-
PDA

عرض كامل الموضوع : ثيابي العارية


RAMI 1up
21/03/2006, 21:57
ثيابي العارية

"للقتلة ربٌّ قوي لا نجرؤ نحنُ عليه. يحرّضهم على قتلنا
ويهبهم حق التصرف في أعمارنا و"متعة" جلد أنفاسنا"

عندما تمزقت روحي ، ضاقت شوارع الشام وأرصفتها وحدائقها ومراكز انطلاق حافلاتها ، وحتى سطوح دورات مياهها ، وسوق هالها القديم والجديد وتقاطع طرقاتها وساحات مشافيها ولوحات إعلاناتها.
ضاقت بي كل الأمكنة وقتها تخليت عن الزمن واتخذت من كراج البرامكة وطناً لسنوات طوال. قلت في قرارة نفسي : الكراجات لم تكن يوماً من الأيام وطناً للبشر ، إنها وطن الحافلات وباعة أوراق اليانصيب والسجائر وربطات الخبز والمكسرات والشاي ، اتخذته وطناً حتى لا يكتشف أنَّ لا وطن لي ، وهو لا يخلو من الحركة على مدار الساعة ، رغم المساحات الواسعة الجرداء من أرضنا التي ننتسب لمسمياتها نحن الـ (.....)، إذا وقفت وسط هذا الوطن ونظرت إلى غروب الشمس فتلك العمارات الشاهقة تفسد عليك بهاء الغروب وصفاء النفس، يرعى انتباهك بناءٌ طُلي باللون الأزرق صاعداً نحو السماء، وعشرات الأطباق المثبتة على سطحه تنقل أخبار العالم إليكم. في مكاني أي وطني، كنت أقف قبالة هذه الأجهزة وكليِّ أمل أن تلتقط صورتي وترسل إلى كل دول العالم، لتعبر تلك الصورة عن شيء أبحث عنه(.........).
الجامعات هي الأمكنة الوحيدة التي لم أدخلها أبداً احتراماً مني للعلم والعلماء ولأنها الحضارة بعينها، رغم أنَّ مئات الأشخاص ممّن يضعون نجوماً فوق أكتافهم دخلوها ونالو أعلى الشهادات بكافة الاختصاصات وبمعدلات عالية . كان يفصلني عن كلية الحقوق والعلوم عشرات الأمتار وفيها حديقةٌ وارفة الظلال ، وهي مرتعٌ خصبٌ لأولئك الذين يفضلون البقاء في الجامعات لسنوات طوال على التخرج ، مدعّين ظلم الدكاترة وصعوبة المواد.. لم أدخلها أبداً .
إذا سرت من باب كلية الحقوق باتجاه الشمال قليلاً ثم انعطفت يميناً ثم إلى الشمال فتصبح في بوابة المتحف الحربي، الشارع يفصل هذا المكان عن المتحف الوطني، تلك الأمكنة لم ادخلها أبداً لأنّ التاريخ يجب أن لا يشّوه أو يزوّر أو يكتب كما يريده الأقوياء فهذا ظلم وخيانة للوطن والأرض والشعب، خطوات قليلة تجد نفسك على ضفاف نهر بردى ، لقد أصبح هذا النهر ، ماذا أصبح ؟!....
قوموا بزيارة له حينها سيكتب ضميركم عنه بحياد .
المقاعد الخشبية الخضراء كانت فراشي ليلاً، مئات الأسماء منقوشة ومحفورة عليها لعشاق جلسوا عليها ذات يوم وغادروها على أمل اللقاء مرة ثانية وحديث دافئ يجمعهم بعيداً عن عين الرقيب.
حركة المارة تفسد عليك النوم في هذا الفراش ، الواقيات الشمسية هي سطح هذا الوطن الذي اتخذته في الفراغ، وطن ... وطن ... وطن والآخرون يمتلكون كلَّ شيء، حتى رغيف خبزنا وصفيحاتنا الدموية، وحبالنا السّرية يفلتونها متى يرغبون بحجة تحديد النسل.
اتخذت من كراجات حلب في دمشق وطناً لفترة قصيرة من الزمن وعندما شعرت بالغربة، غادرت هذا الوطن، كما غادره غيري من قبل ظلماً وعدواناً. رائحة عوادم السيارات والكلمات البذيئة وبعض الذين يرتدون بزات مرقطة ويحملون قطعاً حديدية جعلوني أفر وأترك هذا الحب، عجباً ... حاولت أن أتخذ من بعض مساجد دمشق وطناً لكنها هي الأخرى كانت مغلقة لا تفتح أبوابها إلاّ في مواقيت الصلاة ، والمناسبات الرسمية لأولئك الذي لا يتقنون الوضوء فكيف الصلاة؟ مرةً قُلت ومصممٌ على ذلك : سوف أتخذ من المسجد الأموي وطناً أبدي كما هم أولياء الأمر الذي يتمسكون برقاب شعوبنا حتى الموت. لكنني رفضتُ من قبل القائمين عليه، قلت لهم : أرغب في العمل هنا مجاناً، ومسامحكم بكل الذي تحصلون عليه، مقابل النوم ، فلم يقبلوا ذلك. مدعّين أنّه يجب أن يدرج اسمي مع قوائم ولوائح اسمية تأتي من مكان .......... كي يسمح لي بالنوم. تطلب منهم أن تتخذ لجسدك في بيتِ من بيوت الله مكاناً يحتويك فلا يرغبون بذلك.
هذا هو العشق الوحيد الذي أحببته وطناً لي لكي أتنفس وأشم رائحة البطل صلاح الدين الأيوبي، الذي أعاد لهم ولي أمجاد عزهم المفقودة . هل تذكرّوا "غورو" ماذا قال لهم عند هذا الضريح..؟ تناسوا ذلك كما يتناسون الهزائم التي مُنيوا بها. فقط حفظوا سجلات ولادتنا وأمواتنا وأرواحنا وأرقام هواتف منازلنا، كنت أقضي فيه جلَّ النهار، لكن زيارات الوفود الرسمية وبعض الذين يؤدون الصلوات في المناسبات ، جعلتني أغادر هذا المكان وأتركه أيضاً للذين يقومون بجمع التبرعات، مدّعين أنها لبيوت الله ولكن الحقيقة غير ذلك ، ضاقت بي كل الأمكنة، كما ضاقت الأقبية والزنازين بمن فيها طوال سنوات وجودهم.
قررت أن أتجول في أرقى شوارع وأحياء دمشق على الإطلاق .. أتجول مشياً ولا لي وسيلة غير ذلك، تجولت في أحياء المزة، أبو رمانة ، المهاجرين ، الشعلان ، الروضة، الصالحية ، الحمرا، بدأت قدماي تبنيان صداقة ولا أحلى وأجمل مع أرصفة شوارع الشام.. والتي لم يرغب بلاطها في التوحد حتى الآن .. عجباً لبلاطٍ في شوارعها يرفض التآخي والوحدة.
تجولت مشياً ومساحاتٍ كبيرة أمامي من الحزن والجوع والقهر وأشياءٌ أخرى حين تسير، صدقوني يشعرونك من خلال لهجتهم أنها لهم وحدها الشام دون الاعتراف بك، ابن وطن أو رفيق رحلة عمر ، أو يوماً من الأيام حملت السلاح ودافعت عنهم يوم كانوا في قصورهم العامرة ، فكيف تطلب من مجموعة أشخاص أن يعترفوا بك؟ لا ضمير لهم يشعر بك ... دمشق أيها العشق الأبدي، دمشق يا رائحة الياسمين ، دمشق يا عشقاً لا يرحل عندي وعند ملايين الناس مثلي، دمشق يا هوية وطنٍ مسلوب ومستباح دمشق عندك يجب أن تختصر الكلمات وتعاد صياغة التاريخ، فعندما تتجول في حيّ الميدان تشعر بالماضي البعيد، وعندما تكون في سوق الحريقة والبزورية ومدحت باشا والحميدية ، عندها تعود لقراءة التاريخ مرةً ثانية. وعندما تزور أحياء أكثر رقي بعمرانها لا بناسها، تشعر أنك ليس في وطنك وهذه تكفي .. وعندما تتوغل في الحداثة تفرمل كل مشاعرك.
حين تسير في شوارع الشام تسمع رنين الأجهزة الخلوية محمولة بين أكفِّ نواعمها فهي لغاياتٍ أخرى، عصيةٌ كلماتي على قلمي أن يدوّنها . كيف لك أن تبحث عن وطن؟ وملايين الناس يدفعون الخاوات لشخصٍ "أزعر" فلا يمتلكون الجرأة حتى على ذكر اسمه، فكيف لو ذكروه عندها يذهب الوطن بمن فيه في مهب الريح.
وأنت تسير تصطدم باللحم لكنه لا يغريك ، لحمٌ مجَّاني ، لكنك لا تأكله رغم جوعك القديم، في أرقى شوارع دمشق سوف تبدأ البداية وتنتهي النهاية وأنا على تلك الأرض الجميلة أهلكني الجوع وهدَّني التعب، أنا لست لصاً أو قاطع طريق أو متسولاً يستجدي ضمائر المارّة ويستعطفهم. إنني أحفظ حدود هذا الوطن كجسدي المترهل.. وكل مسام تلاشى فيه ... منذ اتخذت كراج البرامكة وطناً صدقوني ، إنني لم أتنازل عن أخلاقياتي ولم اسمح لنفسي يوماً أن أكون لصّاً ، ككثر يجلسون تحت هواء مكيف ويركبون أجمل السيارات السياحية . كل الناس اخوتي، لم أكن يوماً من أولئك الأشخاص الذين كان همّهم الوحيد البحث عن المستنقعات العفنة كما هي أرواحهم . صدقوني أنَّ مئات الأشخاص تنازلوا عن شرفهم وكرامتهم مقابل المال والسلطة والجاه، يا للعيب . يقدّمون نسائهم بأسماءٍ مستعارة لمسؤولين كبار من أجل (....) أنتم تعرفون أكثر من ذلك بكثير، تقلقني هذه المسألة ، أهلكني الجوع وهدّني التعب وتلّونت بشرتي بيني وبين حدائق دمشق وأرصفتها عربون محبة وعشق قديم، وأنا أنقل خطواتي ، تعود بي الذاكرة لكراج البرامكة ..
كان على أولياء الأمر أن يكتبوا تعريفاً كاملاً عن هذا الحي وسبب هذه التسمية ومن هم أهله ، بيني وبين الأرصفة والشمس والريح والغبار وصفارات الإنذار والشرطة صداقة ولا أحلى ، أهلكني الجوع وهدني التعب ، في حي ركن الدين نظرت يساراً لفحتني رائحة المطبخ الشامي ... كانت النافذة المفتوحة هي بداية الرحلة إلى عوالم أخرى توجهت صوب النافذة المفتوحة على فضائه ، هاأنا أقترب مثل لمح البرق فإذا أنا داخل المطبخ وبكلِّ هدوء توجهت إلى الثلاجة وتناولت مالذّ وطاب من الطعام وشربت الكثير من مياه الفيجة ، كأن أسرة هذا البيت تغطُّ في نوم عميق ، وضعت أحد كراسي المطبخ لكي أصعد إلى "السقيفة " لكنني تراجعت عن تلك الفكرة ، فصعدت مستخدماً يدي واضطجعت بهدوء تام كنت بحاجةٍ ماسَّة للنوم ومنهك الجسد ، امتلأت معدتي من مالذَّ وطاب... كأنني رحت بسابع نومة لم أفق إلاّ على صوت آذان الفجر، تابعت النوم ، استيقظت ظهراً على أصوات الطناجر في المطبخ ، تجمدت في مكاني ، تناولت الأسرة طعام الغداء وانقطعت الحركة في البيت لكنني لا أستطيع النزول وأنا بحاجة إلى الطعام ، لقد أكلت البارحة ليلاً ومعدتي فارغة تماماً،ماذا أفعل ؟‍ إهدأ يا ولد ، أيةُ حركة سيكتشف وضعك وستقع بورطة لها أول ما لها ثاني ، أنا لست لصّاً أو قاطع طريق أنا أبحث عن وطن وبيت وأم وأب وأخوة وأخوات . ربما يصبح أهلُ هذا البيت أهلي، حوالي الساعة الخامسة كما تشير ساعة المطبخ بدأت الحركة في البيت ، الأسرة تضم الأب والأم والبنات ، هدى وليلى وعارف صاحب البيت وسهام الزوجة ، بدأت أميّز أصوات الجميع وأنا في موقعي هذا بعد يومي السابع.. أصابتني حالة عطاس فخرج الصوت مدّوياً في فناء المطبخ، فصرخت ليلى بأعلى صوتها، يا أمي حرامي ، ولا أدري لمَ لمْ تصرخ يا أبي حرامي رغم وجوده داخل البيت ، عندما حضروا جميعاً إلى المطبخ نزلت من السقيفة وفي يد صاحب البيت سكيّن فقلت له: أنا لست لصاً أو حرامي ، أنا جائع ، لا وطن لي ، لا بيت لي ولا أخوه ، أنتم أخوتي وأهلي وليلى وهدى أخواتي وسهام أمّي ، صرخ الأب وتعرف أسمائنا يا حرامي، نعم والله لست لصّاً ، أنا إنسان كملايين الذين يفتقدون إلى رغيف اسمر وصدر حنون .. حرامي ، لص سرسري ، وتتحدث في الأخلاقيات يا الله اللصوص والحرامية والسرسرية في مكان أخر ،عجباً لما يدور معي لا تتحرك من مكانك ، لو كنت لصاً يا عم لهربت من النافذة التي دخلتها منذ أسبوع، إنني أبحث عن وطن وأخوة وأخوات وتعبيراً عن صدق ما أقول قلت لهم اطلبوا الشرطة فليس لي أسبقيات وهذا هو بيتكم لا ينقص شيئاً وأروي لكم أيضاً أنكم ذهبتم في اليوم الفلاني إلى بيت أبي علي السكري وإلى الطبيبة نسرين والدكتورة إيمان في الزاهرة الجديدة مقابل جامع الماجد، لحظات بسيطة وأنا واقف أمامهم والسكين ما زالت مشرعة حضرت الشرطة وتقدمت نحوهم وقلت لهم بصوتٍ مخنوق : صدقوني أبحث عن وطن وأخوة وأخوات وأم جميعاً قالوا: كذّاب حرامي ، لص ، مسكناك يا كلب ، رغم كل الكلمات البذيئة التي سمعتها ، ممّن يدّعون حماية الوطن والمواطن والذود عنه قلت لهم : والرفسات تنهال على جسدي كزلزال تسونامي .. أبحث عن وطن وأم وأخوة وأخوات ، كانت تلك الكلمات ، أيضاً بداية التحقيق في دفتر الضبوط في قسم شرطة ركن الدين .. ورجوتهم في نهاية التحقيق خالص الرجاء أن يدّونوا لي العبارة التالية :
أعيدوا للشام بسمتها وياسمينها لكنهم (..............)

عبد الرزاق صبح