-
PDA

عرض كامل الموضوع : لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً وقفة مع محمود درويش في جداريته


عاشق من فلسطين
10/04/2005, 16:46
لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً

وقفة مع محمود درويش في جداريته:

ـــــــــــــــــــــــــ ــــ
د. عادل الأسطة *



توقفت في مقالة إشكالية القراءة.. إشكالية النص: قراءة في سطر شعري لمحمود درويش. (1) أمام دال النبي في شعر الشاعر، وقد لاحظت أن هذا الدال ذو مدلول متغير، يعود تغيره إلى تغير مواقف الشاعر من ناحية، وتغير استخدام الدال نفسه من جماعة إلى جماعة ومن عصر إلى عصر، وآثرت إلى أن درويش نفسه اعتبر الأنبياء جميعهم أهله، ولكنه أحياناً تحدث عن أنبياء يدّعون الكذب، وهذا الحب للأنبياء والتقدير لهم، وهذا التحذير من الأنبياء أيضاً يرد في العهد القديم، فمقابل أنبياء الله الصالحين هناك تحذير من أنبياء كذبة سيأتون ليضلوا كثيراً، وفي ثقافتنا الإسلامية يُعز الرسول e ويجبل، كما يعز أنبياء الله الصالحين ويجبلون، ولكننا في الوقت نفسه عرفنا مدّعي النبوة مثل مسيلمة الكذاب وآخرين، حاولوا تأليف نص أشبه، من وجهة نظرهم، بالنص القرآني.

وقد أتيت في مقالتي "وظيفة الشعر والشاعر"(2) على موقف محمود درويش من دور الشاعر ومكانته والتطور الذي طرأ على هذه خلال الأربعين عاماً الماضية، ومع ذلك، تجدني وأنا أتناول جدارية.(3) لم آت على هذا الجانب بالتفصيل، فالإشارة إلى الأنبياء أو التلميح إلى بعض سلوكهم وأدوارهم تبدو واضحة في النص وضوحاً لافتاً للنظر حيث تغري المرء بمواصلة الكتابة عن هذا الجانب، سوف أقف، ابتداءً أمام المواطن التي أشير فيها إلى النبي والأنبياء وأحصيها، لأتناول بعضها بالشرح والتفسير.

ترد مفردة نبي ورسالة وأنبياء ومسيح في الفقرات التالية:

1- سأصير يوماً كرمة،

فليعصرني الصيف منذ الآن،

وليشرب نبيذي العابرون على

ثريان المكان السكري!

أنا الرسالة والرسول

أنا العناوين الصغيرة والبريد (ص14)

2- غنيت كي أزن المدى المهدور

في وجع الحمامة،

لا لأشرح ما يقول الله للإنسان،

لست أنا النبي لأدّعي وحياً
وأعلن أن هاويتي صعود (ص 22)

3- كنا طيبين وزاهدين بلا تعاليم المسيح (ص 39)

4- كنا طبيعيين لو كانت نجوم سمائنا أعلى قليلاً

من حجارة بئرنا، والأنبياء أقل إلحاحاً، فلم يسمع مدائحنا الجنود (ص 40)

5- خضراء، أرض قصيدتي خضراء

ولي منها التشابه في كلام الأنبياء (ص 41)

6- لم نأت ساعتنا. فلا رسل يقيسون

الزمان بقبضة العشب الأخير. هل استدار؟ ولا ملائكة يزورون

المكان ليترك الشعراء ما فيهم على الشفق الجميل (ص 46)

7- باطل، باطل الأباطيل… باطل كل شيء على البسيطة زائل

مثلما سار المسيح على البحيرة سرت في رؤياي، لكني

نزلت عن الصليب لأنني أخشى العلوّ، ولا أبشر بالقيام (ص92-100)

وترد الإشارة إلى أنبياء، بذكر الاسم أو بالإشارة إلى أحداث أو عبارات دالة في مواطن كثيرة هي:

1- ص 17، الربط بين كلام الشاعر وكلام الله (أرض قصيدتي.. كلام الله عند الفجر).

2- ص 25، استثارة النص لنا قراءتنا عن جبريل والرسول e: (أنا من تقول له الحروف الغامضات: اكتب تكن، واقرأ تجد).

3- ص 43، التلميح إلى المسيح (كأنما الشاعر المسيح)، "علي أن ألج الغياب، وأن أصدق أولا قلبي وأتبعه إلى قاتل الجليل".

4- ص 48، الإشارة إلى سيدنا نوح وقصته الطوفان: (فلي عمل على ظهر السفينة. لا/ لأنقذ طائراً من جوعنا أو من/ دوار البحر، بل لأشاهد الطوفان/ عن كثب: وماذا بعد؟ ماذا/ يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟)

5- ص 55، الإشارة إلى المباني وذكر اسم لوط: (فلي عمل على جغرافيا البركان، من أيام لوط إلى قيادة هيروشيما).

6- ص 61، الإشارة إلى صبر أيوب، حيث يخاطب الشاعر الموت: (ربما أبطأت في تدريب أيوب على الصبر الطويل).

7- ص 62، تسخير خطاب الله للرسولe: (لا تكن فظاً غليظ القلب).

8- ص 70، الإشارة إلى عيسى عليه السلام: (قال طيف هامشي: "كان أوزيرين مثلك، كان مثلي، وابن مريم كان مثلك، كان مثلي").

9- ص 84، تداخل صوت الشاعر بصوت الجامعة في العهد القديم: (كل شيء، باطل، فاغتم حياتك مثلما هي).

10- ص 97، الإشارة إلى قول الرسول e وربط كلامه أنا المتكلم بكلامه: (وقلت: ان مت انتبهت).

11- ص 101، الشاعر باعتباره مسلماً من المسلمين وله من النص القرآني ما للرسول وللمسلمين: (ولي شبحي وصاحبه. وآية النحاس وآية الكرسي).

وإذا ما أمعنا النظر في المواطن التي ربط فيها الشاعر مباشرة بين ذاته وبين الرسل والأنبياء، فسنجد أن العلاقة بينهما هي علاقة اتصال وانفصال، وهذه العلاقة التي تتجسد في النص نفيه تتجسد أيضاً في أشعار درويش كلها، فالعلاقة التي كانت، من حيث مهمة كل من الاثنين واحدة، وهي مهمة التغيير، اختلفت في المراحل الشعرية الأخيرة. وإذا كان درويش في بداية حياته يكتب:

ولو أن السيد المصلوب لم يكبر على عرش الصليب

ظل طفلاً ضائع الجرح جبان (ديوان- مجلد 1، ص350)

رابطاً بينه وبين النبي، وهو ما بدا أيضاً في قوله:

نحن أدرى بالشياطين

التي تجعل من طفل نبياً (ديوان- مجلد 1، ص 199)

وهو ما بدا أيضاً في كثير من قصائد "ورد أقل" (1986) "كلوا من رغيفي، واشربوا من نبيذي" ومن قبل في "مديح الظل العالي" (1983) حيث كان صوت الرسول الذي يحذر من الأخطاء وارتكابها. إذا كان درويش في بداية حياته يكتب هذا، فإنه في "جدارية" يتحلل، غير مرة، من الربط بينه وبين الرسل والأنبياء، على الأقل من حيث إدراكه لمهمته شاعراً.

حقاً إنه قال في "جدارية":

"ويشرب نبيذي العابرون على/ ثريا المكان السكري/ أنا الرسالة والرسول"، إلا أنه قال فيها أيضاً: "لست أنا النبي لأدّعي وحيا" و "كنا طبيعيين وزاهدين بلا تعاليم المسيح" و"لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً" و"لكنني نزلت عن الصليب"… إلخ.

وهكذا نجد النص يحفل بتلك الازدواجية، أعني الربط ما بين الشاعر والنبي، والتحلل من إعطاء الشاعر دور النبي، وهذا ما أقر به درويش في المقابلات التي أجريت معه: "ولأن الشاعر أصبح يعي أنه ليس منقذاً وليس مخلصاً وليس مسيحاً وليس نبياً، فهذه كانت صفات الشاعر الرومانسي، فإن الشاعر الآن هو الفرد الذي يتمتع بعزلته وبكونه معزولاً لكي تتاح له فرصته أن يعيد النظر في فرديته وفي ذاته" (الشعراء، عدد 4، 5، ربيع 99، ص 19).

يرى درويش، إذن، في دوره السابق شاعراً رومانسياً، وإن كنت شخصياً أختلف معه وأرى فيه شاعراً واقعياً اشتراكياً، لأنه كان حزبياً من ناحية، حيث كان عضواً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، وكان يُسخر منه من أجل أفكار الحزب ومن أجل خدمة البسطاء من ناحية ثانية وبوعي تام، حقاً ان الرومانسيين التفتوا إلى الفئات الشعبية، خلافاً للكلاسيكيين الذين توجهوا إلى الأمراء والنبلاء، إلا أن حزبية درويش ودفاعه في الستينات عن الفكر الماركسي الذي تبناه هو ما يجعلني أصنف انتماءه في تلك المرحلة ضمن الواقعية الاشتراكية، وان رأى دارسون في واقعيته تلك ثورية رومانسية.

كان درويش في بداية حياته يقول:

يا قارئي!

لا ترجُ مني الهمس!

لا ترجُ الطرب (ديوان محمود درويش، مجلد 1، ص 7)

ويقول:

يا رفاقي الشعراء!

نحن في دنيا جديدة

مات ما فات، فمن يكتب قصيدة في زمان الريح والذرّة

يخلق أنبياءً (مجلد، ص53 و54)

وكان ينطلق من منطلق الشاعر الثوري الذي يرى في الشعر أداة من أدوات التغيير، فمن يكتب قصيدة في زمان الريح والذرّة يخلق أنبياء. إن الكلمات تخلق أنبياء، وهي سلاح بيد الشاعر يقاتل بها من أجل التغيير. والشاعر، هنا، مثل القائد الحزبي، ومثل النبي، عليه أن يلح إلحاحاً كبيراً على الآخرين حتى يثقفهم ويبعدهم بما ينبغي عليهم أن يفعلوه.

ولم يتغير موقف درويش إلا بعد أن ترك الحزب، ليدرك بعد تجارب أن لا جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات في تغيير صاحبها، وهنا تمنى لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً، والوعاظ في وعظهم أقل إرشاداً، والأدباء التعليميين في آدابهم أقل تعليمية، لم يعد الشاعر مثل المسيح، ولقد تخلى بمحض إرادته عن تمثل دوره، فلا المسيح ولا الأنبياء، ولا الشعراء استطاعوا أن يغيروا هذا العالم نحو الأفضل، تماماً كما أن الأحزاب التي كانت تطمح إلى عالم أفضل لم تحقق ما كانت تدعو إليه.

وقد تكون تجارب درويش التي امتدت أربعين عاماً أو يزيد هي ما دفعته إلى ذلك. لعله اكتشف أن العطار لا يستطيع أن يصلح ما أفسد الدهر، هذا الذي هو أقوى من الجميع، فما من أحد قاتل الزمن إلا قتله، وهو مثل الموت في "جدارية"، انه أقوى من الجميع، فهو القوي قاهر الجيوش، وكان درويش قد صدر مجموعته "أرى ما أريد" (1991) بالأسطر الشعرية التالية الدالة:

وأنا أنظر خلفي في هذا الليل

في أوراق الأشجار وفي أوراق العمر

وأحدّق في ذاكرة الماء وفي ذاكرة الرمل

لا أبصر في هذا الليل

إلا آخر هذا الليل

دقات الساعة تقضم عمري ثانية ثانية

لم يبق من الليل ومني وقت نتصارع فيه وعليه

لكن الليل يعود إلى ليلته

وأنا أسقط في حفرة هذا الظل (ص 5)

وما من شك في أن هذا يحيلنا إلى ما يقوله درويش نفسه في جداريته، في لحظته الراهنة، وما يقوله الصدى الذي يعبر عن درويش يوم كان شاباً قوياً. إن ما يقوله الآن غير ما كان يقوله شاباً، ولعل تتبع أقوال الصدى في النص ومقارنتها بأقوال الصوت الحافر لدرويش يضعنا أمام الفارق الواضح بين قول درويش:

ولو أن السيد المصلوب لم يكبر على عرش الصليب

ظل طفلاً ضائع الجرح جبان

وقوله:

لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً

لقد كبر الشاعر، وهو شاب، وعاش تجارب جعلته يدعو ويبشر ويحرض ويتفاءل من خلال الشعر، وكان مثل المسيح الذي كبر على عرش الصليب، ولكنه في خمسينيات عمره اكتشف عبث ذلك، ومن هنا أخذ يتمنى لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً، وهكذا لم يعد هو شخصياً يلح في أشعاره على التغيير، وأخذ يتساءل عن جدوى القصيدة.


من أين تأتي الشاعرية؟!
يتساءل محمود درويش في "جدارية" عن مصدر الشاعرية ويقول:

من أين تأتي الشاعرية؟

من ذكاء القلب، أم من فطرة الإحساس بالمجهول؟

أم من وردة حمراء في الصحراء؟

لا الشخصي شخصي ولا الكوني كوني
وقد أحالني قوله هذا إلى عبارة كان قالها في إحدى المقابلات التي أجريت معه، ووظفها شاكر النابلسي في دراسته المعروفة: مجنون التراب: دراسة في شعر وفكر محمود درويش، والعبارة هي: "أنا اعتبر أن المصدر الأول للشعر في تجربتي الشخصية هو الواقع، وأخلق رموزي من هذا الواقع، فرموزي خاصة بي، حيث لا يستطيع الناقد أو القارئ أن يحيل رموزي إلى مرجعية سابقة. أي أنني أحول اليومي إلى رمزي. الواقع هو مصدر رئيسي لشعري" (اللقاء نشر في البيان الخليجية، 20/5/1986).

وقد تحيلنا هذه العبارة إلى اللقاء الذي نشر مع الشاعر في مجلة "مشارف" في عددها الثالث، يوم سأله عباس بيضون عن بعض الصور الغامضة في مجموعة "لماذا تركت الحصان وحيداً"، وتحديداً الصورة التي ترد في قصيدة "تعاليم حورية":

وخبزت للسمّاق

عرف الديك. أعرف ما يخرب قلبك المثقوب بالطاووس

وقد قال درويش في اللقاء عن مصدر الصوت ما يلي:

"الصورة ليست دائماً ذات مرجع ذهني. قد أكون راجعاً من حديقة الحيوانات والطاووس. أعني ألوانه، مروحته اللونية، اخترقتني. من وظائف الشعر ـ وهذا ما تعلمناه من لوركا ـ تغيير الحواس. وقد أكون حينها أكتب هذه القصيدة، ودخل الطاووس فيها. لكني لا أعتقد أن هذا خرب القصيدة. هناك أيضاً المطبوع بعرف الديك". (ص 94)

وحين يعقب عباس بيضيون قائلاً: "هذه الصورة ممكنة التخيل" يجيب الشاعر: "يعني أن ألوان الطاووس تخترق كأنها تثقبه. ليس عندي دفاع علمي عن هذه الصورة".

وسنجد أن درويش، فيما بعد، وتحديداً في المقابلة التي أجريت معه ونشرت في الشعراء يقول: إن الكتابة كتابة على الكتابة، ولا توجد كتابة تبدأ من بياض. (الشعراء، عدد 4 و 5، ربيع 1999).

ومن المؤكد أن كلام درويش هذا لا ينطبق على رموزه وصوره كلها، فقد تكون بعض الصور صدى لقراءاته السابقة، تماماً كما قد تكون بعض العبارات تكراراً لقراءاته.

سوف أقف، في هذه المقالة، أمام بعض الصور التي وردت في أشعاره، لا التأكيد ما قاله عام (1986) أو لتأكيد ما قاله عام (1999)، وإنما للمشاركة في مساءلة الشاعر عن مصادر صوت وإبداء رأيي في هذا، ولتكن هذه الكتابة ضرباً من إتمام المقابلات أو توضيحياً لما ورد فيها، ولكنني أرغب ابتداء، في الإحالة إلى رأيين نقديين استثاراني وتذكرتهما وأنا أقرأهما وأقرأ أشعار درويش أيضاً، الأول للدكتور حسام الخطيب والثاني للإيطالي امبرتو ايكو.

في دراسته "تقنية النص التكويني ومغامرة مع نص درويش" يعرف الخطيب النص المشعب بأنه "نص متعدد الأبعاد" وأنه "يؤمن بعداً آخر هو العلاقة بين النصوص المختلفة"، ويضيف بأن هناك بعداً آخر يتمثل في إمكان تواصل الأفراد بعضهم مع بعض وهم يعالجون النص وتضافرهم من أجل تفجير إمكانات النص (الشعر العربي في نهاية القرن، 1997، ص 73).

"درويش ولغة الظلال"، وتوقفت فيها أمام تعدد المدلول للدال الواحد، ومن ضمن الدوال التي تناولتها دال الفراشة. ولم اعتمد في تفسير مدلول هذا الدال على ما أعرف وحسب، لقد عدت إلى المعاجم اللغوية والمعاجم المتخصصة، وأسعفتني الأخيرة في فهم ما استعصي عليّ اكتشافه، وقد قلت في نهاية دراستي ما يلي:

"وتحتاج أشعار درويش، حتى تفهم، إلى بحث في الرموز؛ رموز المغررات ودلالاتها، فالشاعر مطلع اطلاعاً واسعاً على الثقافة العربية والإسلامية والإنسانية، وقد مرّ بتجارب غنية ومن المؤكد أن علينا أن نقر بأن ثقافة المرء غالباً ما تجد طريقاً إلى كتابته، بوعي منه أو دون وعي".

ومن التفسيرات التي قدمتها لدالة الفراشة التفسير التالي: الفراشة هي الفدائي، وهذا حين يذهب إلى فلسطين ليقاتل من أجل تحريرها، يدرك أنه قد يستشهد، بل أن إمكانية استشهاده كبيرة جداً، إنه هنا مثل الفراشة التي تقترب من النار فتحترق. والناس يرون أن الفراشة في سلوكها هذا غبية، ولهذا قالوا: أطيش من فراشة، أغبى من فراشة، فهل الفدائي طائش؟

والشاعر يقول: للفراشات اجتهادي ـ أي لهؤلاء الفدائيين اجتهادي وقد ورد هذا في قصيدة تتمحور حول الفدائي، وهي "أحمد الزعتر".

والسؤال الآن: ما هي مرجعية صورة درويش هذه؟ هل المرجعية خياله أم قراءاته التي أثرت فيه؟ وهل كان واعياً لهذه القراءة أم غير واع لها؟

لقد دفعني إلى كتابة هذا المقال قراءتي الجديدة لقصة حنا إبراهيم "متسللون"، وكنت أنوي أن أكتب عنها مقالة بمناسبة صدور الأعمال القصصية الكاملة للمؤلف، وكنت قرأت القصة من قبل وكتبت عنها في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني" (1992)، ولم ألتفت وأنا أناقش دالة الفراشة في أشعار درويش إليها، ويبدو أنني نسيت جزئيات القصة وبعض تشابهها، وقد توقفت في قراءتي الجديدة أمام سطر حثني على العودة إلى أشعار درويش ودراسة الخطيب ومحاضرة "ايكو" والسطر هو:

وربما خامرها (أي سارة) شيء من الشفقة على أولئك المنكودين الذين لا ينفكون يعكرون أمن الحدود، فتشبههم بالفراش الذي يحوم حول الناس فيحترق" (أ.ب، ص 73).

وتشبّه سارة، كما هو واضح، الفلسطينيين الذين كانوا عام 1948 يعودون إلى منازلهم تسللاً بالفراش، لأن مصير بعض هؤلاء كان القتل والموت، وهذه الصورة تتكرر في أشعار درويش "وكان صديقي يطير ويلعب مثل الفراشة حول دم (نار) ظنه زهرة و"نسافر بحثاً عن الصفر كي نستعيد صواب الفراش".

هل قرأ درويش قصة حنا إبراهيم هذه؟ وهل ظل يتذكر هذا التشبيه أم أنه نسيه على أنه تشبيه ورد في القصة، ولكنه استهواه فظل في ذاكرته؟، وهكذا وجد التشبيه هذا صورة في أشعار الشاعر دون وعي منه على أنه ورد في نص سابق، نص كتب عام 1954، يوم لم يكن الشاعر يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.

هنا يمكن العودة إلى جدارية، لقد قرأ درويش القرآن والعهد القديم، وترك هذان الكتابان عليه تأثيراً واضحاً منذ بداية شبابه، ومن يقرأ جدارية يلحظ حضوراً واضحاً للنص الديني فيها، حضوراً يكاد يقترب، أحياناً، من الاقتباس شبه الحرفي. وهنا لا يتردد المرء في القول أن الكتابة هي كتابة على الكتابة، وإذا كنا في بداية هذه المقالة استشهدنا بقول درويش: من أين تأتي الشاعرية؟ فإننا نستطيع أيضاً أن نستشهد بسطر دال تكرر مرتين ونظراً لأن هذا النص غني بعلاقاته وتركيباته وصوره، فيجدر أن يدرس من خلال علاقته بالنصوص الأخرى، لا من خلال أبعاده التاريخية والسيكولوجية والنفسية، ويقترح د. الخطيب أن يستعان بالتكنولوجيا الحديثة بالإسهام في إخراج الأدب من عزلة الرصيف.

كما أنه يدعو إلى ربط النصوص بعضها ببعض لمعرفة تداخلاتها وتشابكاتها.

ويأتي (امبرتو ايكو) في كتابه "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" (بيروت 2000) على العلاقة بين المؤلف والنص، وذلك في الفصل الثالث الذي عنوانه "بين المؤلف والنص"، ويكتب عن صلة نصه "اسم الوردة" بنصوص سابقة، كان واعياً لبعضها وهو يكتب نصه، وغير واعٍ لبعضها الآخر، وقد نبهه بعض القراء إلى أشياء لم يكن واعياً لها في أثناء إنجازه النص، ولكن ما قاله القراء كان ممكناً.

وقرأت تحاليل نقدية يشير فيها أصحابها إلى وجود تأثيرات لم أكن واعياً بها في أثناء كتابتي للرواية، إلا أنني قد أكون قرأتها بكل تأكيد في شبابي، ومارست علي تأثيراً بشكل لا شعوري (لقد قال لي صديقي جيوريجو سالي: قد يكون بين قراءاتي القديمة روايات ديمتري ميروسكوفسكي، واعترفت له بصحة ذلك" (ص 95).

ويأتي (ايكو) بأمثلة أكثر وهو يناقش هذا الأمر، وهذا يعني ببساطة أن نصه "اسم الوردة" كان يحفل بنصوص أخرى، وعي الكاتب بعضها، ولم يعِ بعضها الآخر، ولكن هذه ربما تركت أثراً على نصه. وهنا نعود إلى سؤال درويش: من أين تأتي الشاعرية؟ ونعود أيضاً إلى رأييه (1986 و 1999). هل المصدر الأول للشعر في تجربته الشخصية هو الواقع، أم أن كتابته هي كتابة على الكتابة؟ هل مصدر الشاعرية التجربة أم القراءة أم كلاهما معاً؟ لقد أنجزت في أيلول 1999، دراسة عنوانها "محمود في جدارية" هو: الواقعي هو الخيالي الأكيد، هذا ما تقوله له الحروف الغامضات، وهذا ما قاله الشاعر عام (1986): "وأخلق رموزي من هذا الواقع"، ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام المقطع: "فرموزي خاصة بي، حيث لا يستطيع الناقد أو القارئ أن يحيل رموزي إلى مرجعية سابقة" ونجد أنفسنا أمام السؤال الصعب: هل هذا صحيح دائماً؟

لقد استعنت، شخصياً، بمعجم الرموز (ما نفرد لوركر) لتفسير مدلولات بعض الدوال في أشعار درويش، وكان شاكر النابلسي قد استعان بالقراء وهو يشرح بوابات درويش الشعرية ورموزه، وكثير من التفسيرات التي وردت في معجم الرموز، وهذا يختصر الدلالات الرمزية للدال في الأدب العالمي ويوضحها، وكثير مما قاله القراء يتطابق وما أراده درويش، والسؤال هو: هل اختلاق درويش رموزه جاء من الواقع وحسب؟ أم أن الواقع نفسه صدى للماضي، وسواء أقرأ درويش مدلولات الدال الواحد أم لم يقرأها فإن الواقع يقولها، وهكذا يبدو أن ما يقوله صحيح؟

الذين درسوا الأمثال لدى الشعوب لاحظوا أن هناك أمثالاً كثيرة تتشابه، فهل كانت الدلالات الرمزية للألوان وأسماء تصف المخلوقات والمخلوقات نفسها تتشابه؟! مجرد تساؤل واجتهاد!!