-
PDA

عرض كامل الموضوع : مقالات د\مصطفى محمود


maro18
03/12/2006, 23:27
تعريف بالكاتب

النشأة

مصطفى كمال محمود حسين
المولد فى شبين الكوم منوفية فى 25/12/1921

الأسرة متوسطة و الأب موظف (سكرتير فى مديرية الغربية) متدين و قدوة فى كمالاته الأخلاقية و صبره و إحتماله و مثابرته و حبه للعمل و مواظبته عل الصلاة فى أوقاتها لم تفته صلاة الفجر فى وقتها بالمسجد .. محب لأولاده فدائى فى خدمتهم (و كذلك الأم) .ه

المناخ التربوى

لا قهر فيه و لا قمع و لا عنف و إنما حرية و مسئولية و محاسبة فى لطف و قد رسبت ثلاث سنوات فى السنة الأولى الإبتدائية فتركنى الأهل على حالى دون تغليظ أو تعنيف .ه
كنت كثيراً ما أرقد مريضاً و أنا طفل .. و لذلك حرمت من اللعب العنيف و الإنطلاق الذى يتمتع به الأطفال .. و كانت طفولتى كلها أحلام و خيال و إنطواء .ه
و كنت دائماً أحلم و أنا طفل بأن أكون مخترعاً عظيماً أو مكتشفاً أو رحالاً أو عالماً مشهوراً .. و كانت النماذج التى أحلم بها هى كريستوفر كولمبس و أديسون و ماركونى و باستير .ه
الحياة فى طنطا فى جوار السيد البدوى و حضور حلقات الذكر و المولد و الناى و مذاق القراقيش و إبتهالات المتصوفة و الدراويش .. كان لها أثر فى تكوينى الفنى و النفسى . ه

الأحداث الجوهرية

كان مرض الوالد بالشلل لمدة سبع سنوات ووفاته سنة 1939و كان ذلك حينما أكملت دراستى الثانوية و قررت دخول كلية الطب . ه
و إنتقلنا بعد ذلك من طنطا الى القاهرة مع الوالدة .ه

سنوات المراهقة

كانت اشبه بمغالبة حصان جامح .. يفلت لجامه مرة و أكبح جماحه و أحكمه مرات .. و لم يكن الصراع سهلا بل كان شاقا و طويلا وخلف وراه جسما مغطى بالكدمات و الجراح .ه

الدراسة

اخترت دراسة الطب و شعرت ساعتها أنها ترضى فضولى و تطلعى الى العلم و معرفة الأسرار ـ و كانت الدراسة صعبة وتحتاج الى ارادة و تركيز و نوع من الإنقطاع و الرهبانية .. واحتاج الأمر منى الى عزم و ترويض و معاناة .. و كان حبى للعلم و طموحى يساعدنى ، و كانت صحتى الضعيفة تخذلنى .. و بدنى المعتل يضطرنى الى الإعتكاف من وقت لآخر فى الفراش .ه

و فى السنة الثالثة طب إحتاج الأمر الى علاج بالمستشفى سنتين و أدى هذا الإنقطاع الطويل الى تطور إيجابى فى شخصيتى .. إذ عكفت طول هذه المدة على القراءة و التفكير فى موضوعات أدبية.ه

و فى هاتين السنتين تكونت فى داخلى شخصية المفكر المتأمل و ولد الكاتب الأديب .ه

و حينما عدت الى دراسة الطب بعد شفائى كنت قد أصبحت شخصاً آخر . أصبحت الفنان الذى يفكر و يحلم و يقرأ و يطالع بإنتظام أمهات كتب الأدب و المسرح و الرواية .ه

و بسبب هذه الهواية الجديدة التى ما لبثت أن تحولت الى إحتراف و كتابة منتظمة فى الصحف فى السنوات النهائية بكلية الطب .. إحتاج الأمر وقت مضاعف لكى أنجح و أتخرج (بدأت أكتب فى مجلتي التحرير و روز اليوسف).ه

و حينما تخرجت فى سنة 1953 كان زملائى قد سبقونى فى التخرج بسنتين و ثلاثة .ه

و أستطيع أن أقول أن المرض و المعاناة و العزلة الطويلة فى غرف المستشفيات قد فجرت مواهبى .. و الألم كان الأب الحقيقى والباعث لكل هذه الإيجابيات و المكاسب التى كسبتها كإنسان و فنان وأديب و مفكر.ه

و الألم أيضاً هو الذى صقل أخلاقى و جلا معدن نفسى و فجر الحس الدينى فى داخلى و كان أداة التنوير و الصحوة و التذكير بالله ..ه


رحلتى من الشك إلى الإيمان

لم تكن بسبب إنكار أو عناد أو كفر و إنما كانت إعادة نظر منهجية حاولت أن أبدأ فيها من جديد بدون مسلمات موروثة .ه

و لم أفقد صلتى بالله طوال هذه الرحلة .. و إن كنت قد بدأت قطار الفكر و قطار الدين من أوله من عند الصفحة الأولى .. من مبدأ الفطرة .. و ماذا تقوله الفطرة بدون موروثات .ه

و إنتهيت من الرحلة الى إيمان أشد و عقيدة أرسخ و إنعكست الرحلة فى ال 89 كتاب التى ألفتها

Gazita
04/12/2006, 19:49
مشكورة مارو عالمعلومات لمصطفى كمال ومنتظرين المزيد عن مقالاته:D :D

lucky
04/12/2006, 20:09
يسلمو ما كنت بعرفه
يسلمووووو

maro18
05/12/2006, 00:57
مشكورة مارو عالمعلومات لمصطفى كمال ومنتظرين المزيد عن مقالاته:D :D
تسلمى على مرورك حبيبتى

maro18
05/12/2006, 00:58
يسلمو ما كنت بعرفه
يسلمووووو
تابع مقالاته وانت بتعرفه اكثر

maro18
05/12/2006, 00:59
الظلام المخيف

بقلم : د. مصطفى محمود



هل خطر على بالك وأنت تتأمل السماء في ليلة صافية أنك لا ترى من هذه السماء إلا 5 % وربما أقل من محتوياتها مهما استخدمت من مناظير ومجسات وأدوات استشعار .. مظلمة لا يخرج منها ضوء وسحب من العوالق والأتربة ممتدة مترامية بلا حدود ..

ويقول رجال الفلك أن هذه المادة السوداء المظلمة هي مجموع الغبار الكوني وسحب الغاز البارد وفقاعات كونية سابحة في الفضاء وكتل مادية جوفاء وثقوب سوداء ونيازك وبقايا نجوم ميتة .. وجسيمات دقيقة وفتافيت ذرات هائمة في تجمعات سحابية مثل البروتونات والنيوترونات والباريونات والكواركات وجسيمات النيوترينو التي تخترق الأرض وتخرج من الناحية الأخرى في سر عات مذهلة مثل السهام الخفية .. هذا عدا الأجسام الكبرى العملاقة كالنجوم والشموس والمجرات والكواكب والتوابع والأقمار التي تدور في أفلاكها .

وافتراض وجود هذه المادة السوداء الخفية كان سببه أن النجوم والشموس والكواكب والكتل المجرية العملاقة لا تكفي بمجموع كتلاتها للاحتفاظ بتماسك مجموع الكون ككل .. وتأثيرها الجذبي لا يكفي لجمع شمل العناقيد الكونية الهائلة من مجرات وتوابع لتسبح في أسرة متحاضنة كما نراها .. وكان لا بد أن تنفرط لولا وجود هذه المادة المفترضة .

والمعضلة معضلة حسابية وإحصائية ، فحاصل جمع الكتل الموجودة والمرئية بمناظيرنا وكاميراتنا الفضائية ومجساتنا لأشعة اكس وأشعة جاما والأشعة تحت الحمراء ومنظار هابل تقول إن مجموع المادة الموجودة أقل بكثير من المقدار الذي يفسر هذا التماسك الجذبي القائم ولو أن ما نرى هو كل المادة الموجودة لكان لابد أن ينفرط هذا الكون بددا ويتناثر في الفضاء ويضيع ويبرد وينطفئ ولا يجتمع له شمل .. فهناك حد أدنى من الكتلة لتكون هناك قبضة تمسك البنيان الكوني .. وكان لابد من الافتراض أن أكثر من تسعين في المائة من مادة الكون خافية وغير منظورة ولا يخرج منها أي ضوء يدل عليها .. وأنها لابد أن تكون موجودة قطعا رغم أننا لا نراها لتكون هناك تلك القبضة الملحوظة التي تمسك بالكون المرئي

وعلماء الجاذبية يؤكدون أن هناك حدا أدنى من الكتلة لتتماسك هذه الأسرة الهائلة من المجرات والنجوم والشموس والكواكب والأقمار ولترحل كما نراها وهي متحاضنة في هذا الفضاء اللانهائي .

فإذا كانت الكتلة أكبر فإن المجموعة تنهار على بعضها وتنكمش وتتكدس وتتضاغط وتنصهر ويجري عليها أقصى درجة من (الهرس) الجذبي وترتفع درجة حرارتها وتتحول إلى عجينة نارية .

ثم تنضغط إلى حد أقصى من الصغر.. ثم تعود فتنفجر وتتمدد وتتناثر في الفضاء لتعيد قصة الانفجار الأول الذي بدأ به الكون .. ثم تنتشر في السماوات السبع وتتشكل على صورة نجوم وشموس ومجرات سابحة مرتحلة .. كما هي في عالمنا المشهود الآن .

وتظل تتمدد وتتباعد بفعل قوة الانفجار حتى تخمد هذه القوة .. فينشأ ما يسمى بالكون المتعادل بين قوتين .. القوة الجاذبة المركزية والقوة الطاردة المركزية ويستمر هذا الكون عدة مليارات أخرى من السنين .

فإذا استمر التباعد وتغلبت القوة الطاردة المركزية على القوة الجاذبة المركزية بسبب صغر الكتلة فإن القبضة تظل تضعف وتضعف ثم يتناثر الكون بددا في الفضاء .. وذلك هو الكون المفتوح في لغة علماء الفلك .. فهو في تمدد أبدا وفي تناثر دائما لا يجتمع له شمل .

وإذا حدث العكس بسبب ضخامة الكتلة المادية فإن الكون ينهار على بعضه بسبب ثقله ثم ينكمش ويتضاغط إلى نقطة الانفجار الأول .ز وذلك هو نموذج الكون المغلق في لغة الفلكيين .

يقول ربنا عن الساعة في القران :

" ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة " .

فيربط سبحانه وتعالى بين " الثقل " والانهيار الكوني في كلمة "ثقلت" .. وهي إشارة علمية بليغة تفوت الكثيرين .. وسبحان الذي وسع كل شئ رحمة وعلما .. فكلمة " تثاقل " .. هي الترجمة الحرفية لكلمة Gravitation.. أي الجاذبية وهذه معجزة البيان القرآني الدقيق الذي لا تنتهي عجائبه .

والمعنى المستفاد من كل هذا أن الكتلة المادية لمجموع الكون هي التي سوف تحدد سلوكه وسوف تحدد نهايته .. ولأننا لا نرى مجموع هذه المادة ولا نشهد منها إلا الجزء الذي يشع ضوءا .. ويخفي علينا نماما جانب المادة السوداء المظلمة ولا ندركها إلا تخمينا واستنتاجا من حساباتنا .. فإننا لن نعلم متى ستأتي لحظة الانهيار الجذبي ومتى تقوم الساعة رغم أننا نعلم أشرا طها وعلاماتها وتلك لفتة أخرى لدقة البيان القرآني "لا تأتيكم إلا بغتة" أي أننا سوف نفاجأ بها ولن تدركها حساباتنا رغم توقعنا لحدوثها .. فهناك عنصر ناقص في هذه الحسابات لن ندركه بوسائلنا .. هو المادة السوداء المظلمة ومداها وكتلتها بالضبط

وهذه هي "س" في المعادلة التي لا سبيل إلى تحديدها كميا وهذا هو التحدي الذي يواجه العلماء .

أي أننا لن نعلم "بالضبط" مقدار هذه المادة السوداء المظلمة وبالتالي لن نستطيع أن نحدد ساعة الانهيار وهناك جنون فلكي الآن حول هذه المادة السوداء .. وهناك سباق محموم بين كل المراصد ومراكز الأبحاث الفلكية للوصول إلى الماهية الحقيقة لهذه المادة السوداء وكميتها وكتلتها

والخلاف على أشده بين كل مراكز البحث

ولكن كلهم متفقون على أنها حقيقية وأنها تملا السماوات .. ولكنهم مختلفون غاية الاختلاف في مقدارها .. وفي ماهيتها.

ولفتة أخرى للدقة القرآنية في خطاب الله لموسى عن الساعة .. يقول ربنا لموسى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (15 -طه) يقول ربنا " أكاد أخفيها " ولا يقول أخفيها .. أي أننا سنعلم أنها آتية .

والكلمة غاية في الدقة .. فالفلكيون الآن يعلمون أنها آتية لاشك وأنها مرتبطة بالزيادة التراكمية للكتلة .. ولكنهم لا يعلمون مقدار هذه الكتلة الكلية .. بسبب المادة المظلمة التي لا يخرج منها ضوء ولا تدركها المناظير .. وبالتالي لا يستطيعون حساب موعد الانهيار بالضبط لان الرقم الكلي مجهول

وايات مثل .. "اقتربت الساعة وانشق القمر" (1 -القمر)

" وما يدريك لعل الساعة قريب" (17 - الشورى)

"يسأل أيان يوم القيامة" ( 6 - القيامة ) كلها .. إشارات إلى استحالة التحديد " فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر " ( 7 - 8 - 9 - القيامة )

ولا يجمع الشمس والقمر إلا في الانهيار الجذبي الذي ينهار فيه الاثنان بجاذبية المركز ويتحول الكون كله إلى عجينة واحدة تهرسها الجاذبية هرسا ..

ولا شك أنها ستكون حالة مشهدية خارقة تخطف البصر لغرابتها .. هذا إذا ظل المشاهد قادرا على المشاهدة وإذا لم يتحول إلى بودرة أو مسحوق .

والأمر لا يمكن وصفه فهو كارثة كبرى بكل المقاييس يتضاءل أمامها كل ما نرى من سيول وأعاصير وزلازل وبراكين وصواعق وانهيارات جليدية .

إنها النهاية التي لا يعلم إلا الله ماذا بعدها .

ولا يملك عالم الفلك الذي يرصد ويقيس ويسجل ويحسب إلا أن يصاب بالرجفة والذعر .. فالأرقام التي تجتمع لديه من الحاسبات الكمبيوترية الضخمة تنبئ باحتمال مؤكد .. أن هناك مادة مظلمة خفية تملا جنبات الفضاء والكون وأن هذه المادة الخفية تشكل أكثر من 95 من الكون وأن ما نراه بأعيننا من هذا الكون أقل من 5% من محتواه الكلي .. وأن المجرات غارقة في هالات خفية من هذه المادة كما تغرق حبات الفستق في المربى .. وأن هناك عفريتا ماردا له ملايين الأذرع يضغط على مادة هذا الكون شيئا فشيئا من اللحظة الحرجة التي سوف ينهار فيها كل شئ كمعمار هائل من القش متى ..؟ لا نستطيع أن نحدد .

والكمبيوترات الضخمة لا تسعف

والأرقام لم تظهر بعد.

ولا نملك إلا التخمين .

ولكن كل الأرصاد تقول إن هذا الكون العظيم يسير حثيثا إلى نهايته.

maro18
07/12/2006, 03:17
من أنت ؟




من أنت ؟




من أنت.. حينما تتردد لحظة بين الخير و الشر.. من تكون..؟!


أتكون الإنسان الخير أم الشرير أم ما بينهما..؟!


أم تكون مجرد احتمال للفعل الذي لم يحدث بعد..؟!


إن النفس لا تظهر منزلتها و لا تبدو حقيقتها إلا لحظة أن تستقر على اختيار، و تمضي فيه باقتناع و عمد و إصرار، و تتمادى فيه و تخلد إليه و تستريح و تجد ذاتها.


و لهذا لا تؤخذ على الإنسان أفعال الطفولة، و لا ما يفعله الإنسان عن مرض أو عن جنون أو عن إكراه...


و إنما تبدأ النفس تكون محل محاسبة منذ رشدها، لأن بلوغها الرشد يبدأ معه ظهور المرتكزات و المحاور التي ستنمو عليها الشخصية الثابتة.


و اختيارات الإنسان في خواتيم حياته هي أكثر ما يدل عليه، لأنه مع بلوغ الإنسان مرحلة الخواتيم يكون قد تم ترشح و تبلور جميع عناصر شخصيته، و تكون قد انتهت ذبذبتها إلى استقرار، و تكون بوصلة الإرادة قد أشارت إلى الطابع السائد لهذه الشخصية.


و لهذا يقول أجدادنا.. العبرة بالخواتيم.. و ما يموت عليه العبد من أحوال، و أعمال و ما يشغله في أيامه الأخيرة هو ما سوف يبعث عليه.. تماما كما ينام النائم فيحلم بما استقر في باله من شواغل لحظة أن رقد لينام.


و لهذا أيضا لا تؤخذ النفس بما فعلته و ندمت عليه و رجعت عنه، و لا تؤخذ بما تورطت فيه ثم أنكرته و استنكرته، فإن الرجوع عن الفعل ينفي عن الفعل أصالته و جوهريته و يدرجه مع العوارض العارضة التي لا ثبات لها.


و قد أعطى الله الإنسان مساحة كبيرة هائلة من المنازل و المراتب.. يختار منها علوا و سفلا ما يشاء.. أعطاه معراجا عجيبا يتحرك فيه صاعدا هابطا بلا حدود.. ففي الطرف الصاعد من هذا المعراج تلطف و ترق الطبائع، و تصفو المشارب و الأخلاق حتى تضاهي الأخلاق الإلهية في طرفها الأعلى ( و ذلك هو الجانب الروحي من تكوينه) و في الطرف الهابط تكثف و تغلظ الرغبات و الشهوات، و تتدنى الغرائز حتى تضاهي الحيوان في بهيميته، ثم الجماد في جموده و آليته و قصوره الذاتي.. ثم الشيطان في ظلمته و سلبيته ( و ذلك هو الجانب الجسدي الطيني من التكوين الإنساني).


و بين معراج الروح صعودا و منازل الجسد و الطين هبوطا، تتذبذب النفس منذ ولادتها، فتتسامى من هنا و تتردى هناك بين أفعال السمو و أفعال الانحطاط، ثم تستقر على شاكلتها و حقيقتها.


(( قل كل يعمل على شاكلته )) (84 - الإسراء)


و متى يبلغ الإنسان هذه المشاكلة و المضاهاة بين حقيقته و فعله فإنه يستقر و يتمادى، و يمضي في اقتناع و إصرار على خيره أو شره حتى يبلغ نهاية أجله.


و معنى هذا أن النفس الإنسانية أو (( الأنا )).. هي شيء غير الجسد.. و هي ليست شيئا معلوما بل هي سر و حقيقة مكنونة لا يجلوها إلا الابتلاء، و الاختبار بالمغريات.


و ما الجسد و الروح إلا الكون الفسيح الذي تتحرك فيه تلك النفس علواً و هبوطاً بحثاً عن المنزلة التي تشاكلها و تضاهيها و البرج الذي يناسب سكناها فتسكنه.. فمنا من يسكن برج النار ( الشهوات) و هو مازال في الدنيا، فلا يبرح هذا البرج حتى الممات، فتلك هي النفس التي تشاكل النار في سرها و هي التي سبق عليها القول و العلم بأنها من أهل النار.


و ذلك علم سابق عن النفوس لا يتاح إلا لله وحده، لأنه وحده الذي يعلم السر و أخفى، فهو بحكم علمه التام المحيط يعلم أن هذه الحقيقة المكنونة في الغيب التي اسمها فلان، و التي مازالت سرا مستترا لم يكشفه الابتلاء و الاختبار بعد، و التي لم تولد بعد و لم تنزل في الأرحام.. يعلم ربنا تبارك و تعالى بعلمه المحكم المحيط أن تلك النفس لن تقر و لن تستريح و لن تختار إلا كل ما هو ناري شهواني سلبي عدمي.. يعلم عنها ذلك و هي مازالت حقيقة مكنونة لا حيلة لها في العدم.


و هذا العلم الرباني ليس علم إلزام و لا علم قهر، بل هو علم حصر و إحاطة، فالله بهذا العلم لا يجبر نفسا على شر، و لا ينهى نفساً عن خير، فهو يعلم حقائق هذه الأنفس على ماهي عليه دون تدخل.


فإذا جاء ميقات الخلق ( و جميع هذه الأنفس تطلب من الله أن يخلقها و يرحمها بإيجادها و هي مازالت حقائق سالبة في العدم) أعطى الله تلك النفس اليد و القدم و اللسان لتضر و تنفع، و أعطاها ذلك الكون الفسيح الذي اسمه الروح و الجسد لتمرح فيه صاعدة هابطة تختار من منازله ما يشاكلها لتسكن فيه.. فإذا سكنت و استقرت، و تسجلت أعمالها قبضها الله إليه يوم البعث و الحساب المعلوم.. حيث تقرأ كل نفس كتابها، و تعلم منزلتها فلا يعود لأحد العذر في أن يحتج بعد ذلك حينما يضعه الله في مستقر الجنة أو مستقر النار الأبدية.


و قد أعذر الله و أنذر الجميع من قبل ذلك بالرسل و الكتب و الآيات، و أقام عليهم الحجة بما وهب لهم من عقل و ضمير و بصيرة و حواس تميز الضار من النافع و الخبيث من الطيب.


و لهذا حينما تطالب النفوس المجرمة في النار أن تعطى فرصة أخرى، و أن ترد إلى الدنيا لتعمل الصالحات، و حينما يدعي البعض أن تعذيب تلك النفوس أبديا على ذنوب مؤقتة ارتكبتها في الزمن المحدود هو أمر ظالم.


حينئذ يجيب ربنا متحدثا عن هؤلاء المجرمين قائلا:


(( و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون )) (28 - الأنعام)


و في هذا الرد البليغ إشارة إلى أن إجرام تلك الأنفس لم يكن ذنباً موقوتاً في الزمن.. بل لأنهم ليعاودون هذا الجرم في كل زمن و مهما عاود الله خلقهم.. لأن ذلك الإجرام حقيقة مكنونة، و ليس عرضاً محدوداً بالزمان و المكان.. و لهذا كان عقابه الأبد، و ليس العذاب الموقوت.


و نقول أيضا: إن هناك عدالة عميقة كامنة في هذا المصير.. ناراً أبدية أم جنة.. إن كل نفس بينها و بين ذلك المصير النهائي مشاكلة تامة، و مضاهاة و ائتلاف في الحقائق.. فالحقائق النارية تسكن النار و الحقائق النورانية تسكن الجنة.. فلا قسوة هناك و لا وحشية، و إنما وضع لكل شيئ في مكانه.


و السر الآخر الذي ينكشف لنا أن البيئة لا يمكن أن تصنع من إنسان صالح ( نفسه صالحة بالحقيقة) إنساناً مجرماً و لا العكس، و أن الكلام على أن مظالم المجتمع جعلت فلاناً لصاً، هذا الكلام لا يصدق دينياً و لا واقعياً. فالمجتمع يضع للجريمة إطارها فقط و لكن لا ينشئ جريمة في إنسان غير مجرم.. بمعنى أن لص هذا الزمان تعطيه إمكانيات العصر العلمية وسائل إلكترونية و أشعة ليزر ليفتح بها الخزائن، بينما نفس اللص منذ عشرين سنة لم يكن يجد إلا طفاشة.. كما أن قاتل اليوم يمكن أن يستخدم بندقية مزودة بتلسكوب ( كما فعل قاتل كنيدي) بينما هو في أيام قريش لا يجد إلا سيفاً، ثم قبل ذلك بعدة قرون لا يجد إلا عصاً، ثم قبل ذلك على أيام قابيل و هابيل لا يجد إلا الحجارة.


إن المجتمع و العصر و الظروف تصنع للجريمة شكلها، و لكنها لا تنشئ مجرماً من عدم، و لا تصنع إنساناً صالحاً من نفس لا صلاح فيها.


و بالمثل لا يستطيع الأبوان بحسن تربيتهما أن يقلبا الحقائق فيخلقا من ابنهما المجرم ابناً صالحاً و لا العكس.


و نجد في سورة الكهف حكاية عن غلام مجرم كافر، أبواه مؤمنان.


(( و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً و كفراً )) (80 - الكهف)


و أكثر الأنبياء كانوا من آباء كفرة، و استجابت أكثر الأقوام لهؤلاء الأنبياء و لم يستجب الآباء.


من الذي يستطيع أن يقلب حقائق الأنفس و يغيرها؟ لا أحد سوى الله وحده.


و الله لا يفعل ذلك إلا إذا طلبت النفس ذاتها أن تتغير و ابتهلت من أجل ذلك، لأنه واثقنا جميعا على الحرية التامة و على أنه لا إكراه في الدين.. و أن من شاء أن يكفر فليكفر، و من شاء أن يؤمن فليؤمن.. و أنه لن يقهر نفساً على غير هواها.. و أنه لن يغير من نفس إلا إذا بادرت بالتغير و طلبت التغير.


(( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) (11 - الرعد)


و تلك هي التزكية.


(( و لولا فضل الله عليكم و رحمته ما زكا منكم من أحد أبداً و لكن الله يزكي من يشاء)) (21 - النور)


و على الإنسان أن يبدأ بتزكية نفسه و تطهيرها.


(( قد أفلح من زكاها، و قد خاب من دساها)) (9، 10 - الشمس)


(( من تزكى فإنما يتزكى لنفسه)) (18 - فاطر)


و لا سبيل إلى تطهير النفس و تزكيتها إلا بإتقان العبادة و التزام الطاعات، و إطالة السجود و فعل الصالحات.


و بحكم رتبة العبودية يصبح الإنسان مستحقاً للمدد من ربه، فيمده الله بنوره و يهيئ له أسباب الخروج من ظلمته.


و ذلك هو سلوك الطريق عند الصالحين من عباد الله، بالتخلية ( تخلية النفس من الصفات المذمومة)، ثم التحلية ( تحلية القلب بالذكر و الفضائل) و التعلق و التخلق و التحقق.


و التعلق عندهم هو التعلق بالله و ترك التعلق بما سواه.


و التخلق هو محاولة التحلي بأسمائه الحسنى، الرحيم و الكريم و الودود و الرءوف و الحليم و الصبور و الشكور.. قولا و فعلا.


و التحقق هو أن تصل إلى أقصى درجات الصفاء و اللطف و المشاكلة، فتصبح نورانيا في طباعك أو تكاد.


و لا سبيل إلى صعود هذا المعراج إلا بالعبادة و الطاعة و العمل الصالح، و التزام المنهج القرآني و السلوك على قدم محمد العبد الكامل عليه صلوات الله و سلامه.


و الذي يعلق على هذا الكلام فيقول:


قولك عن النفس أنها (( السر )) هو كلام أغمضت فيه، و ألغزت و حجبت و ما كشفت.


أقول له إن نفساً فيها القابلية للحركة على جميع تلك المعارج صعوداً و هبوطاً، و فيها القابلية أن تكون ربانية أو شيطانية أو حيوانية أو جمادية.


نفس بهذه الإمكانيات هي (( السر الأعظم )) ذاته.


و من ادعى أنه أدرك السر الأعظم؟!!


إن هي إلا أصابع تشير.


و المشار إليه لا يعلمه إلا الله.


و نحن جميعاً لا نعلم.

maro18
08/12/2006, 16:05
((نقطة من البحر المحيط))






في ساعات الصفاء حينما تنقشع الغواشي عن القلب و تنجلي البصيرة، و أرى كل شيء أمامي بوضوح، تبدو لي الدنيا بحجمها الحقيقي و بقيمتها الحقيقية، فإذا هي مجرد رسم كروكي أو ديكور مؤقت من ورق الكرتون، أو بروفة توزع فيها الأدوار لاختيار قدرات الممثلين، أو مجرد ضرب مثال لتقريب معنى بعيد و مجرد و هي في جميع الأحوال مجرد عبور و مزار و منظر من شباك في قطار.


و هي الغربة و ليست الوطن.


و هي السفر و ليست المقر.


أعجب تماما و أدهش من ناس يجمعون و يكنزون و يبنون و يرفعون البناء و ينفقون على أبهة السكن و رفاهية المقام.. و كأنما هو مقام أبدي.. و أقول لنفسي أنسوا أنهم في مرور؟. ألم يذكر أحدهم أنه حمل نعش أبيه و غدا يحمل ابنه نعشه إلى حفرة يستوي فيها الكل؟.. و هل يحتاج المسافر لأكثر من سرير سفري و هل يحتاج الجوال لأكثر من خيمة متنقلة؟.


و لم هذه الأبهة الفارغة و لمن؟.


و لم الترف و نحن عنه راحلون؟.


هل نحن أغبياء إلى هذه الدرجة؟. أم هي غواشي الغرور و الغفلة و الطمع و عمى الشهوات و سعار الرغبات و سباق الأوهام؟. و كل ما نفوز به في هذه الدنيا وهمي، و كل ما نمسك به ينفلت مع الريح.


و الذين يتقاتلون ليسبق الواحد منهم الآخر أكثر عمى، فالشارع سد عند نهايته و كل العربات تتحطم و يستوي فيها السابق باللاحق، و لا يكسب أحد منهم إلا وزر قتل أخيه.. بل إن أكثر الناس أحمالا و أوزارا في هذه الدنيا هم الأكثر كنوزا و الأكثر ثراء، فكم ظلموا أنفسهم ليجمعوا، و كم ظلموا غيرهم ليرتفعوا على أكتافهم.


و لعلنا سمعنا مثل هذا الكلام و نحن نلهث متسابقين على الطريق.. فهو كلام قديم قدم التاريخ رددته جميع الأسفار و قاله جميع الحكماء و لكنا لم نلق له بالا و لم يتجاوز شحمة الأذن.


و مازلنا نسمع و لا نسمع برغم تطور أدوات الاستماع و كثرة الميكروفونات و مكبرات الصوت، و لاقطات الهمس الإلكترونية من فوق الفضاء و من تحت الثرى.


و مازلنا نزداد صمما عن إدراك هذه الحقيقة البسيطة الواضحة و كأنها طلسم مطلسم و لغز عصي على الأفهام.


هل نحن مخدرون؟.


أم هناك ما هو أقوى أثرا و أكثر شراسة من الخمور و المخدرات، هي مادية العصر التي طبعت الناس بذلك الشعار المسكر؟ غامر و اكسب.. و انهب و اهرب.. و سارع إلى اللذة قبل أن تفوتك.. و عش لحظتك بملئها طولا و عرضا و لا تفكر ماذا بعد فقد لا يكون هناك بعد.


نعم تلك هي الخدعة التي يستدرج إليها الكل.. إنه لا شيء سوى ما نرى و نسمع و نذوق و نلمس من ماديات، و أنه ليس وراء هذه الدنيا شيء و نفوسنا الأمارة استراحت إلى هذه الفلسفة لأنها تشبع لها رغائبها و تحقق لها مشتهياتها، و الحيوان في داخلنا اختارها لأنها تشبع غرائزه.


و تلك النفس هي الفتنة و الحجاب و هي التي أفرزت هذه الحضارة المادية و روجتها.


ألم يسأل داوود ربه: يارب كيف أصل إليك. فقال له ربه.. اترك نفسك و تعال.. أن يترك هذه النفس لأنها العقبة.. (( فلا اقتحم العقبة. و ما أدراك ما العقبة. فك رقبة)) (11 - 13 البلد)


لا انفكاك من هذه العقبة إلا بالانفكاك من طمعك.. فتفك الرقبة و تطعم المسكين و تؤثر غيرك على نفسك. و لذلك لم يطلب الإسلام من المسلم نبذ الدنيا و إنما طلب منه قمع النفس و كبحها و شكمها.. لأن النفس هي الأصل.. و الدنيا مجرد أداة لتلك النفس لتختال و تزهو و تتلذذ و تستمتع.


إن النفس هي الموضوع و هي ميدان المعركة و محل الابتلاء، و الدنيا ورقة امتحانها، و مطلوب الدين هو الإرتقاء بهذه النفس و الارتفاع بها من شهوات البطن و الفرج و من شهوات الجمع و الاكتناز، و من حمى الاستعراض و الكبر و التفاخر ليكون لها معشوق أرقى هو القيم و الكمالات، و معبود واحد هو جامع هذه الكمالات كلها..

و إنما تدور المعركة في داخل النفس و في شارع الدنيا حيث يتفاضل الناس بمواقفهم من الغوايات و المغريات و ما تعرض عليهم شياطينهم من خواطر السوء و من فرص اللذة كل لحظة.


و لم يطلب الإسلام من المسلم أن ينبذ الدنيا، بل طلب منه أن يخوضها مسلحا بهذه المعرفة، فالدنيا هي مزرعته و هي مجلى أفعاله و صحيفة أعماله.


و قدم له فلسفة أخرى في مواجهة الفلسفة المادية.. قدم له فلسفة استمرار و بقاء فهو لن يموت و يمضي إلى عدم.. بل إلى حياة أخرى سوف تتعدد فصولا و تمضي به كدحا و جهادا حتى يلقى ربه: (( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)) (6 - الانشقاق)


الحضارة المادية لم تقدم للإنسان إلا الموت و حياة تمضي سدا و تنتهي عبثا.. أما الإسلام فقدم للإنسان الخلود و حياة تمضي لحكمة و تنتقل من طور إلى طور وفقا لنواميس ثابتة من العدل الإلهي، حيث لا يذهب أي عمل سدى و لو كان مثقال ذرة من خير أو شر.. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره.


و اليوم تصل الحضارة المادية إلى ذروة من القوة و العلم و تكتمل لها أدوات الفعل و التأثير من إذاعة و تليفزيون و سينما و مسرح و كتب و مجلات، و هي سواء كانت أمريكية أو سوفييتية، فهي لا تفتأ تغتال العقل و الروح و تتحالف على الإنسان بخيلها و رجلها، و لكنها برغم كل شيء ضعيفة متهافتة واهية لأنها تغتال نفسها ضمن ما تغتال و تأكل كيانها، وسوف تقتتل مع بعضها البعض و تتحارب بالمخلب و الناب و بالقنابل الذرية و القذائف النووية فالطمع و الجشع حياتها و موتها.


و على رقعة صغيرة من الأرض يقف الإسلام كمنارة في بحر لجي مظلم متلاطم الموج يعج بالبوارج و الغواصات و حاملات الصواريخ و حاملات الرءوس النووية.


و ما أكثر المسلمين ممن هم في البطاقة مسلمون، و لكنهم في الحقيقة ماديون اغتالتهم الحضارة المادية بأفكارها و سكنتهم حتى الأحشاء و النخاع، فهم يقتل بعضهم البعض و يعيشون لليوم و اللحظة و يجمعون و يكنزون و يتفاخرون و لا يرون من الغد أبعد من لذة ساعة، و يتكلمون بلغة سوفييتية أو لغة أمريكية و لا يعرفون لهم هوية..


و قد نجد من يصلي منهم إلى القبلة خمس مرات في اليوم و لكن حقيقة قبلته هي فاترينة البضائع الاستهلاكية.


و لا يبقى بعد ذلك إلا قليل أو أقل القليل ممن عرف ربه.


و لو بقي مؤمن واحد مرابط على الحق في الأربعة آلاف مليون فهو وحده أمة ترجحهم جميعا عند الله يوم تنكشف الحقائق و ينهدم مسرح العرائس و يتمزق ديكور الخيش و الخرق الملونة، و تنهار علب الكرتون التي ظنناها ناطحات سحاب و تنتهي الدنيا.


و حينئذ و عندما تهتك الأستار و تقام الموازين، سوف نعرف ما الدنيا و ماذا تساوي.. و ماذا يساوي كل الزمن حينما نضع أقدامنا في الأبد.


و حينئذ سوف نتذكر الدنيا كما نتذكر رسما كروكيا، أو مسرح خيال الظل، أو نموذج مثال مصنوع من الصلصال لتقريب معنى بعيد بعيد و مجرد..


و سوف نعلم أنها ما كانت سوى النقطة التي فيها كل أملاح البحر المحيط، و لكنها لم تكن أبدا البحر المحيط.

maro18
10/12/2006, 17:46
((علم نفس قرآني))

سيداتي وسادتي.. هل تعلمون ما معنى أن الله موجود؟

معناه أن العدل موجود و الرحمة موجودة و المغفرة موجودة.

معناه أن يطمئن القلب و ترتاح النفس و يسكن الفؤاد و يزول القلق فالحق لابد واصل لأصحابه.

معناه لن تذهب الدموع سدى و لن يمضي الصبر بلا ثمرة و لن يكون الخير بلا مقابل و لن يمر الشر بلا رادع و لن تفلت الجريمة بلا قصاص.

معناه أن الكرم هو الذي يحكم الوجود و ليس البخل..و ليس من طبع الكريم أن يسلب ما يعطيه.. فإذا كان الله منحنا الحياة، فهو لا يمكن أن يسلبها بالموت.. فلا يمكن أن يكون الموت سلبا للحياة.. و إنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى بعد الموت ثم حياة أخرى بعد البعث ثم عروج في السماوات إلى ما لا نهاية.

معناه أنه لا عبث في الوجود و إنما حكمة في كل شيء.. و حكمة من وراء كل شيء.. و حكمة في خلق كل شيء.. في الألم حكمة و في المرض الحكمة و في العذاب حكمة و في المعاناة حكمة و في القبح حكمة و في الفشل حكمة و في العجز حكمة و في القدرة حكمة.

معناه ألا يكف الإعجاب و ألا تموت الدهشة و ألا يفتر الانبهار و ألا يتوقف الإجلال.

فنحن أمام لوحة متجددة لأعظم المبدعين.

معناه أن تسبح العين و تكبر الأذن و يحمد اللسان و يتيه الوجدان و يبهت الجنان.

معناه أن يتدفق القلب بالمشاعر و تحتفل الأحاسيس بكل لحظة و تزف الروح كل يوم جديد كأنه عرس جديد.

معناه ألا نعرف اليأس و لا نذوق القنوط.

معناه أن تذوب همومنا في كنف رحمة الرحيم و مغفرة الغفار..

ألا يقول لنا ربنا (( إن مع العسر يسرا)).. و أن الضيق يأتي و في طياته الفرج فأي بشرى أبعث للاطمئنان من هذه البشرى.

و لأن الله سبحانه واحد.. فلن يوجد في الوجود إله آخر ينقض وعده و لن ننقسم على أنفسنا و لن تتوزعنا الجهات و لن نتشتت بين ولاء لليمين و ولاء لليسار و تزلف للشرق و تزلف للغرب و توسل للأغنياء و ارتماء على أعتاب الأقوياء.. فكل القوة عنده و كل الغنى عنده و كل العلم عنده و كل ما نطمح إليه ين يديه.. و الهرب ليس منه بل إليه.. فهو الوطن و الحمى و الملجأ و المستند و الرصيد و الباب و الرحاب.

و ذلك الإحساس معناه السكن و الطمأنينة و راحة البال و التفاؤل و الهمة و الإقبال و النشاط و العمل بلا ملل و بلا فتور و بلا كسل و تلك ثمرة ((لا إله إلا الله)) في نفس قائلها الذي يشعر بها و يتمثلها، و يؤمن بها و يعيشها و تلك هي أخلاق المؤمن بلا إله إلا الله.

و تلك هي الصيدلية التي تداوي كل أمراض النفوس و تشفى كل علل العقول و تبرئ كل أدواء القلوب.

و تلك هي صيحة التحرير التي تحطم أغلال الأيدي و الأرجل و الأعناق و هي أيضا مفتاح الطاقة المكنوزة في داخلنا و كلمة السر التي تحرك الجبال و تشق البحور و تغير ما لا يتغير.

و لم يخلق إلى الآن العقار السحري الذي يحدث ذرة واحدة من هذا الأثر في النفس.

و كل عقاقير الأعصاب تداوي شيئا و تفسد معه ألف شيء آخر.. و هي تداوي بالوهم و تريح الإنسان بأن تطفئ مصابيح عقله و تنومه و تخدره و تلقى به إلى قاع البحر موثوقا بحجر مغمى عليه شبه جثة.

أما كلمة لا إله إلا الله فإنها تطلق الإنسان من عقاله و تحرره من جميع العبوديات الباطلة و تبشره بالمغفرة و تنجيه من الخوف و تحفظه من الوسواس و تؤيده بالملأ الأعلى و تجعله أطول من السماء هامة و أرسخ من الأرض ثباتا.. فمن استودع همه و غمه عند الله بات على ثقة و نام ملء جفنيه.

ولأن الله هو خالق الكون و مقدر الأقدار و محرك المصائر.. فليس في الإمكان أبدع مما كان.. لأنه المبدع بلا شبيه.. لا يفوقه في صنعته أحد.. فلن تعود الدنيا مسرحا دمويا للشرور و إنما درسا رفيعا من دروس الحكمة.

و لأن الله موجود فإنك لست وحدك.. و إنما تحف بك العناية حيث سرت و تحرسك المشيئة حيث حللت.

و ذلك معناه شعور مستمر بالإئتناس و الصحبة و الأمان.. لا هجر.. و لا غدر.. و لا ضياع.. و لا وحدة.. و لا وحشة و لا اكتئاب. و ذلك حال أهل لا إله إلا الله.

يذوقون شميم الجنة في الدنيا قبل أن يدخلوها في الآخرة و هم الملوك بلا عروش و بلا صولجان.. و هم الراسخون المطمئنون الثابتون لا تزلزهم الزلازل و لا تحركهم النوازل.

تلك هي الصيدلية الإلهية لكل من داهمه القلق.. فيها علاجه الوحيد.. و فيها الإكسير و الترياق و ماء الحياة الذي لا يظمأ بعده شاربه.. و فيها الرصيد الذهبي و المستند لكل ما نتبادل على الأرض من عملات ورقية زائلة متبدلة.. و فيها البوصلة و المؤشر و الدليل.

و فيها الدواء لكل داء.


التركيبة النفسية الإيمانية

و المؤمنون أهل حلم و صبر و تواضع و تسامح و حياء.

((يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)) (63 الفرقان)

تعرفهم بطول الصمت و تواصل الفكر و خفض الصوت و البعد عن الهرج و الصخب و التلاعن.

و تعرفهم بالتأني و الاتقان و الإحسان فيما يعهد إليهم من أعمال، و تعرفهم بالدماثة و لين الطبع و الصدق و الوفاء و الاعتدال في الأخذ من كل شيء.

و إذا كان لابد من اختيار صفة واحدة جامعة لطابع المؤمن لقلت هي:

السكينة، فالسكينة هي الصفة المفردة التي تدل على ان الانسان استطاع أن يسود مملكته الداخلية و يحكمها و يسوسها.

و هي الصفة المفردة التي تدل على انسجام عناصر النفس و التوافق بين متناقضاتها و انقيادها في خضوع و سلاسة لصاحبها و هي أمر لا يوهب إلا لمؤمن.

و أنت تقرأ هذه السكينة في هدوء صفحة الوجه.. ليس هدوء السطح بل هدوء العمق.. هدوء الباطن.. و ليس هدوء الخواء و لا سكون البلادة، و إنما هدوء التركيز و الصفاء و اجتماع الهمة و وضوح الرؤية.. و كأنما الذي تراه أمامك يضم البحر بين جنبيه.

و البحر ساكن و لكنه جياش يطرح الآلئ و الأصداف و المراجين من أعماقه لحظة بعد لحظة، فهو غني الغنى اللانهائي.

و هذه خاصية المؤمن.. ذلك الهدوء المشع الثري.. لماذا..؟!

لأن علاقة المؤمن بماحوله علاقة متميزة مختلفة.. علاقته بالأمس و الغد و علاقته بالموت.. و علاقته بالناس.. و علاقته بعمله و نظرته للأخلاق.

فالأخلاق بالمعنى المادي الواقعي هي أن تشبع رغباتك بما لا يتعارض مع حق الآخرين في إشباع رغباتهم هم أيضا، فهي مفهوم مادي اجتماعي بالدرجة الأولى و هدفها حسن توزيع اللذات.

أما الأخلاق بالمعنى الديني - فهي بالعكس - أن تقمع رغباتك و تخضع نفسك و تخالف هواك و تحكم شهواتك لتتحقق برتبتك و منزلتك العظيمة كخليفة عن الله و وارث للكون المسخر من أجلك.. فأنت لا تستحق هذه الخلافة و السيادة على العالم، إلا إذا استطعت أولا أن تسود نفسك و تحكم مملكتك الداخلية.. و مفهوم الأخلاق هنا فردي، و هدفه بلوغ الفرد درجة كماله و إن كانت هناك ثمرة اجتماعية يجنيها ذلك الفرد فإنها تأتي بالتبعية.

فالمجتمع الذي يتألف من مثل هؤلاء الأفراد لابد أن يسوده الوئام و السلام و المحبة.

maro18
10/12/2006, 17:47
و الأخلاق بهذا المعنى هي خروج من عبودية النفس إلى مرتبة عليا.. خروج من الرغبة في شيء مادي إلى الرغبة في حضرة الإله.. خروج من الجزء إلى الكل.. من النسبي إلى المطلق حيث يجب أن تطلع كل العيون.. و هذا لا يمكن أن يتم إلا إذا تم تصحيح و تكميل بصر العين.. فأصبحت ترى كل شيء بحقيقة حجمه و نسبته لا تحجبها لذة دنيوية عن رؤية الكمالات الإلهية.

و لهذا تبدأ الأخلاق الدينية بمجاهدة الشهوات حتى تحكمها و تخضعها و لا تبدأ بالتسليم لها و بإشباعها كما هو شائع، فهي ليست دعوة إلى حسن توزيع اللذات و إنما هي دعوة إلى الخروج من أسر الملذات، و هكذا تختلف النظرتان تماما و تؤدي كل منهما إلى انسان مختلف.

فالانسان المادي يستهدف النزوة و اللذة الفورية و المقابل المادي العاجل (( لأنه لا يعتقد في وجود شيء وراء الحياة الدنيوية ))، و هو لهذا يجري وراء(( اللحظة )) و يلهث وراء (( الآن ))، و لكن اللحظة متفلتة و ((الآن)) هارب و الفوت و الحسرة تلاحقانه في أعقاب كل خطوة يخطوها و هو متروك دائما و في حلقه غصة و في لبه حسرة و كلما أشبع شهوته ازدادت جوعا. و هو يراهن كل يوم بلا ضمان و بلا رصيد فهو محكوم عليه بالموت لا يعرف متى و كيف و أين، فهو يعيش في قلق و توتر مشتت القلب متوزع الهمة بين الرغبات لا يعرف للسكينة طعما حتى يدهمه الموت رغم أنفه.

أما الانسان المؤمن فهو تركيب نفسي مختلف و أخلاقية مختلفة، فهو يرى اللذات الدنيوية زائلة، و أنها لا تساوي شيئا، و أنها مجرد امتحان إلى منازل و درجات وراءها، و أن الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل و الدرجات الباقية.. و أن الدنيا كالخيال و أن الله هو الضمان الوحيد في رحلة النيا و الآخرة.. و أنه لا حاكم و لا مقدر سواه.. و لو اجتمع الناس على أن يضروك لما استطاعوا أن يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، و إن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لما استطاعوا أن ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك.

و لهذا فإن المؤمن لا يفرح لكسب و لا ييأس على خسران، و إذا دهمه ما يكره قال في نفسه: ((و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لاتعلمون))

و الله عنده حكيم عادل رحيم لا يقضي بالشر إلا بسبب و لحكمة أو لفائدة و استحقاق عادل.

و هو لا يحسد أحدا و لا يغبط أحدا، بل هو مشفق على الناس مما هم فيه من غفلة، يقول له قلبه:

(( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد.. متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد)) (196- 197 آل عمران)

(( أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين.. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)) (55-56 المؤمنون)

(( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما)) (187- آل عمران)

(( ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير.. لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور)) (22-23 الحديد)

(( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا))

و ثمرة تلك الآيات عند المؤمن هي السكينة و الهدوء النفسي و اطمئنان البال و الثقة في حكمة الله و عدله و رحمته و تصريفه.

و مثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته، وجد عوضا لها حلاوة في قلبه، مما يلقى من التحرر الداخلي من أغلال نفسه و مما يجد من النور في بصيرته.

و هو يترك السعي إلى الحظوظ للسعي إلى الحقوق و يترك الدعاوى إلى الأوامر.

و يترك أهواء النفس إلى وجه الحق.

و يكف عن التلهف و الحركة وراء الأغراض و المناصب و الرياسات و المغانم و يسكن إلى جنب الله.. و هل بعد الله مغنم؟!!

و من صفات هذا المؤمن العامل لوجه الله أنه ناهض بالهمة على الدوام لا يفتر و لا يكسل و لا يتواكل، بينما يفتر من يعمل للأجرو يفتر من يعمل للخوف ((يخدع الأول نفسه بالاستكفاء و يخدع الثاني نفسه بالتمني)) أما القاصد وجه ربه فإنه لا يفتر لأنه لم يربط جهاده بأجر و هو لا يكسل متواكلا على مغفرة لأنه لا يتحرك بالخوف من عقاب و إنما هو عبد محب متطوع، العمل عنده سعادة، لهذا لا تجده متبرما و لا متسخطا و إنما هو دائما طلق الوجه مشرق البسمة متفائل، حماد لربه في جميع الحالات لا يسب الدهر و لا ينسب لربه نقصا و لا قصورا.

و هذه التركيبة النفسية النادرة هي ثمرة الايمان بالقرآن و هي ثمرة التوحيد.. و التوحيد يجمع عناصر النفس و يوحد اتجاه المشاعر نحو مصدر واحد للتلقي فيؤدي بذلك إلى أثر تركيبي بنائي في الشخصية بعكس تعدد الآلهة و تعدد مصادر الخوف و النفع و الضرر فإنه يؤدي إلى توزع المشاعر و انقسام النفس و تشتت الانتباه إلى العديد من الجهات، و يؤدي بذلك إلى تفكيك رباط الشخصية.

و القارئ للقرآن الكريم يخرج بعلم نفس قرآني متميز بديع و منفرد في تربيته للمسلم.

و ليس عجيبا أن القرآن أقام حضارة و صنع تاريخا.. فإنه قبل ذلك أقام إنسانا و ربى نفسا بديعة سوية متفردة في تكاملها و أشرق عليها بسكينة لا مثيل لها.

و مثل تلك التربية الفذة تشهد للقرآن بأنه خرج من المشكاة الإلهية.. فلا مرب مثل الرب.

و لهذا يختلف علم النفس و علم النفس القرآني في علاج الأمراض النفسية. فعلم النفس لا يرى إمكانا لتبديل النفس أو تغييرها جوهريا لأن النفس تأخذ شكلها النهائي في السنوات الخمس الأولى من الطفولة.. و لا يبقى للطبيب النفسي دور سوى إخراج المكبوت فيها إلى الوعي.. أو فتح نوافذ للتنفيس و التعبير و تخفيف الغليان الداخلي.. و بهدف الوصول إلى ذلك يلجأ الطبيب النفسي إلى العلاج بالتنويم المغناطيسي أو العلاج بالإيحاء أو بالتنفيس و التعبير و الفن و اللعب أو العلاج بالاستغراق في عمل آلي أو العلاج بالإشباع المباشر.

و كل هذه الصور أشبه بعلاج السرطان بالمراهم أو المسكنات لأنها لا تحاول أن تغير من النفس شيئا، فكلها تقبل وجود الدمل النفسي على حاله ثم تقول للمريض.. اصرخ أو تأوه أو ارقص أو غني لتنفس عن آلامك.. أو تضع يده على الدمل و تقول له.. هنا الدمل.. و هذا كل جهدهم.

أما الدين فيقول بإمكانية تبديل النفس و تغييرها جوهريا و يقول بإمكانية إخراجها من ظلمة البهيمية إلى أنوار الحضرة الإلهية و من حضيض الشهوات إلى ذروة الكمالات الخلقية و ذلك بالرياضة و المجاهدة.

و يكون ذلك على مراحل.. أولها: تخلية النفس من عاداتها المذمومة و ذلك بالاعتراف بالذنوب و العيوب و إخراج هذه العيوب إلى النور كما قال موسى لربه بعد قتل المصري خطأ:

(( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له)) (16- القصص)

و كما نادى يونس في الظلمات:

(( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) (87- الأنبياء)

و المرحلة الثانية: هي التوبة و قطع الصلة بالماضي و الندم على ما فات و مراقبة النفس فيما يستجد من أمور و محاسبتها على الفعل و الخاطر.

و المرحلة الثالثة: هي مجاهدة الميول النفسية المريضة بأضدادها. و ذلك برياضة النفس الشحيحة على الإنفاق و إكراه النفس الشهوانية على التعفف، و دفع النفس الأنانية إلى البذل و التضحية و الإيثار، و حث النفس المختالة المزهوة على التواضع و الانكسار، و استنهاض النفس الكسولة إلى العمل.. و بمعالجة الضد بالضد تصل النفس إلى الوسط العدل.. و هو صراط الحكمة.. و هو حظ الصالحين من البشر.


و لا تنجح تلك الرياضة دون طلب المدد و العون من الله و دون الصلاة و الخشوع و الخضوع و الفناء في محبة الله ركوعا و سجودا في توحيد كامل(و توحيد الله لا يكون إلا بطاعته الكاملة و الاسترسال معه.. لا تريد لنفسك إلا ما يطلبه هو لك) و هنا تحدث المعجزة.. فيتبدل القلق سكينة و الفزع طمأنينة و الخسة الشهوانية عفة و طهارة.. و النواقص النفسية كمالات.

و ذروة العلاج النفسي هي(( الذكر)) ذكر الله بالقلب و اللسان و الجوارح و السلوك و العمل.. و استشعار الحضرة الإلهية على الدوام و طوال الوقت في كل قول و فعل.

و في الذكر شفاء و وقاية و أمن و طمأنينة لأن الذكر يعيد الصلة المقطوعة بين العبد و الرب و يربط النفس بمنبعها و يرد الصنعة إلى صانعها.. حيث هو الأعلم بعيوبها و الأقدر على علاجها.

(( ادعوني استجب لكم)) (60- غافر)

(( فاذكروني أذكركم)) (152- البقرة)

فيعود النور ليغمر ظلام النفس و يحل العمار مكان الخراب.

و بينما يرى فرويد (الطيبة) تخاذلا و سلبية و ينصح مريضه قائلا له: (( كل و إلا فأنت مأكول)).

نرى نحن الطيبة قوة إيجابية.. و نأمر بالصفح:

(( فاعفوا و اصفحوا)) (109- البقرة)

(( فاصفح الصفح الجميل)) (85- الحجر)

(( و أن تعفوا أقرب للتقوى)) (237- البقرة)

و بينما يرى فرويد من الأعمال مايساعد على تفريغ و تنفيس الغليان النفسي.. نشترط نحن العمل الصالح.

و بينما يرى أن ماضي الطفولة حاكم على كل إنسان و موجه لأفعاله لا نقول نحن بحاكم إلا الله.. و نقول إننا بفضل الله يمكن أن نخرج من أي حكم، و بينما يقول بفطرة عدوانية و بغريزة التحطيم و الهدم و بالطاقة الشهوانية كدوافع رئيسية، نقول نحن: إن الإنسان فُطر حرا مختارا بين النوازع السالبة و الموجبة يختار ما يشاء منذ البداية.


و سبب كل هذه المادية الفرويدية و مادية علم النفس بوجه عام هو أنهم يتعاملون مع النفس الإنسانية على أنها مادة وجسد يمكن اقتحامه بالتشريح و التجربة.. و هم يفعلون هذا عن إيمان بأنه لا روح هناك و لا ذات و لا نفس.. و إنما مجموعة مركبات كيميائية و جينات وراثية اسمها الإنسان و تلك هي خطيئة الحضارة المادية، فهذا التصور أبعد ما يكون عن الصواب لأن النفس الإنسانية (( ذات )) قبل كل شيء و لا يمكن إحالتها إلى موضوع مجرد.. و هي كالحياة إذا أعملت فيها مبضع التشريح ماتت في يدك.. و النفس دائما تستخفي على النظرة التحليلية و تتنكر بما تطرح في الظاهر من ردود أفعال سلوكية و هي لا تعطي سرها أبدا حتى لصاحبها إذا بدأ يتدبرها كموضوع، لأنها ليست موضوعا بل هي في جوهرها (( ذات )) بكر إذا فضضت بكارتها و هتكت استسرارها و حاولت أن تقتحمها بالنظرة الموضوعية استعصت عليك و تفلتت منك بمجموعة من البدائل السلوكية الخادعة و تحولت إلى شيء آخر.. و لم تعد (( هي )).

و يظل دائما الفارق بين ما ترى منها في الظاهر و ما خفى عليك من حقيقتها، كالفارق الهائل بين الجسد الظاهر و الروح التي تسكنه.. و أنت لن تصل أبدا إلى كنه الروح بتشريح الجسد.. و إنما أنت على أحسن الفروض سوف تفهم الجسد أكثر فأكثر و لكنك تظل دائما بعيدا كل البعد عن إدراك سر الروح و لغزها.

(( و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا )) (85- الإسراء)