-
PDA

عرض كامل الموضوع : كتابات لحنا مينة ..


butterfly
21/11/2006, 20:19
حين كنت، يا حنا، في العشرين من عمرك، كنت حلاقاً غير ملتزم، في دكان على باب ثكنة في مدينة اللاذقية، بابها من اخشاب عتيقة، لا تمنع ريحاً ولا تحجب ضوءاً. نعم! هذا ما كنته يا حنا، يوم كانت الحرب العالمية الثانية تتضرّى، وكنت تتساءل، كما غوركي: «يا نفس ماذا ستكونين، وماذا يخبئ لك الغد!؟».
لم يكن لديك سوى الشهادة الابتدائية، المنسية الآن في قاع البحر الأحمر، وقد حصلت عليها من المدرسة الرشدية في مدينة اسكندرونة، قبل الهجرة من اللواء، السليب نهائياً، وقد اضعت طفولتك في الشقاء، وشبابك في السياسة، سعياً وراء العدالة الاجتماعية، هذه التي تتحسر الآن عليها، لأنها لم تتحقق، لكنك غير يائس من تحقيقها، لأنها حلم البشرية أزلاً ابداً.
كنت، أيها المأفون، ترغب في تغيير العالم، ودون ان تعرف ما هي الكتابة، كتبت خربشات اسميتها مسرحية، انت بطلها، وفيها تغير العالم في ستة ايام، وفي اليوم السابع تستريح، وقد ضاعت هذه المسرحية، وأنت غير آسف عليها، لأنك لا تأسف على ما فات، وتتطلع ابداً الى ما هو آت!
الفقر نوعان: أبيض كالذي تعيشه الآن، وأسود كالذي عشته منذ وعيت الوجود، حين كنت عرياناً الا من خروق تستر لحمك، وكنت حافياً، جائعاً، تبحث عن اللقمة، وفي سبيلها عملت اجيراً عند مؤجر دراجات، وأجيراً في صيدلية، وأجيراً مربياً للأطفال، وأجيراً عند حلاق، تعلمت لديه مبادئ المهنة، وحمالاً في المرفأ، وبحاراً، او اجير بحار، على مركب شراعي، لمدة قصيرة، رأيت فيها الموت يحدق فيك، بعيون باردة، خلال العواصف، وما اشدها في الشتاء!
انني أكرهك يا حنا مينة، وبسبب من هذا الكره، ارفض، الا مرغماً، ان ارى وجهك في المرآة او التلفاز، لكنك، في أرذل العمر، صرت مشهوراً، والشهرة جهنم، فماذا تفعل، وانت عنيد، وعنُدك عندُ بغل!؟ حسناً! ترفض الدعوات، لا تجيب على الرسائل، لا تتكلم على الأدب، لا تحضر الندوات الأدبية، لا طاقة لك على سماع المحاضرات، والخطابات السياسية خصوصاً، لا ترتاح الى كلمة عطاء، تضحك من الذين يقولون علينا ان نعطي، يقشعر بدنك كله من كلمة رواية، تعاقب نفسك لأنك اول من تنبأ، عام 1982، بأن الرواية ستكون ديوان العرب، وعنك اخذها الآخرون ثم جحدوك، وهذا لا يهم طبعاً، لأن درب الرواية واسع، وفيه يسير جميع الكتبة تقريباً، ومن هذا الكم سيكون النوع، وعندئذ تكون لنا الرواية العربية التي تخترق جدار الصوت، وهذا جيد جداً، وجيد ايضاً ان تكون هناك ظاهرة ايجابية، مفادها ان الكثرة من الفتيات والسيدات يرغبن في الكتابة، وفي كتابة الرواية على العموم، وعليك، يا حنا، ان تعطي رأياً، ان تقدم ملاحظة، نصيحة، موعظة، او، وهذا هو الأسوأ، ان تكتب مقدمة، وأنت تلعن النصائح، والمواعظ، والمقدمات، عائداً الى العشرين من عمرك، يوم كنت حلاقاً، وفي بدايتك بالحلاقة، لم تكن الكتابة تخطر على بالك، وقد تعلمتها، من بعد، بكتابة الرسائل للجيران، والعرائض للحكومة، بغية إصلاح هذا الرصيف، او تزفيت هذا الطريق، او تأمين الرغيف وتحسينه، او الدفاع عن المظلومين، والفقراء، والمعذبين في الارض، واسماع المسؤولين صوت الذين لا صوت لهم، متقبلاً اسفنجة الخل من اجلهم جميعاً!
لقد كنت، أيها الشقي، تُسر بالشقاء، والشيطان يعرف لماذا، كنت في العشرين، وأنت حلاق، خريج سجون بامتياز، ايام الانتداب الفرنسي، وزمن الإقطاع بعد الاستقلال، تسع مرات سجنت، في اللاذقية ودمشق، وفي السجون تعلمت بعض الاشياء، وفي المنافي، لأسباب قاهرة، اكتسبت بعض التجارب، وكنت تفرح، ايام الانتداب، وأنت تقود المظاهرات ضده، والرصاص من فوق رأسك، ومن على جانبيك، يئز، دون ان يطالك، حتى نفد صبر الزبائن منك ومن حلاقتك، وجاءت الطامة الكبرى، عندما قبض رجال الامن على من وجدوا من زبائنك، فكان الإفلاس تاماً، وكان اغلاق دكان الحلاقة لا بد منه، والتشرد الطويل قد دقت ساعته، فودعت أمك العجوز، التي لم تعرف لأي سبب ترحل، فقد كانت تريدك ان تكون كاهناً او شرطياً، ولا توسط بينهما، فلم تكن أنت لا هذا ولا ذاك، وبعد ذلك، أيام السجون والمنافي، تواضع حلمها فتمنّت لو كنت راعياً، وأسفت لأنها ارسلتك الى المدرسة، بينما هي وأخواتك البنات، كنّ خادمات في بيوت الناس، وقبل خروجك من اللاذقية، ودعت امرأة القبو، جارتك، التي زودتك بهذه النصيحة قائلة: «اسمع يا حنا، الرجل لا تذله إلا شهوته، فلا تدع شهوتك، تذلك» وقد حفظت هذه الوصية، هذه الحكمة، وانتفعت بها في مشوارك الطويل، مقيماً ومرتحلاً، وعندما صار التشرد مهنتك، التي مارستها وانت تحمل صليبك على كتفيك، في اوروبا وفي الصين، قبضت على هذه الوصية، قبضك على جمر الغربة، ورمح الحراس، في الجلجلة، يطعن في خاصرتك، فينُز الدم، بينما هم على قميصك يقترعون!
وفي العشرين من عمرك، انت البائس الذي ينافح عن البؤساء، غادرت اللاذقية الى بيروت مرغماً، باحثاً عمن يتخذك أجيراً من الحلاقين، لكن بحثك، إياماً طوالاً، لم يُجدِ، رفضوك وانت تحمل قليلاً من الثياب، والاقل الاقل من النقود، في الصرّة التي على كتفك، فكرهت أميرة المدن، عاصمة لبنان «الأخضر حلو»، ووجدت نفسك ضائعاً فيها، ولا يزال هذا الشعور، منغرساً في تربة نفسك، يتمظهر كلما زرتها، فتفر من هذا الإثم، معتذراً لشاعر «طفولة نهد» الذي تعده ظاهرة لن تتكرر، والذي قال ان بيروت أميرة المدن في الشرق كله.
الحجر الذي رفضه البنّاؤون سيصير، في ضربة حظ، رأس الزاوية، لكن ليس قبل ان يدفع الثمن غالياً، في بحثه عن الامل، في اجتراحه لعبة صنع الاحلام حتى لا يسقط في العدم، ودمشق التي تقصدها، بعد ان خيبت رجاءك بيروت، لم تكن ابيض يداً، ولا أندى كرماً، وقد طوفت، يا حنا، في شوارعها وأزقتها، عساك تُحظى بمن يقبلك اجيراً من الحلاقين، فلم تفز بما تنشد، فالحلاق الذي كنته، رفضه الحلاقون الذين كانوا، والسبب انهم ليسوا بحاجة الى اجراء، لأن لديهم الفائض منهم، ولأن شكلك الناحل، العليل بغير مرض، الأصفر الوجه من جوع، جعلهم ينفرون منك، وكان هذا، من حسن حظك هذه المرة!

منقول من موقع وزارة الثقافة السورية :mimo:

butterfly
27/11/2006, 11:51
ترتيب البيت أولاً وراهناً
الكاتب: حنا مينه
المصدر:
تشرين

انالذين غدوا بلبّك غادروا
وَشَلاً بعينك لا يزالُ مُعينا ‏
غيّضنَ من عبراتهنّ وقلْن لي: ‏
ماذا لقيت من الهوى ولقينا!؟ ‏

وأقول، في نفسي لنفسي: ماذا لقيت من السياسة وبلواها؟ ‏
ولماذاأيها المسافر على جنح غمامة، اضعت شبابك في السياسة وهولتها؟ وأي نفعٍ لك، ماضياًوحاضراً، في أن تقول ما لا يقال، وأغلال الحديد قد أكلت من معصميك لحماً نيئاً؟ وهلتحترق أنت، بالكتابة في الشأن الداخلي، بينما سواك يهرب من هذا الأتون الى جبلالثلج؟ وكيف نسيت ان سيدة مسؤولة قالت لك، وأنت تسألها: «لماذا لا تكتبين عنالقضايا الداخلية؟» «هل تريدني ان احترق!؟». ‏
نعم! يكتبون، اكثرهم، عنالأبراج ، موضة العصر، وعن الجوى، الذي لم يلامس قلوبهم، وعن عطارد والشعرىوالمريخ، وهم يستريحون في مقاعدهم الوثيرة، نكاية بالقائل: «صديقُك مَن صَدَقَك، لامَن صدّقك» لأن قيلة الصدق، عندهم، حارقة، وهم لا يريدون الاحتراق، حتى ولو كان فياحتراقهم النورُ الذي يُخرج العرب، او بلدانهم، من ظلمة الغابة، الى وضاءة السهوب! ‏
حسناً! إنني سأكتب في الشأن الداخلي، ولن يكون هناكحرق أو احتراق، فترتيب البيت، من الداخل، قد بدأ، وفي الوقت المناسب والراهنتماماً، وهذا انجاز تجلّى في تأليف الوزارة الجديدة، التي تضم نخبة متميزة منالشباب، الذين أعرف بعضهم، معرفة وثقى، وكنت أتابع، من خلال هذه المعرفة، ما ينجزونمن أعمال، في الوظائف التي يشغلونها، كسفراء لسورية، في البلاد العربية والأجنبية،فتحصّلت لهم الخبرة، في الادارة والسياسة على حد سواء، وبات عليهم، في الوزاراتالتي اسندت إليهم، ان يفيدوا من هذ الخبرة، وان يُحسنوا تطبيقها على النحو المرتجى. ‏
انني أكتب هذه المقالة، في الشأن الداخلي، لأشهد أن كل مقالاتي المماثلةقد نشرت، دون ان احترق، ودون اعتراض من اي مسؤول، حتى على القسوة التي في بعضها، مادامت الغاية، في المآل، هي تقويم الاعوجاج، والتنبيه الى الخطأ، حيثما وقع، وحيثمايمكن تداركه، في السياسة والاقتصاد، وفي تحويل السلب الى ايجاب، مع جزء من الدهاء،الذي دونه تصبح هذه السياسة مسطحة، لا نفع فيها لبلد مُستهدف من كل الجهات، ولا خيرفيها، اذا ما كانت المكيافيلية، وحدها، هي السبيل لتحقيق ما نصبو إليه، ودون حرقللمراحل، في القفز من العصر الزراعي الى العصر الاشتراكي، مغيبين، دفعة واحدة،العصر الصناعي، الذي لا يزال، بالنسبة الينا، أمنية مسحوبة على المستقبل البعيدجداً. ‏
لقد كان لينين على دراية، بأن ثمة خطراً على النظام السوفياتي، فيالانتقال من عصر الاقطاع الى عصر الاشتراكية، وكان يوصي بالإفادة من انجازات العصرالرأسمالي، واحتفى جيداً بوصول بعض الخبراء الرأسماليين لمعاونة النظام السوفياتيعلى النهوض والاستمرار، وكتب المفكر اللبناني كريم مروّة، في جريدة النور، وتحتعنوان «الحرية طريق السعادة» مثنياً على بعض الجوانب الايجابية في النظام الرأسماليالشرس لافتاً الأنظار الى أهمية الاستفادة منها، في طموحنا الى تحقيق الاشتراكيةالتي امامنا، لكن دون أن يُعير الانتباه الكافي لمقولة «نفي النفي» والتي هي اساسفي الفلسفة المادية، وهو يعرفها طبعاً، مكتفياً بالقول «في ادبيات ماركس تأكيد قاطععلى ان الانسان الحر هو الانسان الذي يمتلك الوعي الحقيقي بذاته، ويمتلك التفكيرالحر بمستقبله» وهنا، كان عليه ان يفترق عن فوكوياما، صاحب نظرية «نهاية التاريخ» اي تأبيد الرأسمالية، بأن يؤكد ان النظام الرأسمالي زائل، وأن الاشتراكية عائدة،لأن الرأسمالية نفت الاقطاع، فجاءت التجربة الاشتراكية ونفت الرأسمالية، ثم عادتالرأسمالية ونفت التجربة الاشتراكية، وستعود الاشتراكية وتنفي الرأسمالية، كرةًاخرى، وبهذا يكون المستقبل الاشتراكي هو الافضل، لأنه، في النفي، يجبّ ما قبله. ‏
ما أريد قوله إن تأليف الوزارة الجديدة، خطوة الى الامام، في اتجاه ترتيبالبيت الداخلي، وان الكتابة عن الشؤون الداخلية لا تحرق احداً، كما يتوهم البعض،لأن افق الكتابة الى اندياح، وما تبقى هو طريقة هذه الكتابة، واجتناب كل استفزازفيها، واعتماد النقد البناء، دون خوف أو وجل، مع مراعاة الآية الكريمة: «ان الله لايغفر لمن اشرك به، ويغفر ما دون سواه». اي ان ثمة غفراناً سابغاً، لانتقاد عمل هذاالوزير او ذاك، من غير تطاول لا فائدة منه على الرئاسات بالنسبة للناقد والمنقودمعاً. ‏
ولنتذكر أخيراً، هذه المقولة الرائعة لماياكوفسكي: الشاعر الروسيالكبير «انني امجد الوطن الموجود، ولكنني أمجد ثلاثاً الوطن الذي سيكون» والوطنالذي سيكون، حسب ماياكوفسكي، هو الوطن الذي فيه «الكلمة الحرة قائدة للقوى البشرية» ولا مندوحة عن الكلمة الحرة، او حرية الكلمة، ودون هذه الحرية نفقد كل مقوماتالديمقراطية المنشودة بإلحاح.‏