد من أنها مطفأة، ثم يتجه إلى غرفة النوم الخالية من الستائر ومن السجاد ومن مدفأة.‏
الجميع نيام.‏
يقترب من الأطفال. يغلفهم بنظرات حنانه. ثم يحمل الغطاء الوحيد الذي تدحرج إلى الأرض ويضعه عليهم في سكون.‏
وأخيراً هاهو يخلع ثيابه على عجل وينزلق مسرعاً، وهو يرتجف من البرد، تحت اللحاف الرقيق إلى جانب زوجه في السرير الحديدي الضيق... الضيق...‏
وأحست بنفسها فجأة وحيدة.. وحيدة كالحيوان المريض فحضنت ذراعيها بيديها، ورفعت كتفيها كما لتُغرق بينها رأسها المتعب. وتكوّمت خائفة مرتجفة في زاوية الديوان المريح...‏
وبصورة غريزية فاضت عيناها بالدمع..‏


كولييت الخوري

butterfly
20/01/2008, 13:57
ألم برجوازي



كولييت الخوري

قريانتا بموضوع " قصص كوليت خوري "
جبلنا شي جديد ولو :flala:

BL@CK
20/01/2008, 18:08
قريانتا بموضوع " قصص كوليت خوري "
جبلنا شي جديد ولو :flala:




هوي ما أنا اول مرة بقراها معناها جديدة , شو بيهم لو أنتي قاريتيا أو لأ ..

و اللهي عال .. :pos:

سرسورة
01/02/2008, 05:09
صورة وثوب حرير وقارورة عطر نهاد سيريس


في إحدى المرات, وبينما كان أصحاب البيت غائبين, استطاع احد اللصوص الوصول الى فرندة الطابق الثاني بخفة ونشاط ثم قام بقص دائرة في زجاج الباب تتسع ليده بوساطة أداة خاصة ودخل الى الشقة. انتقل فوراً الى غرفة نوم الزوجين وراح يعبث في الخزانة والجوارير باحثاً عن المصاغ والمجوهرات, الا انه أثناء ذلك وجد الخزانة مملوءة بثياب الزوجة الحرير فوقف يتشممها ثوباً ثوباً فتملكه سحر طغى على قلبه فرَّق حاله. أمضى وقتاً طويلاً وهو يفعل ذلك, إلا انه تذكر ما جاء من أجله فترك الثياب وعاد للبحث عما خف وزنه وغلا ثمنه, فانتقل الى الخزائن الأخرى وقبل أن يفتحها وجد بروازاً فيه صورة امرأة مركوناً بجانب السرير فجلس وقرّب البطارية التي كان يستعين بها لإنارة طريقه وراح يتمعن في الصورة.

كانت المرأة في الصورة غريبة الجمال, تشع سحراً لا يمكن تفسيره سوى بسبب جمال عينيها ودقة أنفها وأناقة تسريحتها. كانت المرأة تبتسم بسعادة من دون أي تصنع أو تظاهر. اكتشف اللص سر سعادتها في جمالها وصحتها. كانت في منتصف العشرينات من عمرها, شقراء الشعر ويفتر فمها عن أسنان بيض مرصوصة لا شائبة فيها. ظل الرجل يتمعن في رسم المرأة حتى أنه نسي نفسه. منذ مدة طويلة لم تسحره امرأة مثل هذه, بل قل انه لم يسبق له أن وجد نفسه مسحوراً في هذا الشكل في سنينه الأربعين كلها. حياته كلها قضاها في جو من القباحة, فقد نام في السجن ست سنين لم يشعر خلالها بأية بهجة مصدرها جمال أو رقة أو نعومة. كما أن أمه (رحمها الله) كانت سليطة اللسان وبشرة يديها خشنة وموجعة حين كانت تصفعه, وكان وجهها نحيلاً وشفتاها مزمومتين لا تنفرجان إلا عن صراخ وعويل وشكوى. أما نفيسة التي ورطته بنفسها فتزوجها فقد كانت لئيمة وصاحبة مشكلات حتى انها طلقته وهو في السجن.

كان ثوب نوم المرأة الحرير مركوناً على السرير فقرَّبه منه وراح يتلمس نعومته وهو يتابع النظر الى الصورة. وجد نفسه يحلِّق في ملكوت من النعومة والسكون والجمال, ولكي يعيش اللحظة في شكل كامل أمسك بالثوب وراح يتشممه وهو يجمع نسيجه بيديه على وجهه بينما كانت امرأة الصورة تبتسم له. شعر بحنان طاغٍ فنسي بريق الذهب فنهض ودس الثوب والصورة وقارورة عطر نسائي لطيفة التصميم في حقيبته الصغيرة المعلقة على كتفه ثم خرج بالطريقة نفسها التي دخل بها.

شغلت المرأة ذهنه, بل قل انه أحبها. صار كل ليلة يطفئ النور المبهر ويترك مصباح الحمام مشعولاً (لم يكن يملك مصباحاً ليلياً) ثم يتمدد على سريره ويغرق في تلمس أشياء المرأة وشمّها والنظر اليها. في الواقع أصبح ينتظر الليل بفارغ الصبر لكي يعود الى طقسه. من وقتها أصبح أكثر ليونة وأكثر هدوءاً وصار يتلاطف مع أطفال العمارة ويمنحهم الفرنكات. ثم اشترى شريطاً لفيروز وأضاف أغانيها الى طقسه الليلي وأصبح كثير التنهد.

بعد مدة جد نفسه مدفوعاً الى الشارع الذي يقع فيه بيت المرأة والذي دخله ليسرقه. كان يريد أن يكحّل عينيه برؤية صاحبة الصورة وجهاً لوجه. تحمم وقص شعره وحلق ذقنه عند المزين "قصر الملوك" ثم ارتدى قميصاً نظيفاً ولمع حذاءه وانطلق. كان الشارع هادئاً في وضح النهار وليس مثل حارته التي بدأ يزهق من ضجيجها, أما البناية التي يقع في طابقها الثاني بيت المرأة فقد كانت أنيقة ونظيفة وذات ألوان محببة. صار يروح ويأتي أمام البناية ولكن الفرندة اياها ظلت مغلقة. لاحظ, بنظره القوي, انهم قد أصلحوا زجاج بابها. لم يشعر بأسف في داخله لأن اقتحامه بيت المرأة أتاح له تلك المشاعر التي بدأ يحس بها في نفسه. ثم انه لم يسرق "حبيبته" ولم يستول على مصاغها وكل ما فعله انه استعار منها ثوب نومها الحرير وصورتها وقارورة عطرها. وجد مكاناً ظليلاً يستطيع منه رؤية فرندة المرأة, فوقف فيه وراح ينتظر. كان كل شيء هادئاً ومسالماً يشبه الى حد بعيد السلام الذي كان يشعر به وهو يحتل كيانه. لو سأله أحد ما في تلك اللحظة عما به لقال انه عاشق, وان العشق جميل وان المرأة هي أجمل ما في الكون. إلا أن صوت محرك سيارة مقبلة من الخلف عكر عليه أحلامه, بخاصة حينما توقفت بطريقة رعناء, ونزل منها ثلاثة رجال يحملون المسدسات. حين ذلك استفاق ليجدهم يمسكون به بطريقة آلمته في شدة ثم أدخلوه برعونة في السيارة فتمزق قميصه. أجلسوه في الوسط ووضعوا يديه في الكلبشات وراح أحد الرجال يضغط على عنقه بقوة ثم انطلقت السيارة.
ارادوا اثناء التحقيق معه في قــسم الشرطة ان يشير الى المكان الذي خبأ فيه المجوهرات التي ادعت المرأة انها فقدتها تلك الليلة.

butterfly
25/02/2008, 08:24
لوحات قصصية
جمانة طه


اجتماع‏

في الخارج. الليلة عمياء، المطر بحر، والبرد يصهر القلوب المتعبة والجسوم الهزيلة. وفي الداخل. ثريات تضيء كأنها النهار، ورجال مكتنزون دفئاً وترفاً. ها هم يلتئمون حول طاولة مستديرة، يناقشون مصائر أمم وحياة شعوب. ويوقعون بأقلامهم المذهبة، على عقود بيع وتصنيع أسلحة نووية وغير نووية. وحالما انتهوا من مهمتهم، خرجوا، وأعلنوا أمام الصحافة وكاميرات التلفزيون أن اجتماعهم كان بهدف الحفاظ على بيئة صحية نظيفة، يسعد فيها الأطفال، وتزدهر فيها الطبيعة والإنسانية.‏


حلم‏

كان عازباً. وكان حلم الحب، يمتد رخياً رضياً على مساحة قلبه وعمره. تزوج، فهرم الحب وانكمشت المساحات.‏


خيبة‏


أية مغامرة حملتها، على أن تمنحه رؤاها وأغانيها؟! أية مغامرة حملتها، على أن تتأبط حبه تميمة وتعويذة؟!‏
لخيبتها، لم يكن سوى ظل رجل!.‏



حبّ‏
ولدت عمياء. وعندما أحبّت، شعّ الضياء في قلبها، فزهت في عينيها الألوان.‏


مفاجأة‏

ملأت كفّها بحفنة من تراب الوطن. حدَّقتْ فيه، وجدتْهُ مملوءا دبابات وأسلاكاً شائكة.‏


تفاصيل لا معنى لها‏


أحبها حتى الفناء، وتجاهلته حتى العدم.‏
وبين هذا الحب وهذا التجاهل، حصلت تفاصيل لا معنى لها. انتهت به إلى مشفى الأمراض النفسية. وانتهت بها إلى بيت الزوجية، مع رجل تحبه حتى الفناء ويتجاهلها حتى العدم.‏

اللاعب واللعبة‏

كانت تلتقيه ثلاث مرات أسبوعياً. وكان في كل مرة، وبعد أن ينهي سهرته معها يعيدها إلى منزلها. تماما كما يعيد الطفل لعبته إلى الخزانة، بعد اللهو بها.‏
وفي يوم، ضاق اللاعب باللعبة. تركها في الخزانة، ومضى يبحث عن لعبة أكثر شباباً وتجدداً.‏



أم الشهيد‏

لم أعد أذكر، كم مرّ من الوقت وأنا أنظر في الجريدة، إلى صورة تجمع بين أم جنوبية وابنها الشهيد. كانت منحنية عليه، لصيقة به وكأنها تسكب قلبها في صدره، لتعيد إليه أنفاسه الضائعة.‏
كانت عيناها مفتوحتين مثل عيني صقر، وكانت نظراتها حانية مثل أوراق ورد. بمحبة تأملت الصورة، وبزهو علقتها فوق سريري.‏
إنْ حدث ومررتم بهذه الأم، أرجوكم أن تمرّوا بهدوء. وإذا سلمتم عليها، أرجوكم أن تسلّموا بخشوع. كي لا توقظوا النائمْين في قلبها: ابنها والوطن.‏


جولة‏
تمنيتُ لو أنها كانت معه في جولته السياحية العالمية.‏
فقال لها: كنت معي كما دائماً. قلبي يحملك في نبضاته، في حله وترحاله.‏
نبتت على شفتيها زهرات لها شكل القبلات.‏


حوارية‏
قال: أحبك...‏
قالت: أنا أكثر..‏
قال: أخاف من الهجر.‏
قالت: مستحيل أن يحصل.‏
قال: المساء جميل.‏
قالت: وجودك أجمل..‏
أطرقت قليلاً، وأطبقت جفنيها على فرح يرقص في عينيها. وحين فتحتهما، لم تجد غير مسجلة صغيرة ينطلق منها صوت أم كلثوم بتلك الحوارية الجميلة!

BL@CK
16/03/2008, 05:27
الخِتان


استقبلني الطبيب بابتسامة مشجعة ، أخذّ نفسا عميقا ، شمٌّر قليلا عن أكمامه كمن يُعلمني أنه يوليني كامل اهتمامه . كبحت رغبتي بالضحك إذ تخيلت كم سأفاجئه بطلبي ، بالتأكيد يظنني مريضة . أحسست فجأة باضطراب شديد إذ نسيت المقدمة التي تدرٌبت عليها مرارا لبدء حديثي معه . لعله لاحظ ارتباكي فابتدرني قائلا :
أرجو أن تثقي بي ثقة مطلقة و أن تعتبرينني صديقا يفهمك ويساعدك ، لا ترتبكي ولا تخجلي فالمرض النسائي مثله مثل أي مرض .

كنت أعرف أنه طبيب أمراض النساء الأكثر شهرة في المدينة وبأنه يتمتع بأخلاق مهنية عالية ، عقصت شعري بملقط أخرجته من حقيبتي كعادتي دوما لشحذ تفكيري ، بدا وجهي مقروءا وصريحا في حضرة الطبيب . وضعت رجلا علي رجل كي أوهمه أني مسترخية ولست خائفة . قلت له منتبهة للهجة صوتي الغريبة عني :
في الواقع أنا لا أشكو من أي مرض نسائي ، إنما قصدتك لسبب آخر .
قال مبتسما ابتسامة مشجعة :
مهما كان السبب فأنا سأدعمك وأساعدك بكل طاقتي .
أشكرك ، قلبي حدثني منذ البداية أنك لن تخيٌب ظني وأنني سأجد مرادي عندك.
استأذنني ليشعل سيجارة قائلا : كلي إصغاء لك .
ياه ... كيف نسيت السيناريو الذي حضٌرته ، اللعنة علي ذاكرتي كم صارت تخذلني ، لكني استجمعت شجاعتي المتهورة وقررت أن أقذف دفعة واحدة بالكلام الذي حاولت تزويقه .
أريد أن تجري لي عملية الختان .
جمدٌته جرأتي ، حلٌّ بيننا صمت م كهرب ، استدارت عيناه دهشة ، حدٌّقّ بي متشككا بما سمعه ، ابتسمت ، قلت له : لم تخطئ في فهم ما أرمي إليه .. أقولها مرة ثانية ، أريد أن أ جري عملية الختان .
سّحّب نفسا عميقا من سيجارته وقال وهو يتفحصني كأنه يبحث عن بذرة اضطراب عقلي : منذ ثلاثين عاما أمارس عملي كطبيب أمراض نساء ولم يسبق أن طلبت امرأة هذا الطلب ؟!.
وافقته مؤكدة : أعترف أنه طلب غريب .
هل لي أن أعرف أسبابه ؟
أتمني لو تعفيني من حديث موجع .
لكني لست آلة ، أؤمر بكذا فأنفٌذ ! .. أنا طبيب ومهنتي إنسانية قبل أي اعتبار ، إن شابة مثلك في عقدها الثالث ، متعلمة وناجحة في عملها ، جميلة و....
قاطعته : أعرف ما ستقول .. أنتّ تري طلبي غير معقول أليس كذلك ؟.. لعلك تظن أني مجنونة .
أبدا ، أبدا ، لكن أتمني لو نتحاور حول هذا الطلب اللاإنساني ، هذا الطلب أقصد الخِتان الذي لن يشوهك جسديا فحسب ، بل نفسيا ، ثم أظنك قرأت عن الآثار النفسية المؤلمة بل والكارثية لعمليات ختان الفتيات . كيف يعشن عمرهن بكآبة وألم و لا يشعرن بأية متعة علي الإطلاق ... تلك المتعة التي هي مادة الحب ، وأصل التواصل بين المرأة والرجل .

التقطت طرف الخيط ، فدٌبت في الحماسة ، قلت له : أشكرك علي كلامك ، فأنا أعرفه واسمح لي أن أكمل ما قلته لكن باتجاه آخر ، فحين تنعدم إمكانية الحب بين رجل وامرأة ، حين تتحول الحياة إلي انتظار طويل منهك للأعصاب ، لحبي لن يتحقق وأرجو ألا تسألني لماذا ؟ لأن الحياة معقدة وسريعة كدولاب يدور ويدور ، يطعن العواطف الرقيقة و لاتبقي إلا العواطف ، أقصد الغرائز الفظٌة كالحصي الباردة ، كنت أحس بألم وأنا أشرح ما بنفسي ، لكنني أعرف أن عليٌ إقناع الطبيب كي يختنني .
قال: الحب ، ليس له عمر معين ، وأنتِ لا تزالين شابة .

استأذنته بتدخين سيجارة محاولة أن أقنعه :
حاول أن تفهمني ، أرجوك ... رغم أن كلامي يبدو أغرب من أن تستوعبه ، لا لشيء سوي لأنه غير مألوف ، لقد تعبت من حالتي ، من حالة التوق للحب ، لحب إنساني صادق منزٌه عن الأغراض ، لم يحصل ، وأعرف أنه لن يتحقق ، لقد عشت سنوات طويلة مسرفة في الانقياد لعواطف الحب والحنان ، لكني لم أجنِ سوي الوحدة العميقة الأشبه بالصقيع ، لا تنظر إليٌ بهذه الطريقة أرجوك ، لكأنك تقول لي أنه حين يكون في رأس المرأة أفكار كهذه فمن العار أن تعلنها ، أنا تعيسة رغم نجاحي في عملي ، تعيسة لأني أربط سعادتي وانسجامي النفسي والعاطفي بالحب .. بالرجل الحلم . أتعرف صار توقي الشديد للحب حِملا لا فائدة منه ، إنه ي شعرني أني ميتة
و أنا لا أزال حية ، ي شعرني أن شبابي ي هدر لأني لا أذوب بين أحضان رجل يحبني لذاتي ولست بالنسبة له شهوة عابرة .

اقرأ السؤال في عينيك : كيف لم تلتقِ برجل حياتك ؟!..
أقول لكّ : أنا نفسي لا أعرف ، لعله الحظ كما يقال وأظنك تعرف أن هنالك آلاف من النساء الوحيدات مثلي و المتلهفات للحب . ياه ... لو تعرف كيف أن مزاجي الحزين والكئيب في غياب الحب يصيبني بداء غريب هو داء الخّرس ، إذ أظل أياما لا أنطق بكلمة منطوية علي ذاتي وحزينة ...
لم أترك للطبيب فرصة السؤال أو الاستيضاح ... كنت أستبق أسئلته من شدة استعجالي للبوح.
أتدهشكّ شجاعتي ، معك حق ، فالحزن يبث في النفس الشجاعة ، لقد مللت من انتظار الحب الذي به تتحقق أنوثتي وشخصيتي ... أتعرف أن الشجاعة والحزن صفتان متلازمتان ؟!...
قاطعني رغما عني : لكنك يا سيدتي ، لا تزالين شابة والفرص أمامك كثيرة .
الفرص!... هذا هو وجعي ، الانتظار والحلم ... لقد تعبت من انتظار الفرص ، من التوق للحب ، فحين أسافر في رحلة أحس بوخز ألم كوني وحيدة و حين ألبس ثيابا جميلة أحس بغصٌة ، إذ لا يوجد رجل حميم يحبني و ي طريني . وكل يوم أتناول طعامي وحيدة متخيلة طيف رجل ... و في الليل ، الليل حالة خاصة لأنه يجسٌد لي وحدتي ، أتعرف صرت أندهش حين أتفرج علي لقطات غرامية في الأفلام ، لكأن هؤلاء بشر من طينة أخري لا أنتمي إليها .
إلي متي سأعيش أقرأ عن الحب أو أشاهده ، إنما لا أعيشه ، وكل مساء أتدثٌر بغطاء بارد لا يحمل سوي رائحة وحدتي .
أدركت أن الطبيب يداري تأثره ، لكن في عينيه تعاطف شديد معي ، ربما صراحتي الخارقة وصدقي الغريب قد صدماه ، بدا مفلسا لا يعرف كيف يرد علي .
أخذت نفسا عميقا ، حلٌّ بيننا صمت مترقب ، تابعت كلامي .

أرجوك أيها الطبيب ، لا تخذلني ، حين سأجري عملية الختان سأرتاح من أكثر شيء يعذب الإنسان الأمل ... الأمل أو السراب _ لافرق ستريحني من ألف تنٌهدة وحسرة كل يوم علي رجلي أتمناه و لا يوجد ، عندها _أقصد بعد العملية سأكون سعيدة تماما وقد تحررت من وجع الغريزة ومن توق الحب وسأستمتع بما تقدمه لي الحياة من مباهج ، سأكون مكتفية بذاتي وسأعود لبساطة الخلق الأولي ... كائن لا جنسي .
لكن ، ألم تعيشي تجارب عاطفية من قبل ؟... فلِمّ أنتِ يائسة من احتمال تكرارها .
ضحكت من قلبي ، أجل عشت تجارب ممسوخة وقصيرة العمر ، ألا تعرف يا دكتور أن الفرح سطحي و أن المرارة تترك وشما عميقا في الذاكرة فأرجو أن تعفيني من تفاصيل تجاربي ، صدقني أنا مصممة علي العملية .
ابتسم الطبيب بمرارة : كم يحزنني أن هذه الرغبة طالعة من أعماقك .
غامت نظرة الطبيب ، أحسست أنه لم يعد يراني ، انتفضّ عن كرسيه كما لو أن فكرة مرعبة قذفته من مكانه ، اقترب مني وسألني بقلق كأنه يحدٌث نفسه :
هل لديك صديقات يرغبن بإجراء هذه العملية ؟.....
كان ذعره يتكاثر كدوائر تتوالد من نقطة ...
أجبته بابتسامة ، احتار كيف يفسرها ... في عينيٌ تصميم و في عينيه ذهول ... وبين ذهوله وتصميمي لّمّحنا طيف آلاف النساء الراغبات بالخِتان .


د . هيفاء بيطار

The morning
05/07/2008, 07:36
النمور في اليوم العاشر



رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص، ولكنه لم يستطع نسيانها، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهمة صعبة وسهلة في آن واحد.
انظروا الآن إلى هذا النمر: إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير ويصبح وديعاً ومطيعاً كطفل صغير.. فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين من لا يملكه، وتعلموا.
فبادر الرجال إلى القول إنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض.
فابتسم المروض مبتهجا، ثم خاطب النمر متسائلا بلهجة ساخرة: كيف حال ضيفنا العزيز؟ قال النمر: أحضر لي ما آكله، فقد حان وقت طعامي.
فقال المروض بدهشة مصطنعة: أتأمرني وأنت سجيني؟ يالك من نمر مضحك!! عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا إصدار الأوامر. قال النمر: لا أحد يأمر النمور.
قال المروض: ولكنك الآن لست نمراً.
أنت في الغابات نمر.
وقد صرت في القفص، فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء.

قال النمر بنزق: لن أكون عبداً لأحد.
قال المروض: أنت مرغم على إطاعتي؛ لأني أنا الذي أملك الطعام.
قال النمر: لا أريد طعامك.
قال المروض: إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه.
وأضاف مخاطباً تلاميذه: سترون كيف سيتبدل؛ فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة.
وجاع النمر، وتذكر بأسى أيامًا كان فيها ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه.
وفي اليوم الثاني أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروض: ألست جائعاً؟ أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم.. قل إنك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم.
ظل النمر ساكتاً، فقال المروض له: افعل ما أقول ولا تكن أحمق.
اعترف بأنك جائع فتشبع فوراً.
قال النمر: أنا جائع.
فضحك المروض وقال لتلاميذه :ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه.
وأصدر أوامره، فظفر النمر بلحم كثير.
وفي اليوم الثالث قال المروض للنمر: إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، فنفذ ما سأطلب منك.
قال النمر: لن أطيعك.
قال المروض: لا تكن متسرعاً، فطلبي بسيط جداً .
أنت الآن تحوم في قفصك، وحين أقول لك: قف، فعليك أن تقف.
قال النمر لنفسه: إنه فعلاً طلب تافه، ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع.
وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة: قف.
فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح: أحسنت.
فسر النمر، وأكل بنهم، بينما كان المروض يقول لتلاميذه: سيصبح بعد أيام نمراً من ورق.
وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض: أنا جائع فاطلب مني أن أقف.
فقال المروض لتلاميذه: ها هو ذا قد بدأ يحب أوامري.
ثم تابع موجهاً كلامه إلى النمر: لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط.
وقلد مواء القطط، فعبس المروض، وقال باستنكار: تقليدك فاشل.
هل تعد الزمجرة مواء. فقلد النمر ثانية مواء القطط، ولكن المروض ظل متهجم الوجه، وقال بازدراء: اسكت.. اسكت.. تقليدك ما زال فاشلاً.
سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط، وغداً سأمتحنك.
فإذا نجحت أكلت أما إذا لم تنجح فلن تأكل. وابتعد المروض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة، وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين.
ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.
وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر: هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج.
قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة: عظيم! أنت تموء كقط في شباط.
ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.
وفي اليوم السادس، وما إن اقترب المروض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط، ولكن المروض ظل واجمًا مقطب الجبين، فقال النمر: ها أنا قد قلدت مواء القطط.
قال المروض: قلد نهيق الحمار.
قال النمر باستياء: أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أُقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك!
فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.
وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعا، وقال للنمر: ألا تريد أن تأكل؟
قال النمر: أُريد أن آكل.
قال المروض: اللحم الذي ستأكله له ثمن، انهق كالحمار تحصل على الطعام.
فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروض: نهيقك ليس ناجحاً، ولكني سأعطيك قطعة من اللحم إشفاقاً عليك.
وفي اليوم الثامن، قال المروض: سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق إعجاباً.
قال النمر: سأصفق.
فابتدأ المروض إلقاء خطبته، فقال: “أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالإيمان سننتصر” .
قال النمر: لم أفهم ما قلت.
قال المروض: عليك أن تعجب بكل ما أقول، وأن تصفق إعجاباً به.
قال النمر: سامحني أنا جاهل أُميٌّ وكلامك رائع وسأصفق كما تبغي.
وصفق النمر فقال المروض: أنا لا أحب النفاق والمنافقين ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك. وفي اليوم التاسع جاء المروض حاملاً حزمة من الحشائش، وألقى بها للنمر، وقال: كل، قال النمر: ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم.
قال المروض: منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش.
ولما اشتد جوع النمر حاول أن يأكل الحشائش فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً.
وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص؛ فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.


ذكريا تامر

achelious
16/07/2008, 02:52
Week End

امرأة
رجل
وطفل مدلل يقود شاحنة, وعجوز لاتعرف أنها ستموت بعد ساعة بجلطة دماغية حادة, وشرطي يتحرك مثل آلة كهربائية, ودكان فيه كل شيء ما عدا السجائر,
طريق محفورة الجوانب, شجرة كئيبة وحيدة لا يسقيها أحد, بناية من عشرة طوابق تميل نحو اليمين قليلا كمعجزة عمرانية, وقط نافق على حافة الرصيف, تراب على شكل خط طويل تتسلى فيه الريح, شاب يشير بإصبعه الوسطى لآخر خلفه,وصبيه يكاد يقتلها شبقها, تحلم بدعوة عاجلة من عشرة رجال سود إلى عشاء على سرير, جامع يدعو الناس ويفرقهم, وكنيسة تقرع و"لمن تقرع هذي الأجراس", هاتف عمومي, وكيس نايلون يطير في السماء, ولا غيوم.... ولا غيوم.
جدار بأسماء عصابات, وعشاق وصور زعماء وشعارات قومية وإسلامية, وزاوية مظلمة صغيرة رطبة من بول الماة, وإشارة حمراء دائما لا يراها أحد, بائع جوال يغني للخيلر والبطاطا, وامرأة منقبة تأكل سندويشة فلافل بصعوبة, زوجها يحمل لها محفظتها وابنهما حليق الرأس, مراهقة تتأكد من أن لباسها الداخلي يظهر من فوق بنطالها, وشاحنة تحمل أكياس الإسمنت والسائق شعره طويل ويغني, حادث يقع بين سيانرتين من النوع ذاته, وأسرة من خمسة أفراد يضحكون جميعا ما عدا الأم تكتفي بابتسامة عريضة, وسيارة الأسعاف تم بسرعة وخلفها سيارة إطفاء وفي السماء عمود دخان أسود... ولا غيوم..... ولاغيوم .
طفل يمشي خطواته الأولى ويسقط, ينهض قليلا ثم يسقط وخلفه خادمة إثيوبية بشامة على أنفها وبنطال أزرق فاقع, تمشي خلفه بسعادة ومعها زجاجة حليب وهاتف جوال تنقل فيه الحادث السعيد لوالديه, ممرضة تنتظر سيلرة المشفى التي تأخرت وتفكر بطبيب التخدير الذي قال لها أمس إنها أجمل ممرضة رآها في حياته, ولوحات إعلانية لأطباء ومهندسين, وشركة للملاحة البحرية, ومطعم شعاره خروف يضحك بشاربين مفتولين وطربوش, المتأمل لكي المبلابس, الحزين لتوريد العمالة, عصفور يغط يحمل قطعة خبز يابسة ويرتفع, تسقط من منقاره... يعود ليلتقطها بقوة أكبر ويمضي نحو السماء....
ولاغيوم ....ولا غيوم.
وفي المقهى انا, أنا من من وصل قبل خمس ساعات وبع الساعة,بقهوتين ونصف علبة سجائر ونادلة مؤخرتها ناتئة كورم في ظهرها, كتبت رسائل مطمئنة للجميع, أني بخير وآكل جيدا, ومديري في العمل يحبني, وأوفر القليل من المال لشراء بيت أموت فيه حين أكبر بما فيه الكفاية, والرسائل كلها انتهت بعبارة قبلاتي للجميع, المشتاق فلان, وأنا في الحقيقة لا أشعر بالشوق لأحد, المرأة المجاورة تصلح مكياجها بمرة صغيرة,تضع أحمر الشفاه على شفتها السفلى وتمص, تنكش شعرها بكلتا يديها وتعود للتدخين, والنظر إلى الساعة, والنادلة تلمس دون أن يراها أحد مؤخرتها الناتئة تفكر بعملية تجميل ربما, ورجل يوقع شيكات لرجل آخر,وفي الزاوية شخص أعرفه ادعيت أني لا أراه, فكرت بالمنزل, بالإستلقاء أمام التلفاز, أن آخذ أكبر قسط من الراحة, وفي الذهاب إلى البحر, وأحد المراكز التجارية,وشراء حذاء جديد لونه أسود, وبطاريات للساعة الجدارية النتوقفة منذ أسبوع, ومسامير فولاذ لأعلق بعض اللوحات, والذهاب إلى السنما, بحثت في هاتفي عن رقم امرأة أعرفها أدعوها إلى العشاء فلا أجد, تنتابني كآبة خفيفة لا معنى لها, فأمضي تاركا النادلة صاحبة المؤخرة تمسح آثاري لتشعر الزبون الجديد أنه أول من يجلس على هذه الطاولة, بهدوء وأغنية ومكيف أشق الطريق إلى المنزل بقليل من الإثارة أشعرها تدغدغ خصيتي, امرأة صينية تحمل مظلة حمراء وجهها أملس متعرق, وبيدها كيس أعرف محتواياته, أتمهل قربها, تتمهل بتردد, أقترب أكثر أفتح النافذة تلفحني الرطوبة.... اصعدي... تتردد للحظة قبل أن تمد رأسها من النافذة, تستكين لبضع ثوان لهواء المكيف البارد, تبقي كيسها بين رجليها النحيلتين ومن دون ان تتكلم تشير بأصابعها إلى الرقم خمسة.
أقول.... خمسة؟
تعطيني هاتفها بعد أن كتبت بأرقامه رقم خمسين, ثم يظهر صوتها الأشبه بتصادم أربع طناجر نحاسية
فاك وتكتب 50
فاك + مساج+ ساك تكتب 100
فاك+ مساج+ ساك+ فيلم تكتب 150
تستاء من عدم تفاعلي, تلكزني بمعدن مظلتها في رقبتي, أبتسم وأهز رأسي, وأتذكر أن تحت وسادتي واقيا ذكريا قديما جدا, أرفع صوت المذياع, أشعل سيجارة, وأنطلق مسرعا ونظري عالق في السماء...... ولاغيوم.... ولاغيوم.

حازم سليمان

achelious
27/07/2008, 04:42
قُبلات من أجل العراق

الهاجس الذي لفها كثوب تقوى وطالعها في ثنايا الساعة لا يتزحزح، لا يترنح، لا يكف عن بعث الخشية في أوصالها. فهذا زمن وذاك زمن آخر، وكلاهما يحترق على أطراف يومها وعنادها. وها هي شمعة الشباب تذوب في ظلمات روحها دون أن تشق درباً للرؤية، ودون أن تُنير. فهي تريد الخلاص، أو الانطلاق، أو التحرر من القبلات الباردة في نهاية يوم متعب. هي تريد أن تشيع زمناً من الوصايا، وزمناً من ليالي السوق إلى الاستثمار بعصا الواجب. هي تعلم، وهم لا يعترفون: النهايات تتكون قبل أن تُدون.
الهاجس الذي طالع "حُسنية" كضربة نحس، ينمو سريعاً في عراء الرغبة، يشدها نحو مواجهات لا يُعرف عصيها، أو مدى دفقها، أو ملامح امتداداتها. انقضى نحو عامين من التظلل في خيمة الكتمان والحرص ومحاولة النسيان. العاصفة المدوية في صدرها تقوى وتشتد مع الأيام، وتكاد أن تمزق صبرها وحلمها. وحيلتها على حالها؛ متجمدة من الخوف والشقاء في ركن ميت من الفعل. الصراخ ممنوع، والاحتجاج معصية، واغتصاب القبلات من شفتيها المارقتين عن الشهوة فيه من الفضائل فضيلة السترة والطاعة والعفة!
وهذا الرجل المشدوه بجرائد تفيح منها رائحة الدم والقتل والبارود لا يعبأ بمعاناتها. يرجع إلى البيت من مكتبه مقلعاً عن الكلام والابتسام والسلام. يمشط ذقنه في أريكته، ويفتح شهيته لكلمات المذيع في التلفاز وهو يهرب من خبر سيء إلى خبر مؤلم. يكتئب على هدى هموم الساعة، فيرمق "حُسنية" شرراً، أو قهراً، أو عجزاً، ويشفع من اللحظة بالنوم والشخير. يتركها فريسة لملل الليل الطويل. ليلها صاخب بنداءات العوز في دائرة الشعور بالوحدة الضيقة. في الواقع، ليلها يتواصل مع نهارها منذ أن ركب "شارون" خيل غروره وعنجهيته واستعلائه وتحدى الأطفال والحجارة وقُراء الصحف والطالع والمصير في ساحاتهم المقدسة.
يوم ذاك، عاد زوجها من مقاهي الكلام الفارغ في ساعة متأخرة من السهرة. بدا محتقناً بالغضب والانكسار. رمقها بفجور وامتعاض، وانكب على المائدة يعلك غيضه. وبعد حين من اجترار المرارة بنهم، نهض متباطئاً وجرها من يدها كالخروف إلى السرير. داعب جسدها البارد بعنف وعدوانية. قبل شفتيها الميتتين وهو شارد الذهن. أحست "حُسنية" بقشعريرة وكادت أن تتقيأ. لكن زوجها لا ينتبه، لا يهتم، لا يكترث. جيش الحجارة يجب أن يكبر ويتنوع. جيل جديد يجب أن يتكون على وقع العجز ويمحو عار الآباء.
ومن حيث انتهى من احتقانه أغمض عينيه وتاه وراء الأحلام. نهضت "حُسنية" من السرير بهدوء، وركضت إلى الحمام. بصقت على شفتيها. غسلت شفتيها، وطالعت بقايا القهر في مقلتيها الحزينتين. ناجت ربها:
- أستعين بك وحدك. أرحمني من القبلات التائهة.
ومضى الزمن يرسم في أوراق أيامها نكبة في كل نكبة وهزيمة في كل هزيمة وخيبة في كل خيبة. عيونها دائماً شاخصة إلى السماء بحثا عن أمل أو فراغ تُضيع وجودها في أفاقه. لكن صور الموت والدمار والتحدي عن بعد والقبلات المتشنجة بالعجز تنتزع منها كل بارقة أمل، تحرمها من الشعور بالطمأنينة، تقذفها إلى بربرية الوحدة والقنوط. تسمع من حين إلى حين عن مظاهرات تخنق الشوارع. زوجها هو الذي يقود تلك المظاهرات، وهو الذي يكتب الشعارات، وهو الذي يعد ويتوعد، وهو الذي يجعلها تبصق على شفتيها. وفي مثل هذه الحالات، كانت "حُسنية" تنطوي على ذاتها وتبكي في حجرتها المغلقة على همومها ومعاناتها، وتتذكر:
- وماذا ينفع الصراخ في ملعب كرة قدم؟
أسئلتها تكاثرت وتعقدت وثقلت مع تكاثر شعبية "شارون" بين أوساط اليهود. حرجها كبر أمام جسدها المغتصب يوماً بعد يوم، وكذلك أمام الرجل المقاتل من خلال قراءة الصحف والمسبة والإدانة. لجأت إلى الابتهال لله كي لا تكره نفسها. كانت "حُسنية" متيقنة من أنها لا تملك مفاتيح الخروج من هذه الدائرة. يمكنها أن تمزقها وحسب، ويمكنها أن تنجو من فعلتها هذه أو لا تنجو. وهاجس الخلاص لا يدعها لحظة واحدة.
قبل بضعة أيام كادت أن تختنق بضجيج يأتي من خلف البحار فيمزق آذان الشوارع. هو ليس مفاجئ تماماً، لكنه مزعج للغاية. هي لا تحتمله لأن مغتصبها في الليالي والعتمة لا يحتمله. كانت متيقنة من ذلك، فمسها الذعر ككيد شيطان. وها هو ينام على صخب الجرائد والحناجر التي تلعن القادم والآتي وابتهال المؤمنين إلى الله. ومع طلائع الفجر المتمزقة بالنور والنار أيقظتها أنياب زوجها في ساعة مبكرة من الصباح. كان هلوعاً وعيونه تلمع بالجنون. عجنها بقبضاته وعصبيته. عضها بدل أن يقبلها. أنهكها ولم يتركها. لم تفهم "حُسنية" شيئاً، وإن كان الظن قد راودها بأن إسرائيل أنجبت شاروناً جديداً. قال في نهاية المطاف موضحاً:
- من المرجح أن يحتاج العراق أطفال حجارة، يجب أن نستعد.
نظرت إليه بأسى، بهدوء، برباطة جأش، وقالت كلمة قاطعة:
- العراق يحتاج شيئاً آخر. الطلاق.

محمد الدروبي:D

omaralwfhy
02/10/2008, 18:42
مشكوور جدا
والله موضوع حلو وغني