-
PDA

عرض كامل الموضوع : الوصية


عبد الحفيظ الحافظ
30/03/2005, 17:57
عندما غادر حسان البيت بصمت ، لاحظت زوجته نوال أن طعامه لم يمسْ ، وأن ورقةً مطويةً بعنايةٍ تستند إلى خاصرة كأس الشاي التي يتصاعد بخارها .
فتحت الورقة ، قرأت :
وصية حسان بن عبد الله .
" وما أوسع هذا الفراغ .
أمام الحاضر و ظلماته ،
أمام المستقبل و مجهولاته ،
ليس لكَ إلا أن تنحتَ حياتكَ . أن تنحتها يوماً يوماً ، دقيقةً دقيقة . "
زوجتي الغالية :
بعد هذا اليوم لم يعدْ الصمت موقفاًً ، ولمَ الخوف يا أمَ ميس ؟. فقد قتلتنا التقية ، وسيقف قلبي عن العمل بعد ساعاتٍ أو دقائق .
صديقة عمري :
سأودع الدنيا اليوم ، أحببتكِ ، كنتِ الحلمَ الذي أراه ، والواقع الذي تطابق معه ، اغفري لي أنني أخفيتُ عنكِ حقيقة مرضي . منذ عامين ضرب الوهن قلبي حتى لمْ أعدْ أسمع دقاته ، عرفتُ بمرضي فأشفقتُ عليكِ وعلى ميس ويسار ، أخفيتُ ذلك لأجنبكم الحزن ، فعتّقتُ عذابي وحيداً في جرار أحزاني ، لعلمي أنني مفارقكم خلال عام ، وهذا العام الثاني يلملم أوراقه إيذاناً بالرحيل .
أم ميس :
بالأمس تبلغتُ دعوتين من جهازين … ، الأولى في الساعة العاشرة صباحاً والثانية في الثامنة مساءً ، فإذا نجاني الله من الأولى وخرجت منها بقلبي العليل ، لا شك أنني سأعلق في شباك الثانية ، أو يتوقف قلبي وأنا أتسلق الطريق بينهما .
" الكلام مهما كان جامحاً يظل عاجزاً عن الإحاطة بزلازل الوجود . كيف يستطيع الكلام أن يلبس العذاب الذي يعيشه جائعٌ ، أو مشردٌ ، أو سجين ؟. كيف يستطيع أن يتطابق مع فاجعة إنسان فقد أقرب الناس إليه ؟. " إنني أتنفس بصعوبةٍ ، أكاد أن أختنق ، وجهي أصفر ، وهنٌ ضرب مفاصلي فلا تقوى رجلاي على حملي ، بركانٌ يغلي في رأسي ، لمْ تلحظي يا نوال هذه الأعراض ؟. وجدتُ عذرا ًلكِ ، إن عينيكِ أدامتا النظر إلى الأرض والمطبخ والأولاد سنوات طويلة.
تفوح رائحة الطهي منكِ يا نوال ليل نهار ، لقد طغتْ على رائحتكِ الخاصة التي كنتُ أميزها من أمتار، وتثيرني ، فأركض لأضمكِ بين ذراعي ، ونغرق معاً في بحر النشوة ، أما رأسك فعشش فيه البصل والثوم والقنبيط ، فلم أعدْ أسمع منكِ خبرأً خارج خريطة البيت والمطبخ ، ومستنقع عائلتكِ التي أضحتْ عالمكِ الوحيد .
منذ أشهرٍ أخذتُ أشاركُ زملائي الحديث في الد\ئرة ، لا سيما الزميلات اللاتي يتحدثن بطلاقة عما يجري في فلسطين والعراق ، وما يدور في جلسات مجلس الأمن والأمم المتحدة ، وأسرار الكواليس في العاصمة .
لا تسألي عن دوافع استدعائي ، فأنا لا أعلم شيئاً ، وعندما سألتُ خجلاً مَنْ بلغني الدعوة الأولى رفع نظره وحدق في عيني استنكاراً لتطاولي وصرخ في وجهي :
- غداً تعرف .
كنت أحلم أن أتكلم مثل زميلي أحمد ، صحيح أنه اعتاد سكن الزنزانات لكنه على الأقل يعيش بلا خوف ، وبدأ معاركه الأولى مع زوجته ، فرض عليها العمل كي لا يضيّعها بين الطناجر وحبال الغسيل .
صديقتي :
أنتِ مندهشة من وصيتي التي كتبتها بهذه الجرأة ، فأنا لا أملك شيئاً وعهدك بي صامتاً غير مبالٍ، وبما انني سأموت بعد ساعاتٍ أودقائق ، و قلبي وصل إلى نهاية الشوط منذ البارحة ، وإذا تأخر بضعة ساعات فسأموت في إحدى الدعوتين ، لذا لم يعد عندي ما أخسره وأخاف عليه .
ابحثي يا صديقتي عن رجلٍ يهتم بكِ وبميس ويسار ، " تزوجي يا حبيبتي وكوني سعيدة " ادفعي نفقات زواجك من اشتراكي في مساعدة الوفاة .
يحزنني في ساعاتي الأخيرة فراق ميس ويسار بلا وداع، ويأكل بقايا قلبي أنهما فرخان صغيران لا يقويان على الطيران .
أضعتِ يا نوال منذ سنواتٍ نضارتكِ وجمالك، حتي أصبحتِ لا تثيرين رجولتي، وكنتُ أقوم بواجب الزوج معك حياءً وخجلاً، وربما خوفاً من أخوتكِ ، فأنا عاقرت الخوف سنيناً حتى أدمنتُ عليه ، إنكِ كتلةُ لحمٍٍ وعظمٍ وشحم بلا أنوثة ، اعذري صراحتي فهذا ما يكنه قلبي المريض نحوكِ، قد أكون تخاذلتُ، ولم أمدّ لكِ يد المساعدة لأمنعكِ من التضحية بأنوثتك في محراب البيت .
أ تذكرين كيف كنتُ أطاردكِ فوق السطوح وأنت تختبئين بين قطع الغسيل ؟.
" كيف تستطيع الكلام مع حالة امرأةٍ تعيش جنسها ، وحيدة ، في عزلة كاملة ؟. أو مع حالة رجلٍ يشعر أن الحياة عبءٌٌْ مُريعٌ لا يقدر أن يُزيحه غير الموت ؟. " بعد دقائق سأغادر الحياة فلا تبكينني ، لأني لن أبكيكِ لو تبدلت مواقعنا ، سأتزوج خيراً منكِ قبل أن يجف تراب قبركِ .
كنتُ أحدثك عن مدير الدائرة التي أعمل بها ، وأنتِ مشغولةٌٌ برتق جوارب الطفلين ، ذاك الذي تنحني له الجباه ، وتتزلف أمامه الألسن ، إنه يأكل الأخضر واليابس في الدائرة ، يعمل كجهاز الراديو الكهربائي الذي نصونه ذكرى والدي ، في كل مناسبة يخطب عن الحزب والثورة وعن فلسطين والإمبريالية ، وببضعة سنين امتلك داراً في المدينة وشقة في العاصمة وشاليه على البحر وفيلة في الضاحية وعدة سيارات ، ولا نعلم كم يخبئ من الأموال !
لا تتحدثي عن اللجنة النقابية ؟. ولا تسألي عن جهاز الرقابة والتفتيش المركزي ، كانوا يستخدمون الهاتف، أما اليوم فقد دخلوا عصر المعلوماتية والعولمة والجهاز النقال . لا أخفيكِ أنني عندما تيقنت من دنو أجلي ، ولم أعد أسمع دقات قلبي قررتُ البوح بما يجول في خاطري ، فصرتُ أقول للأعور أعور في عينه ، نعم طلّقتُ الخوف طلاقاً بائناً !
تحدثت عن الحوافز وكيفية صرفها ، عن الراتب ، أموال التأمينات ، الإدارة ، الفساد ، النقابة، وعن الحكومة ......والأجهزة .....وعن تغول أمريكا ...وإذا انتهت المسألة بدعوة جهازين فدعوات أخرى ستأتي تباعاً إذا بقيت على قيد الحياة ، وربما يدرج بوش اسمي في قوائم المطلوبين.
وصيتي أن تشرفي بنفسك على دفني ، اجعلي قبري قريباً من سطح الأرض في ظلال شجرة دائمة الخضرة ، أغادر هذه الدنيا الفانية باكياً بساتين الغوطة وكروم العنب في القصور التي التهمها الإسمنت والبلوك، لا تبني لي قبراً ، فأجمل القبور تلك التي تتفتق شقائق النعمان فوقها معلنة عن قدوم الربيع ، ادعي صديقاتك الجميلات ذوات الصدور الملأى بالنهود المتقافزة لزيارة قبري .
أيتها الغالية :
أخفيتُ عنك سعادتي برؤية الجمال ، وحب النساء ، لا تمطي شفتيك كالعادة ! إن الله وعدنا بالحور العين في الجنة، أريد أن أتأملهن وهن يسرن حول قبري ، وأسمع تغريدهن.
سأبلغك سراً آخر، رغم أنني عشت حياتي غير منتم إلى أية فئة، بعد مماتي سأدفع روحي إلى الانتماء ، وها أنا ألعنُ قبل موتي بصوتٍ عالٍ كلَ من لم أجرؤ على لعنه في وجهه، وأضع إصبعي أمام عينيه بدءاً من مختار الحي حتى كوفي أنان .....
وصيتي الأخيرة ابلغي جارتنا سعاد حبي وأشواقي، كم تمنيت يا نوال أن أكون زوجاً لها بدلاً من زوجها الذي لا يعرف قيمتها، لها ذوقٌ رفيع، عقلٌ راجح، حباها الله أنوثةً تتوثب وتصرخ من كل أنحاء جسدها البديع .
قبلاتي الحارة . نوال ، ميس ويسار
حسان ..... 31/12/....
بكت نوال بحرارة ، أعادت قراءة الوصية ...تطاير الغضب من عينيها .... صرخت :
- سعاد يا ابن ....
حملت الوصية وخرجت من البيت .
بعد بضعة أيامٍ رجع حسان من المشفى، التي أُسعف إليها إثر سقوطه في أحد شوارع المدينة ومكث فاقداً الوعي في غرفة العناية المشددة، ، فشاهد عدة سيارات تقف قرب بيته ، وكانت نوال على الشرفة تنشر ثياب ميس ويسار بثياب الحداد .
---------------------------------------------------------
ماجاء بين مزدوجين " ..." للشاعر أدونيس . الحياة 7/8/2003

عاشق من فلسطين
30/03/2005, 18:45
لك ميت وردة .. ودخيل ربك ورب أدونيس ..

سأودع الدنيا اليوم ، أحببتكِ ، كنتِ الحلمَ الذي أراه ، والواقع الذي تطابق معه ، اغفري لي أنني أخفيتُ عنكِ حقيقة مرضي . منذ عامين ضرب الوهن قلبي حتى لمْ أعدْ أسمع دقاته ، عرفتُ بمرضي فأشفقتُ عليكِ وعلى ميس ويسار ، أخفيتُ ذلك لأجنبكم الحزن ، فعتّقتُ عذابي وحيداً في جرار أحزاني ، لعلمي أنني مفارقكم خلال عام ، وهذا العام الثاني يلملم أوراقه إيذاناً بالرحيل .

:cry: :cry:


وصيتي أن تشرفي بنفسك على دفني ، اجعلي قبري قريباً من سطح الأرض في ظلال شجرة دائمة الخضرة ، أغادر هذه الدنيا الفانية باكياً بساتين الغوطة وكروم العنب في القصور التي التهمها الإسمنت والبلوك، لا تبني لي قبراً ، فأجمل القبور تلك التي تتفتق شقائق النعمان فوقها معلنة عن قدوم الربيع ، ادعي صديقاتك الجميلات ذوات الصدور الملأى بالنهود المتقافزة لزيارة قبري

أقف عاجزا" عن الرد أمام هذه الكلمات ... :D :D


مشكور أبو شريك على هالروعة ..
وليك اذا بدك تنزل شي لأدونيس أنا عامل موضوع مثبت لأدونيس بقسم الشعر نزلو فيه .. مشان نجمعهون .. لأنون ثروة .. :D :D

minime1967
30/03/2005, 19:37
هي القصة الطبيعية للوضع الطبيعي بهالوطن الطبيعي ... يبدو أنو كلنا عهلدرب... بس مارح أكتب وصيتي.. بلا ماتكون لعنة عهلوطن ... بالله ذكرونا شي مرة أحكيلكم لما طلبوني الشرطة العسكرية بالوزامبيق..

Fares
31/03/2005, 15:27
أول كل شيء أهلا بك في منتديات الأخوية..

وبالطبع انضمامك إلى منتدانا هو مكسب للمنتدى وإغناء له...


أما بالنسبة للقصة، فهي قصة جميلة..

"لم يعدْ الصمت موقفاًً "...

ومنذ متى كان الصمت موقفاً؟؟!! فحتى الأديان السماوية تلعن الصمت، وقد قال يسوع: ((الساكت عن الحق شيطان أخرس))


" بالأمس تبلغتُ دعوتين من جهازين … ، الأولى في الساعة العاشرة صباحاً والثانية في الثامنة مساءً ، فإذا نجاني الله من الأولى وخرجت منها بقلبي العليل ، لا شك أنني سأعلق في شباك الثانية ، أو يتوقف قلبي وأنا أتسلق الطريق بينهما .

المشكلة برأيي ليست في الدعوة من جهازي الأمن!! ولكن في تفاصيل الحياة اليومية، حيث أن المواطن في بلدي يعيش في كل لحظة وكل دقيقة هذا الهاجس وهذا الاستدعاء...


" أخفيتُ عنك سعادتي برؤية الجمال ، وحب النساء ، لا تمطي شفتيك كالعادة ! إن الله وعدنا بالحور العين في الجنة، أريد أن أتأملهن وهن يسرن حول قبري ، وأسمع تغريدهن.
سأبلغك سراً آخر، رغم أنني عشت حياتي غير منتم إلى أية فئة، بعد مماتي سأدفع روحي إلى الانتماء ، وها أنا ألعنُ قبل موتي بصوتٍ عالٍ كلَ من لم أجرؤ على لعنه في وجهه، وأضع إصبعي أمام عينيه بدءاً من مختار الحي حتى كوفي أنان .....
وصيتي الأخيرة ابلغي جارتنا سعاد حبي وأشواقي، كم تمنيت يا نوال أن أكون زوجاً لها بدلاً من زوجها الذي لا يعرف قيمتها، لها ذوقٌ رفيع، عقلٌ راجح، حباها الله أنوثةً تتوثب وتصرخ من كل أنحاء جسدها البديع . "

ليش هيك عم يصير !!!!!
ولكن عندي سؤال:
هل كتب حسان هذه الكلمات من أجل أن لا تحزن زوجته عليه كثيراً؟؟ أم كتبها لأنه أراد أن يعبر بواقعية وبشفافية ولو لمرة واحدة في نهاية حياته (كما ظن هو)؟؟
وأعتقد ألأنه في الحالتين قد خسر الكثير!!!!!!


"كانت نوال على الشرفة تنشر ثياب ميس ويسار بثياب الحداد . "

تجوز الرحمة على الحي قبل الميت!! :D

وشكراً.....................